رندة سليمان مبارك
يا للفظاعة. ألا توجد وسيلة إلا القتل؟ وما ذنب زوجته وبناته؟ لست من أنصاره، ولكنه لا يستحقُّ هذه النهاية. إنه يُعيدني إلى المشكلات العامة بعد طول انغماس في مشكلاتي الخاصة. القتل كريه، والله لا يُحبُّه. أمي بكت كإنسان لم تُغيِّره السياسة. وجمت حجرة المعيشة أكثر من وجومها المألوف في تلك الأيام. وسألت أبي عن رأيه فقال: هيهات أن يردَّ رأيٌ الحياة لميت.
ورنا إليَّ مليًّا بعينَيه الذابلتين ثم واصَل: البلد مريض بالتعصب يا رندة، أين أيام «لماذا أنا مُلحد؟» يريدون أن يرجعونا أربعة عشر قرنًا إلى الوراء.
وصمت قليلًا ثم قال: أنا عارف أنكِ لا تُوافقين على رأيي كله، فافعلوا بزمانكم وليفعل بكم ما يشاء، ولكننا متَّفقان على رفض القتل.
إنه الخط الأدنى الذي نقف عليه معًا. تُرى أين أنت يا علوان؟ إنك لا تُحبُّه، فهل سُررت بنهايته؟ وعلى غير توقُّع اقتحم علوان شقَّتنا بعد طول انقطاع، وبجرأة دلَّت على قوة دوافعه، وسرعان ما انفردنا بأنفسنا في الصالة على كرسيَّين مُتجاورين حول السفرة. وسألته: أين كنت وقتها؟
فقال باضطرابٍ أفزعني: دعينا من ذلك فما من جديد يُقال. رندة، أصغي إليَّ جيدًا.
– ماذا عندك؟
– وجدتني مساء اليوم أمام فيلا جولستان وسيارة أنور علام المنتظرة، ودون دعوة ولا تدبير سابق اندفعت إلى الداخل، وكان هو أول من رأيت، فهتف مرحِّبًا: «أهلًا.» رُب صُدفة خير من ميعاد، وإذا بي أصيح مفقود الرشد: «يا قذر!» ولكمته في صدره بقوة فترنَّح وهوى إلى الأرض. وهنا نبَّهتني صرخة جولستان إلى وجودها، قالت لي بحزم: «كُفَّ عن همجيَّتك.» وساعدته على القيام وهو يلهث، فمضت به إلى حجرة نومها. تسمَّرت في موقفي غائب الوعي تقريبًا، وغابت هي ربع ساعة ثم رجعت شاحبة اللون ذاهلة النظرة، وغمغمت: ماذا فعلت يا مجنون؟ لقد قتلته!
حملقت في وجهها دون أن أنبس. اغرورقت عيناها وتمتمت: ماذا فعلت يا مجنون؟! .. لماذا قتلته؟
وانحطَّت إعياءً على مقعد مُسنِدةً رأسها إلى راحتها، على حين مضيت أستردُّ وعيي وأدرك أبعاد فعلي. وأخيرًا قلت: استدعي الشرطة، إنه قدري.
لم تندَّ عنها حركة، ورغبت بكل قوتي في التخلص من الموقف، فقلت: سأذهب بنفسي إلى الشرطة.
فأشارت بيدها إشارةً غامضة وهمست: اقعد حيث أنت.
ومرَّ الوقت على أعصابي ثقيلًا مثل وابور الزلط، فقلت: لا معنى للانتظار.
فهمست: انتظِر.
وأحنت رأسها تُخفي عينَيها عني، وهمست: كان يشكو تعبًا مُزمِنًا في قلبه.
فيمَ تفكِّر؟ ساوَرني شكٌّ عاكس لنورٍ خاطف من أملٍ مُذبذَب.
– لكني أنا الذي …
فقالت بهدوء دلَّ على أن رأسها المضطرب شرع يُفكر: لا أثر للضرب.
بهذه العبارة تورَّطت كشريكة في الجريمة. تفرَّست في وجهها بذهول وأنا أعجب لطبيعة الشخص التي قد تظلُّ خافية في الظروف العادية إلى الأبد. أي امرأة! ولكن فرحتي بطوق النجاة كانت فرحة غريق يائس. قلت: لن يخفى شيء على الطبيب.
فقالت بثقة: لا شأن لك بهذا.
وتبادلنا نظرةً فاضحة لكلينا وقالت: طبعًا أنت فاهم لماذا أعمل على إنقاذك؟
فأحنيت رأسي مُمتنًّا وأنا لا أصدق، فسألتني: هل أثق في شرفك؟
وتعهَّدت بشرفي.
ولما انتهى سألته وأنا من اليأس في نهاية: لماذا تبوح لي بسرِّك؟
– لا سر بيننا يا رندة.
فقلت بمرارة: لقد ارتكبت جريمتك غضبًا لي، وأنت تستحقُّ النجاة.
– أهذا رأيك؟
– طبعًا. لا يمكن أن أُشير عليك بالموت.
فقال بانفعال: في الحقيقة إنني لم أقل كل ما عندي، فما غادرت الفيلا حتى احتقرت نفسي وكرهت القرار الذي اتخذته، وفي حيرتي قصدتك لأعترف بكل شيء.
فقلت له بإشفاق: إني مُدرِكة تمامًا لمشاعرك، ولكني لا ألومك على قرارك.
فقال بعنادٍ خفق له قلبي: ولكني أرفض.
– هذا هو الجنون.
– ليَكن.
فقلت متوسِّلةً بحرارة: المعجزة لن تتكرَّر.
– ليَكن.
– لا وقت للندم.
– لن أندم أبدًا.
– إني بريئة مما تُفكر فيه.
فقام وهو يقول: سأرجع إليها لأُصارحها بكل شيء.
– لا أُوافق.
فقال وهو يمضي: وأنا مُصمِّم.