علوان فواز محتشمي
علَّمني زمني أن أُفكر، علَّمني أيضًا أن أستهين بكل شيء، وأن أشكَّ في كل شيء. ربما قرأت عن مشروع مُنعِش للآمال، وسُرعانَ ما يكشف المفسِّرون عن حقيقته فلا يتمخَّض عن أكثر من لعبة قذرة. هل تترك السفينة للغرق؟! هي عصابة مُسلَّطة علينا لا أكثر ولا أقل؟! أين الأيام الحلوة؟ كانت توجد أيام حلوة لا شك في ذلك، ولي أنا أيضًا أيام، حين كانت الشقة عامرة بالأخوات والدفء، وكانت الأعباء يسيرة. كان لأبي وأمي وجود في البيت، وكان يوجد حوار وضحك وحماس الدراسة وسطوة البطولة. إحنا الشعب، اخترناك من قلب الشعب. والحب كان باقة من الورد في قرطاس من الأمل. فقدنا زعيمنا الأول ومُطربنا الأول، ويُخرجنا من الهزيمة زعيم مضادٌّ فيُفسد علينا لذة النصر؛ نصر مقابل هزيمتَين. اخترناك من قلب الشعب. وتجذب حبيبتي الشص من الماء فتخرج فارغة وتنغرز في إبهامي، وتترك أثرًا مازال باقيًا حتى اليوم. على شاطئ النيل أمام بيتنا قُلت لها: إنكِ لا تُحسِنين صيد السمك، ولكنك اصطدت قلبي وأسَلتِ دمي. من الأخوة إلى الحب حدَث تغيرٌ بطيء مثل قرون أوراق الشجر التي تسبق بالظهور في أوائل الربيع، ولا تُرى إلا عند التأمل. أنوثة وتورُّد الخدَّين ووشاية أعلى الفستان، باللغة حين تقول الكلمة شيئًا وتُشير إلى شيء آخر، وتلاشت البراءة، وحلَّت محلَّها مفاوضاتٌ وتوسُّلات من أجل لثمة فوق الخد أو الشفة. أطيب ثمرة في الشجرة أخلاق وعقل وجمال. يُضايقني أحيانًا أن تبدو أعقل مني. لا أنسى حزن نظرتها عندما اعترفت لها بعجزي عن اختيار القسم العلمي. حوارٌ طويل لم يجرِ على لساننا، ولكنه يتربَّص بنا في زاويةٍ ما. أسرتانا سقطتا معًا في حفرة الانفتاح. شدَّ ما يحزنني ألا تظهري في الملابس اللائقة بجمالك. أي مسئولية تُثقل كاهلي. قُلت لها مرةً في استراحة الهرم: فلنتسلَّ بحصر أعدائنا.
فدخلت اللعبة قائلةً: غول الانفتاح واللصوص الأماثل.
– هل ينفعنا قتلُ مليون؟
فقالت ضاحكةً: قد ينفعنا قتلُ واحد فقط.
فقلت ضاحكًا أيضًا: إنكِ اليوم رندة المحروقي.
•••
أنور علام المدير يستدعيني إلى حجرته، ويطلب إليَّ أن أزوره في مسكنه في الخامسة مساءً لإجراء مراجعة شاملة قبل إعداد الحساب الختامي. أخبرتُ رندة فلم تُعلِّق. مسكنه في عمارة نِصف جديدة بالدقي تقع أمام أحد مداخل جسر ٦ أكتوبر. استقبلني ببشاشة وهو مُرتدٍ بدلته وقال: لا تُغرقك فخامة الشقة؛ فأختي تعيش معي، وهي أرملة غنية.
كأنما ينفي عن نفسه الشُّبهات. كل فرد مُهدَّدٌ اليوم بالشُّبهات. وعملنا بهمَّة حتى الساعة الثامنة. في أثناء ذلك دخلت الأرملة بالشاي، تعارف بيننا وقدَّمها قائلًا: «جولستان أختي.» من النظرة الأولى شعرت بأنني أمام امرأة يقع عمرها ما بين الأربعين والخمسين، مقبولة المنظر، مُمتلئة في تكوين حسن، مُثيرة رغم رزانتها واحتشامها، أو ربما لرزانتها واحتشامها. لم تجلس، وقالت وهي تُغادرنا: استبقِ الأستاذ للعشاء معنا.
فقال أنور علام: هذا أمر!
أعدَّت لنا مائدة من الشواء والسلطات المتنوعة والجبن والزيتون ثم مهلبية وتفاح. وسمعت أنور علام يقول ونحن نتناول عشاءنا: أنا وكيل أعمالها؛ فقد ورثَت عن زوجها عمارتَين وشهادات استثمار.
لفت نظري تعريفُه لي بأملاكها فسرحت في أكثر من ظن. وراح يحكي لها عن مشكلة خطبتي بإشفاق.
– هذه حال جيل بأسْره.
فقال الرجل: ومما يزيد المشكلة تعقيدًا أن علوان من أصحاب المبادئ.
فقالت بإعجاب: جميل أن أسمع ذلك، الأخلاق أهم شيء في الدنيا.
نبرَتُها لا تدَع مجالًا للشك في صدقها. وإني أجدها مُثيرة للغاية، وإني مخزن بارود عند أي إثارة. مُعاناتي في هذه الناحية تستحق الرثاء. وقال أنور: أختي كاملة في كل شيء إلا شيئًا واحدًا لا أُوافقها عليه، هو إعراضها عن أكثر من فرصة زواج طيِّب.
فقالت بهدوء: لست سلعة وليسوا رجالًا.
فقال أنور علام: ثراء المرأة قيمةٌ مشروعة، ولا عيب على الرجل إذا أولاها ما تستحقُّه بالإضافة إلى المزايا الأخرى.
فقالت السيدة جولستان: لا رجل جدير بالثقة في هذا الزمان.
ومِلتُ إلى تغيير مجرى الحديث، فسألت مديري: معذرةً يا سيدي، لمَ لم تتزوج حتى اليوم؟!
فقال بغموض: أسباب كثيرة.
ولم يذكر سببًا واحدًا، فقالت جولستان: إنه مخطئ، وهو قادر على الزواج.
وراح يسألني عن أسرتي وأسرة رندة وأنا أُجيبه بصدق وإيجاز، حتى قال: رندة فتاة مُمتازة، ولكن الزمن يسرقها.
طعنة وأي طعنة! مقصودة أم جاءت عفو الخاطر؟!
على أي حال أفسدت عليَّ السهرة، ولم يُخفِّف من حدَّتها قول جولستان: الحب هو العمر الحقيقي.
وغادرتُ المسكن مشحونًا بالسخط على الرجل والإثارة من ناحية شقيقته.