محتشمي زايد
ليلة أمس رأيت فيما يرى النائم سيدي أبا ذر. العبادة تُغدق عليَّ شفافية وهَّابة للرؤى. لحبِّي الدنيا أقف عند ذاك الحظ لا أتجاوزه، وتَرِد على خاطري هذه الحكاية: «قال محمد بن العطار، قال لي الشيخ محمد راهين يومًا: كيف قلبك؟ فقلت له: لا أعرف كيفيته.» وذكرت ذلك لسيدنا شاه نقشبند، وكان واقفًا فوضع قدمه على قدمي، فغِبت عن نفسي فرأيت جميع الموجودات مطوية في قلبي، فلما أفقت قال: إذا كان القلب هكذا فكيف يتسنَّى لأحدٍ إدراكه؟ ولهذا قال في الحديث القدسي: «ما وسِعني أرضي ولا سمائي، ووسِعني قلب عبدي المؤمن.» تَرِد على خاطري تلك الحكاية فأغبط الأولياء وأتوق إلى الكرامات، ولكني أقف عند حافة بحر التصوف مُستمسكًا بالعبادة قانعًا بها في أحضان دنيا الله، وقد يرتدُّ بصري المتأمِّل الهادئ بنور من الوهَّاب. لا، ولا أندم على مراحل الحياة التي مررت بها؛ فقد منحت كل مرحلة نورها. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا. ويدقُّ جرس الباب عند الضحى. من القادم وليس اليوم بيومِ أمِّ علي؟ وأفتح الباب فتدخل زينب هانم أم رندة. أستقبلها بترحاب وأنا أعجب لبدانتها رغم الضائقة. وتجلس في حجرة المعيشة وأُسكت الراديو فتقول: لا أحد لي غيرك يا محتشمي بك.
فقلت وأنا أُسائل نفسي عما جاء بها: لنا الله جميعًا.
– فواز بك وهناء هانم أولى بالحديث، ولكن العمل المُتواصل لم يترك لهما فراغًا، ولا فائدة تُرجى من مخاطبة علوان؛ ففيك الكفاية والبركة.
آه، فهمت كل شيء مُقدَّمًا، إنها قادمة من أجل مشكلة علوان ورندة.
– إني مُصغٍ إليك يا زينب هانم.
– عندك حسن التقدير، البنت يا محتشمي بك على وشك الضياع.
– لا سمح الله.
– إنكم لدينا المُفضَّلون على غيركم، ولكن حتى متى ننتظر؟!
شعرت بالخطر الزاحف نحو حفيدي المحبوب فتساءلت: زينب هانم، أليست رندة رشيدة ومُثقَّفة وتميز بين ما ينفعها وما يضرُّها؟
– الحب يضلُّ يا محتشمي بك، أصبح الحب في هذه الأيام إلهًا. هل تزوَّجت أنت عن حب يا محتشمي بك؟ هل تزوَّج فواز بك عن حب؟
– ولكنهما يؤمنان به.
ونتركهما حتى يُدمِّرهما معًا؟
وتنهَّدتُ بصوتٍ مسموع شأن العاجز، فقالت ولُغدها يتحرَّك: فلنبذل جهدًا للإنقاذ، وليفعل الله ما يشاء، ربما وجد كلاهما ما يُناسبه.
– أهذا رأي سليمان بك أيضًا؟
– إنه أبوها كما أنني أمها، وما يحزننا إلا أن علوان فتًى طيِّب وجدير بكل خير.
وتمتمت وأنا أختم الحديث: وسيِّئ الحظ أيضًا.
فذهبت وهي تقول: اعتمادي بعد الله عليك.
يا له من صباح! قُضي عليَّ أن أكون وسيط السوء إلى أعز الناس على قلبي. انكمشت في مقعدي مُتلفعًا بالكآبة، وفي أثناء الغداء لم أُشِر إلى الزيارة حتى انفردت بالشاب عصرًا في حجرة المعيشة. لم ينتبه بطبيعة الحال إلى معنى نظراتي حتى سألته: هل تغفر لي حديثًا غير سارٍّ؟
فرماني بنظرة مُتوجِّسة وقال ساخرًا: هذا هو الأصل في الأحاديث يا جدي.
– عن رندة يا علوان.
فتغيَّر وجهه الحسن وغشيَه الحب فعرضت الموضوع بتفاصيله. كوَّر قبضته وألصقها بفيه مُعتمدًا بكوعه على خوان قديم، وقال: كأنني مُجرم مُطارَد يا جدي.
– يجب أن نفكر بهدوء وشجاعة.
– أريد أن أعرف انطباعك يا جدي.
فازددت ضيقًا وأنا أقول: لهم عذرهم، هذا ما يجب أن نُسلِّم به.
فقال بحدة: رندة ليست قاصرًا.
– بلى، ولكن الانتظار يبدو بلا نهاية.
– أنا لم أُقصِّر.
– لا أحد يتَّهمك.
– الرأي الأخير لهم أم لها؟
– الآن هو بين يدَيك أنت.
– أنا؟
– العمر يجري، وأنت فتًى عاقل، بيدك إنقاذها، وربما إنقاذ نفسك أيضًا .. إنه ليس مجرد سوء حظ، إنه خطٌّ طويل من المآسي؛ ٥ يونيو، والانفتاح، وروسيا، والولايات المتحدة، ومملكة المنحرفين.
وتساءل: ولو أصررت على الرفض؟
فقلت بتسليم: افعل ما تراه صوابًا.
فهزَّ رأسه قائلًا في غموض: أعدك بذلك يا جدي.
وعلم فواز وهناء بالموضوع مساءً. وانفعلت هناء غاضبةً وقالت إن قلبها لم يُوافق على الخطبة إلا مُضطرًّا. أما فواز فقال إنه طالما حذَّر ابنه من هذه النهاية المحتومة. وقال: الخطبة تُعرقِل الاثنين.
وقالت هناء تُخاطبني: أقنِعْه يا عمِّي، إنه يُعاندنا، ولكنه يقتنع بك، لو سمع كلامي من أول الأمر ما انتهى بنا الأمر إلى هذه الخاتمة المهينة.
وجالت بنفسي الآية الكريمة: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.