علوان فواز محتشمي
لم يبقَ من الشتاء شيء، والجو ينعم بصفاء نادر. السوء كله كامن فيَّ وحدي. كان يجب أن أختار مكانًا آخر غير استراحة الهرم؛ هذا الموقع عند حافة الهضبة سجَّل لنا أجمل الذكريات. هدوء نظرة عينَيها ضاعَف من إحساسي بالذنب. لا يوجد شخصٌ يستحقُّ الاحترام، ولا فعل يستحقُّ الثقة، ولا وعد يستحقُّ التصديق. ذلك التاريخ المُنحدِر ما بين العندليب الأسمر والغراب الأسمر، فلتكفَّ الدكتورة عن إلقاء الشعارات؛ فهي زوجة وأم، وشربت العشق حتى الثمالة؛ فلنحتسِ الشاي في هناء، أو لتهنأ به وحدها، أما أذوق له طعمًا.
– أعوذ بالله من صمتك!
فرنوت إلى هامات النخيل المنثور فوق المنحدر وسألتها: رندة، هل علمتِ بزيارة مامتك لجدي؟
فقالت باستهانة: لم تمرَّ بسلام، ولكن لا جديد تحت الشمس.
فقلت بأسًى: لو صح ذلك لتزوَّجنا منذ سنوات.
– أراك مُتأثرًا أكثر مما توقَّعت.
– اختنقت الأنفاس.
– اعتدنا أن نصمد حيال المعارضة.
– حتى متى؟
– لا أهمية للوقت.
– الوقت مُهمٌّ أردنا أم لم نُرد، ومسئوليتي ثقيلة.
فقالت بحزم: لست معفاة من المسئولية، إني مثلُك تمامًا.
– لا مفرَّ من التسليم بأني أُهدر مستقبلك.
– ومستقبلك أنت؟
– الأمر يختلف، وقد يتزوَّج الرجل في الخمسين.
شحب وجهها وهي تُتمتم: لأول مرة أجدك مُنهزمًا يا علوان.
فقلت بعد تردُّد: ربما لأنني أنتصر على أنانيَّتي لأول مرة!
فهتفت بفزع: ربَّاه .. أتُفكِّر حقًّا في …
وأشفقت من إتمام جملتها، فقلت وأنا أمرق من جرحي: إني أُحرِّرك من قيدي.
قالت بانفعال شديد: علوان .. لا أُطيق سماع ذلك.
– أعيدي التفكير في موقفك بعيدًا عن ظلِّي الثقيل.
– إني حرة ولا سلطان لأحد عليَّ.
– الأمر يتطلب إعادة نظر.
فتفكَّرت في وُجوم ثم قالت: إنه منطقٌ سليم، ولكني أشكُّ في سلامته في ظل حب حقيقي.
فقلت بسرعة وحرارة: حذارِ من الشكِّ فيَّ، لا تزيدي الموقف سوءًا؛ فالحب أيضًا هو التضحية.
– لا حاجة لك إلى التضحية.
– إني أقرِّر ما أراه صوابًا.
فقالت بمرارة: قل إنك أصبحت تجدني عقَبة في سبيلك.
– سامحك الله يا رندة، لن أدافع عن نفسي.
– إنني أرفض تضحيتك.
فقلت بوضوح: وأنا مُصرٌّ عليها.
وفصل بيننا صمتٌ أثقل من الليل الزاحف. انسحب كلانا إلى داخل ذاته، وباعد اليأس ما بيننا إلى ما لا نهاية، حتى فقد مجلسنا أي معنًى. وقامت مُتثاقلةً وهي تقول: لا وجه لبقائي هنا.
فقمت ضامر الحيوية، كأننا غريبان سيذهب كلٌّ إلى وطنه، ولا شيء أقوى من الحب إلا الألم. تخايلت لعيني الوحدة المتربِّصة بي في نهاية الطريق، وطوال الطريق لم نتبادل كلمة ولا تحية عند الفراق داخل العمارة القديمة. وجدت والديَّ في حجرتهما وجدي وحيدًا أمام التليفزيون. جلست على مقربة منه، فنظر نحوي بتوجُّس واستطلاع، ثم قال وكأنما يهرب من أفكاره: فيلم عن امرأة مجنونة، لم أحبه.
فجاريته مُتسائلًا: ولمَ ترى ما لا تحبه؟
– في القناة الأخرى خطبة.
– ولمَ لا تُغلقه؟
– هو خير من لا شيء.
فقلت: الخطبة فُسِخت.
وجَم وتجلَّى في عينَيه الخابيتَين الهم ثم غمغم: أعانك الله على بلواك.
فقلت بجفاء: فُسخت وانتهى الأمر.
فقال بأسًى: لديَّ شعور بالذنب.
فقلت بصوت بارد: لا ذنب لك يا جدي.