رندة سليمان مبارك
رأيت صورة وجهي معكوسة في نظرة أمي التي استقبلتني بها. ها هي تُداري عينَيها في إشفاق وما يُشبِه الخوف. قلت لها على مسمع من أبي: هنيئًا لك، نجح مَسعاك.
فغرقت أكثر في الصمت حتى اغرورقت عيناها، وإذا بأبي يقول: إني مطمئنٌّ إلى رجاحة عقلك.
فقلت مُحتجَّة: بابا .. من فضلك لا تعاملني كطفلة.
فقال بهدوء: لن تندمي، وسوف أذكِّرك بذلك في يوم قريب.
ونطقت أمي لأول مرة، قالت: أنت مؤمنة، ولا خوف على مؤمن.
وقال أبي: أمك لم تُخطئ يا رندة.
ولكنها دنيا جديدة تمامًا التي عليَّ أن أُعايشها منذ الساعة؛ دنيا لا يوجد بها أثر لعلوان، دنيا على القلب أن يصبر عليها حتى يجيئه الفرج بموته، ودهمني شعور قاسٍ بتقدم سنِّي، وأنني أطرق أبواب العنوس برجاء خائب، وتبدَّت لي حجرة نومي قديمة بالية بسريرَيها العتيقين وصوانها المقشر وسجادتها الجرداء التي لم يبقَ من رسومها إلا خيال، حتى سناء أختي باتت مُضجرةً مؤذية، وهي تقول لي ببرود: إنكِ تستحقِّين التهنئة.
وثار غضبي على علوان، أثبت أنه أضعف مما تصوَّرت، وأنه خليق أن يبقى حائرًا بلا مرفأ إلى الأبد، بل لعله سرعان ما ينحرف، أو يبيع نفسه لامرأة مثل جولستان. الحقيقة أنه ضاق بحمل المسئولية، إنه يهرب من عجزه، وفي ظنه أنه لن يُرمى بعد اليوم بالعجز عن الزواج. وقلت لنفسي إنني يجب أن أسعد بالتحرر منه، إنني أخفُّ مما كنت في أي يوم مضى. هجرني وخانني. من غيرُه يُسأل عن تعاستي ذات الأنياب الحادَّة؟ يجب أن أُهنئ نفسي على التحرر منه. من الآن فصاعدًا أستطيع أن أزنَ الأمور بعقل غير مشلول بقيود القلب. أنا حرة .. أنا حرة .. حسبي ذلك. ماذا كان يعني أنور علام بقوله؟ يا للتعاسة التي تتمطى بلا حدود، هل يشفي الزمن حقًّا من الحب؟ متى وكيف؟! عليه اللعنة! سأُضاعف له الازدراء كلما ضاعف لي الذل. والداي يُمعنان في الهرب حتى يُنظِّما صفوفهما. أول النصر هزيمة ثم ينتصر. هرب وتحرَّرت. احملي ألمك بشجاعة حتى يتبخَّر. انتظرت حضوره في الإدارة صباحًا مُصمِّمةً على لقائه كزميل وكأنَّ شيئًا لم يكن تماديًا في إعلان اللامبالاة، لكنني لم أستطِع، لم أنظر نحوه، ففضحت تعاستي. تُرى كيف بات ليلته؟ شارَكني العذاب أم غطَّ في نوم الراحة والحرية؟ وكان لا بد للسر أن ينكشف فعُرِف في الإدارة، وأحدث في الظاهر على الأقل وجومًا. لم يُعلِّق أحد بكلمة. لعل المفلسين قد سعدوا؛ فالتعساء يتعزَّون بالتعساء. ولما جاء دوري للمثول بين يدَي مدير الإدارة أنور علام بدا أول الأمر جادًّا أكثر من المألوف، ولكنه قبل أن يأذن لي في الانصراف قال: علِمتُ وأسِفت.
فلُذتُ بالصمت فقال: لكنها نهايةٌ محتومة، وفي تقديري أنها جاءت مُتأخرة.
ثم بنبرةٍ أقوى: مثلك لا يَصلح لها أن تُعلِّق مستقبلها بوعدٍ مجهول كأنك لا تُدركين قيمتك الحقيقية.
ولم أنبس بكلمة، فقال: عندما قلت يومًا إن لكل مشكلة حلًّا، كنت أفكر في هذه النهاية، وإن يكن كل وجود إلى زوال فالحزن لن يشذَّ عن هذه القاعدة.
ثم قال وهو يُعيد إليَّ الإضبارة: نصيحتي يا آنسة رندة أن تتذكَّري دائمًا أننا في عصر العقل، وأن تعتمدي عليه كل الاعتماد؛ فكل ما عداه باطل .. باطل .. باطل.
وطوال حديثه تصفَّحني بنظراتٍ جريئة لم يعد يُخفِّف منها الحاجز الذي كان قائمًا. لم يخفَّ نفوري منه ولم يزدد، ولكنني لم أعد أجده ظاهرة شاذَّة. وفي المساء قال لي أبي: أودُّ أن أُصارحك يا رندة بأنه لو كان كامل الإخلاص لما تخلَّى عنك أبدًا.
بابا ساخر يُسيء الظن بالبشر، ودأبه التنقيب وراء كل فعل حسن حتى يعثر له على تفسير قبيح. ورغم أنني مِلت لتصديقه إلا أنني قلت: لأنه لم يعد يحتمل المزيد من اللوم فقد أقدم على تضحية أليمة، إني أعرفه خيرًا منك يا بابا.
فقال باسمًا: أتنبَّأ لكِ بخاتمةٍ سعيدة.
ولمَّا لم أُعلِّق بكلمة قال: ما دُمنا قد تحرَّرنا من الحب فلنَكِل مصيرنا للعقل، وفي هذه الحال لا غضاضة من الاستماع لرأي الآخرين.
فقلت باستياء: إنه أمرٌ يعنيني وحدي.
– بل يعنينا جميعًا.
وا أسفاه! علوان يُمعن في البعد، وها نحن نتحدَّث عن حياة جديدة.