حياة أدب وأدب حياة
لم يقل أحدٌ إن غاندي كان أديبًا، ولم يقل هو نفسه ذلك، ولكن حياته كانت أدبًا عظيمًا إذا فهمنا أن العظمة الإنسانية هي الموضوع الأول للأدب، وبرهان ذلك أننا نستطيع أن نؤلف قصة رائعة أو قصيدة سماوية عن حياته، يكون هو بطلها الذي يقتحم الأفكار ويبني الإنسانية، ويلهم الأمم ويخلق من الضعف قوة تحطم الاستعمار.
كانت حياة غاندي أدبًا وفلسفة، وكذلك الشأن في ألبيرت شفيتزر الذي مُنح جائزة نوبل قبل ثلاثة أو أربعة شهور.
-
صنفٌ يحيا حياة الداعية المكافح الذي يحاول تغيير المجتمع البشري، فهو يكتب ويؤلف ويعمل ويغير، والأنبياء من هذا الصنف. ولكن هناك إنسانيين من غير الأنبياء، أو بالأحرى هم طراز جديد من الأنبياء، يحاولون تغيير المجتمع؛ مثل كارل ماركس، وجان جاك روسو، وأفلاطون. ولا نكاد نسأل عن حياتهم الشخصية؛ لأننا نقنع بمذهبهم الاجتماعي.
-
وصنفٌ آخر يحيى حياة القديسين أو ما نفهمه من معاني القداسة، فهم ينصبون أنفسهم للخير، ويجعل كل منهم شخصيته مثالًا وقدوة لهذا الخير، ليس لتغيير المجتمع، أو إذا كان لهم ذلك، فهو يتضاءل خلف حياتهم العظيمة.
ومن هؤلاء تولستوي، وجيته، وإخناتون، وشفيتزر. فإني حين أذكر تولستوي أكاد أنسى أنه كان له برنامج اجتماعى يحاول به تغيير معايش الناس، وإنما تلفت ذهني حياته وشخصيته، فأذكره وهو خلف المحراث يحاول أن يكون فلاحًًا يتعب ويعرق مثل الفلاحين، وأذكره حتى في علاقاته الزوجية، وهو يحاول أن يتقشف في شهواته، وأنا أحبه في كل هذه المجهودات الإنسانية التي فشل فيها جميعًا أكثر مما أحبه لقصصه الخالدة.
وكذلك تروعني حياة جيته أكثر مما تروعني مؤلفاته، فإنه جاء هذه الدنيا وبنى شخصيته، بناها بالحب، والعلم، والأدب، والثقافة، والسياسة.
وكذلك إخناتون أحبه لشيء واحد هو أنه كان «الشخصية» الأولى في التاريخ البشري؛ إذ رفض الإيمان بالآلهة، وأعلن استقلاله الروحي، وحطم الأصنام وآمن بإله واحد، وأرجو أن يفهم القارئ أني لا أعجب به؛ لأنه آمن بإله واحد، وإنما رفض الخضوع للتقاليد والعادات، واستقل وفكر وجابه وأعلن وجهر، ولم يبال الكهنة، ولم يبال الخاصة أو العامة.
وكذلك الشأن في ألبيرت شفيتزر، فإن حياته، وليست برامجه، هي موضوع إعجابي وحبي، وذلك أنه اختار الحياة التي شاء أن يحياها، وهذه كلمات تبدو تافهة، ولكن على القارئ أن يتأمل حياته وحيوات غيرها من الناس، فإنه عندئذ واجد أنهم لا يختارون حياتهم، وإنما يختارها لهم المجتمع الذي ينصب لهم الهدف، وعليهم أن يبلغوه، ولكن شفيتزر رفض الجري وراء الهدف الاجتماعي رفض أن يحيى الحياة الأوروبية الناعمة المتمدنة، وأن يحيى فوق المنصة التي بلغها حين صار دكتورًا في الغيبيات الدينية، وفي الموسيقى يكسب الكثير من المال ويجد الكثير من الاحترام، رفض ذلك كله، والتحق بكلية الطب في جامعة باريس، عندما كانت سنُّه قد بلغت الرابعة والثلاثين، ودرس هذه الحرفة الإنسانية بغية أن يتسلح بها، ويقصد إلى إفريقيا كي يشفي جراح الزنوج المتقيحة، التي أنزلها الاستعمار الأوروبى والتقاليد الإفريقية السوداء، عاش حياته كما أراد، وكما رسم هذه الحياة سنة ١٩١١، هو شخصية عالية يجب على كل مثقف أن يعرفها.
وقد أحب المسيحية وعمل بمبادئها، ولكنه كره غيبياتها، فنقب عنها وكشف عن زيفها، وأحب الدنيا والخير، والإنسان والحيوان، وتعمق الثقافة البشرية، وعرف ظلامها ونورها، وآمن بالإنسان وبالحب.
وهو حين أنشا مستشفى للزنوج، كان أعقل من تولستوي حين وقف خلف المحراث يسوق الماشية، ولكن كليهما كان بعيدًا عن أن يضع برنامجًا للمجتمع يغيره ويصلحه؛ إذ كان يقنع بمجهوده الشخصي، وهو لذلك قدوة عظيمة لكل منا يجب أن ينبهنا حتى لا يغفو ضميرنا ونستسلم للنوم.
إننا نعاصر، أو قد عاصرنا، أدباء حياة في أشخاص الكثيرين من الرجال والنساء قبل ألبيرت شيفتزر ومدام كوري وبرنارد شو وبول سارتر وغاندي ونهرو.
هؤلاء هم أدبنا الحي الذي يروح ويغدو ويعلم ويهذب.