ثلاثة عمالقة
-
دستوفسكي الذي مات في ١٨٨١.
-
وتولستوي الذي مات في ١٩١١.
-
وجوركي الذي مات في ١٩٣٦.
وليس هناك أديب عصري، بل حتى قارئ عصري مستنير، في أي بقعة في العالم، يجهل أحد هؤلاء الثلاثة، فهم الذين عينوا طراز القصة الروسية، واستنبطوا القيم الأدبية الجديدة التي تعلمت عنها أوروبا، وهم مع ذلك يختلفون، بل إن اختلافهم أكثر من اتفاقهم.
هم يتفقون في أن الأدب ليس ترفًا ذهنيًّا، وإنما هو عذاب ذهني في بذل المجهود، في البحث عن القيم. ويتفقون في أن الجمال ليس هدف الفن، وإنما الهدف هو الحياة، ويتفقون في أن حياة الأديب جزء من أدبه، وحياته هي مؤلفه الأول، ويتفقون في أن الإنسانية هي الهدف الأول للأديب قبل الغني.إأنهم جميعًا احترفوا الإنسانية.
إن الذي يقرأ دستوفسكي يحس أن المؤلف لم يكن يستمتع بتأليف قَصَصِه، وإنما كان يتعذب به، بل إن العذاب ينتقل إلينا ونحن نقرأ الصراع القائم بين أبطال قصصه، هؤلاء الأبطال الذين كانوا يجمعون في نفوسهم ضميرين: ضمير القديس المتوجع، وضمير المجرم المتوثب، ضمير الإنسان وشهوة الحيوان.
وقريب من دستوفسكي تولستوي، فإن كليهما مسيحي إلى نخاع عظامه، ولكن دستوفسكي يحب المسيح بقلبه وإحساسه، أما تولستوي فيحبه بعقله، ولذلك انتهى دستوفسكي إلى جملة نطق بها كلها هوس هي قوله: «لو كان المسيح في جانب، وكانت الحقيقة في جانب آخر، لآثرت أن أكون في جانب المسيح على أن أكون في جانب الحقيقة». جملة رعناء نطق بها القلب المفتتن بحب المسيح.
ولكن تولستوي طُرد من الكنيسة لأنه قال عن المسيح: إنه لا يجد فيه غير رجل إنسانى عظيم لا أكثر، وإن السلوك المسيحي هو السلوك العملي. نظر بعقله وطردته الكنيسة الروسية من حظيرتها؛ لأنه استعمل عقله.
أما ثالثهم جوركي، الذي يشترك معهما في النزعة الإنسانية، فإنه يفترق منهما بأنه أديب الثورة، وهذا اختلاف كبير بل خطير.
فإن دستوفسكي يكاد يتمرغ في الألم ويلتذ ألمه، وتولستوي لا يجد للإصلاح غير المسيحية، نطبقها على كل شئوننا الاجتماعية، ولكن جوركي يثور ثورتين: على المجتمع وعلى الحكومة.
وهو لا يؤمن بالمسيحية أو بأي دين آخر، ولكنه يؤمن بالإنسانية، بالإنسان، بالشعب، بالعلم، الفضائل عنده هي من صنع الإنسان، والمخترعات والمكتشفات هي من صنع الشعب، وهو اشتراكي شعبي في سياسته وأدبه، يكتب بلغة الشعب، وتنطوي كل قصة له على مسألة اجتماعية.
وروسيا إلى سنة ١٩١٧ كانت مدوسة مسحوقة بالقيصر والنبلاء، بل حتى بالكنيسة، وكلنا يذكر راسبوتين، وفي هذه الظروف لم يكن مفر لكاتب إنسانى، شعبي أن تكون رسالته ثورية. هو ثائر على ما يقيد حرية الفكر من كتب العقائد المضللة، وهو ثائر على الجهل والتواكل والاستسلام، وهو ثائر على التجاريين والصناعيين الذين يجمعون الثروات بعرق العمال ويحرمونهم العيش اللائق، وهو يدعو إلى العلم وإلى الاشتراكية، ولكنه قبل هذا وفوق هذا، يدعو إلى أن يحيا الإنسان حياته كما يرسمها لنفسه مستقلًّا أبيًّا شجاعًا.
الحياة عند جوركي هي أجمل ما في الكون، والحياة الحية الناهضة هي لباب الجمال، ويجب ألا ننسحب من الحياة في نسك أو عزلة، ويجب ألا نقنع بالكفاف، ونجبن عن الإقدام ونلجأ إلى الكهوف ونختبئ.
وأبطال جوركي هم العمال الذين نهضوا، فغسلوا رءوسهم من الجهل والخرافات، وتعلموا وقرأوا، وأصبحوا ثائرين، أبطال قصصه يمثل كل منهم فترة من فترات الحياة عند جوركي نفسه، بل إن حياته تختلط بمؤلفاته، ومن هنا ما فيها من صدق وكفاح.
•••
حياة جوركي هي مؤلفاته، ومؤلفاته هي حياته.
فقد ألَّف كتابًا في ثلاث مجلدات، عن تاريخ حياته، نقرأه ونحس في كثير من صفحاته أننا نقرأ إحدى قصصه الواقعية، وجميع قصصه واقعية منتزعة من اختباراته، ولكنها أيضًا خيالية يجري فيها الواقع بكل فظائعه ومآسيه، كما يسري فيها الخيال والحلم عن المستقبل الناضر والسعادة المنتظرة.
فإنه يروي السفالة والخسة والفظاظة في حياة الدهماء، ولكنه إلى ذلك يرسم لنا خطوط الآمال في قدرة الإنسان على التعقل والتطور والسيطرة على الطبيعة والآلة.
عرف جوركي في طفولته الفقر والذّل، ورأى السفالات تحيط به، واحترف عددًا من الحرف الوضيعة، كانت له بعد ذلك ذخيرة لشرح حيوات الناس والتعرف إلى أهوائهم الدنيا وآمالهم العظمى، فقد عمل خادمًا، ومشردًا يلتقط الخرق ويصيد الطيور، ثم رسامًا معماريًّا، ثم بائعًا للأيقونات المسيحية، ثم خبَّازًا، ثم خفيرًا للسكك الحديدية، ثم وقادًا للقاطرة، وأخيرًا عمل كاتبًا عظيمًا ليس لروسيا وحدها بل للدنيا كلها.
من أين جاءته هذه القدرة على الكتابة؟
إن هذه الاختبارات العديدة التي مرت به علمته، فعرف منها واقع الناس في معايشهم، ولكن من أين جاءت أحلامه؟ وكيف مهر في الكتابة؟ وما الذي بعثه على الدرس وشوَّق إليه الثقافة؟
كيف يمكن ملتقط الخرق، وبائع التفاح الجوال في الشارع، أن يدرس أفلاطون ويناقش إسبينوزا ويتفهم الأدب الروسي أو الألماني … ثم يبني من دراساته هذه آماله وأحلامه في تغيير الواقع المؤلم؟
الجواب: أنه وصل إلى ذلك باتصاله بالمنظمات الثورية في روسيا.
فإن الثوريين، الذين شرعوا منذ السنين الأخيرة في القرن التاسع عشر يفكرون في تغيير الحكومة القيصرية إلى جمهورية اشتراكية، كانوا يؤلفون الجمعيات ويؤلفون الكتب، الكتب للتنوير والجمعيات للعمل.
وقرأ جوركي هذه الكتب، وتعب ودرس، وكافح أميته التي نشأ عليها، وهو يحدثنا في المجلد الثالث عن الجامعات التي تعلم فيها والتي خرجته أستاذًا عظيمًا في الأدب، وهو يسمي هذا المجلد «جامعاتي».
ونقرأ هذا المجلد فلا نجد فيه اسمًا واحدًا لإحدى الجامعات، وكيف يمكن بائع التفاح، وملتقط الخرق أن يدخل إحدى الجامعات؟
لا، إنما كانت جامعاته منهج الثورة الذي طالبته ببرنامج بل ببرامج، لقد اتصل بالمنظمات الثورية السرية، وعرف منها ضرورة التغيير، أي: التغيير لوسائل العيش في المجتمع، ونقلها من المبدأ الانفرادي إلى المبدأ الاشتراكي، مع تغيير حكومة القيصر الاتوقراطية إلى حكومة ديموقراطية اشتراكية، هذا هو المنهج.
ولكن هذا المنهج بعث فيه الرغبة بل الشوق إلى الدراسة، فكانت هنا جامعاته في الكتب، فدرس الاقتصاد، والأدب، والعلم، والتاريخ، الدين، والفلسفة.
جامعاته هي الكتب، وأعظم ما أثّر فيه كما سنرى، هو العلم.
العلم هو الذي جعله يحلم ويبني الآمال، فيجعل قصصه لذلك واقعية خيالية، إن جوركي أحيانًا يشمئز من حياة العمال، من قذارتهم، وسكرهم، وضربهم لزوجاتهم وجهلهم، واستسلامهم للعقائد الخرافية، وخضوعهم، ولكنه مع كل ذلك يرى آفاق المستقبل المشرقة فيحلم ويتخيل، ويبني أحلامه وخيالاته على العلم الذي سيغير الدنيا.
وتمتاز «الجامعات» التي تعلم فيها جوركي بأنها لم تفصله عن الشعب في غرف دراسية تُلقى فيها المحاضرات بعيدًا عن السوق والمتجر والمصنع؛ إذ كان وهو خباز، يحمل ويخبئ في صدره رسالة صغيرة عن علاقة الأجور برأس المال أو كتابًا لكوربتكين عن زيادة الإنتاج حتى يصير الفقير غنيًّا.
ثم كانت هذه «الجامعات» أيضًا تمتاز بأنها لم تحمله على إضاعة وقته في دراسات ومناقشات موروثة عن القرون الوسطى أو في التعليقات والتفسيرات لأشعار شكسبير أو درامات الإغريق.
كان جوركي يقرأ، ويدرس، ويختار، وفق حاجاته الذهنية، ولذلك كان يهضم ويمثل ولا يقيء ما قرأ ودرس، كان إحساسه بجاهلية شبابه يجعله يحس الظمأ للمعرفة.
•••
ولكن تقلبه في الأعمال الوضيعة، أو ما نسميها وضيعة في نظامنا الاجتماعي، جعله يحس إحساس الشعب، وكانت لقمة العيش الجافة التي كان يحصل عليها بالعرق والتعب تحمله على التفكير في غيره ممن يأكلون مثل هذه اللقمة، ولا يكادون يسيغونها.
وحين يكون الشعب الأساس أو الهدف للأديب، يزدهر الأدب، وتزخر الثقافة؛ وذلك لأن أحوال الأفراد في الشعب، وأهدافهم، وألوان البؤس أو السعادة فيهم لا تنتهي؛ ولذلك نحن نجد في أبطال القصص التي ألفها جوركي شخصيات تتعدد وتتنوع، نجد الراهب في صومعته، والمشرد السفاح، والصبي المترف المدلل، والثائر، والجاهل الذي يحاول أن يتعلم، والصحفي البائس، والثري المستبد والرجل الناهض، وجوركي يحب اثنين من الرجال ويكره اثنين:
يحب الرجل الناهض الذي أفاق من نومه وشرع يستطلع الدنيا ويدرس، ويكبر، حتى ولو كان رأسماليًّا، أي: الرجل الذي ينفض نفسه من الكسل أو يرتفع من الوهدة التي أراده فيها المجتمع، أو الثائر الذي يحاول التغيير لهذا المجتمع.
ثم هو لحبه للحرية والاستقلال والاستطلاع يحب شخصًا آخر هو ما نسميه «المتشرد»، فإنه يؤثره على الثرى الناعم الذي لا يكاد يعرف من الاستمتاعات في هذه الدنيا غير الطعام والشراب، كما يؤثره على التاجر الجشع الذي يجمع المال لمحض جمع المال، ويتعس الآلاف في سبيل ذلك بإفقارهم وحرمانهم.
وواضح أن جوركي لا يدعونا إلى أن نكون «متشردين» ولكنه يهدف إلى المقارنة بين من يسميهم السادة الممتازين بالمال، المستمتعين بالكسل والطعام والشراب، وبين المشردين العاطلين الذين يحملون في صدورهم عواطف فجة بدائية للثورة، فيهيمون، كما يهيم هو عندما استقر فترة من حياته على صيد الطيور، وكأن هذا العمل حرفة.
وهو في هذه المقارنة يكاد يقول لنا: إن في هذه الدنيا ما هو أهم من جمع المال، إن في الدنيا حقولًا وطيورًا، ولذة الاستيقاظ في الصباح لرؤية الشمس في شروقها، ومتعة الحب الخارج على القواعد، والائتناس بالحديث إلى الرجال والنساء في الحانات أو عبر الطرق، بل كذلك التشرد بالتقلب في الحرف.
ثم يكره اثنين من الرجال؛ هذا العصامى الذي لا يهدف من حياته إلا إلى جمع المال، أي: الرجل الذي كان يمدحه صمويل سمييلز ويقول: إننا يجب أن نكون مثله. هذا الرجل هو الثمرة المرة للمباراة الاقتصادية في الشعوب التي تحيا على المبادئ الانفرادية، وليست المبادئ التعاونية الاشتراكية. ومثل هذا العصامي لا ينجح إلا بسقوط العشرات ممن كانوا يبارونه ويحاسدونه، وآلام المئات من العمال الذين كانوا يخدمونه.
والشخص الثاني الذي يكرهه هو الرجل الذي لا ينهض، الجاهل الذي يرضى عن جهله، والذليل الذي يرضى ذله، والحيوان الذي يمارس اللذات الحيوانية ولا يعرف ما هو أعلى منه.
•••
حين يموت أديب ونجد الحرية لنقده وتقييمه دون أن نجرح كرامته نسأل هذا السؤال: هل كانت المشكلات التي شغلته وألَّف عنها كتبه مشكلات حقيقية تنبع من وجود الإنسان، ونظام المجتمع، واستقلال الروح، وارتقاء الشعوب، والحرية، والمساواة، والإنسانية، أم كانت مشكلات تافهة جوفاء كنا نلتفت إليها في حياته؛ لأنه كان يصيح ويصرخ في آذاننا حتى إذا مات نسيناها لتفاهتها؟
ومثل هذا السؤال يمكن أن يسأله الناس في كل عصر وفي كل قطر، ويمكن أن يسأله الناس الآن وبعد الآن في مصر.
أنت رجل أيها الأديب، أنت إنسان، تطلب الخير للشعب الذي تعيش فيه، أنت تفهم معنى التطور، وقيمة الحرية، حرية النفس في أن تسلك السلوك الذي تهواه، وحرية العقل في أن يفكر في استقلال، تؤمن ببينة العلم بدلًا من الإيمان بالعقائد الموروثة، وأنت من الشعب، فهل خدمت الشعب والإنسانية والحرية والتطور والعلم؟
إن جوركي فعل ذلك، خدم الشعب والإنسانية والحرية والتطور والعلم.
•••
البطل الأول في جميع قصص جوركي هو الرجل الناهض، بل المرأة الناهضة أيضًا، هو الرجل الذي يقف لحظة في حياته ينظر إلى الخلف وإلى الأمام، إلى ماضيه وإلى مستقبله، فيقول: كنت جاهلًا فيجب أن أتعلم. كنت في غيبوبة فيجب أن أتنبه. كنت عبدًا للخرفات والاصطلاحات فيجب أن أتحرر. كنت أنانيًّا فيجب أن أكون إنسانيًّا. كنت إحيا بلا قصد، بلا وعي فيجب أن أحيا عن قصد ووعي.
نحيا عن قصد ووعي في هذه الدنيا! هذا شيء خطير.
وقصة «الأم» التي ألّفها عقب فشل الثورة الروسية ضد القيصر في ١٩٠٥، هذه القصة تدلنا على اهتمامات جوركي في أدبه وحياته.
كلاهما يندغم في الآخر، أجل، إن اهتماماته هي: انهض. تعلم. اخدم الشعب. اعمل للمساواة والحرية. ارتفع من شئونك الشخصية الصغيرة إلى الشأن الإنساني العظيم. امتلئ بنهوض الشعب ولا تيأس، فإن الحق والعدل سينتصران على الباطل والظلم.
لما فشلت ثورة ١٩٠٥ وذبحتْ حكومةُ القيصر آلاف الآباء والآمهات والأبناء من الشعب سادت فترة من اليأس والغم، قابلها جوركي بقصة «الأم» كي يبعث الأمل والشجاعة ويحيي الثورة التي خمدت، ونحتاج إلى القليل من النظرة في هذه القصة.
إن القصة تبدأ بعامل تقدمت به السنُّ، يعمل كثيرًا في المصنع ويتعب كثيرًا، فإذا ترك المصنع وقصد إلى بيته لم يجد شيئًا ينسيه تعبه ويأسه وفقره سوى الخمر، يشربها حتى يغيب عن وعيه، هذا الوعي الذي لا يطيقه.
ويموت الأب، ويخلفه ابنه، ويقتدي به، يعمل في المصنع ثم يعب الخمر في المساء، وكأن الدنيا بحضارتها وثقافتها، وهمومها الإنسانية، واهتماماتها الاجتماعية، أشياء بعيدة عن ذهنه لا يعرفها، وتتأمل الأم ابنها فترى فيه صورة أبيه ومصيره، أي: الموت بعد الفقر والبؤس، فتناشد فيه مع البكاء، رجولته وشرفه، وتدعوه إلى ترك الخمر. ولكلمات الأم أكبر الأثر في التوجيه.
ويكف الابن «بافيل فلاسوف» عن الخمر، ويصحو نهاره وبعض ليله.
وعندما يصحو يفكر، وعندما يفكر يسخط، ثم يدفعه السخط إلى التفكير مرة أخرى، ويعرف زملاء له من المفكرين الذين يحملون في قلوبهم الهموم الوطنية، والهموم الإنسانية ويقرأ كما يقرأون، الكتب البذرية التي يؤلفها الحالمون، الذين عرفوا الواقع ولم ييأسوا، بل أملوا في مستقبل زاهر تنهدم فيه منظمات الظلم والاستغلال والامتياز، فيجتمع مع هؤلاء الحالمين من العمال والأساتذة والطلبة يتذاكرون السوء الذي يعيشون فيه، وينظمون الدنيا المشرقة القادمة، وهو يجد بهذا الارتباط بهؤلاء الثائرين الحالمين، قوة تنويرية عظيمة لذهنه الخام، فيقرأ ويدرس ويصنع من نفسه رجلًا جديدًا، فلا يفكر في الخمر يشربها كي ينسى بها بؤسه، وإنما يفكر فيما يزيد يقظته من هذه الكتب.
وأمه الجاهلة، التي لم تعرف أيام زوجها غير الطبخ، وتحمل الضرب، وشراء الخمر، هذه الأم تتأمل في استطلاع ابنها وهو يعب ويقرأ، ويخبئ الكتب المحرمة، ثم تحدس بعقلها البدائي وترى من الاجتماعات السرية التي يعقدها مع زملائه ثَمَّ شيئًا جديدًا تكاد تفهم خطورته وخطره.
تفهم أن ابنها وزملاءه يخشون الشرطة، وأنهم يقومون بحركات قد تنتهي بهم إلى السجن، فتمتلئ خوفًا على ابنها، ولكنها مع ذلك كانت تنظر إلى هؤلاء الزملاء وتقشفهم في العيش واستقامتهم في السلوك وكياستهم في المعاملة، فتمتلئ إعجابًا بابنها الذي لم ينشأ مثل أبيه سكِّيرًا قذرًا لا يعرف من الأصدقاء غير رفقاء الحانة، ولا يفتح كتابًا ولا يطيق اليقظة، إن ابنها يعرف الطلبة والأساتذة المهذبين ولا يشرب الخمر.
ويدفعها حبها لابنها إلى السؤال عن معنى الثورة بل معانيها، وإلى الأهداف الإنسانية الكبرى التي يحتضنها ابنُها وزملاؤه، وإلى البرامج التي يتبعونها، وتتسلل الكلمات والأفكار إلى قلبها، ويدخل شعاع بعد شعاع من النور إلى عقلها المظلم، فيستضئ، وتشرع وهي في العقد الخامس أو السادس من عمرها في تعلم القراءة.
لقد أحالتها أفكار الثورة إلى إنسان ناهض بعد نصف قرن من الظلام، وتلقي حكومة القيصر القبض على ابنها؛ لأنه يخطب ويوزع المنشورات الثورية ضد القيصر، وتطرحه في السجن.
ولكن الأم التي كانت جديرة قبل ذلك بأن تصرخ وتولول؛ إذ لم يكن لها في هذه الدنيا من آمال سوى هذا الابن، تتغلب على الصدمة، وتنهض، وتتابع في جدٍّ الدعوة إلى الثورة، لقد تغيرت هذه المرأة وعرفت قصدًا جديدًا في الحياة.
كانت أمًّا لابنها، فأصبحت بمبادئ الثورة التي تعلمتها أمًّا لجميع الشباب في العالم، وكانت تقصر اهتماماتها على شئون بيتها فأصبحت تهتم بالإنسانية كلها، لقد أخذ القصد العام في حياتها مكان القصد الخاص.
إنها توزع المنشورات التي تشرح للناس سوء حياتهم، وعبء مظالمهم، وعبث القيصر وأعوانه بمصائرهم، وتقرأ، وتفهم.
وهذه هي السعادة الراقية، السعادة التي تجدها في زيادة الوعي بأن نتألم، بل نتعذب، حتى نعرف ونوجه ونصلح الدنيا، بل الواقع أن ما نعانيه من ألم وعذاب يعود لذة سامية لإحساسنا بأننا نؤدي واجبًا إنسانيًّا على المستوى العالي في حياتنا.
ويُقبض على الأم، بعد القبض على الابن، ويستمر القيصر وحكومته في متابعة خطط الإذلال للشعب، ولكن إلى حين.
هذه هي القصة التي تشرح لنا كيف كان الثائرون في روسيا يعملون قبل أن تصل الثورة إلى انفجارها الأخير في ١٩١٧.
•••
-
الثائر ناهض يقظ بعد ركود ونوم.
-
الثائر يجد القصد في حياته بعد استسلام للقدر.
-
الثائر يفكر ويتعلم ويتطور.
-
الثائر يجد الدنيا والمجتمع والإنسان والعلم موضوع اهتمامه بدلًا من تلك الاهتمامات الصغيرة، التي تمتلئ بها النفوس الصغيرة من السعي وراء الثراء والتفوق والجاه.
•••
إن جوركي واقعي، يصف لنا أحيانًا الظلام الحالك في النفوس المريضة التي أفسدتها مظالم المجتمع، وهو مع أنه يضيف إلى هذه الواقعية في أغلب الأحوال أملًا مشرقًا في المستقبل، فإنه لا يتعامى عن المصير المحزن، واليأس الشامل اللذان يسودان الناس في بعض الأحوال.
وقصته «مخلوقات كانت رجالًا» هي قصة الانهيار النفسي أو الجسدي فيمن صدمتهم الحياة وحطمتهم، فهم ليسوا أناسًا وإنما هم حطامٌ من الناس، يرتكبون الجريمة، ويجرأون على الفضيحة، ويفرون من الزوجة والأبناء، ويهيموا لصوصًا أو مشردين، ويعالجون بؤسهم بالخمر، ويحيون حياتهم في ظلام لا يتخلله بصيص من النور أو شعاع من الأمل.
إن العلاج يقتضي أن يولد هؤلاء الساقطون ميلادًا جديدًا كما ولد «بافيل فلاسوف» على أيدي الشبان الثائرين الذين علموه قصدًا جديدًا في الحياة أعم وأكبر من الأهداف الشخصية الصغيرة، وحين لا يوجد هذا القصد، الأعم الأكبر، يكون الموت أو الجنون، ونحن نجد الموت بالخمر قبل الدفن الرسمي، في هذه المخلوقات التي كانت رجالًا، ونجد الجنون في قصة «فوما جوردييف»، فان هذه القصة أيضًا لا تنتهي بالنور يشرق على الظلام، وإنما نهايتها جنون يطبق على العقل العاجز.
ولكن في كلتا القصتين نحس وطأة المجتمع، التي تدفع بهذه «المخلوقات» إلى الخمر، تدفع «بفوما جوردييف» إلى الجنون.
نشأ «فوما» في عائلة يرأسها أبوه التاجر الذي لم يكن يفهم من معاني الصلاح والخير والاستقامة في هذه الدنيا سوى تحقيق النجاح، والنجاح عنده هو جمع المال، أليس هو خيرًا؟
ويموت الأب، ويرثه الابن في ثروته المؤلفة من بخاريات تنقل البضائع في نهر الفولجا، ثم يشرع الشاب في التعرف إلى الدنيا، فقد أهمل أبوه تعليمه، ولم يلتفت إلى تربيته، وكيف كان يمكنه أن يربيه مع أنه هو لم يحصل على تعليم أو تربية؟ كما أن أمه كانت قد ماتت وهي في ميلاده، وهو يتعرف إلى الدنيا من أسفل، فيشرب الخمر وينزق نزق الشباب محرومًا من الصديق الناصح أو الكتاب المنير، كانت كل ميزاته أنه ثري، بل كان له صديق هو شبينه، وكان للشبين مقام كبير في روسيا القيصرية.
ولكن هذا الشبين كان أيضًا تاجرًا، ينظر إلى الدنيا ويتخير منها كل ما له قيمة تجارية، والنجاح عنده هو الثراء.
والتاجر هو أكره ما يكره جوركي، هذا التاجر الذي كثيرًا ما يفخر بأنه عصامي، مُجدٌّ، مثابر في أي شيء؟ في جمع المال، يجمع المال لمحض جمع المال، وهو يحتقر كل من لا يثرى مثله، ويتهمهم بأنهم كسالى خائرون لا نفع منهم.
وفوما يتعرف إلى صحفي منهار وعلى دراية بالبؤس الاجتماعي، وهو ينهار ويدمن الشراب؛ لأنه يعجز عن الإصلاح.
والقليل الذي تعلمه فومًا من هذا الصحفي يحمله على التأمل فيمن حوله من أمثاله الأثرياء، فيجد الخسة والسفالة والغدر تعلو إلى المكانة الاجتماعية المرموقة، وينفجر في إحدى الحفلات عقب الشراب الذي يحمله على أن يبوح بما في صدره، ولكن ثورته صبيانية غير ناضجة، طارئة مفاجئة ليس لها تدبير؛ ولذلك يتألب عليه الأثرياء، وبما لهم من حظوة في المجتمع والحكومة يبعثونه إلى مستشفى للأمراض العقلية، ثم يفرج عنه مجنونًا يتسكع في الشوارع.
إن جوركي في قصة «المخلوقات التي كانت رجالًا» ثم في قصة «فوما جوردييف» لا يجد مجالًا للتفاؤل، وهو هنا واقعي لا أكثر.
•••
إن إيمان جوركي بالإنسانية لا ينطوي على قدرة الإنسان على الثورة على المظالم فقط؛ إذ هو يبني آماله في الثورة على أنها تعمل بالعلم، العلم الذي يحرر الإنسان من خرافات القرون المظلمة، العلم الذي يضع البيئة والتجربة مكان العقيدة والتسليم، العلم الذي حين نعرفه ونتحقق من ممكناته، نقول: كنا عبيدًا فصرنا أحرارًا، العلم الذي نأمل به أن نرفع دخل العائلة المصرية في المتوسط من أربعين جنيهًا في العام إلى ألف جنيه، وإلى ألفي جنيه في العام، العلم الذي يبصرنا بأصل الكون ونهايته، بلا خرافات موروثة.
في سنة ١٩٢٩ كتب جوركيى مقالًا ذكر فيه قصة وقعت في ١٩١٧ يقول فيها: إن أحد الجنود الذين اشتركوا في الثورة كان يتحدث إلى أحد أعدائها، أعداء الثورة، وكان يصف له ما سوف يقوم به النظام الجديد ويشرح الآمال ويبني القصور، فكان عدو الثورة يتهكم به ويقول: «إنكم ستجعلون العالم كرويًّا كالبطيخة».
فيقول الجندي «أجل، سنجعله كذلك».
فيقول العدو: «ستجعلون الجبال وديانًا».
فيقول الجندي «أجل، بلا شك، إذا ما كانت هذه الجبال ستقف في طريقنا».
ويقول العدو: «وستعكسون مجرى الأنهار حتى تعود مياهها القهقرى».
فيجيب الجندي «أجل،هذا سوف نفعله،سنوجه مياهها إلى حيث نريد،ماذا يضحكك في هذا؟».
ويزيد الجندي عى ذلك فيقول: «لا نحتاج إا إلى الوقت الذي يعيد إلى الناس عقولهم، وعندئذ ستنجون وتشكروننا».
ما الذي كان يقصده الجندي هذه الإجابات؟ كان يقصد أن الدنيا ستتغير بقدرة الإنسان، بالعلم.
إن العلم قد أصبح المركز العصبي للأرض.
إن الشعب يوجد علاقات جديدة بين الأنواع المختلفة من المادة، وبذلك تتغير الدنيا.
•••
في إحدى الدرامات التي ألَّفها برناردشو يقف أحد الأشخاص ويندفع في نقاش يبدي فيه غضبه من أولئك المؤلفين الذين تباع مؤلفاتهم، فإذا فتحت الكتاب وشرعت تقرأ وجدت ما يتعسك من هموم ومشكلات ومآس يعرضها عليك المؤلف، فتحزن وتبتئس أو تسخط وتلعن.
ويقول هذا الشخص: إن المؤلف لهذا الكتاب تجب مقاضاته واسترداد ثمن الكتاب منه؛ لأنه باع سلعة مغشوشة؛ إذ هو يفهم من اقتناء كتاب ما أن مؤلفه يرفِّه عنه، ويلهيه معه، ويسليه، ويتيح له أن يقضي ساعة سعيدة يقرأ فيها عن الحوادث الطريفة في الأسلوب العذب، أما إن فعل العكس، وعرض عليه المشكلات الاجتماعية التي تحزنه، فإنه يعد غشاشًا أخذ ثمن الكتاب بغير حق.
وكثير من قراء الصحف والكتب يطلبون اللهو والتسلية فيما يقرأون، ويجدون من يزودونهم بما يطلبون، وهم يبقون على هذه العادة طيلة حياتهم، ضمائرهم منومة في غيبوبة كما أن عقولهم مقفلة لا تستنير.
ولكن هناك نوعًا آخر من الكتب المرة، يؤلفها الكاتب المر، الذي لا يختار لك ما يحلو وينوم ويخدر، ولا يستهدف العبارة الأنيقة أو الأسلوب العذب؛ لأنه إنما يعالج شأنًا أعظم في حلاوة التعبير، أو لذة النادرة، أو طرافة النكتة.
إنه يعالج المشكلات الخطيرة للمجتمع والضمير، ولا ينفك يثير الغبار، ويحفر عن العفن المختبئ، ويفضح السرقة والغدر، ويحض على الثورة على المظالم، بل أحيانًا يتعسك؛ لأنه يجعلك تقف على ما فيك أنت من تفاهة أو تراخ أو استهتار، وأنت تخرج بعد قراءتك له ونفسك مرة قد ازدادت الدنيا مشاكل في وجهك بدلًا من أن تنقص، وقد ازددتَ أنت إحساسًا بنقصك وأحمالك، فأنت تغضب وتسخط أو تحزن وتبتئس، أجل، ولكنك تستنير وتستيقظ، ولعل يقظتك هذه تكون وسيلة لأن تتغير وتتطور وترتقي في تقويم نفسك وزيادة إنسانيتك وإصلاح مجتمعك.
وليس هناك كاتب عظيم إلا وتحس المرارة فيما يكتب، وهذا هو الشأن في برناردشو على الرغم من نكاته التي يضحكنا حتى لنبكي، وهذا هو الشأن أيضًا في تولستوي ودستوفسكي وفولتير ورينان، وذلك لأنهم يعرِّفُوننا بالأحزان والمآسي والمشكلات التي تحيط بنا، والتي نغفل عنها ذاهلين في لهونا.
كان مكسيم جوركي يسمى في ورقة ميلاده إليكزاي بيشكوف، ونشأ على هذا الاسم إلى أن وجد أن له قلما يشرع ما كان يعانيه أبناء وطنه من مآس ومظالم وقذر وعفن، فشرعه يشرحها ويبسطها في قصص مرة مؤلمة، واتخذ لذلك اسم مكسيم جوركي، وكلمة «جوركي» تعني في لغته «المر».
لقد عرف رسالته في هذا الدنيا وعرف أنه كاتب مر، يعلم قراءه، ويقسوا عليهم، حتى يستيقظوا، ونحن نقرأه لا لنلهو ولكن لنتألم ونتنبه ونزداد ذكاء ورجولة.
•••
الفن هو شكل ومضمون.
فأما المضمون عند جوركي فقد ذكرته، وهو يتلخص في الإيمان بعظمة الإنسان، والأمل في مستقبله العظيم باستخدام العلم، وليست الفضائل عنده من صنع الحكومات أو الأديان أو الحكماء، وإنما هي من صنع الشعب.
وهو مثل جميع الأدباء العظماء في التاريخ يجد أن الإنسان في صميمه نبيل، جميل، طيب، وإنما يفسده الفقر والظلم والجهل، وأن الاعوجاج يعود إلى مظالم المجتمع وليس إلى فساد أصيل في فطرة الإنسان.
هذا هو مضمون الفن عند جوركي، والآن ما هو الشكل؟
وأنا أجيب عن هذا السؤال بسؤال آخر، هو: هل لنا الحق بعد أن عرفنا المضمون أن نسأل عن الشكل؟
أنا لا أسأل هذا السؤال؛ لأن المضمون عند جوركي يستغرق كل ذهني.