العرب والعلم والصناعة
لو خلط بالدم … وهذا التجويف هو التجويف هو التجويف الأيمن من تجويفي القلب … وإذا لطف الدم في هذا التجويف الأيسر، حيث تتولد الروح، ولكن ليس بينهما منفذ، فإن جرم القلب هناك مصمت ليس فيه منفذ ظاهر كما ظنه جماعة، ولا منفذ غير ظاهر كما ظنه جالينوس، فإن مسام القلب هناك مستحصفة (متينة)، وجرمه غليظ، فلا بد أن يكون هذا الدم إذا لطف، نفذ في الوريد الشرياني إلى الرئة لينبث في جرمها ويخالط الهواء ويتصفى ألطف ما فيه إلى الشريان الوريدي ليوصله إلى التجويف الأيسر من تجويفى القلب …
ونرى من هذه الكلمات أن ابن النفيس قد فهم قيمة الدورة الدموية في الرئتين، وأنه كان على وشك أن يفهم الدورة الدموية العامة في الجسم، كما فعل هارفي بعد ذلك حوالي ١٦٥٠ ميلادية.
والكتاب الذي نقلتُ منه هذه الكلمات هو مخطوط بدار الكتب بالقاهرة، رقم ١٢٣ طب، باسم فصول مختارة من شرح وتشريح ابن سينا، تأليف: علاء الدين المعروف بابن النفيس.
والقارئ إذا كان على شيء من الفهم البيولوجي أو الطبي، يدرك خطورة هذا الكلام الذي سطره ابن النفيس، وهو كلام علمي، وتفكير علمي، يقومان على المشاهدة، ولكن أي مشاهدة؟
أكبر ظني أن ابن النفيس قام بمشاهدته بالفحص عن قلوب الحيونات من خِراف إلى بقر إلى إبل؛ إذ لم يكن ليستطيع أن يشرّح جسم إنسان.
وليست مشاهدة ابن النفيس «مصادفة»؛ إذ هي تحتاج إلى تنقيب وفحص، ولذلك فإن قيمتها كبيرة جدًّا، وهناك مصادفات أدت إلى كشوف علمية، مثل معرفة القدماء لمادة الأمونيا (النوشادر) من معابد آمون في مصر، ومثل بعض الكشوف الكيماوية التي عرفت عن طريق البحث عن حجر الفلاسفة، وإحالة المعادن الخسيسة إلى معادن كريمة في الأندلس على أيدي العرب، والعبرة في العلم بمنهج البحث، وليس بالمصادفة.
ويُعزى تأخر العلم عند العرب إلى عقبات نشأت في الحضارة الإسلامية، وعاقت التجربة العلمية، من ذلك مثلًا تحريم الرسم وتحريم التشريح للجسم البشري، فإن الطب لا يمكنه أن يكون عِلمًا بغير الرسم والتشريح.
وقد حرم الخلفاء التشريح حتى إن أحد الأطباء في بغداد رَوَىَ عن نفسه أنه تأهل لحرفة الطب بأن شرح جسم قرد، وقال في ذلك: إنه أقرب الأجسام إلى جسم الإنسان، وأنه ما دام الخليفة يحرم تشريح الجسم البشري فإن ما يستطيعه من الفهم لتركيب الأعضاء لن يكون إلا بتشريح جسم القرد، ولكن تحريم الرسم أدى إلى عرقلة العلوم جميعها …
وتحريم الرسم كان في الأصل مقصورًا على رسم البشر، ولكن الرسم باعتباره فنًّا، كلٌّ لا يتجزأ، فإذا حرمنا رسم البشر حرمنا أيضًا رسم أعضاء الجسم للحيونات أو النبات، ومن هنا العرقلة للعلم، ومن هنا الأسف العظيم على أن أمثال ابن النفيس لم يجدوا ما يعنيهم من الوسط الثقافي العربي، على أن ينشطوا أو يتمهروا ويعرفوا.
ثم كان الغزالي وأمثال الغزالي، فقد كتب هذا الرجل يحرم على المسلمين دراسة الجغرافيا، لا لأنها كاذبة، ولكن لأنها تنهض على العقل والمنطق، ومن هنا وصف ابن رشد الغزالي بكلمتي: «الجاهل الشرير».
ولكن الغزالي انتصر على ابن رشد، بل أكاد أقول: إنه لا يزال منتصرًا في بيئات عربية كثيرة، وهنا الخطر.
إن بقاء العرب مرهون بالعقل والمنطق، وليس بعيدًا أن ينقرضوا كما انقرض الديناصور إذا رفضوا العقل والمنطق والتزموا العقائد، أي: إذا اتبعوا الغزالي وأنكروا ابن رشد. (إن كتاب ألف ليلة وليلة يذكرنا في إحدى قصصه أن بعض المتعصبين كانوا يطوفون حول بغداد ويبحثون عن الكتب لإحراقها، وسؤالي هو: هل كان هؤلاء من أتباع الغزالى؟)
•••
أعظم ما أخَّر العلم عند العرب هو الرِّق؛ ذلك أننا لا نشتغل بالعلم للمعرفة فقط، وإنما نحن نحاول أن نخترع أو نكتشف كي نصل إلى طريقة للإنتاج، في الزراعة، والصناعة، نقتصد بها في النفقات، ولكن ما دام عندنا عمال أرقاء يعملون بلا أجر فإننا لا نحتاج إلى الاقتصاد؛ ولذلك لا نخترع ولا نكتشف، وهذا الرِّق هو الذي وقف بالحضارة الإغريقية، ثم الحضارتين الرومانية والعربية. وجمدها جميعًا.
والقرون الوسطى هي قرون التجميد في الحضارة، ومرجع هذا التجميد أو معظمه هو الرِّق الزراعي، أي ما يسميه الأوروبيون «سيرف». وبعث النهضة في أوروبا كان بإلغاء الرِّق الزراعي، حين أصبح العامل مأجورًا يكلف عمله مقدارًا من المال، فكان اختراع الآلة للاستغناء عنه.
وكلاهما، الرِّق بالنخاسة، والرق الإقطاعي في الزراعة، قد عما الشعوب العربية أكثر من ألف سنة فجمدها، كما جمد من قبلها الإغريق والرومان، وذلك على الرغم من أن الفرص التي أتيحت للعرب كي يرتفعوا في العلوم كانت كبيرة جدًّا، فإنهم استوردوا الحرير والورق والخزف من الصين، والأرقام الهندية من الهند، ولكن النظام الإقطاعي الذي كان يسودهم، وكذلك الرِّق بالنخاسة، حالا دون أي ارتقاء علمي.
وكل ما نجد من كشوف علمية عند العرب يرجع إلى تلك الفنون التي تتصل بالطبقة الحاكمة، مثل الخزف والحرير والورق، فإن مصانعها أنشئت في العالم العربي، ولكن للطبقة الحاكمة، فصنعت الزهرية للزينة ولم يصنع الطبق للطعام.
•••
هل تغيرت الظروف التي حالت في الماضي دون ارتقاء العلم بين العرب؟ أجل تغيرت، ولكن هذا التغيير ضئيل.
نحن نرسم الآن ونشرِّح جسم الإنسان، ونحن نتعلم العلوم في المدارس والجامعات، ونحن لا نحرق الكتب (كما أُحرِقت كتب ابن رشد). ثم إننا ألغينا الرِّق.
ولكن لا يزال باقيًا عندنا شيءٌ غير صغير من الرِّق الزراعي الذي يجعل أجور العمال الزراعيين منخفضة، وما دام أجر العامل منخفضًا فإنا لا نجد الحافز إلى استخدام العلم وإلى الاكتشاف والاختراع، أي: لا نجد الحافز لأن نقتصد في نفقات الإنتاج بالاعتماد على الآلات بدلًا من الاعتماد على العمال.
وقد حرم الاستعمار علينا إنشاء المصانع، ثم بعد ذلك استولى على وقود المصانع، البترول، وبذلك قطع علينا الطريق في الارتقاء الصناعي، والارتقاء الصناعي هو الارتقاء العلمي، وهنا يجب أن نقف للتأمل، العلم لا يولد في الجامعات والمدارس، وإنما يولد في المصانع. العلم أداة للتفكير بالدماغ واليد، وإذا قصرنا العلم على الدماغ، كما هو الأمر في معظم الجامعات، عقم العلم، وإذا أشركنا الدماغ مع اليد أخصب العلم، فيكون الاختراع والاكتشاف، وخيرٌ من أن ينشئ العرب الجامعات والمدارس، خير لهم ألف مرة أن ينشئوا المصانع، ومتى أنشئت المصانع فإنها ستضطرهم إلى إنشاء المدارس والجامعات. العلم ينشأ في الورشة والمصنع، ثم بعد ذلك تنتفع به الورشة والمصنع.
يجب أن يهدف العرب إلى أن يكون دخل كل أسرة عربية ألف جنيه في السنة، وهذا ممكن بالصناعة، وغير ممكن بالزراعة، ومتى وجدت الصناعة وجد العلم والاكتشاف والاختراع والثراء.