ابن خلدون والعرب
عدَّ المؤرخون — بحق — ابن خلدون أول من وضع علم الاجتماع ولا تزال «المقدمة» بين أيدينا تخبر عن عقل كبير في التحليل والتأليف؛ والإحاطة، والتفصيل، وقد أنستنا هذه المقدمة ما وضعت من أجله، وهو درس التاريخ الكبير الذي وضعه بعدها، وكانت المقدمة بمثابة التهيئة والتنبيه لدرس هذا التاريخ؛ إذ اتضح للقراء أنها أثمن من التاريخ.
وقد تناول المؤلف بحوثًا كثيرة، حاول أن يفهم المادية ثم يشرح فيها معنى «التمدن». وكيف ترتقي الأمم وكيف تنحط.
وكان أول مؤرخ يعلل التاريخ وينظر إليه النظرة المادية، ويجد أن حوادثه ليست طوارئ ومصادفات، وإنما هي نتائج لأسباب وأسباب لنتائج، وهي تطورات وثورات تقتضيها ظروف الطبيعة أو ظرف الاجتماع.
وقد كانت حياته حافلة، بل مزدحمة، بالأحداث العظام، مثل الطاعون الجارف الذي عم القارات الثلاث، ومثل هجوم التتار بقيادة الوحش تيمور لنك وتدميره حضارة الشرق الإسلامى في آسيا، وهذان الحادثان جديران بأن ينبها الذهن العادي فضلًا عن الذهن الفذ الذي كان يمتاز به ابن خلدون، وهما بمثابة هاتين الحربين العالميتين اللتين وقعتا في عصرنا من ١٩١٤ إلى ١٩٤٥، فإنهما أيضًا قد نبهتا الغافلين قبل المتنبهين وعممتا بيننا وجدانًا بالبشرية وضرورة الحكومة العالمية، وقد نشأ من الحرب الأولى «عصبة الأمم»، ونشأ من الحرب الثانية «هيئة الأمم المتحدة».
وكانت حياة ابن خلدون نفسها كثيرة الأحداث، فإنه ولد في تونس، وشغل المناصب السياسية في مراكش وإسبانيا، وعاد إلى تونس حيث ألَّف كتابه العظيم «المقدمة والتاريخ» ثم رحل إلى مصر حيث بقي بها نحو ٢٣ عامًا استخدم في أثنائها في السفارة إلى تيمور لنك الذي قابله عند دمشق.
والذي يقرأ «المقدمة» يجد عبارات جديدة لم يكن يعرفها الكتَّاب من قبل، هي ما ابتكره هو من الأفكار، مثل «العمران البشري» و«الاجتماع الإنساني» و«تأثير الهواء في ألوان البشر» و«العمران البدوي والأمم الوحشية» و«إن للدولة أعمارًا طبيعية كما للأشخاص» و«إن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» إلخ …
وقد يكون مخطئًا في كثير من أبحاثه، ولكن جدتها كانت تبعث على التفكير والمناقشة، وكان يمكن أن تخصب هذه «المقدمة» لو أنها وجدت من المتعلمين في مصر وسائر الأقطار العربية من يوالونها بالنقد والشرح والتعليق، وهذا ما لم يحدث لأسباب ما زلنا نجهلها.
وظني أن بعض ما حال دون ذلك هو كراهة ابن خلدون للعرب وعدوانه على ثقافتهم في المعنى العصري لهذه الكلمة، وقد كنت أنا أول من استعمل كلمة «الثقافة» بمعناها العصري، وكان ابن خلدون هو الموحي إليَّ به.
ومن العجيب في ابن خلدون أنه يذكر «العصبية» كثيرًا، ولكنه لا يذكر الأسرة، وهو لا يكاد يكون في غيبوبة تامة عن مكانة المرأة في المجتمع، ولا عبرة بأن يقال: إنه نشأ في وسط اجتماعي يعوق بصيرته، فإن ابن رشد قد سبقه بسنوات إلى هذا الموضوع، وتحدث عن ضرورة ارتقاء المرأة، وأنها يجب أن تخالط المجتمع وتؤدي وظائف الدولة.
ثم إنه كان يعرف المجتمع الأوربي؛ إذ عاش فيه بضعة أشهر في سفارته إلى ملك إشبيلية، ولكنه لم يقارن بين المجتمعين الأوربي والعربي، مع أنه قارن بين أساليب الحرب الأوربية والأساليب العربية، وآثر الأولى على الثانية.
والخطأ البارز في ابن خلدون هو تَنَقُّصُه حضارة العرب، فإنه هنا أعمى كامل العمى لا يرى بصيصًا من نور، وأنا لا أعزو هذا العمى إلى أنه بربري يكره العرب، فإن هذا القول ليس تفسيرًا، وما أظن أنه كان يخدع نفسه فيرى فضائل العرب نقائص، ويكتب هذا في «مقدمة» أخلص فيها التفكير وأراد أن يصل فيها إلى استنتاجات منطقية. هذا مع أني أحتفظ له بخيانات شخصية وثقافية، فإنه مثلًا خان معظم الأمراء والملوك الذين خدمهم، ثم إنه سرق كل ما كتبه إخوان الصفاء وعزاه إلى نفسه.
ولكن حملة ابن خلدون ترجع إلى جهله لا أكثر، فإنه رأى الإعراب، ولم ير العرب.
يقول ابن خلدون في «المقدمة» عن العرب: «إنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالفقر».
ويقول أيضًا في فصل عنوانه: «إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»: «والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم جبلة وخلقًا، وكان عندهم ملذوذًا لما فيه من الخروج عن ريقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له».
والمتأمل لهذا الكلام يعود فيقول: أهؤلاء عرب أم أعراب؟
وقد استطاع الدكتور مشرفة أن ينبهنا إلى القيمة التاريخية والمهمة الاجتماعية التي أداها العرب في التطور البشري، فإن الجزء الثاني من كتابه الإنكليزي: «نظرة ثقافية عامة لمصر الحديثة» قد بحث هذا الموضوع لأول مرة في التاريخ العربي أو الغربي.
والدكتور مشرفة يبحث التغييرات أو الانقلابات التاريخية من حيث إنها النتائج المترتبة عن الوضع الاقتصادي، وهي نتائج محتومة بحتمية الجغرافيا التي تعيش فيها الأمة، ووسائل العيش، وطرق الإنتاج، التي تتبعها.
فالأمم البدوية القديمة مثل الهكسوس واليهود العرب كانت تقتني الماشية وتنتجع المراعي البعيدة، أي: إنها كانت دائمة التنقل، بل دائمة الهجرة، وقصة يوسف بن يعقوب تدلنا على الاجتماع والهجرة، فإن قافلة سورية كانت تنوي السفر فوجدته وحملته، وهي إنما أرادت السفر؛ لأنها كانت ترغب في التبادل التجاري، تعطي مصر بعض ماشيتها وتأخذ بدلًا منها حبوبًا تعود للاتجار بها في سوريا أو فلسطين، وكانت مصر في تلك العصور زراعية صناعية تستكفي بإنتاجها، ولكنها كانت تتبادل بعض محصولاتها بمحصولات الأمم المجاورة عن طريق هذه القوافل.
هذه القوافل العربية أو اليهودية أو الهكسوسية، وهذه هي مهمة العرب الأولى في التاريخ، فإن العرب ربطوا الأمم البعيدة برباط التبادل التجاري، فكانت قوافلهم وأحيانًا سفنهم، تتصل بالصين والهند والعراق وإيران ومصر وإفريقيا الشمالية؛ وذلك لأنهم كانوا لا يزرعون ولا يصنعون، وإنما كانوا ينقلون ما تزرعه الأمم وما تصنعه، وكانوا يؤدون أثمان المصنوعات والمحصولات بماشيتهم أو بما يحصلون عليه من ذهب وفضة من الأقطار البعيدة.
كان المجتمع القديم في مصر زراعيًّا، بل زراعيًّا متقدمًا، وكانت الصناعة بدائية محلية، وكان كثير منها مثل البناء بالحجر للقبور والأهرمات، وكذلك استخراج الذهب وصناعة الورق من احتكار الدولة، وما زالت أوروبا تستعمل كلمة «بيبر»، أي: الورق، وهي محرفة عن كلمة فرعون «بيبرون»؛ لأن الورق كان من محتكرات الدولة، والدولة هي فرعون.
وقد كان موسى بن ميمون، الفيلسوف اليهودي الذي عاش في القاهرة قبل ابن خلدون، أيام صلاح الدين له أقارب وأبناء يتجرون في الهند وإسبانيا، أي: الأندلس، وما بينهما، ولم يكن الأوروبيون يعرفون هذه التجارة «العالمية» في وقته، ولو أن ابن خلدون كان قد تنبه إلى هذه المقارنة، أي: انحباس الأوروبيين في أوروبا على حضارة متخلفة، وانفساح العرب في إفريقيا وآسيا على حضارة متقدمة، وفكر فيها، لما وقع في هذا الخطأ بل الخطل حين زعم أن العرب متوحشون.
ذلك أن العرب كانوا على حضارة راقية بسبب اتصالهم بأقطار آسيا وإفريقيا، في حين أن أوروبا كانت تعيش على حضارة قروية تعتمد على صناعات القرية البدائية، وهذا هو معنى «القرون المظلمة» في أوروبا التي ركدت فيها بين ٥٠٠ و١٠٠٠م.
وكان العرب أنفسهم عاملًا في ركود أوروبا؛ هذا لأنهم منعوا الأوربيين من الملاحة في البحر المتوسط وما وراء البحار، وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك، ولكنه لم يتنبه إلى دلالته.
وينبهنا الدكتور مشرفة إلى أن قصة السندباد هي قصة تاجر، وهي التخيل الأدبي الذي يبعثه الطموح لأمة تعيش بالتجارة، وهي تجارة على أبعاد عالمية، بل كذلك الكثير من قصص ألف ليلة وليلة.
وعندما نتأمل صعود الدول العربية وسقوطها نجد أنها كانت على الدوام بسبب الاحتكارات، أو الغزوات التجارية، أو التي تعود إلى حوافز تجارية، وقد كانت الدولة الفاطمية في مصر تمثل طبقة التجار الصغار، بل إن أحد الخلفاء لهذه الدولة كان يملك نصف المنازل والمتاجر في القاهرة … كان تاجرًا قبل أن يكون ملكًا.
ولست أريد الاستقصاء في هذا المقال، ولكني أحب فقط أن أنبه القراء إلى هذا النظر الجديد للمهمة التاريخية التي قام بها العرب، بل قام بها أيضًا البدو من الهكسوس والعبرانيين قبل العرب، فإن الأمم القديمة عرفت الزراعة واستقرت عليها مع القليل من الصناعة، وكانت في استقرارها تركد وتأسن، وليست القرية التي تعيش بالزراعة منبعًا للحضارة؛ لأن استكفاءها بالمحصولات التي حولها لا يتيح لها الحاجة إلى الاتجار مع الأقطار النائية، بل هذا هو معنى القرون المظلمة في أوروبا، فإنها قرون الاستكفاء القروي وانتفاء التجارة العالمية، تلك التجارة التي كانت تجعل الرومان متمدنين وتصل بينهم وبين آسيا وإفريقيا.
وكثرة المؤلفين الجغرافيين في العرب برهان على هذا النظر العالمي في الثقافة العربية، ورحلة ابن بطوطة من طنجة إلى بحر اليابان، برهان رائع على هذه الثقافة العربية التي كانت تعود إلى التجارة، بل إن كلمة «تاج» الصينية، بمعنى تاجر، هي كلمة عربية، وقد حذفت الراء؛ لأنها ليست من الأبجدية الصينية أو بالأحرى لا ينطق الصينيون هذا الحرف، وتفسير ذلك أن أول التجار الذين قصدوا إلى الصين للتبادل التجاري كانوا من العرب.
- (١)
نشأت الأمم الزراعية باقتصاديات استكفائية، وتألفت الدولة، فكانت الحضارة قروية محدودة.
- (٢)
نشأت الصناعات الكبيرة باعتبار أنها من احتكارات الدولة.
- (٣)
نشأ التبادل التجاري على أيدي الأمم البدوية التي كانت ترتحل وتتجمع، الهكسوس، والعبرانيين، والعرب.
وفضل العرب، ومهمتهم التاريخية، أنهم ربطوا العالم بقاراته الثلاث أكثر من ألف سنة بالتجارة، وبهذا الرباط اتسع الوجدان البشري، وظهرت ثقافة جديدة تتجاوز حدود الأقطار، إلى القارات، وإلى العالم كله، وهذا هو ما جهله ابن خلدون.