شاعران من مصر
أبو نواس والمتنبي شاعران عظيمان، بل ربما كانا أعظم شعراء العرب الذين زاروا مصر، قدم أولهما إلى مصر أيام ولاية الخصيب، وجاء الثاني بعده بنحو مئة وخمسين سنة أيام ولاية كافور الإخشيدي.
وليس بين الاثنين سوى صلة النظم للشعر، أما من حيث المزاج والاتجاه واللغة والخيال فإن ما بينهما أبعد مما بين القطبين، بل إني أعتقد أن الذي يحب أبا نواس لا يمكنه أن يحب المتنبي، وكذلك العكس؛ لأنهما يتناقضان في كل شيء تقريبًا.
كان أبو نواس يحب الخمر والمجون، وكان المتنبي يأنف منهما، وكان أبو نواس مجددًا في الشعر لا يبالي بقديمه أسلوبًا أو لغةً، ولكن المتنبي على الرغم من أنه جاء بعده بقرن ونصف قرن كان أسلوبيًّا في خياله ولغته، ينحو نحو القدماء، وكان أبو نواس راضيًا بمقامه وهو مقام الشاعر الأديب، ولكن المتنبي لم يكن راضيًا بهذا المقام؛ إذ كان يطمع في أن يكون واليًا، وكان أبو نواس متواضعًا، يكاد يكون سوقيًّا، يختلط بالعامة ويحب نكاتها ونوادرها، أما المتنبي فكان عزوفًا عن العامة، يتكبر ويشمخ ولا يجالس غير الأمراء ولا يكاد يفطن إلى نكتة.
وعندما نقرأ أشعارهما نحس أننا نحب أبا نواس ولكننا لا نحترمه، في حين أننا نحترم المتنبي ولكننا لا نحبه.
يقول الأوروبيون: إن الخمر التي سماها يعقوب وهو يبارك أولاده، دماء الأعناب، يقولون: إنها بعض تقاليد حضارتهم. ولا يمكن أن يقال مثل هذا القول عن العرب، ولكن الذي يمكن قوله بلا خطأ هو: إن الخمر بعض تقاليد الأدب العربي. وما قيل من الأشعار في الخمر أيام الجاهلية، ثم في عصور الإسلام، يملأ المجلدات الضخمة ويحمل من مختلف المعاني ما يرتفع إلى أسمى درجات البلاغة والخيال، وقد كان أبو نواس شاعر الخمر، كما كان شاعر الظروف والنكتة، وقد ذكرت الخمر كثيرًا في أشعار الجاهلية، ولكن في معرض الحرب التي تسعرها والشجاعة التي تبعثها، وأبو نواس بعيد عن الحرب والشجاعة، ولذلك لا يذكرها إلا لذاتها؛ أو لأنها تبعث إحساسات الحب والغرام، أو لأنها تنسي الهموم وتمحو القلق والأرق، ومن هنا حب العامة له، فإنه باستهتاره قد أزاح عنها هموم العيش، وإن كان هذا بالخيال فقط؛ ولذلك أُلِّفتْ عنه الكتب العامية باللغة الدارجة، وهذه الكتب لا تحوي من أشعاره بمقدار ما تحوي من نكات ونوادر عزيت إليه، والأصح أنها مخترعة تمثل العقل الكامن في العامة وتعبر عن عواطفها وشهواتها بالسخرية من العظماء وفتح الآمال للفقراء والضعفاء.
ويكاد تكون عندنا شخصيتان لأبي نواس إحداهما تلك الشخصية الأدبية العالية التي يعرفها الأدباء في أشعار تبلغ الذروة في الخيال والإحساس، والأخرى تلك الشخصية التي تعرفها العامة في مجونه ونكاته ونوادره، ولكن يجمع بين الشخصيتين الاعتقاد بأن أبا نواس شاعر وظريف معًا.
جاء أبو نواس مصر كي يرى النيل، ويتقرب إلى الخصيب بن عبد الحميد الوالي الكريم، ويستطلع دنيا جديدة غير الدنيا التي عرفها في العراق، وكان ذلك أيام الرشيد، وفي الخصيب يقول أبو نواس:
ويقول أيضًا عن الخصيب:
ولا نعرف كثيرًا عن مقام أبي نواس في مصر، والظن الأكبر أنه لم يجد ترحيبًا من كتابها وأدبائها، وإن وجد الكرم الذي انتظره من الخصيب، فإن استهتاره عندما كان يتحدث عن الخمر كان أكبر مما يتسع له صدر المصريين وقتئذ؛ إذ لم تكن مصر مركز الخلفاء مثل بغداد، ولم يكن الترف قد أدى فيها إلى استرخاص الفضائل الدينية، فقد كان أبو نواس يقول في الخمر:
وقد رويت عنه قصة يمكن أن تكون مكذوبة، هي أنه كان يشرب الخمر والمطر يتساقط، فوضع قدحًا وجمع فيه قطرات من المطر ثم شربه، وقال: «يزعمون أن مع كل قطرة ملكا، فكم تراني قد شربت من الملائكة».
هذا أبو نواس المستهتر الذي زار مصر أيام الخصيب، فلننظر في شاعر آخر زارها أيضًا أيام كافور، وهو المتنبي.
كان المتنبي شاعر سيف الدولة في حلب، وكانت أيامه قلقة بالحروب بين سيف الدولة والدولة الرومانية الشرقية، فلم تكن هناك فضيلة أعلى من الشجاعة ولا أنفع منها، ومن هنا غلبت الحماسة الحربية على قصائد المتنبي، بل من هنا هذا الاستعلاء الذي نحسه من المتنبي نحو العامة، فإنه كان يختلط بالقادة والزعماء والرُّؤساء ويتغنى بالحرب كما لو كانت هي الشىء المألوف في الحياة الذي يستحق الاهتمام دون ما عداه من أي شأن آخر.
وكانت قدرته اللغوية هائلة، ولكن لا أظن أنها كانت تزيد على قدرة أبي نواس، ولكن الفرق بينهما أن الأول كان يتعاسر ويتعاظل في حين أن الثاني كان يتياسر ويتسامح، وهذا يتفق مع المنطق الاجتماعي لكل منهما، فإن المتنبي كان يحيا في مجتمع حربي قوامه الشجاعة والقتال، ومن هنا معاظلته وجدّه، فقد كان يقصف بالأبيات كما لو كانت قنابل، وكان أبو نواس يحيا في مجتمع بغداد الطروب بخمره وغنائه ويسره، ومن هنا اختياره السهل البسيط في الكلمات والأساليب حتى لننشد أبياته وكأنه كئوس الخمر المسكرة.
وجاء المتنبي إلى مصر وهو على إحساس بأنه سوف يُكرم من كافور الخصي الإخشيدي، وتطلع إلى ولاية يتولاها ويعيش أميرًا كالأمراء، ولعله حلم بأنه سوف يكون له شعراء يمدحونه كما كان هو يمدح سيف الدولة في حلب، ولعله كان يفكر في تلك الأيام السعيدة المستقبلة حين يستطيع أن يصف فيها سيف الدولة بأنه زميله وليس أميره؛ وخاصة لأنه تركه عقب نبوة وإزورار منه، وشرع يمدح كافور بقصائد أسرف فيها، ولكن كافور كان يقرأ ما خفي خلف هذه القصائد فكان يداري الشاعر ثم يصرفه باسمًا هازئًا بأطماعه أو مسوفًا مرجيًا حتى لا ينقلب عليه المتنبي بعد المدح.
ولكن المتنبي بذكائه الخارق عرف أن كافور يلعب به وأنه لن يوليه الولاية المرموقة، فانقلب هاجيًا مسرفًا في الهجاء بعد إسرافه في الثناء.
ونحن نضحك من كافور الذي يُمدح ويُهجى، ونضحك من المتنبي الذي سخر منه كافور، نضحك حين نقرأ للمتنبي في كافور الأسود الخصي قصيدة يفتحها بقوله:
ويقول فيها:
ثم يستجدي كافورًا الولاية فيقول:
ولكن كل هذا ذهب مع الريح فعاد يصف كافورًا بقوله:
وقوله:
وهذا انتهت مهزلة كافور المتنبي، وترك الشاعر مصر يلعن الأرض والناس وواليهم الخصي الأسود.