نابليون في مصر
كانت مصر، قبل دخول الأتراك في سنة ١٥١٧، أعظم دولة في البحر المتوسط، فقد كانت موانيها، الإسكندرية ودمياط والسويس، أسواق التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، وفيما بين سنة ١٣٠٠ و١٤٥٠ كانت مصر أغنى دولة بما كانت تحصل عليه من المكوس على بضائع آسيا وأوروبا التي كانت تمر على موانيها وتقطع طرقها.
ولكن هذا الثراء تزعزع عندما اكتشف كولومبوس القارة الأمريكية في سنة ١٤٩٢، ثم انهار تمامًا عندما دخل الأتراك مصر في سنة ١٥١٧.
ومنذ ١٥١٧ إلى ١٧٩٨ كانت مصر في فوضى، يحكمها ولاة من إستانبول، يشترون الولاية على مصر بالرشوة الغالية، فإذا وصلوا إلى القاهرة جمعوا أضعافها بالنهب والاغتصاب والسرقة، وكان أحدهم يبقى شهورًا، ويعرف أن بقاءه في الولاية لن يزيد على سنة أو نحو ذلك، فكان ينحصر كل اهتمامه في جمع أكبر مقدار من المال؛ كي يسدد الرشوة أو الرشى التي أداها للحصول على الولاية وهو في إستانبول، ثم يجمع فوق ذلك مقدارًا آخر يعيش به في الترف والبذخ.
وكانت الولاية للوالي التركي، ولكن الحكم الحقيقي كان للمماليك، أي: أولئك الأمراء من الشركس والترك الذين كانوا سلائل المماليك القدامى، أو كانوا من الرقيق الأبيض المجلوبين من القوقاز وغيره.
وهؤلاء المماليك كانوا في مباراة عامة لسرقة الشعب، وكانوا يحترفون الجندية، وذلك أن المملوك كان جنديًّا أولًا وقبل كل شيء وعندما دخل نابليون مصر حاربوه في شجاعة نادرة.
ولكن هذه الشجاعة كانت فردية؛ لأن المملوك لم يكن يحس التضامن بينه وبين سائر المماليك، ولم يكن يحس كذلك التضامن بينه وبين الشعب المصري.
كان المملوك، قبيل دخول نابليون، في مباراة مع جميع المماليك الآخرين، يسطو عليهم ويسطون عليه، والغلبة للقادر، وكذلك كان لا يعرف عن مصر إلا أنها، أو بعضها، عزبته التي يستغلها كي يشتري القصور والأسلحة لجنوده، ولعلنا لا ننسى أن كلمة «عزبة» هي كلمة قوقازية جاءتنا من القوقاز، بلاد الشركس، وهي تعني البيت الريفي، وما زلنا نستعملها إلى الآن في مصر بمعنى الضيعة.
فلما جاء نابليون، وكان يقصد بالاستيلاء على مصر أن يستولي على البحر المتوسط كله وأن يقطع الطريق على الإنكليز في استعمارهم للهند، وجد الفوضى العامة والأخلاق المنهارة والفقر والجهل والمرض.
وقد لاحظ نابليون على المماليك ملاحظة سيكولوجية تستحق الالتفات، هي أن المملوك الفرد يتغلب في القتال على الفرنسي الفرد، وجنديان من المماليك يتغلبان على ثلاثة جنود من الفرنسيين، ولكن مئة جندي فرنسي يتغلبون على مئتين من المماليك.
وعبرة هذه الملاحظة أنه لم يكن بين المماليك إحساس جماعي أو اتحاد للقتال، وإنما كان كل جندي يقاتل عن نفسه، ولا يقاتل عن مصر، ولا يقاتل عن هيئة المماليك، كان شعار المماليك: «أنا وحدي»، ومن هنا كانت شجاعته حين كان ينفرد، ومن هنا أيضًا ضعفه حين كان يجتمع.
أما الجنود الفرنسيون فكانوا أبناء الثورة، تجمعهم أهدافها، ويتضامنون، ويضحون من أجل مبادئها، هذه المبادئ التي نشرها نابليون في مصر بهذه الكلمات: «الحرية والإخاء والمساواة». ولذلك كانوا ينتصرون في الحرب لاتحادهم.
ولم يكن الوجدان في مصر وقتئذ وطنيًّا، بل إن الوطنية في أوروبا نفسها لم تكن قد رسخت، وإنما كان الوجدان الغالب في مصر هو الوجدان الديني، وكانت حرب نابليون في مصر هي حرب المسيحية مع المسلمين لا أكثر.
ولكن أرجو ألا يؤخذ كلامي هذا على إطلاقه، فإن حركة العظيم عمر مكرم، قبل دخول نابليون مصر، ضد الوالي التركي، كانت تحتوي شيئًا من الإحساس المصري الوطني فوق الإحساس الديني، ثم بعد حركة هذا العظيم نفسه ضد نابليون وتزعمه للمقاومة، بل كذلك اختياره لمحمد علي مع سائر العلماء الأزهريين، ثم بعد ذلك ثورته عليه، كل هذا كان يدل على بزوغ الإحساس المصري الوطني فوق الإحساس الديني.
ولما دخل نابليون مصر وجد عنصرين مختلفين، عنصرًا سائدًا من الشركس البيض يحكم ويتحكم ويملك الأرض، وعنصرًا مسودًا من المصريين السمر يخدمون ويذلون للعنصر السائد.
وتقرب نابليون إلى المصريين وحاول استمالتهم بأن وعدهم بأن يكونوا هم سادة وطنهم دون الشركس والترك، ولكن العنصر المصري لم يستجب إلى هذا النداء، أولًا لأن نابليون كان مسيحيًّا، وثانيًا لأن الإذلال الذي مارسه الشركس والترك كان قد أحدث ذلًّا بين الشعب المصري.
وشتت نابليون المماليك وبعثرهم في الصعيد وسوريا، وألَّف مجلسًا نيابيًّا من المصريين في القاهرة كان بالطبع يريد أن يعتمد عليه للاستشارة فقط.
ولكن الشعب كان قد تخبط في فوضى نحو ثلاث مئة سنة، وكان قد هوى إلى حضيض من الذل والفقر والجهل بحيث لم يتفهم العبرة في هذا الإنسان الجديد، نابليون الذي كان ينظر إلى الدنيا بعينين قد رأتا الثورة، كما كان يحس بقلب قد عرف أن باريس قد قتلت ملكين لاستبدادهما.
والحق أن نابليون لم يكن جنديًّا عظيمًا فقط، بل كان إنسانًا جديدًا. كما نرى مثلًا من جلبه للمعلمين إلى مصر، ومن تأليفه لجنة لسن القانون الذي يعزى إليه، وهذا القانون الذي أخذنا نحن به أيام إسماعيل، كان يعزى إليه في أكثر من معنى، فإنه كان يتدخل في أعمال اللجنة التي كانت تسنه، وكان يشير عليها بما يجب من حذف أو إثبات أو تنقيح.
وقد روى لنا الشيخ الجبرتي أشياء كثيرة عنه، فقد أطار بلونًا يحمل بعض الجنود في سماء القاهرة، وأنشأ المطاعم التي كان الجبرتي يتعجب من نظافتها وسرعة الخدمة فيها، وأنشأ «مؤسسة مصر» التي لا تزال حية إلى الآن، وقد رأى الجبرتي فيها عجائب من الكيمياء، مواد تمتزج بمواد فتخرج منها مواد أخرى تختلف لونًا وقوامًا عما كانت عليه قبل الامتزاج …
وقد كان هذا بعض «العلم» الجديد الذي كانت أوروبا تدرسه بعد أن تفشت فيها الصناعات وتطلبت البحث والاستقراء للوقوف على الحقائق التي تزيد الإنتاج.
وللأسف لم يفهم الجبرتي ولا غيره من المصريين شيئًا من هذا النور الجديد الذي تهيأت به أوروبا بعد ذلك لاقتحام المستقبل والاستيلاء على العالم، ولكنهم فهموا وعرفوا، أن هناك آفاقًا رحبة من الأمم والأقطار التي لم يسبق لهم أن سمعوا عنها، وعرفوا فوق ذلك هذه الحقيقة الكبرى، وهي أن المماليك ليسوا من القوة والعظمة بحيث لا يمكن الانتصار عليهم، بل كذلك عرفوا أن الأتراك ليسوا هذه «الدولة العلية» التي لا يمكن التمرد على سلطانها.
وكان محمد علي من نتائج حملة نابليون، فإنه جاء لاسترداد سلطة الباب العالي، واختاره العلماء والأعيان بقيادة العظيم عمر مكرم، وكان محمد علي يتظاهر أمامهم بالأمانة والخضوع لهؤلاء الذين اختاروه ولكنه صار ينظر إليهم ويعاملهم معاملة الأسياد للعبيد، معاملة المماليك للمصريين، وهذا هو ما أسخط عليه عمر مكرم وجعله يندم على الأمانة التي وضعها في غير موضعها.
ولما استقر الحكم لمحمد علي أخذ يستعين برجال الحملة الفرنسية أنفسهم ويستخدمهم في تقوية الجيش المصري وتزويده بالذخائر والأسلحة، بل صار يستجلب المعلمين للتدريس في المدارس لخدمة الجيش، والجيش وحده، دون الشعب المصري.
ومع ذلك تجاوزت نهضة محمد علي الحربية إلى الشعب كما هو الشأن في مثل هذه النهضات، فبقيت بعض المدارس بعد وفاته، وتعلم فيها المصريون، كما أن شامبليون استطاع أن يهتدي إلى حجر رشيد ويرتفع به إلى كشف اللغة، أو بالأحرى الخط الهيروغليفي، وانفتح للعالم بذلك أوسع الأبواب للوقوف على أسرار الفراعنة.
وإذا كانت «نهضة» محمد علي هي صميمها نهضة فرنسية تغذوها الثقافة الفرنسية ويحمل أعباءها فرنسيون، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى حملة نابليون الذي عقد الصلة بين فرنسا ومصر، صلة العداوات في الأصل ثم صلة الصداقة مع محمد علي بعد ذلك.