باريس بعد ٤٠ عامًا
كنت في باريس قبل أربعين سنة طالبًا، أو بالأحرى تلميذًا، أتعلم اللغة الفرنسية في مدرسة داخلية في «موليري» وهي قرية تبعد عن باريس بنحو ثلاثين كيلو مترًا، ولكني كنت أزور العاصمة مرة كل أسبوع، ثم قضيت فيها أكثر من شهر مدة الإجازة السنوية فيها، وكنت أنظر إليها بعين الشباب، أما الآن فإني في العقد السابع أنظر إليها بعين الشيخوخة، أو على الأقل الكهولة، وبين النظرتين بون شاسع.
ولذلك لا تليق المقارنة بين باريس في ١٩١٢ وباريس في ١٩٥٢، وذلك لأنه إذا كانت باريس لم تتغير فإن الناظر إليها قد تغير، ومع ذلك لن أحاول أن أكون موضوعيًّا ولن أستطيع؛ لأن انطباعاتي عن باريس متأثرة من ذاتيتي.
وقبل أن أتحدث عن هذه الانطباعات يجب أن أقول: إنه على الرغم من التغييرات العديدة، فإن النفس، نفس باريس، لم تتغير، ولكل مدينة كبيرة قديمة نفسها التي نحسها من مبانيها القديمة ومن لهجة سكانها، ومن مدارسها، ومن أسواقها، وأخيرًا من طراز العيش فيها.
وفي باريس معابد كثيرة للدين والفن والعلم، تجعل ماضيها حاضرها وحاضرها ماضيها، فيها كنيسة نوتردام، ومسرح الأوبرا، وجامعة السوربون.
وإذا قدر لمدن أوروبا أن تفنى بالقنبلة الذرية وبقيت السوربون سليمة فإن حضارة أوروبا يمكن أن تحيا بعد الموت وأن تنمو وتسبق.
عندما أقارن بين ١٩١٢ و١٩٥٢ أجد كثيرًا من التغيرات الظاهرية التي تدل على سيادة الروح العصري، فإني قبل أربعين سنة، لا أذكر أني رأيت امرأة تتخذ البنطلون وتسير به في مشية مألوفة كما تفعل الحسناء والشمطاء في باريس هذه الأيام، كذلك كنت في ١٩١٢ أركب عربة الأمنبوس التي كانت لا تزال تجرها الخيول، وقد انقرضت هذه انقراضًا تامًّا، وكذلك انقرض الحنطور، والنقل كله يجري بالوسائل الموتورية، أجل لقد داس الأتومبيل الحصان في باريس وقتله.
وقبل أن أصل إلى باريس كنت أتوقع أن أجد اختلافات كثيرة بين المباني في ١٩١٢ وبين المباني الحاضرة، ولكني لم أجد هذا، فإن الروح الأميركي في بناء الشواهق التي تنطح السحاب لم يدخل باريس، ولست تجد مبنًى يزيد على ست طبقات، والكثيرة الغالبة خمس طبقات.
ولكل شارع طرازه، تسير فيه العين فلا تجد مبنى يختلف عن آخر، كلها سكة واحدة، وهذا ما يكسب الشارع شخصية.
ولقد قلت: إن البنطلون قد فشا بين الفتيات والسيدات، ولكني أرجو ألا يظن أحد من ذلك أن الفرنسيات يستهترن في اتخاذ البنطلون، فإن كل ما فهمته من تفشي هذا الزي أنه يعين المرأة على العمل والحركة أكثر مما يعينها الفستان.
•••
وفي باريس ثلاثة أشياء عرفتها في ١٩١٢ وما زلت أجدها فيها إلى الآن: الرشاقة والأنسة والفن.
فالرشاقة سمة فرنسية، ومن ليس رشيقًا في الزي أو اللهجة أو الإيماءة فليس فرنسيًّا، ولقد رأيت سيدات وفتيات يسرن تحت وابل المطر وعلى رأس كل منهن طرطور، وعلى جسمها معطف يتسع لاثنين من حجمها، ومع ذلك كنت أتعجب من جمال الطرطور والمعطف، رشاقة في التفصيل، واختيار في الألوان، ورشاقة في المشية والنظرة والقوام.
وإني لأذكر هنا سيدة يونانية كنت أتحدث إليها، وكانت قدمت باريس للتنزه والاستجمام، فكان مما قالته: إن الباريسية ليست جميلة ولكنها تتجمل، فتعنى بهندامها وتنسيق شعرها، وتشتري المساحيق الغالية كي تكسب وجهها بهاء ونضرة، فقلت لها: إن هذا كله يدل على أن نفسها جميلة؛ إذ هي تنشد الجمال حين تفقده، وهي تتأنق؛ لأن نفسها أنيقة، وكل هذا يرفع منها ولا يخفض، وإنما نحن نستنكر الجمال أو التأنق حين نجدهما باهظين مسرفين قد زادا على الحد، وهذا ما لا تقع فيه الباريسية، أو حين نجدهما في غير مكانهما، وهذا ما لم أره في باريس.
أما الأنسة فهي ملكة فرنسية يتعلموها جميعًا منذ الطفولة، فليس هناك ذلك الحياء المتردد الذي يشبه الجبن والخوف، فهم يجابهونك بلغة صريحة وابتسامة عريضة تسقطان جميع الحواجز وتحفزك على الحديث، بل أيضًا على المصارحة.
وأخيرًا هناك هذا الفن الذي لا يخلو منه البيت أو الشارع أو المتجر، وكثيرًا ما وجدت تماثيل من المرمر أو الحجر كاسية بالذهب، أي: مطلية به في ميادين الشوارع، والتماثيل خاصة من خواص باريس، وظني أن بها ما لا يقل عن ألف تمثال في الكنائس والميادين.
وأخيرًا لو سئلت: ما هي انطباعاتك التي ستذكرها بعد عودتك إلى القاهرة مما رأيت في باريس؟ لو سئلت هذا السؤال الصعب لقلت: إنه «الدينصور».
وهذه كلمة قد يغرب لفظها ومعناها. ولذلك أحتاج إلى بعض التفصيلات، ذلك أني عندما قدمت إلى باريس بحثت عن متاحف التاريخ الطبيعي، وزرت المتحف الذي يجاور حديقة النبات، وهناك في قاعته الكبرى وقفت جامدًا أولًا، متحمسًا ثانيًا، أمام هذا الكابوس الذي كان يجوس أرضنا قبل ثمانين مليون سنة. هذا الدينصور الذي كان يزيد على أربعة أضعاف الفيل، وكان مع ذلك يبيض ولا يلد، ولم يكن مخه يبلغ، بالمقارنة إلى جسمه، مخ الفأر أو الأرنب.
هذ الدينصور، الذي لم يكن تشريحه يختلف عن تشريح السحلية، قد انقرض، ولم أكن قد رأيته قبل ذلك، ولن أنساه، لن أنسى هذا التاريخ القديم الذي تجمد فيه، والذي عنيت الحكومة الفرنسية بإقامة عظامه وتركيب جسمه كي يستنير المظلم ويتعلم الجاهل.
وقبل أن أدخل المتحف وجدت تمثال «لامارك»، ونزعت قبعتي له وحييته، وبيني وبين هذا العظيم حب قد تجدد؛ لأنه هو الذي قال بأن الصفات المكتسبة في النبات والحيوان تورثت، وأنكر العلماء هذا القول أكثر من مئة وخمسين سنة، ثم عادوا إليه هذه الأيام.
وأرجو أن أُعذر في ذكر الدينصور ولامارك، فإني مشغول منذ نصف قرن بنظرية التطور، ولهذين الاسمين رنين يتردد في ذهني كل عام.
أما سائر ما انطبع في ذهني عن باريس بعد إقامة أربعين يومًا فكثير، ومن ذلك مثلًا هذا الإحساس بأن باريس، المدينة الفنانة، هي عاصمة أوروبا كما هي عاصمة فرنسا، ففي كل شارع أغراب من القارات الخمس، وهم يجدون الترحيب واللطف من الباريسيين، وهنا آلاف من الزنوج والآسيويين الذين يتعلمون ويتجرون في حرية مطلقة، ولا يعرف الباريسيون ذلك الاستغراض اللوني أو العنصري الذي تعرفه أمم أخرى، وليس هنا مطعم أو فندق يمنع الزنجي من دخوله.
والغلاء فادح في فرنسا، ولكن الأجور عالية، ولا تقل أجرة الكناس الشهرية على ثلاثين أو أربعين جنيهًا، والعامل المتخصص يحصل بسهولة على ستين أو سبعين جنيهًا، ولكن مع كل هذا الغلاء لا تزال أثمان الخبز والبطاطس منخفضة.
•••
وأكثر ما يلفت النظر في باريس هو هذه الحيوية بين الباريسيين، فإن النشاط عام، حتى العجوز التي تبلغ السبعين تثب إلى الترام كأنها في العشرين، والحديث يجري صريحًا بكلمات لامعة ونكات متوالية تجعلك في شك من أنها تعلن الحقائق أو تخفي التشأؤم، وكلمات المجاملة كثيرة، وتكاد تكون إجبارية، فإن القبعة ترفع عند السلام بحركة آلية، وكلمة «مِرسِي» تعقب الإجابة كأنها صوت فنوغرافي.
واحترام الجمهور عادة أصيلة، فإن السائقين للأوتوبيسات والأتومبيلات يقتربون منك وأنت تعبر الشارع في تؤدة وعناية دون أن يطلقوا البوق، واحترام المرأة هو أقرب إلى الشعائر الدينية منه إلى العادات الاجتماعية، فحيثما توجد امرأة يكون كل من حولها من الرجال خدمًا لها، لا يحدثها أحد إلا وهو يبتسم كأنه يسترضي، ولا تحتاج هي إلى شيء حتى تمتد الأيدي العديدة لمناولتها إياه.
والقهوة في باريس ليست للقهوة فقط؛ إذ هي حانة وناد ومطعم أيضًا، وجميع الفرنسيين يشربون الخمور منذ السنة الأولى من العمر إلى يوم يدفنون، ولكن ليس بينهم من ينغمس فيها إلا القليلين، بل القليلين جدًّا، فإنك حين تسير في شوارع باريس بعد منتصف الليل لا تقع عينك على سكران.
وعندما يحتدم الحديث في القهوة، النادى، وتدور كئوس الخمر، تعم حماسة، ثم تتكرر الكئوس، فتستحيل الألسنة وتنفرج الكظوم ويصعد الدم إلى الوجنات، ويأخذ العين بريق، ويعم الجو سرور خيالي واستهتار وقتي لذيذ، وتجترئ وقتئذ الألسنة على ما لا يجترئ عليه وقت الصحو، فتخرج الآراء صريحة. وينفذ إلى الجميع شعاع من الذكاء الذي يتجمل بالتحذر والمساهلة ونية الخير.
وفي باريس كظوم كثيرة، من الغلاء، ومن توقع الحرب. وهي كظوم كانت تكفي لأن تحيل انتفاضة السخط إلى انتهاض الثورة لولا الخمور التي تهدئ وتخدر.
قعدت إلى سيدة في العقد الرابع من العمر فحدثتني عن الفراعنة حديثًا مثقفًا لم أجد مثله قط عند سيدة مصرية، وجرت على لسانها كلمات الهكسوس وهيرودتس والبطالسة وأبيس وزواج الأخت، وكانت تظن أن هذا الزواج اسمي فقط لكني أوضحت لها أنه كان فعليًّا، وسألتْ: هل أدى هذا الزواج الأخوي إلى انحطاط؟ فأخبرتها بأن رمسيس الثاني الفاتح العظيم كان ثمرة خمسة عشر زواجًا أخويًّا من جدوده، ولم يبد عليه أي انحطاط، وطربت عندما قالت: إن النحت في مصر الفرعونية هو أعظم ما عرفته البشرية من هذا الفن، وأخبرتها أن عندنا فنانين عصريين ينزعون إلى الفن الفرعوني.
وشربتُ قهوة، وشربتْ هي كأسًا من الكونياك تلتها كأس أخرى، فانفرجت، وانطلق لسانها، ووصفت بول سارتر بأنه يهذي ويسمي هذيانه «الوجودية» فلسفة. ثم انتقل الحديث إلى أدب التوراة، وتذاكرنا قصة الحب في «نشيد الأنشاد» حيث تؤثر الفتاة زواج حبيبها الراعي الساذج على زواجها من سليمان الحكيم، فقالتْ وحمرة وجنتيها تنطق بنشوة الكأسين: ألا يمكن أن تكون هذه القصة مصرية، وخاصة لأن الحبيب يذكر حبيبته بكلمة «أختي»؟
فاستوقفتني كلماتها وجعلتني أتأمل، فإن زواج الأخت في مصر كان يجيز للحبيب أن يصف حبيبته بهذا الوصف، وفي التوراة عديد من الحكم والأمثال منقولة عن مصر، وانفصلنا على ميعاد، ونهضتُ منتعشًا من هذا الحديث، وقصدتُ إلى نهر السين حيث تباع الكتب القديمة الرخيصة، وهي تصفف على مسافة مديدة على كورنيش هذا النهر، وتشبه تلك الكتب التي تباع على سور حديقة الأزبكية، مع فرق أصيل، هو أن البوليس في القاهرة يعاكس الباعة، أما في باريس فلا يلقى باعة الكتب على السين أية معاكسة.
واشتريت خمسة مجلدات، منها واحد للشاعر الملعون كبلنج، واشتريته بخمسة وعشرين مليمًا فقط مع أن ثمنه الأصلي أربعون قرشًا، وكان جديدًا مغلفًا بالصمغ لم يفتح، وأحسست بالشماتة لكساد هذا الشاعر الإمبراطوري الذي كان يحرض الجنود الإنكليز على بَقْرِ بُطُون السودانيين والمصريين وضربهم بالسياط حتى يعترفوا بالنقود التي يخفونها.
وباريس ليست عاصمة فرنسا فقط؛ إذ هي عاصمة أوروبا بل عاصمة العالم، فإن فيها أكثر من نصف مليون أجنبي، من الإيطاليين، ومن الروس البيض والحمر، ومن السنغاليين والفيتناميين، وبها نحو خمس مئة مصري إلى آلاف من الآسيويين والإفريقيين والأمريكيين … وهم جميعًا يلقون كرم الضيافة ومميزات التمدن ووجدان الثقافة.
والمدارس والجامعات هي «كالماء والهواء» في فرنسا، ولا تفرض على الصبيان والشبان ضريبة للالتحاق بها، ويستطيع الجمهور أن يحضر المحاضرات دون أي اعتراض، وقد حضرت أنا بعض المحاضرات في الأسبوع الماضي.
وباريس هي بابل اللغات والعناصر، تسمع فيها جميع اللغات وترى جميع الوجوه البشرية: من الأسود إلى الأصفر إلى الأسمر إلى الأبيض إلى الأحمر، وهي وجوه ولغات تكسبك النزعة البشرية والاتجاه العالمي.
أجل، نحن بشر قبل أن نكون مصريين أو فرنسيين أو هنود أو صينيين، وهذه الدنيا واسعة تتسع لنا جميعًا، وهي دنيا حافلة بالخير، والزهور والأثمار، وبالقمح والذرة، وبالنهر والجبل، بل هي حافلة بالحب والإخاء، بالشبان يحبون الفتيات، وبالآباء يحبون الأبناء.
وهي أيضًا حافلة أو حاملة لهذا المستقبل الذي يعد وعود الورد والسعادة بتسلط الإنسان على الطبيعة، على الزمن، على الماء والهواء، على الذرة.
وهي دنيا الخير والأمل، ولكن دعاة الحرب يحاولون أن يجعلوها دنيا النار والدمار، دنيا الجنيه والقرش، دنيا الكسب والخسارة، دنيا المقامرة بالحياة والمال.
فوق باريس همٌّ يخيم عليها؛ لأنها تحس أنها وهي عاصمة العالم تستعد للحرب، حرب التعصب المذهبي، حرب السيادة، حرب الاستعمار.
وهي تخفف هذا الهم، أو تحاول أن تنساه بالخمر، وحين تسهر باريس، فإنها لا تسهر عن يقظة؛ لأن يقظتها هذه هي أرق اليأس.