دماء الأعناب في فرنسا
يذكر الذين قرأوا التوراة وعنوا بما فيها من القيم الأدبية والأخلاقية، فضلًا عن الدينية، أن يعقوب قبيل وفاته بارك أولاده ودعا الله أن يكثر لم من «دماء الأعناب».
وهذا الوصف للخمر، من نبي عظيم، يدعو إلى التأويل الكثير، فإن الخمور لم تكن مكروهة في العصور القديمة عند المصريين والعبرانيين، وإن كان حكماؤهم قد حضوا، على الدوام، على تجنب الانغماس.
وقد ذكرت هذا الوصف، كما ذكرت الدعاء، وأنا في فرنسا هذه الأيام، فإن الشعب كله يشرب الخمور، وهي ليست من دماء الأعناب فقط بل من أرواحها؛ لأن قدماء المصريين والعبرانيين كانوا يخمرون الأعناب فقط، أما فرنسا فتزيد على ذلك بالاستقطار، أي استخراج الكحول صافيًا أو كالصافي من الأعناب عن طريق النار والأمبيق.
وكثيرًا ما أطلب القهوة فيتطوع النادل بتقديم زجاجة صغيرة من الروم كي أمزجه بالقهوة، ونحن نقنع في تحية الضيوف بالقهوة، ولكنهم في فرنسا يؤثرون عليها كأسًا من الخمر تفرج عن كظومهم بالحديث الحر.
وقد أصبحت للخمور في أوروبا ثقافة لا تكاد تدري آفاقها، فقد قرأت هذا الأسبوع مقالًا عن كتاب عنوانه «بلاد النبيذ» لمؤلفه «هيلجارتين» وثمنه ألفًا ومئة فرنك، أي: أكثر من جنيه مصري، كما قرأت عن كتاب آخر بعنوان «الدليل الشعبي إلى النبيذ» لمؤلفه بوستجيت وثمنه واحد وأربعون قرشًا، وظهور كتابين في شهر واحد عن النبيذ بمثل هذا الثمن العالي يوضح لنا قيمة الأنبذة في أوروبا عامة وفرنسا خاصة، أجل إن الخمور في فرنسا جزء من التقاليد والآداب.
فإن النبيذ هو الشراب الفرنسي غير المدافع، أما في ألمانيا، وسائر الأمم الشمالية الغربية في أوروبا بما فيها بريطانيا، فإن البيرة، التي لا يخجل بعضنا من تسميتها بالاسم الفظيع «جعة» تأخذ مكان النبيذ، وليس في أوروبا كلها هذا الاستنكار الذي نجده في مصر نحو الخمور، بل إن كثيرًا من الأنبذة العالمية يصنعه الرهبان المسيحيون في الديور، ونحن في مصر نأكل الأعناب، ولكنهم في فرنسا يشربونها دمًا وروحًا، والفرنسي الذي يملك عشرين أو ثلاثين فدانًا قد يزرع نصفها بالكروم، ولكنه لا يبيع أعنابها، كما نفعل حين نشتري عناقيد تتلألأ على عربات الباعة الجائلين أو عند الفاكهاني؛ إذ هو يجد أن ربحه يعظم كثيرًا حين يحيل أعنابه إلى أنبذة يبيعها في براميل أو زجاجات، وصناعة النبيذ في فرنسا مألوفة لا تجهلها امرأة فرنسية في الريف، ويبدو أنها لا تحتاج إلى معارف فنية، وحين لا يزرع الفلاح الكروم في أرضه فإنه يخرج أيام الموسم ويشتري نحو ثلاث مئة أقة من الأعناب المختلفة، ويعود بها إلى منزله حيث تتولى زوجته أو أمه استخراج النبيذ منها بما يكفي الاستهلاك للعام كله، بل إنهم يصنعون النبيذ من التفاح أيضًا ويبيعونه باسم «السيدر»، والأصناف الجيدة منه هي شيء بين الماء والهواء عطرًا وطعمًا ونشوة.
والكل يشرب الخمور: الخادم والسيد، الطفل والكهل، المرأة والرجل. وقد ضحكت كثيرًا حين ناقشت أحد الفرنسيين عن ضرر الخمر، وتجاهل الشعب للماء، كأنه لا يوجد في فرنسا، فجعل يصف لي ميزاتها وينشد أو يتغنى ببعض الأبيات التي قيلت فيها، وكان آخر ما ذكره لي عن ميزاتها أنها تصالح الزوجين المتشاجرين، ولولاها لزاد الطلاق في فرنسا، ثم ختم حديثه بأنه لا يجوز لي أن أعيب الخمر وقد بارك عليها المسيح نفسه، ودعا يعقوب الله بأن يوفرها لأبنائه.