كيف نكون عبقريين؟
قبل أن نشرح هذا الموضوع نحتاج إلى أن نشرح نقيضه وهو: كيف نكون غير عبقريين؟
والجواب سهل، بل في غاية السهولة، وهو: أننا نكون غير عبقريين إذا كانت الظروف الاجتماعية تمنعنا بالقوانين أو بقوة وضعها الاجتماعي عن ذلك؛ كأن تكون هذه القوانين تقاليد فقط.
إن تاريخ مصر وأوروبا، بل جميع الشعوب يدل على أنه وُضعتْ قوانين لمنع التفكير البكر الأصيل، وسنت قوانين تنص على عقوبة المفكرين، فقد كان في فرنسا مثلا قبل الثورة قانون يعاقب كل من يجرؤ على مخالفة أرسطوطاليس، وكلنا يعرف أن قوانين الكنيسة كانت تطالب بمعاقبة كل من يخالف تقاليدها ونصوصها بفكرة جديدة تنقض هذه النصوص أو تزيد عليها أو تنقص منها.
وأسوأ ما في القوانين المانعة للتفكير أن يؤيدها المجتمع حين تكون العامة هي الكثرة الغالبة في هذا المجتمع، بل أحيانًا يكون بحاله من التقاليد، وبلا حاجة إلى قوانين، هو الذي يمنع التفكير البكر الأصيل، ولكن حين يجتمع الاثنان، التقاليد والقوانين، فإن الطامة تفدح والشعب يركد وييأس.
إن مؤلفاتنا العصرية، وأعني تلك التي تحمل الروح العصرية التطورية، لا تدخل اليمن الآن، وليس هذا لأن الإمام يمنع دخولها فقط، بل لأن المجتمع اليمني، بتقاليده وغيبياته، ينفر منها، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن ننتظر من اليمن مؤلفًا عبقريًا يفكر التفكير الأصيل البكر.
والذي يجب ألا ننساه أن العبقرية ليست هبة موروثة، وإنما هي كفاءة يطلبها المجتمع، بحيث إذا لم يطلبها لم توجد، وهذه هي الحال المؤسفة في بعض الشعوب العربية الآن.
وفي مصر منعتنا الحكومة الاستبدادية من التفكير الاجتماعي البكر، أو ما يسميه بعضهم التفكير اليساري، فتخلفنا في التفطن إلى الأصول التي ينبع منها الاستعمار، وإلى العوامل التي يستند إليها، وضاعت منا عبقريات في الفهم الاجتماعي العام بسب العقوبات التي عُوقب بها بعض المفكرين الذين جرأوا على التفكير.
ومن عجيب ما أقرأ من وقت إلى آخر كلمات لأحد المغفلين ينعي فيها على المرأة في كافة الدنيا عجزها عن الابتكار والتفكير الأصيل. مع أن القليل من التأمل في حالها الاجتماعية يوقفنا على علة هذا العجز؛ إذ كانت المرأة إلى وقت قريب لا تمارس من الأعمال سوى تلك التي تتصل بالبيت، وهى أعمال لا تحتاج إلى ذكاء، ونحن بإصرارنا على منعها من الاختلاط بالمجتمع، إنما وضعنا بذلك قيودًا على ذكائها، ومنعناها من تدريبه وتنبيهه، ولكن هذه الخمسين سنة الأخيرة، التي أُطلقت فيها المرأة من حدود البيت، وأخرجت إلى ميادين النشاط الاجتماعي المختلفة، بعثت فيها من الذكاء ما يساوي ذكاء الرجل، وما حدث في أوروبا وأمريكا سوف يحدث في مصر.
نعود فنقول مع الإحساس بالتكرار: إن العبقريات، بل الذكاء؛ مثل اللغة التي هي أعظم وسائل الذكاء اجتماعيةً، وإنه إذا كان المجتمع بتقاليده لا يحتاج إلى العبقرية أو يعاقب على ظهورها، فإنها لن توجد إلا في أفراد شاذين ثائرين سرعان ما يفرون أو ينتحرون أو يعاقبون، وقد رأينا بعض هذا في مصر مما عطل التفكير السياسي عدة سنين.
•••
-
ابن رشد الفيلسوف الذي لا تزال فلسفته تناقش إلى الآن في أوروبا.
-
وموسى بن ميمون الذي هاجر من الأندلس إلى القاهرة، والذى شرح طريقة التفكير المادي.
-
وابن حزم الذي قال بضرورة الحب، وكان باعثًا لإيجاد الحركة الرومانتيكية الأولى في أوروبا.
-
وابن النفيس الذي عرف الدورة الدموية قبل أن تعرف في أوروبا.
-
وابن خلدون أول مفكر اجتماعي في العالم كله.
هؤلاء خمسة من المفكرين المبتكرين الذي لم يسبقهم أحد إلى أسلوب تفكيرهم، والذين تجرأوا على نقض المألوف من الأفكار السابقة لهم، كلهم نقضوا شيئًا في التفكير القديم وأوجدوا تفكيرًا جديدًا، ولكننا لا نجد مفكرًا عربيًّا واحدًا بعدهم. لماذا؟
لسبب واحد هو أن التفكير الحر المستقل أصبح جريمة، وصارت الشعوب العربية تؤمن بالغزالي، الذي كان يعد تعلم الجغرافية سبيلًا إلى الكفر، بدلًا من أن تؤمن بابن رشد أو ابن النفيس.
ورأى ابن رشد مؤلفاته تحرق أمام عينيه، ويُنفىَ إلى مراكش، حيث بقي يتعفن إلى أن مات، بل إن موسى بن ميمون تلميذه، كان يؤلف مؤلفاته العربية في القاهرة بالخط العبري حتى لا يقرأها العرب ويتهموه بالكفر، ورأينا صلاح الدين يأمر بقتل السهروردي بتهمة الكفر.
بعد ذلك مات الفكر العربي، وازداد موتًا بدخول الأتراك واحتلالهم الأقطار العربية، وأصبحت النهضات العربية تعتمد على الأئمة بدلًا من الاعتماد على الفلاسفة.
أصبح التفكير محظورًا بحكم الآراء ورضا المجتمع، ولذلك لم يظهر عبقري واحد في الشعوب العربية منذ ٦٠٠ سنة، وإلى الآن، لا يزال المفكر المصري يتهم بأنه ضد التقاليد إذا جرؤ على التفكير المثمر.
•••
كل ما سبق يعالج موضوع: كيف لا نكون عبقريين؟
أما كيف نكون عبقريين فشروط ذلك أن نعيش في مجتمع حر، غير متجمد بما نسميه تقاليد، وفي ظل حكومة غير مستبدة، أو تُخشى الأفكار الجديدة، مثل حكومات إسماعيل صدقي وغيره أيام فؤاد وفاروق …
أما كيف يكون المؤلف مبتكرًا عبقريًّا؛ فالشرط الأول لذلك أن يحب الإنسانية، وأن تكون النظرة الشاملة ليس إلى وطنه وحده بل إلى العالم كله، وحبه الإنسانية، وشمول نظرته، يحملانه على الرغبة في الارتقاء والخير فينقذ الحال القائمة، وهو يؤمل ويرجو في حال أخرى أسعد للناس وأوفر هناء لهم، وعندئذ يؤلف كي يغير ويطور المجتمع.
وهذه هي العبقرية.