كتب العلم وكتب الأدب
في ظروفنا الحاضرة، في فقرنا الذي يدل عليه هبوط الدخل السنوي في عام ١٩٣٧، وهو نحو ٨٣٠ قرشًا يعيش بها المصري، وعليه أن يحصل منها على قوته طيلة العام لحمًا وخبزًا ومِلحًا، وأن يحصل منها على السكنى واللباس ووسائل النظافة … في ظروفنا الحاضرة هذه … أنحتاج الذي يسميه الدكتور طه حسين «ترفًا ذهنيًّا»؟ أم نحتاج إلى العلم الذي نبني به بلادنا ونعمرها، زراعة وصناعة، حتى يرتفع متوسط الدخل للمصري من ٨٥٠ قرشًا في العام إلى ٦٠٠ أو ٧٠٠ جنيه، كما هو متوسط الدخل في الولايات المتحدة؟
ليس منا من يكره الترف والحلوى، ولكن أولى من الترف حاجات الصحة والطمأنينة. وأولى من الخبز واللحم.
في ظروفنا الحاضرة، في فقرنا المذل، لا يتسع وقتنا للترف، بل لا نستحقه؛ لأننا نحتاج إلى الخبز، وإلى اللباس، وإلى السكنى، وإلى ما يوفر لنا صحة الأم وصحة الطفل في المعيشة النظيفة التي تليق بالكرامة الإنسانية. هنالك ما هو حسن وما هو أحسن، الأدب حسن ولكن العلم أحسن.
ومرة أخرى أقول: إننا في ظروفنا الحاضرة، نحتاج إلى العلم وليس إلى الأدب، أي: نعجل بنقل الكتب العلمية ونؤجل كتب الأدب. ونعجل بالخبز الضروري ونؤجل حلوى الترف.
لا أعتقد أن أحدًا يتهمني بأني شكسبير، فإني أستطيع أن أنشد سبعين بيتًا من أشعاره عن ظهر قلب، كما أستطيع أن أفعل ذلك في أشعار المعري، ولكني لأني أعرف شكسبير، أقول: إن في وسعنا، في ظروفنا الحاضرة أن نستغنى عنه عشر سنوات، أو عشرين سنة، بلا أقل ضرر، كما نستغني عن أي ترف آخر.
وقد سبق أن قلت: إن شكسبير يعد من شعراء الملوك والأمراء، ونقلت قليلًا من الكثير الذي تحفل به دراماته في سب الشعب واستصغار العامة، والعامة عنده، التي يصفها بأنها تأكل الثوم، هي الشعب.
ولم أكن في حاجة إلى أن أنقل ما قاله عنه تولستوي، وهو أنه مليء بالجلافة وسوء التقدير للقيم الأدبية، ولا أن أنقل ما قاله عنه برناردشو، من أنه في كثير من أشعاره لا يبدي عبقرية أو ذكاء، هذا بعض ما قاله عنه هذان الأديبان العظيمان، وعندي أن أعظم ما يعاب على شكسبير أنه يخلو من الرسالة، وأنه ليس له مبادئ أو مناهج، ولذلك لن تجد أديبًا عصريًّا في إنجلترا يستطيع أن يقول إنه تعلم من شكسبير.
وقد يرد على الراغبون في نقل مؤلفاته إلى لغتنا بأنه «فنان»، وهو لا شك كذلك، ولكن فنه ليس هو الفن الذي يمكن أن يغير في أساليب التفكير أو التعبير في أدبنا. هو ترف.
لو أنه طلب إليَّ اختيار بعض كتب الأدب لنقلها إلى لغتنا لقلت: العلم أولى.
- (١)
الإخوة كارامازوف لدوستويفسكى باعتبارها أعظم قصة ظهرت في العالم القديم والوسيط والحديث، وأنها جديرة بأن تحدث ثورة في القلوب الشرقية، وتنقل معاني جديدة من الإنسانية تغير النفس العربية.
- (٢)
الإنسان والسوبرمان لبرناردشو؛ لأنها جديرة بأن تحدث ثورة في العقول، فتجددها وتجرئها وتغير النظرة والعبرة للمستقبل.
- (٣)
اعترافات روسو؛ لأنها جديرة بأن تجعل أدبنا ينعطف إلى طريق أخرى غير طريقه الحاضرة، فيغدو أدب البوح، أدب السريرة المكشوفة.
- (٤)
مؤلفات أناتول فرانس الذي صار رئيس الجمهورية الفرنسية في جنازته على الرغم من مخالفته لعرف المجتمع الفرنسي، ويمكننا أن نتذوق من هذه المؤلفات أذواقًا أدبية جديدة تغيرنا.
- (٥)
قصة آنا كارنينا لتولستوي، تنقل كاملة بأسلوب تولستوي.
أختار هذه الكتب وأمثالها؛ لأنها محورية قد تغيرت الآداب الأوروبية بها، أما شكسبير فلم تتغير هذه الآداب بمؤلفاته، ومع ذلك أوثر كتب العلم؛ لأن حاجتنا إليه ملحة، أما الآداب فيمكن أن نؤجلها. إن لنا مشكلات روحية، ومشكلات أخرى مادية، ولا يمكن شكسبير أن يحل مشكلاتنا الروحية، وإنما الذي يحلها من رجال الأدب هو هؤلاء الخمسة الذين ذكرتهم أو أمثالهم.
أما مشكلاتنا المادية، فقرنا ومرضنا وموت أطفالنا، وقصر أعمارنا، وجوعنا وبؤسنا، وعجزنا عن العيشة النظيفة، كل هذا يحله العلم، بل العلم في عصرنا، يحل مشكلاتنا الروحية أكثر مما يحلها الأدب، وهناك فلسفة علمية، وإنسانية علمية، قد تغير بها نظرنا إلى الإنسان والطبيعة والكون، والنفس العربية في حاجة ملحة إلى هذا التغير؛ لأنها نفس جامدة قديمة تحيا على العقائد، وتنفر، أو تكاد تنفر من الحقائق. ثم العلم هو الذي قرر السيادة لأوروبا على الأمم العربية، فإذا لم نحبه، فلنخفه ونعرفه.