أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي
لما مات برناردشو أذاعت التلغرافات أن جثمانه سيحرق، وأنه قد أوصى بألا يصلي عليه القسيسُ، وقد أدخل جثمانه في الكنيسة يومين، زاره في أثنائها أصدقاؤه وودعوه بتراتيل موسيقية، ثم حمل جثمانه إلى المرمدة حيث أحرق، والمرمدة مشتقة من الرماد الذي يتخلف من النار، ولا تخلو منها مدينة في أوروبا حيث تقوم مقام الجبانة التي لا تزال تستعمل للدفن.
وكان برناردشو يؤْثِر الحريق على الدفن، ولما ماتت زوجة الكاتب هـ.ج. ولز دعاه إلى إحراق جثمانها، وقصد معه إلى المرمدة حيث تأمل كلاهما إحراق الموتى، وقد سر ولز من المنظر، إذ رأى فيه من النظافة والجمال وسرعة الفناء ما حمله على إحراق زوجته.
وقد ذكرت لنا التلغرافات أن برناردشو قد أوصى بأن يخلط الرماد المتخلف منه بالرماد المتخلف من زوجته التي سبقته إلى المرمدة قبل ثماني سنوات، وهذا خيال جميل وولاء أجمل من الزوجين.
وليس الإحراق للموتى جديدًا، فإن الهندوكيين، الذين يزيدون على ٣٥٠ مليونًا، يمارسونه منذ آلاف السنين، وليس في الهند كلها جبانة واحدة، إلا للقليلين من المسيحين، وحتى بعض هؤلاء يؤثر الإحراق على الدفن.
ومن الإعلانات الطريفة في بعض الجرائد الأوروبية أن أصحاب المرامد يقولون: إن الحرق أرخص من الدفن، وهذا صحيح في أوروبا؛ لأن الدفن يحتاج إلى نفقات كبيرة لا يحتاج إليها الإحراق، وهذا بالطبع غير ما يتحيزه الدفن من قبور كان أولى بمكانها أن يزرع ويستغل.
وأنا أميل إلى الحرق، وأوثر أن يُحرق جثماني بعد وفاتي لجمال الفكرة في النار تحيل جسمي في دقائق إلى بخار ورماد، بدلا من ترك هذا الجثمان يتعفن، ثم ينتفخ البطن بالغازات، ثم ينفجر، ويبقى على هذا التعفن بضع سنوات إلى أن يذهب اللحم والدم، ولا يبقى غير الهيكل العظمي.
وإني لأبوح هنا بسرٍّ قد يشمئز منه القارئ حين يعرف السبب، وهو أنه قد مضى عليَّ نحو أربعين سنة لم أذق فيها الفسيخ، ومرجع هذا أني كنت أشيع قريبًا لي إلى قبره، وكان بالقبر ميت لما يمض على دفنه عشرون يومًا، فما هو أن فُتح القبر حتى خرجتْ منه رائحة الفسيخ، وسمعت من أحد اللحادين أن الميت السابق لم ينضج، وغمرتنا الرائحة كأنها نفذت إلى مسام أجسامنا، وبقيت ملوثًا بها شهورًا.
ومنذ هذه اللحظة إلى الآن لا أطيق هذه الرائحة، بل لا أستطيع أن أذكر كلمة «الفسيخ» إلا مع الاشمئزاز والقشعريرة، وهذه الحال البشعة هي مصيرنا جميعًا في الدفن.
وقد يقال: إننا في الجبانات من الموتى، عظة وعبرة بالتجوال بين القبور، ولست أنكر أني أجد ذلك حين أجول بين القبور، ولكن هذه العظة وهذه العبرة يمكن أن نجدهما أيضًا في المرمدة، بل إن الفناء السريع يحملنا على أن نحس أن الحياة لا تزيد على أن تكون هباء وهواء، وحفنة من الرماد، وفي هذا عبرة أية عبرة.
وهناك من يحتفظ بالرماد بعد الإحراق في علبة تصونها الأسرة كأنها كنز، وعندي أن هذا خطأ؛ إذ يجب أن نذرو الرماد في الريح كي نؤكد فكرة الفناء.
هذا هو ما فعله لندبرج الطيار الأمريكي، فإنه عقب وفاة أبيه حمل جثمانه إلى المرمدة، ثم أخذ الرماد المتخلف وامتطى طائرته فوق العزبة التي قضى أبوه حياته فيها، ثم أذرى الرماد فوق الحقول، من التراب وإلى التراب.
أجل إنى أوثر المرمدة على الجبانة؛ لأن الفناء بالنار أجمل من الفناء بالتعفن.