الفوضى التطبيقية: هل يمكن فهم أي شيء من خلال نماذجنا؟
يقلِّل العلماء في كثير من الأحيان من الفضل الذي يدينون به تجاه واضعي التوقعات الآنية الذين يصمدون، يومًا بعد يوم، ويقدِّمون رؤيتهم للمستقبل. من بين أبرز هؤلاء واضعو توقعات حالة الطقس والاقتصاديون، بينما يخاطِر المقامرون المحترفون بأكثر من تدمير صورتهم عند مقامرتهم. وهي الحال نفسها مع متداولي العقود الآجلة. أثارت دراسة الفوضى عملية إعادة التفكير في النمذجة وبيَّنت القيود حول ما يمكن أن نراه ونفهمه من خلال نماذجنا. بالطبع، تختلف التداعيات بالنسبة إلى النظم الرياضية حيث نعرف هدفًا نرمي إليه، والنظم الطبيعية التي ربما لا يتواجد فيها ما نرمي إليه.
النمذجة من الألف إلى الياء: النماذج القائمة على البيانات
سنعرض أربعة أنواع من النماذج القائمة على البيانات. تتمثَّل النماذج الأبسط في «النماذج الاستمرارية» التي تفترض بقاء الأشياء على حالتها الراهنة. ثَمَّةَ شكل مختلف ديناميكي بسيط من تلك النماذج يتمثَّل في نماذج «حركة الهواء الأفقية»، وهي نماذج تفترض استمرار السرعات؛ في هذه الحالة سيجري توقُّع أن عاصفةً تتحرك ناحية الشرق تستمر في الاتجاه شرقًا بالسرعة نفسها. استخدم فيتزروي ولوفيريه هذا الأسلوب في أوائل القرن التاسع عشر، مستغلين الإشارات البرقية التي تستطيع استباق عاصفة قادمة. يتمثَّل النوع الثالث في «النماذج التناظرية». يُنهي لورنز ورقته البحثية الكلاسيكية المنشورة في عام ١٩٦٣ بالعبارة التالية: «في حالة الطقس الحقيقية، إذا عجزت جميع الأساليب الأخرى، يمكن أن ننتظر حالة تناظر.» يتطلب النموذج التناظري مجموعة كاملة من الملاحظات السابقة حيث يتم من خلالها تحديد حالة سابقة تُشبه الحالة الحالية؛ يُقدِّم التطور المعروف لحالة التناظر التاريخية هذه عمليةَ التوقُّع. تعتمد جودة هذا الأسلوب على مدى جودة رصد الحالة الحالية، وعلى معرفة إن كانت مجموعة الحالات المتوافرة تتضمن حالات تناظر على قدرٍ من الجودة الكافية أم لا. عند إجراء توقُّع لأحد النظم المتكررة، تُعد عملية الحصول على حالة تناظر جيدة مجرد مسألة ما إذا كانت مجموعة الحالات كبيرة بما يكفي في ظل أهدافنا الموضوعة ومستوى التشويش. عمليًّا، ربما يتطلب بناء مجموعة من الحالات أكثر من مجرد الانتظار؛ كيف يمكن أن نحرز تقدُّمًا إذا كان الزمنُ المتوقَّع اللازم لرصد حدوث تكرارٍ أطولَ من العمر الزمني للنظام نفسه؟
تَسهُل المراهنة بالمال على أحد الأرقام الفائزة في لعبة الروليت؛ فليس عليك سوى المراهنة بدولار واحد على كل رقم وستحصل على رقم فائز في كل مرة. ستفقد مالًا، بالتأكيد، بما أن الرقم الفائز سيدفع ٣٦ دولارًا، بينما سيجب عليك المراهنة على أكثر من ٣٦ رقمًا. تُسفِر استراتيجيات «المراهَنَة على الأرقام كلها» عن خسارة المال عند كل لعبة، وهو ما وضعت له صالات القمار حلًّا منذ وقت طويل مضى. يتطلب تحقيق ربح أكثر من مجرد إجراء مراهنة على رقم فائز كلَّ مرة؛ إذ يتطلَّب الأمر إجراء توقُّعٍ احتماليٍّ أفضل من احتمالات صالة القمار. ولحسن الحظ، يمكن تحقيق ذلك دون اللجوء إلى اشتراطات الملاءمة التجريبية أو التفسير الرياضي الصعب.
لعل إمكانية أن تُجرى المراهنات بعد دوران الكرة تجعل من لعبة الروليت لعبةً شائقة على وجهٍ خاص بالنسبة إلى الفيزيائيين والإحصائي الغريب الأطوار. هَبْ أنك سجَّلت كل مرة اللحظةَ التي تمر فيها الكرة، على سبيل المثال، على الرقم صفر عن طريق الإصبع الكبيرة في القدم اليسرى، واللحظة التي تخطى فيها الرقم صفر نقطة محددة على المائدة عن طريق الإصبع الكبيرة في قدمك اليمنى، كم مرة يستطيع أيُّ حاسوب مثبت على كعب حذاء راعي البقر الذي ترتديه إجراءَ توقُّع صحيح حول أي ربع في عجلة الروليت ستستقر الكرة فيه؟ سيجعل توقُّعُ الربع الصحيح في العجلة لنصف عدد المرات فرصَ الفوز تميل إلى صالحك. عندما تكون صائبًا ستفوز بأموال تساوي أربع مرات حجم الأموال التي خسرتها، وهو ما يجعلك تربح بمقدار ثلاثة أضعاف حجم الأموال التي راهنْتَ بها، وستخسر كل أموالك عند انتصاف عدد المرات تقريبًا؛ لذا ستحقِّق في المتوسط مكسبًا يتجاوز ما راهنتَ به بمقدار مرة ونصف. بينما لن يعرف العالم أبدًا كم مرة حاول الآخَرون عمل ذلك، يمكن وضع حدٍّ أدنى لمرة واحدة. يفرد توماس باس تفاصيل هذه العملية بصورة رائعة في كتاب «الكازينو النيوتوني».
نماذج المحاكاة
ماذا يحدث إذا لم تقدِّم أكثرُ حالات التناظر تشابهًا توقُّعًا مفصلًا بما يكفي؟ أحد البدائل هو معرفة ما يكفي من الفيزياء لبناء نموذج للنظام استنادًا إلى «المبادئ الأولى». ثبتت فائدة هذه النماذج في مختلِف أنواع العلوم إلى حدٍّ كبير، على أننا يجب ألا ننسى أن نعود من عالم النماذج ونقيِّم توقعاتنا في مقابل الملاحظات الحقيقية. ربما تتوافر لدينا أفضل النماذج في العالم، لكن مسألة كون ذلك النموذج ينطوي على أي قيمة أم لا في عملية اتخاذ القرار مسألةٌ أخرى.
نُظُم توقع الطقس المجمعة
تشير نظم التوقع المجمع إلى ميزة نسبية لمنطقة شمال فرنسا على كورنوول. هل لديكم وكيل سفريات بإمكانه تقديم النصح حول حجوز العبَّارات؟
في عام ١٩٩٢ تقدمت مراكز توقُّع حالة الطقس التشغيلية على جانبَي الأطلنطي خطوةً كبيرة إلى الأمام؛ حيث توقَّفت المراكز عن تقديم تقرير مؤكد حول حالة الطقس لإجازة نهاية الأسبوع التالية. على مدى عقود، كانت نماذج المحاكاة الحاسوبية في تلك المراكز تُدَار لمرة واحدة في اليوم، ومع زيادة سرعة الحاسوب، صارت النماذج أكثر تعقيدًا، ولا يقيِّدها سوى ضرورة تقديم التوقُّع قبل تحقُّق حالة الطقس، إلا أن نظام التشغيل هذا الذي يعتمد على «أفضل التوقعات» توقَّفَ في عام ١٩٩٢. وبدلًا من تشغيل نموذج المحاكاة الحاسوبي الأكثر تعقيدًا مرة واحدة، ثم الاكتفاء بالمشاهَدة بينما يحدث شيء آخَر في الواقع، جرى تشغيل نموذج أقل تعقيدًا لبضع مئات من المرات. كان كل نموذج ضمن هذه المجموعة يبدأ عند حالة مختلفة قليلًا، ثم يراقب واضعو التوقعات مجموعة نماذج محاكاة وهي تفترق كلٌّ عن الأخرى مع تطوُّر الوقت وصولًا إلى إجازة نهاية الأسبوع القادمة، ثم يستخدمون هذه المعلومات في تحديد مدى اعتمادية التوقُّع لكلِّ يوم. ويُسمَّى هذا النظام نظام التوقُّع المجمَّع.
من خلال إجراء «توقُّع مجمع» نتمكَّن من فحص البدائل المتوافقة مع معرفتنا الحالية للطقس ومع نماذجنا، وهو ما يوفِّر ميزات كبيرة في عملية دعم اتخاذ القرار السليمة القائمة على المعلومات. في عام ١٩٢٨، توقَّع السير آرثر إدنجتون حدوثَ كسوف شمسي «مرئيٍّ فوق كورنوول» في يوم ١١ أغسطس ١٩٩٩. أردتُ أن أرى هذا الكسوف، مثلما كان يرغب في ذلك تيم بالمر، رئيس قسم التوقُّعات الاحتمالية في المركز الأوروبي لتوقُّعات حالة الطقس المتوسطة المدى في ريدِنج، بإنجلترا. مع اقتراب موعد الكسوف، بَدَا كما لو أن كورنوول ستظلِّلها الغيوم. كانت رسالة البريد الإلكتروني من تيم والمُشار إليها في بداية هذا القسم قد أُرسلت قبل ستة أيام من الكسوف. تفحَّصْنا التوقع المجمع الخاص بيوم ١١، فلاحظنا أن عدد التوقعات الفردية التي كانت تشير إلى سماء صافية فوق فرنسا تخطَّى مثيله بالنسبة إلى كورنوول. وحدث الشيء نفسه في يوم ٩، فتركنا إنجلترا قاصدين فرنسا باستخدام عبَّارة.
هناك رأينا الكسوف، وهو ما يرجع الفضل فيه إلى الاحتمالات التي قدَّمَتْها نُظُم التوقُّعات المجمعة، وإلى الإسراع في اللحظة الأخيرة للحصول على رؤية أفضل بفضل مهارات تيم في القيادة عبر طرق زراعية فرنسية صغيرة في سيارة مِقوَدها إلى اليمين، هذا فضلًا عن نظارة واقية كان يضعها لمشاهدة الكسوف الكلي. تشير دراسة الفوضى في نموذجنا إلى أن عدم اليقين في الحالة الحالية للطقس يجعل من الاستحالةِ التوقُّعَ على وجه اليقين — حتى لو قبل أسبوع مقدَّمًا — للموضع الذي يمكن فيه رؤية الكسوف بوضوح، والموضع الذي ستحجب السحب فيه رؤيته. من خلال إجراء توقُّع مجمع بهدف تتبع عدم اليقين هذا، قدَّمت نُظُم توقُّع الطقس المجمعة دعمًا فعَّالًا في عملية اتخاذ القرار؛ حيث نجحنا في رؤية الكسوف. لم يكن علينا افتراض أي شيء حول كمال النموذج، ولم تكن ثَمَّةَ أي توزيعات احتمالية في الأفق.
في جميع الفترات الزمنية الفاصلة، يجب التعامل مع أثر بيرنز. تُظهِر مجموعة «كرات الجولف» في نموذج توقُّع الطقس من المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى تنوع الأنماط السلوكية في نماذجنا لمساعدتنا في «التخمين والتوجس»، دون قياس عدم اليقين حقيقةً في المستقبل مثلما هو في العالم الواقعي. في حقيقة الأمر، يمكن التوسع في تنوُّع هذه الأنماط السلوكية؛ فإذا توافرت لدينا قدرة حاسوبية كافية وشكَّكنا في مصداقية بعض الملاحظات، فربما يمكن استخدام بعض التوقعات الفردية ضمن التوقع المجمع التي تتضمن هذه الملاحظات مع إسقاطها في توقعات أخرى. لن نرَى أبدًا موقفًا آخَر يُشبه تمامًا عاصفة يوم ميلاد بيرنز في عام ١٩٩٠. ربما نقرر وجهة الملاحظات المستقبلية المصممة لتعظيم فرصة التمييز بين أيٍّ من توقعات التوقع المجمع أكثر واقعية: تلك التي تتضمن عاصفة في المستقبل أم تلك التي لا تتضمن أي عاصفة؟
بدلًا من إهدار جهد أكثر مما ينبغي في محاولة تحديد «أفضل» النماذج، ربما ندرك أن التوقعات الفردية ضمن التوقعات المجمعة من نماذج مختلفة أكثر قيمةً من محاكاة واحدة لنموذج فائق واحد باهظ الكلفة، لكننا يجب ألا ننسى الدروس المُستقاة من اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون. تكشف التوقعات المجمعة عن تعدد الأنماط السلوكية في نماذجنا، لا عن احتمالية وقوع أحداث مستقبلية. يمكن اختبار التوقعات المجمعة باستخدام شروط مبدئية، وقِيَم معلمات، بل حتى باستخدام بِنى نماذج رياضية، لكن يبدو أن شيطان القرن الحادي والعشرين لا يقدر إلا على وضع توقعات احتمالية مفيدة في حد ذاتها لا أكثر. لحسن الحظ، يمكن أن يقدِّم نظام التوقع المجمع المعلومات ويضيف قيمةً دون تقديم توقعات باحتمالات نستخدمها كما هي في عملية اتخاذ قرار.
بعد أعياد الكريسماس في عام ١٩٩٩، اكتسحت عاصفة أخرى كبرى أوروبا باسم «تي وان» في فرنسا و«لوثار» في ألمانيا، اقتلعت هذه العاصفة ٣٠٠٠ شجرة في مدينة فرساي وحدها، وسجَّلتْ مستوًى قياسيًّا في مطالبات التأمين في أوروبا. قبل اثنتين وأربعين ساعة من العاصفة، وضع المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى نظام التوقع المجمع المعتاد الذي يتألف من ٥١ توقعًا منفصلًا. تضمن أربعة عشر توقعًا ضمن التوقع المجمع المكون من ٥١ نموذجًا حدوثَ عاصفة. ثَمَّةَ إغراء بنسيان أن هذه التوقعات ليست سوى شبيهة بكرات الجولف في اللوحة الشبيهة بلوحة جالتون، وتفسير ذلك باعتباره يمثِّل احتمالًا يبلغ ٢٨٪ على وقوع عاصفة كبرى. وعلى الرغم من ضرورة مقاومة ذلك الإغراء، يتوافر لدينا هنا نموذج آخَر لنظام التوقع المجمع العظيم الفائدة. باستخدام نموذج أكثر واقعية، وأكثر تعقيدًا مرة واحدة ربما كان سيُظهِر عاصفة، أو ربما لم يكن سيُظهِر أي عاصفة. لماذا المخاطرة بعدم رصد العاصفة في الوقت الذي ربما يقدِّم نظام توقُّع مجمع إمكانية تحديد فرصة حدوث العاصفة كميًّا؟ من الواضح أن عمليات التوقع المجمع فكرة معقولة، لكن كيف يمكننا تحديدًا توزيع الموارد المحدودة بين استخدام نموذج أكثر كلفةً ووضع نموذج توقع مجمع أكبر؟ يظل هذا السؤال البحثي النَّشِط مطروحًا للنقاش. في الوقت نفسه، يقدِّم نظام التوقع المجمع من المركز الأوروبي لتوقعات حالة الطقس المتوسطة المدى لمحةً عن السيناريوهات المستقبلية البديلة من خلال نماذجنا ذات القيمة المضافة المهمة.
تظل أيضًا طريقةُ توصيل هذه المعلومات الموجودة في التوقع المجمع دون عرض عشرات خرائط الطقس على العامة مسألةً مفتوحة للنقاش. في نيوزيلندا، حيث يُعتبر الطقس القاسي أمرًا مألوفًا، تُقدِّم خدمة الأرصاد الجوية بصورة منتظمة توقعاتٍ احتماليةً مفيدةً للأرصاد الجوية على موقعها، من خلال عبارات من قبيل «احتمال بنسبة اثنين إلى خمسة»، وهو ما يضيف قيمة كبيرة إلى توصيف حادثة محتملة. بالطبع، يُقدِّم علماء الأرصاد الجوية عادةً توقعات طقس متطرفة، بينما تَسعد شركات الطاقة أيَّما سعادة باستغلال القيمة الاقتصادية الكبيرة في استخلاص معلومات مفيدة من توقعات أرصاد جوية عادية يوميًّا، وها هم الآخَرون في المجالات الأخرى التي تتضمن مخاطر جوية في عمليات التشغيل يسيرون في إثر شركات الطاقة.
الفوضى والتغيُّر المناخي
المناخ هو ما تتوقَّعه. والطقس هو ما تعايشه.
تختلف عملية النمذجة المناخية جذريًّا عن عمليات توقُّع الطقس. تَصوَّرْ حالة الطقس في الأسبوع الأول من يناير بعد عام من الآن، سيكون الوقت منتصف الصيف في أستراليا ومنتصف الشتاء في نصف الكرة الشمالي، وهو ما يمنحنا وحده فكرة عن نطاق درجات الحرارة التي يمكن أن نتوقعها. تُمثِّل مجموعة التوقعات هذه المناخ، وهو ما يعكس بصورة مثالية الاحتمال النسبي لحدوث كل نمط يمكن تصوُّره لحالة الطقس. إذا كنَّا نؤمن بالحتمية الطبيعية، إذَن فسيكون الطقس في يناير القادم محتومًا سابقًا. بالرغم من ذلك، يُعتبر مفهومنا حول مجموعة التوقعات المناخية مهمًّا؛ إذ لا تستطيع النماذج الحالية تمييز هذا المستقبل المحتم. في ظل أي توقعات مجمعة مثالية للطقس سيكون هناك تتبع لنموِّ أيِّ عدم يقين أولي في حالة الغلاف الجوي حتى يصبح من غير الممكن تمييزها عن التوزيع المناخي المماثل. في ظل النماذج غير الكاملة، لا يحدث هذا على الإطلاق؛ إذ تدور مجموعة نماذج المحاكاة في التوقعات المجمعة حول عنصر الجذب في النموذج وليس حول النقطة الحقيقية في العالم الواقعي، إذا كان موجودًا من الأساس. حتى في ظل نموذج كامل، ومع تجاهل آثار الإرادة الإنسانية الحرة التي أشار إليها إدنجتون، سيَحُول دون وضع توقُّعات احتمالية دقيقة تعتمد على الحالات الحالية للأرض المؤثراتُ المناخية التي برحت الشمس توًّا، أو تلك التي تكاد تصل من مناطق تقع خارج المجموعة الشمسية، التي لا يمكن أن نعرف عنها شيئًا اليوم، ولو حتى من الناحية النظرية.
ما هو قدر اتساع نطاق التنوع الحالي بين نماذجنا؟ تعتمد الإجابة بالطبع على متغيرات النموذج محل الفحص. من حيث متوسط درجة الحرارة على مستوى الكوكب، ثَمَّةَ صورة متسقة للاحترار. يُظهِر عدد ضخم من التوقعات في التوقعات المجمعة قدرًا من الاحترار أكثر مما كان مقدرًا سابقًا، ومن حيث التفصيلات الإقليمية، ثَمَّةَ تنويعات هائلة بين هذه التوقعات الفردية. يصعب تحديد نفع القيمة التقديرية للأمطار والثلوج في عملية دعم اتخاذ القرار، حتى بالنسبة إلى كمية الأمطار الشهرية فوق منطقة أوروبا بأكملها. كيف يمكن التمييز بين ما يُعتبر مجرد أفضل التوقعات المتوافرة حاليًّا فقط، والتوقعات التي تتضمن في حقيقة الأمر معلومات مفيدة بالنسبة إلى متخذي القرار في السياق المناخي؟
في الواقع، تتغير مستويات ثاني أكسيد الكربون وعوامل أخرى باستمرار، ويندمج الطقس والمناخ في إجراءٍ واحدٍ لتجربة عابرة لا تتكرر. وينظر واضعو توقعات الطقس إلى أنفسهم عادةً باعتبارهم يحاولون استخلاص معلومات مفيدة من نماذج التوقُّعات المجمعة قبل انتشارها حول «عنصر جذب الطقس». يجب على واضعي النماذج المناخية التعامل مع مسائل صعبة حول طريقة تغيُّر بنية عنصر الجذب هذا في حال — قُلْ على سبيل المثال — تضاعفت كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ثم ظلت ثابتة. كان لورنز يُجري أبحاثًا في هذا المجال في ستينيات القرن العشرين، محذرًا من أن موضوعات مثل الاستقرار البنيوي والتجارب العابرة الطويلة المدى تُعقِّد من توقعات المناخ، ومشيرًا إلى الآثار المترتبة على ذلك في نظم لا تزيد في تعقيدها عن الخرائط التي عرضناها في الفصل الثالث.
في ظل عدم كمال نماذج توقُّع الطقس لدينا، لا تتطوَّر التوقعات المجمعة الخاصة بها في حقيقة الأمر نحو توزيعات مناخية واقعية، وفي ظل تغيُّر خواص النظام المناخي للأرض باستمرار، لا يكون الحديث عن «توزيع مناخي واقعي» متغيِّر باستمرار وغير قابل للملاحظة أمرًا منطقيًّا كثيرًا في المقام الأول. هل يمكن أن يوجد شيء مثل ذلك خارج عالم النماذج؟ بالرغم من ذلك، حسَّن فهمُ الفوضى والديناميكيات اللاخطية تصميماتِ التجارب في دراسات المناخ وممارستها، وهو ما يسمح بتقديم دعم يقوم على المعلومات في عملية اتخاذ القرار لصانعي السياسات. لعل أكثر الأشياء أهميةً هو أن ذلك بيَّنَ كيف أن القرارات الصعبة ستُتخذ في ظل عدم اليقين. لا تُعد حقيقةُ أن عدم اليقين هذا غير مقيَّد تمامًا أو أنه لا يمكن قياسه إلا باستخدام نماذج غير كاملة عذرًا للتقاعس عن اتخاذ أي خطوة. تُتخذ جميع القرارات السياسية الصعبة في سياق أثر بيرنز.
الفوضى في التجارة: فرص جديدة من خلال الفيزياء المالية
عندما يلعب عدد كبير من الأشخاص لعبةً ذات قواعد واضحة غير معروفة الديناميكيات، يصعب التمييز بين أولئك الذين يفوزون اعتمادًا على مهارتهم وأولئك الذي يفوزون حظًّا. تُعتبر هذه المسألة أساسية في الحكم على مديري المَحافِظ الوقائية وفي تحسين نماذج توقُّع الطقس بما أن النتائج التقليدية قد تُسفِر في الواقع عن فرض عقوبات على مَن يعتمدون على اللعب الاحتمالي المهاري. تأسَّست شركة بردكو، بناءً على افتراض ضرورة وجود طريقة لتوقُّع حالة الأسواق الاقتصادية أفضل من الأساليب الإحصائية الخطية التي سادت مجال التمويل الكمي خلال العقدين الماضيين. انتهجت بردكو مسارًا مختلفًا كان من روَّاده دوين فارمر ونورم باكارد، بالإضافة إلى عددٍ من ألمع المختصين بالنظم اللاخطية من الشباب اليوم، الذين تخلَّوْا عن إجراء دراسات ما بعد الدكتوراه في مقابل الانخراط في مجال تداول وتجارة الأسهم. إذا كانت ثَمَّةَ فوضى في الأسواق، أيكون آخَرون قد خُدِعوا دون عشوائية؟ من المحزن في الأمر أن اتفاقيات الحفاظ على السرية لا تزال تُلقِي بظلالها حتى على الأيام الأولى من نشاط بردكو، بَيْدَ أن تحقيق الأرباح المستمر في الشركة يشير إلى أنه مهما كان ما يجري في الشركة، فإنها تُبلي بلاءً حسنًا.
تُمثِّل بردكو أحد النماذج على الاتجاه العام نحو الفيزياء المالية، والتي يتم من خلالها اجتذاب علماء فيزياء رياضية مدرَّبين جيدًا لبحث مشكلات التوقع في الأمور المالية، وهو ما كان تقليديًّا المجالَ الحصري لعمل الإحصائيين. هل سوق الأسهم فوضوية؟ تشير الدلائل الحالية إلى أن أفضل نماذجنا للأسواق تصادفية بصورة أساسية؛ لذا فإن الإجابة عن السؤال هي «لا»، لكنها ليست نماذج خطية أيضًا. كمثال، ساهمت دراسة الفوضى في حدوث تطورات مدهشة في نقطة الْتقاء الطقس والاقتصاد؛ إذ يتأثر الكثير من الأسواق بالطقس بصورة بالغة، بل يتأثر بعضها حتى بتوقعات الطقس. من هنا يخشى كثير من المحلِّلين من أن تخدعهم العشوائية، حتى إنهم يلتزمون التزامًا صارمًا باستخدام نماذج بسيطة، وتصادفية محضة، ويتجاهلون الحقيقة البادية للعيان أن بعض توقعات الطقس المجمعة تتضمن معلومات مفيدة. بالنسبة إلى شركات الطاقة، تُستخدم المعلومات حول عدم اليقين حيال معلومات الطقس يوميًّا لتفادي «اللهاث وراء التوقع»، مثلما يحدث عند شراء المتر المكعب من الغاز الطبيعي بثمن مرتفع، ثم البيع بسعر منخفض، ثم شراء المتر المكعب نفسه بسعر مرتفع مرة بعد أخرى مع انخفاض درجات الحرارة المتوقعة يوم الجمعة التالي، ثم ارتفاعها، ثم انخفاضها مجددًا، مصطحبةً معها في ارتفاعها وانخفاضها الطلب المتوقَّع على الكهرباء ليوم الجمعة التالي؛ وهو ما جعل المضاربين يسعَوْن سعيًا محمومًا وراء أساليب لتوقُّع التوقع التالي.
تفضي دراسة الفوضى إلى الفاعلية التي تتجاوز تحقيق الربح على المدى القصير. تسهم الفيزياء المالية إسهامًا كبيرًا في توزيعٍ أفضل للسلع السريعة التلف التي ترتبط في طلبها بالطقس، وحركة السفن، والقطارات، والشاحنات، وتوقُّع مستوى الطلب عمومًا. تزيد التوقعات الاحتمالية الأفضل للتذبذبات الفوضوية في الرياح والأمطار بقدرٍ كبيرٍ من قدرتنا على استخدام الطاقة المتجددة بدرجةٍ كبيرة؛ وهو ما يحدُّ من الحاجة إلى إبقاء مولدات الطاقة الحفرية في «وضع الاستعداد»، باستثناء الأيام التي تتسم بانخفاض القابلية للتوقُّع فيها بصورة حقيقية.
اللجوء إلى واقع أبسط
ألهمتْنا النظم الفيزيائية بدراسة النظم الديناميكية الفوضوية، وندرك الآن كيف استطاع تجسيد شيطان لابلاس في القرن الحادي والعشرين وضع توقعات احتمالية موثوق بها للنظم الفوضوية باستخدام نموذجه الكامل. وسواءٌ كانت قائمة بالكلية على البيانات أو مُستقاة من «قوانين الطبيعة» الحالية، فإن النماذج التي في حوزتنا غير كاملة. يجب أن نواجه عدم اليقين في الرصد وعدم ملاءمة النماذج. يُعد تفسيرُ توقع مجمع للعالم الواقعي كما لو كان يُمثِّل توقُّعًا احتماليًّا عبر نموذج كامل لأحد النظم الرياضية أحدَ أكثر أخطاء التوقُّع سذاجةً. هل يمكن إيجاد نظام عالم واقعي واحد تضع الفوضى فيه القيد الوحيد على توقعاتنا؟
يُعد توقُّع نظام الغلاف الجوي/المحيطات في الأرض عملية صعبة. يتفادى الفيزيائيون اللجوء الكامل نحو الاستعانة بالنماذج الرياضية من خلال فحص نُظُم طبيعية أبسط تتكسر عليها إجراءات توقعاتهم ونظرياتهم للقابلية للتوقُّع. سنتتبَّع مسار هذا اللجوء بَدءًا من الغلاف الجوي للأرض وانتهاءً بواحد من أبسط النظم، ثم نبحث ما هو كائن فيه بمزيد من التفصيل. أشار لورنز إلى تجارب «الأحواض المائية» التي أجراها رايموند هايد لدعم التفسيرات الفوضوية في نماذج المحاكاة الحاسوبية التي وضعها في أوائل ستينيات القرن العشرين. لا تزال بعض ثمار تلك التجارب تُستخدَم في قسم الفيزياء في جامعة أكسفورد؛ حيث يُقدِّم بيتر ريد البيانات الأولية اللازمة في عمليات إعادة بنائها القائمة على البيانات. حتى الآن، تظل التوقعات الاحتمالية لهذه النظم الخاصة بالموائع غير كاملة على الإطلاق. استقى التجريبيون حول العالم بيانات قيِّمة من نظم الموائع ومن النظم الميكانيكية، يدفعهم في ذلك الطبيعة الفوضوية للنماذج الفيزيائية المماثلة. تميل درجة حرارة البندول الحقيقي إلى الزيادة، وهو ما يغيِّر من المعلمات «الثابتة» في نماذج المحاكاة مع ترك مناطق فضاء الحالة التي يحدث فيها تتبُّع للنماذج القائمة على البيانات. حتى قِطَع النرد تبلى قليلًا مع كل إلقاء لها. هذه هي حال العالم الواقعي.
في كل حالة، تُقدِّم التوقعات استبصارًا حول الملاحظات المستقبلية المحتملة، بَيْدَ أن أيًّا من نظامَي التوقعات المجمعة لا يعكس جيدًا النقطة المستقبلية التي يخفق عندها هذا الاستبصار. ما هي أفضل طريقة لتفسير هذا التنوع فيما يتعلق بالتوقعات؟
يُظهِر تحليلُ الكثير من التوقعات المستقاة من شروط مبدئية مختلفة أن هذه التوقعات المجمعة — عند تفسيرها باعتبارها توقعات احتمالية — لا تُعتبر موثوقًا بها، وهو ما يُمثِّل نتيجة عامة عند استخدام نماذج رياضية فوضوية لتوقُّع نُظُم واقعية. لا أعرف أي استثناءات. لحسن الحظ، لا يتطلَّب مبدأُ المنفعة استخلاصَ تقديرات احتمالية مفيدة.
هل يجب أخذ نماذجنا على محمل الجد بشكلٍ كبير؟
في الرياضيات الأكاديمية، يُعتبر مفهوما الأرجحية والاحتمالية متطابقَيْن بصورة أو بأخرى، وهو ما لا ينطبق في العالم الواقعي. إذا أضفنا احتمالية وقوع كل حدثٍ ممكن، إذَن يجب أن يكون حاصلُ جمع الاحتماليات جميعًا واحدًا. بالنسبة إلى أي مجموعة محددة من أرجحيات الحدوث، يمكن تحديد «الاحتمالية الضمنية» لحدثٍ من خلال أرجحيات تحقُّق ذلك الحدث. إذا كان حاصل جمع الاحتماليات الضمنية مساويًا لقيمة واحد، إذَن تمثِّل هذه المجموعة من الأرجحيات «أرجحيات احتمالية». خارج محاضرات الرياضيات، يصعُب العثور على الأرجحيات الاحتمالية في العالم الواقعي. تشير فكرة «الأرجحيات المتساوية» المتصلة بهذه النقطة — حيث تكون الأرجحيات ثابتة، ويصبح المرء حرًّا في الانتقال إلى أيٍّ من جانبي الرهان — إلى نوع مشابه من «التفكير التواق» داخل برج عاجي. لا تتكامل الاحتماليات الضمنية في حالة أرجحيات عدم الحدوث مع تلك الخاصة بالحدوث. تنبثق الحيرة في قلب كلا المفهومين بصورة كبيرة من تشويه الفارق بين النظم الرياضية والنظم في العالم الواقعي التي تُعد هي نموذجًا لها. في مضمار سباق أو في صالة قمار، تتجاوز قيمة الاحتماليات الضمنية قيمة واحد. تبلغ نسبة الاحتماليات الضمنية في عجلة روليت أوروبية ٣٧ / ٣٦، بينما تبلغ في نظيرتها الأمريكية ٣٨ / ٣٦. في صالة القمار تضمن هذه الزيادة تحقيق أرباح. علميًّا، ربما نستغل هذه الزيادة نفسها في إيصال معلومات عن عدم ملاءمة النموذج.
قد تُبعدنا عدم ملاءمة النموذج عن التوقعات الاحتمالية على نحوٍ لا يختلف كثيرًا عن إبعاد عدم اليقين في الشرط المبدئي لنا عن طريقة المربعات الصغرى في النماذج اللاخطية. ثَمَّةَ نظرية مكتملة عن تضمين نظم توقُّع احتمالي في دعم اتخاذ القرار من خلال تعظيم المنفعة المتوقَّعة أو أي انعكاس آخَر لأهداف المستخدم. ربما يجب عدم تسمية «التوقُّع الاحتمالي» الذي لن يُستخدم هكذا في هذا السياق على الإطلاق. يمكن — بلا شك — بناء نظرية تعمل على تضمين نظم توقعات تُقدِّم أرجحيات بدلًا من احتماليات تدعم عملية اتخاذ القرار. قدَّم جَد حقيقةً أمثلة عديدة جيدة في هذا الإطار.
يبدو أن قبول عدم الملاءمة في نماذجنا — مع الجهل بعدم ملاءمة النماذج التي تستخدمها الجهات المنافسة — يتطلَّب أن نستهدف شيئًا خلافًا للأرجحيات المتساوية. إذا استطاع أحد نظم توقُّع الأرجحيات تغطيةَ خسائره — بمعنى أن يُحدِث تساويًا بين الربح والخسارة عند تقييمه من جميع المشاركين مع تغطية تكاليفه التشغيلية — يمكننا إذَن أن نقول إن نظامًا مثل ذلك يولِّد «أرجحيات رشيدة». تُقدِّم الأرجحيات الرشيدة إذَن دعمًا في عملية اتخاذ القرار، وهو ما لا يترتب عليه (لم يترتب عليه بعدُ) كارثة ولا يرسِّخ الرغبة في استثمارٍ أكثر لتحسين تلك الأرجحيات إما للحصول على حصة سوقية أكبر، وإما لتغطية نفقات التشغيل.
قد يُفضي أخذ عينات من توقعات مجمعة تشمل جميع البدائل التي يمكن أن يتصوَّرها المرء إلى أرجحيات رشيدة، وهو ما يجعل التنوع في التوقعات المجمعة المتعددة النماذج يسمح بقياس تأثير عدم ملاءمة النموذج. يوفِّر القدرُ الذي يتجاوز به حاصل جمع احتمالياتنا الضمنية قيمة واحد طريقةً لقياس عدم ملاءمة النموذج. يتساءل المرء إن كان بإمكاننا — مع تزايد فهمنا لنظام العالم الواقعي أكثر فأكثر — توقُّع أن يصل مجموع الاحتماليات الضمنية لتوقعات الأرجحيات قيمة واحد في «أي» نظام طبيعي؟
إن الانتقال إلى نظم التوقعات التي تُقدِّم أرجحيات بدلًا من احتماليات يطلِق دعم عملية اتخاذ القرار في العالم الواقعي من القيود غير الطبيعية التي تنشأ نتيجةً للاحتماليات، التي لا يمكن تحديدها بدقة إلا من خلال نظمنا الرياضية. لعل الحقيقة صعبة ولكنها حتمية أن الأرجحيات الرشيدة ستعتمد على جودة نموذجك المستخدم وعلى جودة النموذج المنافس. سَتسهُل عملية اتخاذ القرار إذا كانت التوقعات الاحتمالية الموثوق بها متوافرة، لكن في حال عدم القدرة على ترجمة تنوع النماذج إلى احتمالية (ذات صلة بالقرار)، فإننا لا نستطيع استخدام التوقعات الاحتمالية. إن السعيَ وراء إدارة المخاطر كما لو كنَّا قد طبَّقناها حقيقيةً بغرض التبسيط لهو أمر طائش. وبينما تَثبت فائدةُ الأرجحيات في عمليات اتخاذ القرار التي لا تستغرق سوى ساعات أو أيام، ماذا سنفعل في سيناريو التغيُّر المناخي؛ إذ يبدو أن لدينا حدثًا واحدًا فقط شديدَ الأثر في غياب حالات اختبارية مشابهة نتعلم منها؟
بلغنا كَبِد عملية التوقع العلمية في العالم الواقعي. يتلاشَى الحد الفاصل القديم للاحتمالية تدريجيًّا ولا يبدو واضحًا في أي اتجاه يجب أن نتوجَّه في المستقبل. إذا لم توفِّر لنا النظمُ الديناميكية الفوضوية أداةً جديدةً، فقد قدَّمَتْ لنا على الأقل إشارةً تساعدنا على الاهتداء إلى أي طريق نسلك.