الفصل الثالث
الفوضى في السياق: الحتمية والعشوائية والتشويش
تشبه كل النظم الخطية بعضها بعضًا، أما كل نظام لا خطي يكون لا خطيًّا بطريقته
الخاصة.
على غرار رواية تولستوي «أنَّا كارنينا»
النظم الديناميكية
تُعَدُّ الفوضى إحدى سمات النظم الديناميكية، ولا يزيد أي نظام ديناميكي عن كونه
مصدرًا من مصادر الملاحظات المتغيرة؛ كما هو الأمر في حديقة فيبوناتشي الخيالية التي
تحتوي على أرانب، ودرجة حرارة الأرض وفق قياس مقياس الحرارة في مطار هيثرو في لندن،
والاقتصاد الذي يجري رصده من خلال سعر أسهم شركة آي بي إم، وبرنامج الحاسوب الذي يُحاكي
مدار القمر ويقوم بطباعة بيانات تاريخ ومكان كل كسوف شمسي مستقبلي.
ثَمَّةَ أنواع ثلاثة مختلفة على الأقل من النظم الديناميكية. يوجد أسهل تعريف للفوضى
في إطار «النُّظُم الديناميكية الرياضية»، وتتألف هذه النظم من قاعدةٍ؛ أَلَا وهي أنك
تُدخِل رقمًا ما فيَخرج لك رقم جديد، وهذا الأخير يُعاد إدخاله مرة أخرى للحصول على
رقم جديد آخَر، وهو ما يجري إدخاله مجدَّدًا، وهكذا دواليك. تُسمَّى هذه العملية
«التكرار». يُعتبر عدد الأرانب في حديقة فيبوناتشي الخيالية شهريًّا مثالًا نموذجيًّا
على سلسلة زمنية من هذا النوع من النظم. ويوجد نوع ثانٍ من النظم الديناميكية في العالم
التجريبي لعالِم الفيزياء، أو عالِم الأحياء، أو متداوِل الأسهم بالبورصة. هنا تتألف
سلسلة ملاحظاتنا من قياسات ضوضائية للواقع، وهي قياسات مختلفة جوهريًّا عن الأرقام
الخالية من التشويش في خريطة الأرانب؛ ففي هذه «النُّظُم الديناميكية الفيزيائية» — ومنها
على سبيل المثال مناخ الأرض وأعداد فئران الحقول في الدول الاسكندنافية — تمثِّل
الأرقامُ الحالةَ، بينما في خريطة الأرانب كانت الأرقام «هي» الحالة. ولتفادي الحيرة
التي لا ضرورةَ لها، يكون من المفيد هنا الإشارة إلى النوع الثالث من النظم
الديناميكية، والتي تظهر عندما يُجري حاسوب رقمي العمليات الحسابية التي يحدِّدها
النظام الديناميكي الرياضي، وهو ما سنطلق عليه «المحاكاة الحاسوبية»، وتُعتبر برامج
الحاسوب التي يصدر عنها توقعات الطقس في التليفزيون مثالًا شائعًا لها. ومن المهم
تذكُّر أن هذه «أنواع» مختلفة من النظم، وأن كلًّا منها نوع قائم بذاته. إذ تختلف أفضل
معادلاتنا لتوقُّع حالة الطقس عن أفضل نماذجنا الحاسوبية التي تعتمد على تلك المعادلات،
كما يختلف هذان النظامان كلاهما عن الشيء الحقيقي، أَلَا وهو طقس الأرض نفسه. يثير
الحيرة أن الأرقام الصادرة عن كل نوع من أنواع النظم الثلاثة يُطلَق عليها سلسلة زمنية،
ويجب ألا ننسى أبدًا الفارق بين أي سلسلة زمنية يمثِّلها كل نوع من هذه الأنواع: عدد
الأرانب المتخيَّلة، ودرجة الحرارة الحقيقية في المطار (إذا كان ثَمَّةَ شيء مثل ذلك
يوجد بالفعل)، وقياس يمثِّل تلك الحرارة، ومحاكاة حاسوبية لدرجة الحرارة تلك.
تعتمد مدى أهمية هذه الفروق على ما نهدف إلى تحقيقه؛ فمثل لاعبي لعبة الورق في لوحة
لاتور، لكلٍّ من العلماء، وعلماء الرياضيات، والإحصائيين، والفلاسفة مهاراتٌ وأهدافٌ
مختلفة؛ فربما يهدف الفيزيائي إلى توصيف الملاحظات من خلال نموذج رياضي، وربما يختبر
النموذج من خلال استخدامه في توقُّع ملاحظات مستقبلية؛ فالفيزيائي لدينا مستعد للتضحية
بالسلاسة الرياضية في سبيل الصلة الفيزيائية. يحب علماء الرياضيات أن يثبتوا أشياءَ
تنطبق على نطاق واسع من النظم، لكنهم يبالغون في تقدير قيمة البرهان، حتى إنهم عادةً
لا
يأبهون بضرورة تضييقهم لذلك النطاق للحصول على البرهان. يجب أن يكون المرء حَذِرًا
دومًا متى سمع أيَّ عالم رياضي يقول «تقريبًا كل». يجب أن يحرص الفيزيائي لدينا على ألا
ينسَى ذلك، وألا يخلط بين الفائدة الرياضية والصلة الفيزيائية. يجب ألا تتسم البداهات
الفيزيائية بالتحيُّز عبر خواص نُظُمٍ «مفهومة جيدًا»، مصمَّمة فقط لسلاستها
الرياضية.
الإحصائي لدينا مهتم بوصف إحصائيات شائقة مستقاة من السلسلة الزمنية للملاحظات
الحقيقية، وبدراسة خواص النظم الديناميكية التي تولِّد سلاسل زمنية تبدو مثل الملاحظات،
مع حرصه دائمًا على وضع أقل قدرٍ ممكن من الفرضيات. أخيرًا، يبحث الفيلسوف لدينا في
العلاقات القائمة بين النظام الفيزيائي الذي نزعم صدور الملاحظات عنه، والملاحظات
نفسها، والنماذج الرياضية أو الأساليب الإحصائية التي ابتكرناها لتحليلها؛ فعلى سبيل
المثال، يهتم الفيلسوف بما يمكن أن نعرفه عن العلاقة بين درجة الحرارة التي نقيسها
ودرجة الحرارة الحقيقية (إذا كان ثَمَّةَ شيء مثل ذلك)، ويهتم بما إذا كانت حدود
معرفتنا ليست سوى صعوبات عملية قد نتمكَّن من تخطِّيها، أو أنها حدود لا نستطيع
تجاوزها.
النظم الديناميكية الرياضية وعناصر الجذب
من الشائع أن نجد أربعة أنواع مختلفة من السلوك في السلاسل الزمنية؛ فقد تكون السلاسل
الزمنية عاجزة عن الحركة، وتبدأ بصورة أو بأخرى في تكرار الرقم الثابت نفسه مرارًا
وتكرارًا؛ أو ترتدُّ في حلقة مغلقة مثل أسطوانة مكسورة، تكرر النمط نفسه على نحو دوري،
أي سلسلة الأرقام نفسها تمامًا مرارًا وتكرارًا؛ أو تتحرك في حلقة تتضمن أكثر من دورة،
ومن ثَمَّ لا تكرِّر نمطًا واحدًا تمامًا بل تقترب من كل نمط، مثل لحظة المد المرتفع
التي تنساق خلال فترة النهار؛ أو تكون دائمة القفز على نحو غير منظم، أو ربما حتى في
هدوء، دون أن تُظهِر نمطًا محدَّدًا. يبدو النوع الرابع عشوائيًّا، بَيْدَ أن المظاهر
ربما تكون خادعة؛ فربما تبدو الفوضى عشوائية لكنها ليست كذلك. في حقيقة الأمر، مثلما
تعلَّمنا كيف ندرك الأمور على نحوٍ أفضل، لم تَعُدِ الفوضى تبدو لنا على هذا القدر من
العشوائية عادةً. وفي الصفحات القليلة التالية سنقدِّم المزيد من الخرائط، وإن كانت
ربما خالية من الأرز أو الأرانب. وسنحتاج هذه الخرائط للحصول على أشياء شائقة في رحلتنا
بحثًا عن الأنماط المختلفة للسلوك التي أشرنا إليها توًّا، وبعضٌّ من هذه الخرائط قام
بوضعه علماء الرياضيات لهذا الغرض تحديدًا، على الرغم من أن الفيزيائي لدينا قد يزعم
—
ولديه هنا سبب وجيه — أن أيًّا من تلك الخرائط وُضِعت نتيجة تبسيط القوانين الطبيعية.
في حقيقة الأمر، تُعتبر الخرائط بسيطةً بما يكفي لأن يجعل كلًّا منها تخرج في صور عديدة
مختلفة.
قبل أن نولِّد سلسلة زمنية من خلال تكرار خريطة ما، نحتاج إلى رقمٍ ما نبدأ به.
يُطلَق على هذا الرقم الأول «الشرط المبدئي»، وهو «حالة» أولية نحدِّدها، ونكتشفها، أو
نعدها لنظامنا المفترض. مثلما فعلنا في الفصل الثاني، سنتخذ الرمز
X كرمز اختزالي للإشارة إلى حالة نظامنا. ويُطلَق
على مجموع حالات X الممكنة «فضاء الحالة». بالنسبة إلى
أرانب فيبوناتشي الخيالية، يمثِّل فضاء الحالة جميع الأرقام الصحيحة. هَبْ أن سلسلتنا
الزمنية مستقاة من نموذج لعدد الحشرات في الميل المربع خلال فترة منتصف الصيف سنويًّا؛
ففي تلك الحالة، ليست X سوى مجرد رقم؛ ومن ثَمَّ
يُعَدُّ فضاء الحالة — باعتباره مجموع جميع الحالات الممكنة — خطًّا. ربما يتطلَّب
الأمر في بعض الأحيان أكثر من رقم واحد لتحديد الحالة، وإذا كان الأمر كذلك فستتألف
X من أكثر من مركبة. في نماذج المفترس-الفريسة،
على سبيل المثال، يشترط توافر أعداد كليهما، وتتألف X
من مركبتين، أي إنها تعبِّر عن متجه. وعندما تعبِّر X
عن متجه يتضمن عدد فئران الحقول (الفرائس) وعدد حيوانات ابن عرس (المفترسات) في الأول
من يناير من كل عام، إذَن سيصبح فضاء الحالة سطحًا من بُعدَين — أي مسطَّحًا — يشتمل
على جميع أزواج الأرقام. وإذا كانت X تتألف من ثلاث
مركبات (لِنقُل على سبيل المثال فئران حقول، وحيوانات ابن عرس، وكمية الثلوج
المتساقطة سنويًّا)، إذَن يصبح فضاء الحالة فضاءً ثلاثيَّ الأبعاد يشتمل على جميع
ثلاثيات الأرقام. بالطبع، لا يوجد سبب للتوقُّف عند ثلاث مركبات، على الرغم من أن الصور
تصبح أكثر صعوبةً في الرسم بأبعاد أكثر؛ إذ تتألف نماذج حالة الطقس الحديثة من أكثر من
١٠ ملايين مركبة. وبالنسبة إلى نظام رياضي، ربما تكون X
مجالًا متصلًا، مثل ارتفاع سطح المحيط أو درجة الحرارة عند كل نقطة على سطح الأرض. غير
أن ملاحظاتنا للنظم الفيزيائية لن تكون أكثر تعقيدًا أبدًا من متجه، وبما أننا لن نقيس
إلا عددًا محدودًا من الأشياء، ستكون ملاحظاتنا دومًا عبارة عن متجهات محدودة الأبعاد.
في الوقت الحاضر، سنبحث الحالة التي تكون فيها X رقمًا
بسيطًا، مثل ١ / ٢.
من خلال تذكُّر أن أيَّ خريطة رياضية ليست إلا قاعدةً تُحوِّل مجموعة واحدة من
القِيَم إلى المجموعة التالية من القِيَم، يمكننا تعريف «الخريطة التربيعية» من خلال
القاعدة التالية:
اضرب X في أربعة للحصول على قيمة
X الجديدة.
لدينا شرط مبدئي مُعطًى، مثل
X تساوي ١ / ٢، فيولِّد
هذا النظام الديناميكي الرياضي سلسلة زمنية لقِيَم
X،
وهي في هذه الحالة ١ / ٢ × ٤ = ٢، ٢ × ٤ = ٨، ٨ × ٤ = ٣٢ … والسلسلة الزمنية تكون
كالتالي: ١ / ٢، ٢، ٨، ٣٢، ١٢٨، ٥١٢، ٢٠٤٨ … وهكذا. تكبر هذه السلسلة أكثر فأكثر، ولا
يُعتبر ذلك — من الناحية الديناميكية — أمرًا مثيرًا للاهتمام كثيرًا، فإذا زادت سلسلة
زمنية ﻟ
X دون حدود مثلما يحدث في هذه السلسلة الزمنية،
نطلق عليها سلسلة زمنية «غير محدودة». وللحصول على نظام ديناميكي تكون فيه قِيَم
X محدودة، سنضرب مثلًا ثانيًا، «خريطة الأرباع»:
اقسم X على أربعة للحصول على قيمة
X الجديدة.
ابتداءً من قيمة X تساوي ١ / ٢، تتولَّد السلسلة
الزمنية ١ / ٨، ١ / ٣٢، ١ / ١٢٨، … للوهلة الأولى، لا يُعتبر هذا الأمر مثيرًا
للاهتمام؛ حيث تتضاءل قيمة X سريعًا متجهة إلى الصفر،
غير أنه في حقيقة الأمر، صُمِّمت خريطة الأرباع بعناية لتبيِّن خواصَّ رياضيةً خاصة.
الحالة الأصلية — حالة X تساوي ٠ — «نقطة ثابتة»، وإذا
بدأنا من تلك النقطة الثابتة فلن نبرحها أبدًا؛ حيث إن صفرًا مقسومًا على أربعة يساوي
صفرًا مرة أخرى. الحالة الأصلية تُسمَّى «عنصر الجذب» الأول أيضًا لدينا، ووفق خريطة
الأرباع تمثِّل الحالة الأصلية الوجهة الحتمية التي لا سبيل إلى بلوغها، فإذا ما بدأنا
بقيمةٍ ما أخرى للرمز X، فلن نبلغ عنصر الجذب في
الحقيقة على الإطلاق، على الرغم من اقترابنا منه مع زيادة مرات التكرار دون حدود. إلى
أي مدًى نقترب؟ إنه اقتراب على نحو اعتباطي، اقتراب بقدر ما تحب، اقتراب بصورة «لا
متناهية الصغر»، وهو ما يعني أنه أقرب من أي رقم يمكن تصوره. حدِّد رقمًا، أيَّ رقم،
وسيمكن حساب عدد مرات التكرار اللازمة، وهو العدد الذي ستظل قيمة
X بعده أقربَ إلى قيمة صفر أكثر من ذلك الرقم.
يعتبر الاقتراب اعتباطيًّا من عنصر الجذب بمُضي الوقت مع عدم بلوغ هذا العنصر أبدًا
ملمحًا شائعًا في الكثير من السلاسل الزمنية المستقاة من النظم اللاخطية. يقدِّم بندول
الساعة مثالًا مشابهًا ملموسًا؛ فكل حركة أصغر من سابقتها، وهو أثر نُرجِعه إلى مقاومة
الهواء والاحتكاك، ويتمثَّل العنصر المتشابِه مع عنصر الجذب في هذه الحالة في البندول
الساكن تمامًا الذي يتدلَّى إلى أسفل. سنتناول المزيد عن عناصر الجذب بعد أن نكون قد
أضفنا نُظُمًا ديناميكية أخرى قليلة إلى مجموعة نُظُمِنا.
في «الخريطة اللوجيستية الكاملة»، تتراوح السلاسل الزمنية المستقاة من كل قِيَم
X تقريبًا بصورة غير منتظمة ما بين صفر وواحد
دائمًا:
اطرح X2 من
X، واضرب الفرق في أربعة، واعتبر الناتج هو
قيمة X الجديدة.
إذا ما ضربنا مركبات متغيرات حالة بمركبات أخرى، يصبح السلوك لا خطيًّا، فكيف تكون
السلسلة الزمنية في هذه الحالة إذا ما بدأنا مرة أخرى بقيمة
X تساوي ١ / ٢؟ ابتداءً بقيمة ١ / ٢، يكون نتاج طرح
X2 من
X هو ١ / ٤، وضرب النتيجة في أربعة يساوي واحدًا،
وهكذا تساوي القيمة الجديدة ١. وعند الاستمرار في استخدام قيمة
X تساوي ١، يكون نتاج طرح
X2 من
X يساوي صفرًا، ولكن ضرب صفر في أربعة يساوي صفرًا
دومًا؛ لذا سنحصل على قِيَم صفرية دومًا؛ وعليه ستكون السلسلة الزمنية كالتالي: ١ / ٢،
١، ٠، ٠، ٠، … لا تُسفِر هذه النتيجة عن شيء مدهش، إلا أنها بالكاد تمثِّل نتيجة مثيرة.
تَذكَّرِ التحذير حيال قول عالم الرياضيات «تقريبًا كل».
يُعَدُّ ترتيب الأرقام في أي سلسلة زمنية أمرًا مهمًّا، سواء كانت السلسلة تعكس قيمًا
شهريةً لأعداد الأرانب في تجربة فيبانوتشي، أو عدد مرات تكرار الخريطة اللوجيستية
الكاملة. باستخدام الرمز الاختزالي المشار إليه في الفصل الثاني، سنكتب
X5 باعتبارها قيمة
X الخامسة الجديدة،
وX0 للحالة الأولية (أو
الملاحظة)، وبصورة عامة Xi
للإشارة لترتيب القيمة في الخريطة. سواء كنَّا نكرر خريطة أو نصنع ملاحظات، ستمثِّل
i دومًا رقمًا صحيحًا يُسمَّى عادةً
«الزمن».
في الخريطة اللوجيستية الكاملة مع كون قيمة
X0 تساوي ٠٫٥،
فإن X1 تساوي ١،
وX2 تساوي صفرًا،
وX3 تساوي صفرًا،
وX4 تساوي صفرًا،
وXi ستساوي صفرًا لجميع
قيم i التي تزيد عن أربعة أيضًا؛ إذَن فالحالة الأصلية
نقطة ثابتة، غير أنه في إطار الخريطة اللوجيستية الكاملة تزداد قيم
X الصغيرة (يمكن التأكد من ذلك باستخدام آلة حاسبة
صغيرة)، وتظل قيمة X تساوي صفرًا غير مستقرة؛ ومن ثَمَّ
لا تُعَدُّ الحالة الأصلية عنصرَ جذبٍ. لا يُحتمَل أن تتبنى أي سلسلة زمنية بدأت بالقرب
من الحالة الأصلية أيًّا من الخيارات الثلاثة الأولى التي ذكرناها في بداية هذا القسم،
لكنها ستسلك سلوكًا فوضويًّا إلى الأبد.
يبيِّن الشكل رقم
٣-١ سلسلة زمنية تبدأ قرب قيمة
X0 تساوي ٠٫٨٧٦، وهي
تمثِّل سلسلةً زمنية فوضوية مستقاة من الخريطة اللوجيستية الكاملة. ولكن أمعِن النظر
في
السلسلة مليًّا؛ هل تبدو حقًّا غير قابلة للتوقُّع تمامًا؟ يبدو أن قِيَم
X الصغيرة تليها قيم
X صغيرة أيضًا، وأن ثَمَّةَ ميلًا في السلسلة
الزمنية إلى التباطؤ قليلًا متى كانت تقترب قيمتها من ٣ / ٤. سيتفحص الفيزيائي لدينا
هذه السلسلة الزمنية، وسيرى أنها قابلة للتوقُّع على الأقل في بعض الأحيان، بينما قد
يقرِّر الإحصائي لدينا أن السلسلة عشوائية بعد إجراء بضع عمليات حسابية. وعلى الرغم من
قدرتنا على إدراك هذه البنية، لا تستطيع أكثر الاختبارات الإحصائية شيوعًا
إدراكها.
الخرائط
يمكن النص على القاعدة التي تُعرف خريطة ما إما بالكلمات، وإما في صورة معادلة، وإما
في صورة رسم بياني. يحدد كل شكل في شكل رقم
٣-٢ القاعدةَ في صورة
رسم بياني. لاستخدام الرسم البياني، حدد قيمة
X
الابتدائية على المحور الأفقي، ثم تحرك مباشَرةً إلى أعلى حتى تبلغ المنحنى، وستكون
قيمة هذه النقطة على المنحنى في المحور الرأسي هي قيمة
X الجديدة. تظهر الخريطة اللوجيستية الكاملة في
صورة رسم بياني في الشكل (ب) من الشكل رقم
٣-٢، بينما تظهر خريطة
الأرباع في الشكل (أ).
تتمثَّل إحدى الطرق السهلة لاستخدام الرسم البياني للتأكُّد مما إذا كانت إحدى النقاط
الثابتة غير مستقرة أم لا في النظر إلى منحنى الخريطة عند النقطة الثابتة. فإذا كان
المنحنى يميل بدرجة أكثر من ٤٥ درجة (سواءٌ إلى أعلى أو إلى أسفل)، فإن النقطة الثابتة
إذَن غير مستقرة. في خريطة الأرباع تبلغ القيم في المنحنى أقل من واحد صحيح في جميع
المواضع، بينما في الخريطة اللوجيستية الكاملة تزيد القيم في المنحنى قرب الحالة
الأصلية عن واحد صحيح. هنا تزيد قيم X الصغيرة غير
الصفرية مع كل تكرار، طالما ظلَّتْ هذه القيم صغيرةً بما يكفي (تبلغ القيمة في المنحنى
قرب القيمة ١ / ٢ صفرًا). مثلما سنرى لاحقًا، بالنسبة إلى «تقريبًا كل» شرط مبدئي يقع
بين صفر وواحد، تُظهِر السلسلة الزمنية «فوضى» رياضية حقيقية. الخريطة اللوجيستية
الكاملة في غاية البساطة؛ فالفوضى واضحة جدًّا.
لا يتطلب تحديد ما إذا كان أحد النظم الرياضية «حتميًّا» سوى التأكد بعناية مما
إذا
كان تطبيق القاعدة يتطلَّب رقمًا عشوائيًّا. حال عدم وجود رقم عشوائي، يُعتبر النظام
الديناميكي حتميًّا إذَن. في كل مرة يجري فيها إدخال قيمة
X نفسها، نحصل على قيمة
X الجديدة نفسها كنتيجة. فإذا كانت القاعدة تتطلَّب
(وهو ما تتطلبه حقًّا) رقمًا عشوائيًّا، يكون النظام عشوائيًّا إذَن، وهو ما يُطلَق
عليه أيضًا نظام «تصادفي». في ظل أي نظام تصادفي، حتى إذا قمنا بتكرار الشرط المبدئي
نفسه «تمامًا»، فإننا نتوقَّع أن تختلف تفاصيل قيمة X
التالية؛ ومن ثَمَّ تختلف أيضًا السلسلة الزمنية. بالعودة إلى تعريفاتها، سنجد أن
الخرائط الثلاث المعرفة سابقًا حتمية. تُحدَّد سلاسلها الزمنية المستقبلية بالكامل من
خلال الشرط المبدئي، ومن هنا جاءت التسمية «النظام الحتمي». سيشير الفيلسوف لدينا إلى
أن مجرد معرفة قيمة X ليست كافية؛ إذ إننا سنحتاج أيضًا
إلى معرفة النظام الرياضي، ويجب أن نمتلك القدرة على إجراء الحسابات الدقيقة باستخدام
قيمة X تلك. كانت هذه هي الهبات الثلاث التي تأكَّدَ
لابلاس من أن شيطانه يمتلكها قبل ٢٠٠ عامٍ.
أول نظام ديناميكي تصادفي سنعرض له هو خريطة إيه سي والذي قاعدته هي:
اقسم X على أربعة، ثم اطرح ١ / ٢ ثم أضِفْ
رقمًا عشوائيًّا R للحصول على قيمة
X الجديدة.
تُعَدُّ خريطة إيه سي نظامًا تصادفيًّا، بما أن تطبيق القاعدة يتطلَّب توفير مجموعة
من الأرقام العشوائية. في حقيقة الأمر، القاعدة المذكورة آنفًا غير كاملة؛ حيث إنها لا
تحدِّد كيفية الحصول على رقم عشوائي R. ولإكمال القاعدة
يجب أن نضيف شيئًا من قبيل: لتوفير رقم عشوائي R عند كل
تكرار، انتقِ رقمًا بين صفر وواحد بطريقة تجعل من المحتمل انتقاء أي رقم بينهما على نحو
متساوٍ، وهو ما يشير ضمنًا إلى توزيع R توزيعًا منتظمًا
بين صفر وواحد، وإلى أن احتمالية وقوع القيمة التالية للرقم العشوائي
R في نطاق قيم محددة تتناسب مع عرض ذلك
النطاق.
ما هي القاعدة التي نطبِّقها في انتقاء الرقم العشوائي
R؟ لا يمكن أن تكون القاعدة حتمية؛ إذ إن
R لن تكون عشوائية في هذه الحالة. ومن المثير للجدل
أنه لا توجد قاعدة محددة لتوليد قيم R، وهو ما لا يرتبط
بالحاجة إلى أرقام منتظمة بين صفر وواحد، وستظهر المشكلة نفسها إذا أردنا توليد أرقام
عشوائية تحاكي توزيع منحنى جالتون «الجرسي»، وسيتوجب علينا الاعتماد على الإحصائي لدينا
للحصول على الأرقام العشوائية التي نحتاج إليها. بعد ذلك، سنقرِّر إن كانت الأرقام
موزَّعة على نحو منتظم، أو أنها موزَّعة في صورة منحنًى جرسي.
في خريطة إيه سي، تُستخدَم كل قيمة من قيم
R في
الخريطة، ولكن ثَمَّةَ فئة أخرى من الخرائط العشوائية — تُسمَّى نظم الدوال المتكررة
—
يبدو أنها تستخدم قيمة
R ليس في صورة معادلة بل في
اتخاذ قرار حيال ما سيجري عمله. كمثال على ذلك خريطة نظام الدوال المتكررة للأثلاث
الوسطى، وهي الخريطة التي ستكون مفيدة لاحقًا عندما نحدِّد خصائص الخرائط من خلال
السلاسل الزمنية التي تولِّدها. قاعدة هذه الخريطة هي كالآتي:
انتقِ رقمًا عشوائيًّا R من أحد التوزيعات
المنتظمة بين صفر وواحد.
إذا كان R أقل من ١ / ٢، فاعتبر
X مقسومة على ٣ قيمة
X الجديدة.
إذا لم تكن R أقل من ١ / ٢، فاعتبر X − 1 مقسومة على ٣ قيمة
X الجديدة.
إذَن يتوافر لدينا الآن بضعة نظم رياضية، ويمكننا أن نحدِّد بسهولةٍ ما إذا كانت
حتميةً أو تصادفية. ماذا عن نماذج المحاكاة الحاسوبية؟ نماذج المحاكاة بالحاسوب الرقمي
حتمية دومًا. وكما سنرى في الفصل السابع، إما أن تكون السلسلة الزمنية الناتجة من حاسوب
رقمي في حلقة لا نهائية من القيم تتكرر على نحو دوري، مرارًا وتكرارًا، وإما أنها في
طريقها إلى مثل هذه الحلقة. يوصف هذا الجزء الأول من السلسلة الزمنية الذي لا تتكرر فيه
أي قيمة، ويتطور مساره نحو «حلقة دورية»، غير أنه لا يبلغها بأنه «عابر». في الدوائر
الرياضية، تُعتبر هذه الكلمة من قبيل الإهانة؛ حيث إن الرياضيين يفضِّلون التعامل مع
أشياء تتسم بالديمومة، وليس مجرد أشياء عابرة. وبينما يتجنب علماء الرياضيات الأشياء
العابرة، ربما لا يرى علماء الفيزياء أي شيء آخَر غيرها والحاسوب الرقمي لا يستطيع
التعامل مع هذه الأشياء العابرة. يعجز الحاسوب الرقمي الذي أثبت أهميته البالغة في
تطوير فهمنا للفوضى — للمفارقة — عن عرض فوضى رياضية حقيقية، وهو كذلك لا يستطيع توليد
أرقام عشوائية. لا يُعَدُّ ما يُطلَق عليه مولدات الأرقام العشوائية في الحاسوب الرقمي
والآلات الحاسبة اليدوية — في حقيقة الأمر — سوى مولدات أرقام شبه عشوائية، حتى إن أحد
نماذج هذه المولدات المبكرة كان يعتمد في تصميمه على الخريطة اللوجيستية الكاملة!
يُعتبر الفرق بين الفوضى الرياضية ونماذج المحاكاة الحاسوبية — مثل الفرق بين الأرقام
العشوائية والأرقام شبه العشوائية — نموذجًا مثاليًّا على الفرق بين النظم الرياضية
ونماذج المحاكاة الحاسوبية.
الخرائط الموجودة في الشكل رقم
٣-٢ ليست معروضة هناك من قبيل
المصادفة. يبني علماء الرياضيات عادةً نظمًا بطريقة تُسهِّل عليهم نسبيًّا توضيحَ مسألة
رياضية ما أو تطبيق نوع من المعالجة، وهي كلمة يستخدمونها في بعض الأحيان لإخفاء بعض
التدخل الفني من جانبهم. إن الفيزيائيين هم مَن يُنشئون الخرائط المعقدة حقًّا — بما
في
ذلك تلك المستخدمة في إرشاد سفن الفضاء، والتي تُسمَّى «النماذج المناخية»، بل والخرائط
الأكبر حجمًا المستخدمة في توقعات حالة الطقس الرقمية أيضًا — وليس علماء الرياضيات.
بَيْدَ أن تلك الخرائط جميعًا تعمل بالطريقة نفسها؛ إذ يتم إدخال إحدى قيم
X في النظام لتتولد قيمة
X الجديدة. وآلية العمل مماثلة تمامًا للخرائط
البسيطة المشار إليها سابقًا، حتى إن كانت
X تتضمن أكثر
من عشرة ملايين مركبة.
المعلمات وبنية النموذج
تتضمن القواعد التي تحدِّد الخرائط المشار إليها آنفًا أرقامًا بخلاف الحالة، أرقامًا
مثل ٤ و١ / ٢. ويُطلَق على هذه الأرقام «معلمات». بينما تتغير قيمة
X مع الوقت، تظل المعلمات ثابتة. ويُعَدُّ من
المفيد في بعض الأحيان مقارنة خواص السلاسل الزمنية المتولدة باستخدام قيم معلمات
مختلفة؛ لذا فبدلًا من تحديد الخريطة باستخدام قيمة معلم محددة، مثل ٤، تُحدد الخرائط
عادةً باستخدام رمز يشير إلى المعلم، لنَقُلْ
α على
سبيل المثال. ويمكننا بعد ذلك مقارنة سلوك الخريطة عند قيمة
α تساوي ٤ مع قيمة
α تساوي ٢، أو
α
تساوي ٣٫٥٦٩٩٤٥، على سبيل المثال. تُستخدم الرموز اليونانية عادةً في التمييز بوضوح بين
المعلمات ومتغيرات الحالات، وتفضي إعادة كتابة الخريطة اللوجيستية الكاملة باستخدام أحد
المعلمات إلى أحد أشهر نظم الديناميكيات اللاخطية، أَلَا وهي «الخريطة اللوجيستية»:
اطرح X2 من
X، ثم اضرب الناتج في
α واعتبر الناتج النهائي قيمة
X الجديدة.
في النماذج الفيزيائية، تُستخدَم المعلمات في تمثيل أشياء من قبيل درجة حرارة غليان
الماء، أو كتلة الأرض، أو سرعة الضوء، أو حتى السرعة التي «يسقط» الثلج بها في طبقات
الجو العليا. عادةً لا يلقي الإحصائيون بالًا للفرق بين المعلم والحالة، بينما يميل
الفيزيائيون إلى منح المعلمات مكانة خاصة. يعمد علماء الرياضيات التطبيقية — كما اتضح
—
في كثير من الأحيان إلى إجبار المعلمات نحو قيم كبيرة لانهائيًّا أو متناهية الصغر
لانهائيًّا؛ إذ إن دراسة تدفُّق الهواء فوق جناح طويل بصورة لا نهائية — على سبيل
المثال — تُعَدُّ أسهل. مرة أخرى، تُعتبر كل واحدة من وجهات النظر المختلفة هذه منطقيةً
في سياقها. هل نحتاج إلى حل دقيق لسؤال تقريبي، أو إجابة تقريبية لسؤال محدد؟ في النظم
اللاخطية، قد يعني هذا أشياءَ في غاية الاختلاف.
عناصر الجذب
تذكَّرْ خريطة الأرباع، آخِذًا في الاعتبار أنه بعد تكرارٍ واحدٍ كلُّ نقطة بين صفر
وواحد ستقع بين صفر و١ / ٤ وبما أن جميع النقاط بين صفر و١ / ٤ تقع أيضًا بين صفر
وواحد، لا يمكن أن تتجاوز قيمُ أيٍّ من هذه النقاط قيمًا أكثر من ١ أو أقل من صفر.
تُسمَّى النظم الديناميكية التي تتضاءل فيها القِطَع المستقيمة — في المتوسط — (أو في
الأبعاد الأكبر، المساحات والحجوم) «نُظُمًا مشتتة». متى تقوم خريطة مشتتة بتحويل حجم
فضاء الحالة تمامًا في داخله، ندرك على الفور وجود عنصر جذب دون معرفة شكله.
ومتى كانت قيمة
α أقل من ٤ أمكن إثبات أن الخريطة
اللوجيستية تتضمن عنصرَ جذبٍ من خلال رصد ما يحدث لجميع النقاط بين صفر وواحد. أكبر
قيمة
X جديدة نستطيع الحصول عليها هي أن تكون قيمة
X التكرارية تساوي ١ / ٢. (هل تستطيع أن ترى هذا في
الشكل رقم
٣-٢؟) إن القيمة الأكبر ﻟ
X تساوي
α / ٤،
وما دامت قيمة
α أقل من ٤ تكون هذه القيمة
الأكبر أقل من ١؛ وهو ما يعني أن كل نقطة بين صفر و١ تتكرر في نقطة بين صفر
و
α / ٤ ولا تبرحها أبدًا؛ لذا يجب أن يتضمن النظام
عنصرَ جذبٍ. وبالنسبة إلى قيم
α الصغيرة، تمثِّل نقطة
X التي تساوي صفرًا عنصرَ الجذب، كما هي الحال في
خريطة الأرباع تمامًا. في حين أنه إذا كانت قيمة
α أكبر
من ١، إذَن فستتحرك أي قيمة ﻟ
X قربَ الصفر بعيدًا،
وسيقع عنصر الجذب في موضع آخَر. يُعَدُّ ذلك مثالًا على البرهان غير البنَّاء حيث
نستطيع إثبات وجود عنصر جذب، لكن البرهان لا يوضِّح لنا كيفية العثور عليه، ولا يشير
أي
إشارة إلى خصائصه، وهو الأمر الذي يُعَدُّ محبطًا!
تَظهر السلاسل الزمنية المتعددة للخريطة اللوجيستية لكلٍّ من قيم
α الأربع في الشكل رقم
٣-٣. في
كل شكل، نبدأ بعدد ٥١٢ نقطة منتقاة عشوائيًّا بين صفر وواحد. وفي كل خطوة نقوم بتحريك
مجموعة النقاط بالكامل إلى الأمام زمنيًّا. في الخطوة الأولى نرى أن قيم جميع النقاط
تظل أكبر من صفر، ولكن مع التحرُّك بعيدًا عن قيمة
X
تساوي واحدًا مع عدم العودة إليها أبدًا يكون لدينا عنصر جذب. في شكل (أ) نرى قيم جميع
النقاط تقع في حلقة الدورة الأولى، وفي شكل (ب) نرى قيم جميع النقاط تقع في نطاق إحدى
النقطتَين في حلقة الدورة الثانية، وفي شكل (ﺟ) نرى قيم جميع النقاط تقع في نطاق إحدى
النقاط الأربع في حلقة الدورة الرابعة، وفي شكل (د) نرى وقوع قيم جميع النقاط، ولكن لا
يمكن تحديد الدورة بوضوح. وحتى تصبح الديناميكيات أكثر اتضاحًا، تُنتقَى إحدى نقاط
المجموعة عشوائيًّا من وسط الرسم البياني، ويتم توصيل النقاط على مسارها بخطٍّ يبدأ
منها وينطلق إلى الأمام. تبدو حلقة الدورة الأولى (شكل (أ)) خطًّا مستقيمًا، بينما
يُظهِر الشكلان (ب) و(ﺟ) المسارَين يتبادلان بين نقطتَين أو أربع نقاط، على التوالي.
وبينما يبدو شكل (د) في أول الأمر مثل حلقة الدورة الرابعة أيضًا، إلا أننا ندرك عند
تدقيق النظر وجود خيارات تزيد كثيرًا عن أربعة، وأنه على الرغم من انتظام ترتيب المرور
على مجموعات النقاط، لا يظهر نمط متكرر واضح.
بالنظر إلى نفس الظاهرة من منظور مختلف، يمكننا فحص عدد من الشروط المبدئية المختلفة
وقِيَم
α المختلفة في الوقت نفسه، مثلما يوضِّح الشكل
رقم
٤-٣. في إطار هذا العرض الثلاثي الأبعاد، يمكن رؤية الحالات الأولية مبعثرة على نحو
عشوائي على ظهر الجانب الأيسر من المربع. وعند كل عملية تكرار، تتحرك الحالات إلى
الخارج في اتجاهك وتتداعى النقاط نحو النمط الموضَّح في الشكلَين السابقَين. تظهر الحالات
العشوائية الأولية المكررة عند قيم ٠، ٢، ٨، ٣٢، ١٢٨، ٥١٢، بينما يستغرق الأمر بعض
الوقت حتى تختفي الأنماط العابرة، ويمكن رصد الأنماط المألوفة التي تظهر شيئًا فشيئًا
مع وصول الحالات إلى مقدمة المربع.
ضبط معلمات النموذج والاستقرار البنيوي
يمكننا أن نرى الآن أن أي نظام ديناميكي يتألف من ثلاثة مكونات: القاعدة الرياضية
التي تحدِّد طريقة الحصول على القيمة التالية، وقِيَم المعلمات، والحالة الحالية.
ويمكننا — بالطبع — تغيير أيٍّ من هذه الأشياء ورصد ما يترتب على ذلك، لكن من المفيد
أن
نميِّز أيَّ نوع من التغيير نُدخِله. بالمثل، ربما نحصل على رؤية أعمق حيال عدم اليقين
في أحد هذه المكونات، ومن صالحنا تجنُّب تفسير عدم اليقين في مكون واحد من خلال عزوه
على نحو خاطئ إلى مكون آخَر.
ربما يبحث الفيزيائي لدينا عن النموذج «الحقيقي»، أو عن مجرد نموذج مفيد فقط.
عمليًّا، ثَمَّةَ فن «لضبط» قِيَم المعلمات. وبينما تتطلب اللاخطية منَّا أن نعيد النظر
في طريقة إيجادنا ﻟ «قيم معلمات جيدة»، ستضطرنا الفوضى إلى إعادة تقييم ما نعنيه بكلمة
«جيدة»؛ فقد يغيِّر أي فرق صغير جدًّا في قيمة إحدى المعلمات التي لا تؤثِّر تأثيرًا
ملحوظًا على جودة التوقُّع القصير الأجل، من شكل عنصر الجذب إلى درجة لا يمكن معها
تمييزه. تُسمَّى النظم التي يحدث فيها هذا الأمر نظمًا «غير مستقرة بنيويًّا». بينما
لا
يجب أن يقلق مسئولو توقُّع حالة الطقس حيال هذا، يجب أن يشعر واضعو النماذج المناخية
بالقلق، مثلما أشار لورنز في ستينيات القرن العشرين.
نشأ قدر كبير من الحيرة من العجز عن التمييز بين عدم اليقين في الحالة الحالية، وعدم
اليقين في قيمة أحد المعلمات، وعدم اليقين فيما يتعلَّق ببنية النموذج نفسه. من الناحية
الفنية تُعَدُّ الفوضى إحدى خواص النظام الديناميكي ذي المعادلات الثابتة (البنية) وقيم
المعلمات المحددة؛ لذا فإن عدم اليقين الذي تعمل الفوضى بناءً عليه هو عدم اليقين في
الحالة الأولية. عمليًّا، تتداخل هذه الفروقات ويصبح الوضع أكثر تشويقًا وإرباكًا
بكثير.
النماذج الإحصائية للبقع الشمسية
لا توجد الفوضى إلا في النظم الحتمية فقط. لكننا إذا أردنا استيعاب أثرها على العلم،
يجب أن نراها إزاء خلفية من نماذج نظم تقليدية تصادفية طُوِّرت خلال القرن الماضي. ومتى
رأينا شيئًا متكررًا في الطبيعة، فإن أولَ ما يُطبَّق من الفرضيات فرضيةُ الحركة
الدورية، وهي فرضية قد تجعلك شخصية مشهورة، مثلما حدث في حالة مذنب هالي، وعدد وولف
للبقع الشمسية؛ ففي النهاية، يظل الاسم عالقًا عادةً حتى عندما ندرك أن الظاهرة ليست
دورية في حقيقة الأمر. حزر وولف أن الشمس تمر في دورة مقدارها حوالي ١١ عامًا في المرة
الواحدة في وقت لم يكن يمتلك سوى بيانات ٢٠ عامًا فقط. تظل الدورية مفهومًا مفيدًا على
الرغم من استحالة إثبات دورية نظام طبيعي بصرف النظر عن حجم المعلومات التي نتلقَّاها،
وهو ما ينطبق على مفهومَي الحتمية والفوضى.
أظهر السجل الشمسي ارتباطه بحالة الطقس، والنشاط الاقتصادي، والسلوك الإنساني، بل
حتى
قبل مائة عام كان من الممكن «مشاهدة» الدورة التي تستمر ١١ عامًا في حلقات جذوع
الأشجار. كيف يمكننا نمذجة دورة البقع الشمسية؟ إن نماذج البندول المتحرك بلا احتكاك
دورية بصورة مثالية، بينما الدورة الشمسية ليست مثالية. في عشرينيات القرن العشرين،
اكتشف الإحصائي الاسكتلندي أودني يول بنيةَ نموذجٍ جديدة، مدرِكًا كيفية إدخال
العشوائية في النموذج للحصول على سلوك سلاسل زمنية يبدو واقعيًّا أكثر. شبَّه يول
السلاسل الزمنية المرصودة للبقع الشمسية بتلك السلاسل الزمنية المستقاة من نموذج بندول
متضائل الخطران، بندول يتضمن احتكاكًا تستغرق دورته الحرة حوالي ١١ عامًا، وإذا ما
تُرِك هذا «البندول النموذجي» يتحرك «وحده في غرفة هادئة»، فستتلاشى السلسلة الزمنية
الناتجة تدريجيًّا حتى تنتهي. وبغية إدخال الأرقام العشوائية لضمان استمرار النموذج
الرياضي، توسَّعَ يول في هذا التشبيه مع البندول الطبيعي قائلًا: «لسوء الحظ، يدخل صبية
إلى الغرفة حاملين لعبة قذف البازلاء، ويقذفون حبات البازلاء على البندول من جميع
الجهات عشوائيًّا.» صارت النماذج التي بُنِيت على ذلك دعامة أساسية في ترسانة أسلحة
الإحصائيين؛ دعامة أساسية خطية وتصادفية. سنحدِّد فيما يلي «خريطة يول»:
خُذْ حاصلَ ضرب α في
X مضيفًا إليه قيمة
R عشوائية لتحصل على قيمة
X الجديدة، بحيث يجري انتقاء قيمة
R عشوائيًّا من منحنى التوزيع الجرسي
القياسي.
إذَن كيف يختلف هذا النموذج التصادفي عن النموذج الفوضوي؟ ثَمَّةَ اختلافان يبرزان
أمام أعين العالم الرياضي على الفور: أولهما أن نموذج يول تصادفي؛ حيث تتطلب القاعدة
مولِّد أرقام عشوائية، بينما أي نموذج فوضوي للبقع الشمسية سيكون حتميًّا بطبيعته.
والاختلاف الثاني هو أن نموذج يول خطي، وهو ما ينطوي ببساطة كبيرة على أننا لن نقوم
بعملية ضرب مركبات الحالة معًا في تعريف الخريطة؛ كما ينطوي النموذج أيضًا على إمكانية
جمع حلول النظام معًا للحصول على حلول أخرى مقبولة، وهي خاصية معروفة باسم «التراكب»،
ولا تتوافر هذه الخاصية المفيدة للغاية في النظم اللاخطية.
وضع يول نموذجًا مشابهًا لخريطة يول، وكان سلوكه مشابهًا أكثر لسلوك السلاسل الزمنية
للبقع الشمسية الحقيقية. وتختلف الدورات في نموذج يول المحسَّن قليلًا من دورة إلى
الدورة التالية نظرًا للآثار العشوائية؛ ما يشبه تفاصيل قذف حبات البازلاء. في إطار
نموذج فوضوي تختلف حالة الشمس من دورة إلى الدورة التالية. وماذا عن «القابلية للتوقع»؟
في أي نموذج فوضوي، ستتباعد جميع الحالات الأولية تقريبًا في النهاية، بينما في كل
نموذج من نماذج يول ستتقارب حتى أكثر الحالات الأولية بعدًا، «إذا» ما تعرَّضت كلتا
الحالتَين لنفس عملية الدفع من لعبة قذف البازلاء. هذا فارق شائق وجوهري نوعًا ما؛ حيث
تتباعد الحالات المتماثلة في ظل الآليات الحتمية، بينما تتقارب في ظل الآليات الخطية
التصادفية، وليس نتيجةً ذلك بالضرورة أن يكون نموذج يول أكثر يسرًا في التوقُّع، بما
أننا لا نعرف أبدًا تفاصيل عمليات الدفع العشوائية المستقبلية، بَيْدَ أنه يغيِّر
الطريقة التي يتطوَّر بها عدم اليقين في النظام، مثلما هو موضَّح في الشكل رقم
٣-٤. في هذا الشكل يبدأ عدم اليقين صغيرًا — أو يكون حتى صفريًّا في
البداية — في قاعدة المنحنى، ثم يزداد اتساعًا ويتحرك إلى اليسار مع كل تكرار. لاحظ أن
عدم اليقين في الحالة يبدو كما لو كان يقترب من توزيع منحنًى جرسي، وقد وصل إلى استقرار
بصورة أو بأخرى عند بلوغه قمة المنحنى. بمجرد استقرار عدم اليقين عند حالة استاتيكية،
لا يصبح للقابلية للتوقع أي وجود، ويُطلَق على التوزيع النهائي هذا «مناخ»
النموذج.
النظم الديناميكية الفيزيائية
لا توجد طريقة لإثبات صحة وضع «الحتمية» أو «اللاحتمية»، ونستطيع أن نقرِّر
ذلك فقط في حال إذا كان العلم كاملًا أو مستحيلًا على نحوٍ واضح.
إي ماخ (١٩٠٥)
ثَمَّةَ ما هو أكثر من النماذج الرياضية في هذا العالم. تقريبًا أي شيء نرغب في قياسه
في العالم الواقعي، أو حتى نفكِّر فقط في رصده، يمكن أن نعتبره ناجمًا عن نظام ديناميكي
فيزيائي؛ قد يكون موضع الكواكب في النظام الشمسي، أو سطح كوب من القهوة على مائدة
مهتزة، أو عدد الأسماك في بحيرة ما، أو عدد طيور الطيهوج في إحدى المزارع، أو عملة يجري
قذفها.
السلسلة الزمنية التي ننشد رصدها الآن هي حالة النظام الفيزيائي، لِنقُل على سبيل
المثال، موضع الكواكب التسعة بالنسبة إلى الشمس، أو عدد الأسماك أو طيور الطيهوج.
اختصارًا، سنستخدم رمز X مرة أخرى للإشارة إلى حالة
النظام، بينما نحاول ألا ننسى أن ثَمَّةَ اختلافًا جوهريًّا بين حالة نموذج والحالة
الحقيقية إذا كان ثَمَّةَ شيء مثل ذلك موجود على الإطلاق. ليس واضحًا كيف ترتبط هذه
المفاهيم بعضها ببعض؛ مثلما سنرى في الفصل الحادي عشر، رأى بعض الفلاسفة أن اكتشاف
الفوضى يشير بالضرورة إلى أن العالم الواقعي يجب أن يتضمن خواصَّ رياضيةً خاصة، ورأى
فلاسفة آخرون — ربما في بعض الأحيان نفس الفلاسفة — أن اكتشاف الفوضى يشير ضمنًا إلى
أن
الرياضيات لا تعبِّر عن العالم. هكذا هم الفلاسفة!
على أي حال، لا نستطيع معرفة الحالة الحقيقية لأي نظام فيزيائي، حتى إذا كان ثَمَّةَ
حالة حقيقية بالفعل. ولا نملك إلا ملاحظات، والتي سنشير إليها بالرمز
S للتمييز بينها وبين حالة النظام
X. إذَن ما هو الفرق بين
X وS؟ البطل
المجهول في العلم؛ إنه «التشويش». إن التشويش هو المادة اللاصقة التي تربط بين
التجريبيين والنظريين في تلك الحالات التي يلتقون فيها، ويمثِّل التشويش أيضًا الشحم
الذي يجعل النظريات تنساب في سلاسة فوق الحقائق المزعجة.
في الوضع المثالي الذي نعرف فيه النموذج الرياضي الذي يولِّد الملاحظات، ونعرف أيضًا
«نموذج تشويش» لأي شيء ولَّد أي نوع من التشويش، فنحن إذَن بصدد «سيناريو نموذج مثالي».
من المفيد أن نفرِّق بين نسخة قوية من سيناريو النموذج المثالي نعرف فيها قِيَم
المعلمات تحديدًا، ونسخة بسيطة لا نعرف فيها إلا الصيغ الرياضية، ويتوجب علينا حساب
قِيَم المعلمات من خلال الملاحظات. ما دمنا نسير وفق أيٍّ من سيناريوهَي النموذج المثالي،
يُحدَّد التشويش من خلال المسافة بين X وS، ومن المنطقي الإشارة إلى التشويش باعتباره
سببًا في عدم يقيننا في الحالة، بما أننا نعرف بوجود حالة حقيقية حتى إذا كنا لا نعرف
قيمتها. لا تستمر كثير من تفاصيل هذه الصورة في الظهور عندما نبرح سيناريو النموذج
المثالي. حتى في داخل سيناريو النموذج المثالي، يلعب التشويش دورًا بارزًا جديدًا بمجرد
إقرارنا بأن العالم لا خطي.
ماذا عن مفاهيم الحتمية، والعشوائية، أو حتى الدورية؟ تشير هذه المفاهيم إلى خواص
نماذجنا، ويمكننا تطبيقها في العالم الحقيقي فقط من خلال أفضل النماذج (الحالية). هل
ثَمَّةَ نظم ديناميكية فيزيائية عشوائية حقًّا؟ على الرغم من الاستخدام اليومي لقذف
العملات وقطع النرد باعتبارها مصادر «عشوائية»، فالإجابة التقليدية في الفيزياء
الكلاسيكية هي لا؛ فلا توجد عشوائية على الإطلاق. في ضوء مجموعة كاملة من القوانين ربما
(وربما لا) يكون من الصعب جدًّا بالنسبة إلينا حساب نتائج مرات قذف العملات، وقطع
النرد، وتدوير عجلة الروليت، بَيْدَ أن هذا يمثِّل مشكلةً فقط من الناحية العملية، وليس
من حيث المبدأ، ولم يكن شيطان لابلاس ليواجه أيَّ صعوبة في إجراء توقعات مثل هذه. في
المقابل، تختلف ميكانيكا الكم؛ ففي إطار نظرية ميكانيكيا الكم التقليدية، يُعتبر عمر
النصف لذرة يورانيوم كمية طبيعية وحقيقية مثل كتلة ذرة اليورانيوم. ولا يهم هنا حقيقة
أن مرات قذف العملة أو تدوير عجلة الروليت الكلاسيكية لم تتم نمذجتها على النحو الأفضل
عشوائيًّا، في ضوء ادعاءات ميكانيكا الكم المؤيدة للعشوائية والاحتمالات الموضوعية.
تتطلَّب الادعاءات مع — أو ضد — وجود احتمالات موضوعية تفسيرَ النظم الفيزيائية في إطار
نماذجنا الخاصة بتلك النظم، وهذه هي الحال دومًا. ربما تدحض نظريةٌ مستقبليةٌ ما هذه
العشوائيةَ لصالح الحتمية، بَيْدَ أننا لن نكون موجودين إلا لفترة صغيرة متضائلة. من
قبيل الاحتراز النسبي ينبغي علينا القول بأن بعض أفضل نماذجنا للواقع ستظل تتضمن عناصر
عشوائية حتى كتابة هذه الكلمات.
الملاحظات والتشويش
خلال العقود القليلة الأخيرة، كُتِب عدد هائل من الأوراق البحثية العلمية حول استخدام
سلسلة زمنية للتمييز بين النظم الحتمية والنظم التصادفية، وقد بدأ هذا السيل من البحوث
في مجال الفيزياء، ثم انتشر في مجالات الجيوفيزياء، والاقتصاد، والطب، وعلم الاجتماع،
وما هو أكثر من ذلك. استُلهِمَتْ معظم هذه الأوراق البحثية من نظرية رائعة أثبَتَها
عالم رياضيات هولندي يُدعَى فلوريس تاكنس في عام ١٩٨٣، والتي سنعود إليها في الفصل
الثامن. لماذا كُتِبت كل هذه الأوراق، مع العلم أننا لدينا قاعدة بسيطة لتحديد ما إذا
كان أيُّ نظام رياضي حتميًّا أو تصادفيًّا؟ لماذا لا نكتفي بالرجوع إلى قواعد النظام
ونرى ما إذا كان النظام يتطلَّب مولِّد أرقام عشوائية أم لا؟ كثيرًا ما يحدث خلط بين
الألعاب التي يمارسها علماء الرياضيات والقيود المفروضة على عمل علماء الطبيعة
(وغيرهم).
يحب علماء الرياضيات الحقيقيون ممارسة الألعاب العقلية، مثل التظاهر بنسيان القواعد
ثم تخمين إن كان النظام حتميًّا أو تصادفيًّا من خلال النظر إلى السلاسل الزمنية لحالات
النظام فقط. فهل يستطيعون تحديد أي نظام حتمي بوضوح في ضوء سلسلة زمنية تمتد من ماضٍ
سحيق لا نهائي إلى مستقبل بعيد لا نهائي؟ نتيجة للنقاط الثابتة وحتى الحلقات الدورية،
لا تشكِّل هذه اللعبة تحديًا بما يكفي، وحتى نجعلها أكثر تشويقًا، دعنا نعتبر أن
ثَمَّةَ تغييرًا لا نعرف فيه الحالات على وجه التحديد، لكننا لدينا إمكانية الوصول إلى
ملاحظات مشوشة S، لكل حالة X. كثيرًا ما يُعتقَد أن الحالة الأصلية
S — وإن كان ذلك مضلِّلًا بعض الشيء — ترتبط بإضافة
رقم عشوائي إلى كل قيمة X حقيقية. في تلك الحالة، لا
يؤثِّر «تشويش الملاحظة» هذا على الحالات المستقبلية للنظام، بل فقط على ملاحظاتنا لكل
حالة، وهو دور مختلف جدًّا عن ذلك الدور الذي تلعبه الأرقام العشوائية
R في النظم التصادفية، مثل خريطة يول التي كانت
قيمة R تؤثِّر فيها على المستقبل؛ حيث إنها غيَّرت قيمة X التالية. وللتأكيد على هذه التفرقة، يُطلَق على
المؤثرات العشوائية التي تؤثِّر على قيمة X التشويش
الديناميكي.
مثلما ذُكِر آنفًا، يستطيع علماء الرياضيات العمل في إطار سيناريو النموذج المثالي،
فيبدءون عملهم وهم على علمٍ بأن النموذج الذي ولَّدَ السلسلة الزمنية له نوع معيَّن من
البنية، وفي بعض الأحيان يفترضون معرفة هذه البنية (سيناريو نموذج مثالي بسيط)، وفي بعض
الأحيان يعرفون قيم المعلمات أيضًا (سيناريو نموذج مثالي قوي). يولِّد علماء الرياضيات
سلسلة زمنية من X، ومنها سلسلة زمنية من
S، ثم يتظاهرون بنسيانهم قيم
X ويرصدون ما إذا كانوا يستطيعون استنتاجها، أو
يتظاهرون بنسيان النظام الرياضي ليرَوْا إن كان بإمكانهم — عند معرفة قيمة
S فقط — تحديد النظام فضلًا عن قيم معلماته، أو
تحديد إن كان النظام فوضويًّا، أو توقُّع قيمة X
التالية.
عند هذه النقطة، يجب أن يكون تحديد مسار اللعبة أمرًا يسيرًا للغاية. يحاول علماء
الرياضيات محاكاة الموقف الذي لا يستطيع علماء الطبيعة الفكاك منه أبدًا. «لا» يعرف
الفيزيائيون، وعلماء الأرض، والاقتصاديون، والعلماء الآخَرون القاعدةَ، قوانين الطبيعة
الكاملة، المتعلقة بالنظم الفيزيائية للدراسة العلمية. والملاحظات العلمية غير كاملة.
ربما تتسم دومًا بعدم يقينها بسبب تشويش الملاحظة، على أن ذلك ليس نهاية المطاف، وربما
تكمن الخطيئة الكبرى في الخلط بين الملاحظات الحقيقية والملاحظات في هذه الألعاب
الرياضية.
يُضطر عالِم الفيزياء إلى ممارسة لعبة مختلفة؛ فبينما يحاول الإجابة عن الأسئلة
نفسها، لا يحصل إلا على سلسلة زمنية من الملاحظات — S —
وبعض المعلومات المتعلقة بإحصاءات التشويش في الملاحظات، و«الأمل» في وجود خريطة رياضية
ما. لا يستطيع الفيزيائيون التأكد على الإطلاق مما إذا كانت مثل هذه البنية موجودة أم
لا، ولا يستطيعون حتى التأكد مما إذا كان متغير حالة النموذج
X ينطوي حقيقةً على أيِّ معنًى مادي. إذا كان
X هو عدد الأرانب في حديقة حقيقية، يصعب إذَن
تصوُّر عدم وجود X؛ إذ إن
X هي مجرد رقمٍ ما صحيح. ولكن، ماذا عن متغيرات
النماذج مثل سرعة الرياح أو درجة الحرارة؟ هل ثَمَّةَ أرقام حقيقية تتواءم مع تلك
المركبات في متجِه حالتنا؟ وإذا لم تكن هذه الأرقام موجودة، فأين ينفصم التواؤم بين
الأرانب وسرعة الرياح؟
يهتم الفيلسوف لدينا بهذه الأسئلة اهتمامًا كبيرًا، ويجب أن نهتمَّ بها نحن أيضًا.
لوفيريه — العالم الفرنسي الذي عمل مع فيتزروي لوضع أول نظام إنذار مبكر لتوقع حالة
الطقس — مات مشهورًا لاكتشافه كوكبين. استخدم لوفيريه قوانين نيوتن في توقع موقع كوكب
نبتون بناءً على «حالات شذوذ» في السلسلة الزمنية المرصودة في مدار كوكب أورانوس، وجرى
رصد ذلك الكوكب على نحو وافٍ. حلَّل لوفيريه أيضًا «حالات الشذوذ» في مدار كوكب عطارد،
ومرة أخرى أشار إلى الراصدين بموضع كوكب جديد، وهو ما وجدوه حقيقةً. كان الكوكب الجديد،
الذي أطلق عليه اسم فولكان، قريبًا جدًّا من الشمس وتصعُب رؤيته، لكنه ظل تحت الرصد
لعقود. نعرف الآن أنه ليس ثَمَّةَ كوكب يُسمَّى فولكان؛ خُدِع لوفيريه بسبب عجز قوانين
نيوتن عن وصف مدار كوكب عطارد جيدًا (على الرغم من توصيف قوانين أينشتاين له بصورة
أفضل). كم مرة ألقينا باللائمة على عدم التوافق بين نماذجنا وبياناتنا عن التشويش، في
حين يرجع السبب الجذري في حقيقة الأمر إلى عدم ملاءمة النماذج؟ تجري أكثر الأشياء
تشويقًا في العلم على التخوم، سواءٌ أدرك العلماء ذلك أم لا. لا نعرف على وجه التحديد
إن كانت القوانين الحالية صالحة للتطبيق على تخوم العلم أم لا، ويعتبر علم المناخ
الحديث مثالًا طيبًا على العمل الشاق الذي يجري على تخوم فهمنا.
بيَّنَتْ دراسة الفوضى أهمية التمييز بين مسألتَين مختلفتَين، إحداهما آثار عدم اليقين
على الحالة أو المعلمات، والأخرى عدم ملاءمة نماذجنا الرياضية نفسها. يستطيع علماء
الرياضيات ممَّنْ يعملون في إطار سيناريو النموذج المثالي تحقيق تقدُّم من خلال التظاهر
بأنهم لا يحرزون أي تقدُّم، بينما قد يتسبَّب العلماء الذين يتظاهرون — أو يعتقدون —
بأنهم يعملون في إطار سيناريو نموذج مثالي، في حين أنهم ليسوا كذلك في ضرر بالغ، خاصةً
إذا كانت نماذجهم تُؤخَذ على نحو ساذج كأساس لعملية اتخاذ القرار. الحقيقة الواضحة هنا
هي أننا لا نستطيع تطبيق معايير البرهان الرياضي على النظم الفيزيائية، بل على نماذجنا
الرياضية للنظم الفيزيائية فقط. يستحيل إثبات فوضوية نظام فيزيائي، أو دوريته. يجب أن
يتذكَّر الفيزيائي والرياضي لدينا دومًا أنهما في بعض الأحيان يستخدمان الكلمات نفسها
للإشارة إلى أشياء مختلفة نوعًا ما، وهما بفعل ذلك يواجهان بعضَ الصعوبة عادةً ويشعران
بقدر هائل من المرارة. يشير تعليق ماخ السابق إلى أن هذا الأمر ليس شيئًا
جديدًا.