الفوضى في النماذج الرياضية
سنصبح أفضل حالًا إذا أدرك عدد أكثر من الأشخاص أن النظم اللاخطية البسيطة لا تمتلك بالضرورة خواصَّ ديناميكية بسيطة.
يعرض هذا الفصل لمسح موجز جدًّا للنماذج الرياضية الفوضوية من علم الحيوان إلى علم الفلك. مثل أي غزو ثقافي، كانت النماذج الحتمية اللاخطية ذات الاعتماد الحساس تَلقى ترحيبًا في بعض الأحيان، ولا تلقاه في أحيان أخرى. وقد لقيت ترحيبًا بانتظام في الفيزياء حيث كان التحقُّق التجريبي من نبوءاتها العلمية — مثلما سنرى — مذهلًا بكل معنى الكلمة. في مجالات أخرى، بما في ذلك مجال علم أحياء السكان، لا تزال علاقة الفوضى به محلَّ تساؤل، غير أن علماء أحياء السكان كانوا هم مَن طرحوا بدايات النماذج الفوضوية قبل عقد من ظهور نماذج علماء الفلك وعلماء الأرصاد الجوية في المشهد. وقد تجدَّد الاهتمام بهذه الجهود في عام ١٩٧٦ من خلال مقالة بحثية نقدية واسعة التأثير والانتشار في مجلة «نيتشر». وسنبدأ بالاستبصارات الأساسية التي نوَّهت عنها تلك المقالة.
أخطاء ماي العزيزة
لطالما كانت التعدادات المتذبذبة بصورة غير منتظمة تُرصَد منذ وقت طويل، وكان الباحثون قد اختلفوا طويلًا حول أصولها. تُعتبر السلاسل الزمنية للوشق الكندي وفئران الحقول الاسكندنافية واليابانية، فضلًا عن سلاسل البقع الشمسية، من بين أكثر مجموعات البيانات تحليلًا في جميع الإحصاءات. وقد جاءت فكرة أن النماذج اللاخطية البسيطة للغاية قد تُظهِر تذبذبات غير منتظمة على هذا النحو لتقترح آلية محتملة جديدة لتذبذبات التعداد الحقيقية؛ وهي آلية كانت تتعارض مع الفكرة القائلة بأن التعدادات «الطبيعية» يجب أن تحتفظ بمستوًى ثابت أو دورة متكررة منتظمة. تنطوي فكرة عدم حاجة هذه التذبذبات التي «تبدو» عشوائية إلى أن تستحثها بعض القوى الخارجية مثل الطقس — ولكنها قد تكون متأصلة في الديناميكيات السكانية الطبيعية — على إمكانية تغيير محاولات فهم وإدارة المجموعات السكانية على نحوٍ جذريٍّ. وبينما يشير ماي إلى أن «استبدال المعلمات السلبية بتفاعلات إحدى الجماعات السكانية مع بيئتها البيولوجية والطبيعية قد يفضي إلى إلحاق ضرر هائل بالواقع»، قدَّم ماي عرضًا للسلوكيات الشائقة في الخريطة اللوجيستية. تنتهي المقالة «برجاء يملؤه الحماس والحرارة لإدراج هذه المعادلات الفرقية في مقررات الرياضيات الأساسية، بحيث يُثرَى حدس الطلاب من خلال رؤيتهم للأشياء الرائعة التي تستطيع المعادلات اللاخطية البسيطة تنفيذها.» تعود هذه العبارة إلى ثلاثة عقود مضت.
العمومية: توقُّع مسارات إلى الفوضى
سيكون من قبيل المغالاة أن نتوقع أن يدلنا شيء بسيط مثل الخريطة اللوجيستية على أي شيء حيال سلوك عنصر الهليوم في صورته السائلة، بَيْدَ أن الخريطة تفعل ذلك. لا تُظهر بدايةُ سلوك معقد فحسب مؤشرًا نوعيًّا على تضاعف الدورة، بل تتفق القيم الكمية الفعلية لأرقام فايجنباوم التي جرى حسابها من خلال تجارب عديدة بصورة لافتة مع تلك القيم المحسوبة باستخدام الخريطة اللوجيستية. الكثير من النظم الفيزيائية يُظهِر هذا «المسار المتضاعف الدورة إلى الفوضى»، كما نرى في ديناميكا الموائع (الماء، والزئبق، وسائل الهليوم)، والليزر، والإلكترونيات (الديودات، وأجهزة الترانزستور)، والتفاعلات الكيميائية (تفاعل بي زد). يمكن للمرء تقدير قيمة رقم فايجنباوم بدقة خانتين في التجارب، وهو ما يمثِّل أحد أكثر النتائج إدهاشًا في هذه المقدمة عن نظرية الفوضى. كيف يمكن أن تمنحنا العملياتُ الحسابية البسيطة باستخدام الخريطة اللوجيستية معلوماتٍ ذاتَ صلة بكل هذه النظم الفيزيائية؟
أصل المصطلح الرياضي «الفوضى»
في عام ١٩٦٤ أثبت عالم الرياضيات الروسي إيه إن شاركوفسكي نظرية لافتةً حول الأنماط السلوكية للعديد من خرائط «المنحنى الواحد»، أَلَا وهي أن اكتشاف وجود حلقة دورية واحدة يشير إلى وجود حلقات أخرى، وربما تكون كثيرة. كان اكتشاف وجود حلقة الدورة ١٦ لقيمة محددة للمعلم يشير ضمنًا إلى وجود حلقات دورة ثامنة، ورابعة، وثانية، وأولى عند تلك القيمة، بينما كان يعني اكتشاف حلقة دورة ثالثة وجود حلقة لكلِّ دورة محتملة! وهو ما يُعتبر دليلًا آخَر غير بنَّاء؛ فهو لا يدلنا على موضع تلك الحلقات ولكنه في النهاية يُعَدُّ نتيجةً متقنة تمامًا. بعد أحد عشر عامًا من عمل شاركوفسكي، نشر لي ويورك ورقتهما البحثية الواسعة التأثير تحت عنوان رائع: «الدورة الثالثة تستلزم الفوضى». ومن وقتها ظهر مصطلح «الفوضى» واستقر في الأذهان.
النظم الرياضية المتعددة الأبعاد
كانت معظم حالات نماذجنا حتى الآن تتألف من مركبة واحدة فقط. ويُعتبر نموذج فئران الحقول وابن عرس استثناءً؛ حيث إن الحالة تتكون من رقمين؛ أحدهما يعكس تعداد الفئران، والآخَر تعداد ابن عرس. وفي هذه الحالة تُعتبر الحالة متجهًا. يُطلِق علماء الرياضيات على عدد المركبات في الحالة «بُعد» النظام؛ حيث إن رسم متجهات الحالة سيتطلَّب فضاء حالة يمتلك هذا البُعد.
الفوضى المشتتة
معادلات التأخير والأوبئة والتشخيصات الطبية
ثَمَّةَ مجموعة أخرى من النماذج الشائقة تتمثل في معادلات التأخير. هنا، تلعب الحالةُ الحالية وحالةٌ ما في الماضي (حالة التأخير) دورًا مباشرًا في الديناميكيات. تشيع هذه النماذج في النظم البيولوجية، وقد تُقدِّم استبصارًا في الأمراض المتأرجحة مثل مرض سرطان الدم. في كمية الدم المتدفقة، يعتمد عدد الخلايا المتوافرة غدًا على عدد الخلايا المتوافرة اليوم، وعلى عدد الخلايا الجديدة التي يكتمل نموها اليوم. يحدث التأخير من جرَّاء فجوة زمنية بين وقت طلب هذه الخلايا الجديدة ووقت نضوجها، ويعتمد عدد الخلايا التي تنضج اليوم على عدد خلايا الدم في وقت ما في الماضي. ثَمَّةَ أمراض أخرى كثيرة تتضمن هذه الديناميكية المتأرجحة، وتُعتبر دراسة الفوضى في معادلات التأخير شائقة ومثمرة للغاية.
نترك الحديث عن النماذج الرياضية لفقرة واحدة لنشير إلى أن البحوث الطبية تمثِّل مجالًا آخَر تُستخدم فيه الاستبصارات المستقاة من نماذجنا الرياضية في النظم الحقيقية. توصَّلت البحوث التي أجراها مايك ماكي في جامعة ماكجيل بالاشتراك مع آخَرين حول معادلات التأخير إلى علاج مرض متأرجح واحد على الأقل، كما أفضت دراسة الديناميكيات اللاخطية أيضًا إلى استبصارات في تطور الأمراض التي تتأرجح الإصابة بها في مجموعة سكانية معينة، وليس في فرد واحد. يمكن مقارنة نماذجنا مع الواقع في دراسة مرض الحصبة، حيث يمكن بحث الديناميكيات في الزمن والفضاء على نحوٍ مُثمِر للغاية. كما أفضى تحليل السلاسل الزمنية الفوضوية أيضًا إلى ظهور طرق خلَّاقة لرصد سلاسل زمنية طبية معقَّدَة، بما في ذلك سلاسل الدماغ (تخطيط كهربائية الدماغ) والقلب (مخطط كهربائية القلب)، ولا يعني هذا أن تلك الظواهر الطبية في العالم الواقعي فوضوية، أو حتى تُوصَف على النحو الأمثل من خلال نماذج فوضوية؛ إذ إن طرق التحليل المستخدمة في تحليل الفوضى قد تتضح قيمتها عمليًّا بصرف النظر عن طبيعة الديناميكيات الكامنة في النظم الواقعية التي تُولِّد الإشارات التي يجري تحليلها.
الفوضى الهاملتونية
استغلال استبصارات الفوضى
في فترة السنوات الثلاث بين عامَي ١٩٦٣ و١٩٦٥، نُشِرت ثلاث أوراق بحثية منفصلة (من تأليف لورنز، ومور وشبيجل، وإينو وهايلس)، استخدمت كلٌّ منها الحاسوب الرقمي لطرح ما صار يُطلَق عليه بعدها «الديناميكيات الفوضوية». في اليابان، تمكَّنَ يوشيسكي ويدا من رصد الفوضى في تجارب تعتمد على حاسوب تناظري، وكان علماء الرياضيات الروس يعملون على تطوير الأسس التي توصَّلَ إليها علماء الرياضيات حول العالم قبل أكثر من قرن من الزمان. بعد ذلك بخمسين عامًا تقريبًا، ظللنا نكتشف — وما زلنا — طرقًا جديدة لاستغلال هذه الاستبصارات.
ماذا يحدُّ من القابلية لتوقُّع الكسوف الشمسي المستقبلي؟ هل يرجع هذا إلى عدم اليقين في معرفتنا للمدارات الكوكبية نظرًا للدقة المحدودة في طرق قياسنا الحالية؟ أم إلى التباينات المستقبلية في طول اليوم الذي يغيِّر الموضع على سطح الأرض الذي يتعرَّض للكسوف؟ أم إلى عجز معادلات نيوتن نظرًا لوجود مؤثرات تُوصَّف (بصورة أفضل) من خلال النظرية النسبية العامة؟ نعرف أن القمر يتحرك بعيدًا في بطء عن الأرض، وبافتراض استمرار ذلك، سيبدو في النهاية أصغر كثيرًا مما هو عليه الآن، حتى إنه لن يستطيع حجب الشمس بالكامل. في تلك الحالة، سيكون ثَمَّةَ كسوف كلي أخير للشمس، فهل يمكن أن نتوقَّع متى سيقع هذا الحدث؟ وأين يجب أن نكون على سطح الأرض لرؤية هذا الكسوف — آخذًا في الاعتبار حالة الطقس؟ لا نعرف الإجابة عن هذا السؤال، مثلما لا نعرف — على وجه التحديد — إن كان النظام الشمسي مستقرًّا أم لا. كان نيوتن مُدرِكًا تمامًا للصعوبات التي كانت السلوكيات اللاخطية تشكِّلها في سبيل تحديد درجة الاستقرار القصوى لثلاثة أجسام سماوية فقط، وأشار إلى أن ضمان تحقُّق استقرار النظام الشمسي كان مهمة الرب. من خلال فهم أنواع المدارات الفوضوية التي تسمح بها النظم الهاملتونية، عرفنا أشياءَ كثيرةً عن الاستقرار النهائي للنظام الشمسي. وأفضل توقعاتنا حاليًّا هو أن نظامنا الشمسي مستقر، على الأرجح. تتأتى استبصارات مثل هذه من خلال فهم هندسة الأشكال في فضاء الحالة، وليس من خلال محاولة إجراء عمليات حسابية مفصلة تعتمد على الأرصاد الجوية.
هل يمكن أن نستقيَ استبصارات على نحوٍ آمِن من السلوك الرياضي للنظم القليلة الأبعاد؟ تشير هذه النظم إلى ظواهر جديدة تُكتشَف من خلال التجارب، مثل التضاعف الدوري، أو تشير إلى ثوابت جديدة تُحسَب في الطبيعة، مثل رقم فايجنباوم. تمثِّل هذه النظم البسيطة أيضًا مواضع اختبار لأساليب توقعاتنا، وهو أمر خطير إلى حدٍّ ما؛ فهل ظواهر النظم الفوضوية القليلة الأبعاد هي الظواهر نفسها التي نرصدها في النماذج الأكثر تعقيدًا؟ وهل هذه الظواهر شائعة للغاية بحيث إنها تحدث «حتى في» النظم البسيطة القليلة الأبعاد مثل نظام لورنز لعام ١٩٦٣ أو نظام مور-شبيجل؟ أم إن هذه الظواهر ترجع إلى بساطة هذه الأمثلة؟ وهل تحدث هذه الظواهر «فقط في» النظم الرياضية البسيطة؟ تنطبق مسألة «حتى في» أو «فقط في» نفسها على الأساليب المطورة لتوقع النظم الفوضوية أو التحكم فيها، والتي يجري اختبارها في النظم القليلة الأبعاد. هل تحدث هذه الأشياء «حتى في» أو «فقط في» النظم القليلة الأبعاد؟ الإجابة الأقوى حتى الآن هي أن الصعوبات التي نحدِّدها في النظم القليلة الأبعاد نادرًا ما تختفي في النظم المتعددة الأبعاد، بينما الحلول الناجحة لهذه الصعوبات والتي تصلح في حالة النظم القليلة الأبعاد تثبت فشلها في النظم المتعددة الأبعاد. مع إدراكه لحجم خطر المجازفة في التعميم انطلاقًا من نظم ثلاثية الأبعاد، انتقل لورنز إلى نظام يتضمن ٢٨ بُعدًا قبل حوالي ٥٠ عامًا، ولا يزال يضع نظمًا جديدةً اليوم، بعضها يتضمن بُعدَين وبعضها يتضمن ٢٠٠ بُعد.
تؤثِّر الفوضى واللاخطية على مجالات كثيرة. ربما يتمثَّل الاستبصار الأعمق المستخلص هنا في أن الحلول التي تبدو معقدة تكون مقبولة في بعض الأحيان، وليس من الضروري أن تكون بسبب أي تشويش ديناميكي خارجي. لا يشير هذا ضمنًا إلى أن هذه الحلول — في أي حالة بعينها — لا ترجع إلى تشويش خارجي، مثلما لا يقلل من القيمة العملية للنمذجة الإحصائية التصادفية، وهي التي تتمتع بخبرة وممارسة إحصائية جيدة ترجع إلى قرن تقريبًا. ولكنه يشير إلى القيمة المتضمنة في تطوير اختبارات لأي أساليب مستخدمة في تطبيق معين، وفي اختبارات التوافق لجميع أساليب النمذجة المتبعة. يجب أن تكون نماذجنا خاليةً من القيود قدر الإمكان، لكن ليس أكثر مما ينبغي. ربما يكمن الأثر الدائم لهذه النظم البسيطة في قيمتها التعليمية؛ حيث يمكن أن يتعرَّف الشباب على السلوكيات الثرية لهذه النظم البسيطة في وقت مبكر من فترة تعليمهم. من خلال اشتراط التوافق الداخلي، تقيِّد الرياضيات جموح خيالاتنا في تصوير المجازات، ليس لجعلها متسقة مع الواقع الفيزيائي، ولكن لفتح آفاق جديدة في كثير من الأحيان.