الأعداد الحقيقية والملاحظات الحقيقية والحواسب
يحدد الرياضي الأرقام غير النسبية بحرص بالغ. لا يصادف الفيزيائي هذه الأرقام على الإطلاق … ينتفض الرياضي خوفًا عند مواجهة عدم اليقين، ويحاول تجاهل الأخطاء التجريبية.
في هذا الفصل نبحث العلاقة بين الأعداد في نماذجنا الرياضية، والأعداد التي نلاحظها عند إجراء قياسات في العالم الحقيقي، والأعداد المستخدَمة في حاسوب رقمي. ساهمت دراسة الفوضى في توضيح أهمية التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة من الأعداد. ماذا نعني بوجود أشكال مختلفة من العدد الواحد؟
الأعداد الكاملة صحيحة. تكون قياسات أشياء مثل «عدد الأرانب في حديقتي» على هيئة أعداد صحيحة بصورة طبيعية، ويستطيع الحاسوب إجراء عمليات حسابية مثالية باستخدام أعداد صحيحة ما دامت لا تزيد أكثر مما ينبغي. ولكن ماذا عن أشياء مثل «طول هذه المائدة»، أو «درجة حرارة مطار هيثرو؟» يبدو أن هذه الأشياء يجب ألا تُعبِّر عنها أعداد صحيحة، ومن الطبيعي تَصَوُّر تمثيلها بأعداد حقيقية، أعداد يمكن أن تتضمن سلسلة طويلة لا نهائية من أعداد إلى يمين العلامة العشرية، أو وحدات بيانات إلى يمين العلامة الثنائية. يرجع الخلاف حول ما إذا كانت هذه الأعداد الحقيقية موجودة أم لا في العالم الواقعي إلى العصور القديمة. إلا أنه ثَمَّةَ أمر واضح، أَلَا وهو أننا عندما «نأخذ بيانات»، فإننا «نحتفظ» بالقيم الصحيحة فقط؛ فمثلًا إذا قسنا «طول هذه المائدة» ودوَّنَّاه كالآتي: ١٫٣٧٠، فلا يبدو قياس الطول رقمًا صحيحًا من النظرة الأولى، إلا أنه يمكننا تحويله إلى رقم صحيح بضربه في ١٠٠٠، ومتى استطعنا قياس أي كمية مثل الطول أو درجة الحرارة بدقة محدودة — وهي الحال دومًا عمليًّا — يمكن تمثيل قياسنا في صورة رقم صحيح. وفي حقيقة الأمر، تُجرَى قياساتنا حاليًّا ودومًا تقريبًا على هذا النحو؛ إذ إننا نجريها ونعالجها باستخدام حاسوب رقمي، وهو الذي يخزِّن الأعداد «دومًا» في صورة أعداد صحيحة، وهو ما يشير إلى وجود نوع من الانفصال بين فكرتنا المادية حول الطول وقياساتنا للطول، وثَمَّةَ انفصال مشابه بين نماذجنا الرياضية، التي تتعامل مع الأعداد الحقيقية، ونظائرها الحاسوبية، التي لا تتعامل إلا مع الأعداد الصحيحة فقط.
بالطبع لن يقول عالم فيزياء حقيقي إن طول المائدة كان يبلغ ١٫٣٧٠، بل سيقول شيئًا آخَر من قبيل أن الطول كان يبلغ ١٫٣٧٠ بزيادة أو نقصان ٠٫٠٠٥، بهدف تحديد عدم يقينه الذي يرجع إلى التشويش. ينطوي هذا على نموذج للتشويش. تُعتبر الأعداد العشوائية المستقاة من المنحنى الجرسي بلا شكٍّ أكثرَ نماذج التشويش شيوعًا. ويتعلم المرء إدراج أشياء من قبيل «بزيادة أو نقصان ٠٫٠٠٥» بغرض النجاح في مقررات العلوم المدرسية، وهو ما يُنظَر إليه عادةً باعتباره أمرًا مزعجًا، لكن ماذا يعني هذا حقًّا؟ ما هي الأشياء التي تقيسها مقاييسنا؟ هل ثَمَّةَ رقم دقيق يماثل الطول الحقيقي للمائدة أو درجة الحرارة الحقيقية في المطار، لكن شوش عليها التشويش وجرى قطعها عند تسجيلها؟ أو هل الأمر محض خيال، ولا يُعتبر الاعتقاد بضرورة وجود عدد دقيق سوى اختلاق علمي؟ أوضحت دراسة الفوضى دور عدم اليقين والتشويش في تقييم نظرياتنا من خلال الإشارة إلى طرق جديدة لبحث إن كانت هذه القيم الحقيقية موجودة أم لا. سنفترض في الوقت الحالي وجود القيمة الحقيقية، وأننا فقط لا نستطيع رؤيتها.
الملاحظات الحقيقية
إذَن، ما هي الملاحظة تحديدًا؟ تذكَّرْ أول سلسلة زمنية، وهي التي كانت تتألف من أعداد شهرية للأرانب في حديقة فيبوناتشي الخيالية. في تلك الحالة، كنا نعرف العدد الإجمالي للأرانب في الحديقة. ولكن في معظم دراسات الديناميكيات السكانية لا نمتلك مثل هذه المعلومات الكاملة. هَبْ على سبيل المثال أننا ندرس مجموعة من فئران الحقول في فنلندا؛ ننصب شِرَاكنا، ونفحصها يوميًّا، ونطلق سراح الفئران المأسورة، وندوِّن سلسلة زمنية يومية بعدد الفئران التي وقعت في الشراك. يرتبط هذا العدد إلى حدٍّ ما بعدد الفئران لكلِّ كيلومتر مربع في فنلندا، لكن كيف يرتبطان على وجه التحديد؟ هَبْ أننا رصدنا اليوم عدد صفر من الفئران في شَرَكنا، فماذا يعني هذا «الصفر»؟ هل يعني عدم وجود أي فئران في هذه الغابة؟ أم عدم وجود أي فئران في الدول الاسكندنافية؟ هل انقرضت الفئران؟ ربما يشير الصفر في شَرَكنا إلى أيٍّ من هذه الأشياء أو لا يشير إلى أيٍّ منها، وهو ما يشير إلى نوعين متمايزين من عدم اليقين يجب أن نتعامل معهما عندما نربط بين مقاييسنا ونماذجنا. النوع الأول من حالتَيْ عدم اليقين هو التشويش الذي تتعرض له الملاحظات البسيطة، ومثال ذلك هو الخطأ في تعداد الفئران في الشَّرَك، أو اكتشاف امتلاء الشَّرَك، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالية إمكانية عدِّ المزيد من الفئران في ذلك اليوم حال استخدامنا لشَرَك أكبر. يُطلَق على النوع الثاني من حالتَيْ عدم اليقين «خطأ التمثيل». تتعامل نماذجنا مع كثافة المجموعة السكانية لكل كيلومتر مربع، بَيْدَ أننا نقيس عدد الفئران في أحد الشراك؛ لذا لا يمثِّل قياسنا المتغير الذي تستخدمه نماذجنا. هل يمثِّل هذا أحد أوجه القصور في النموذج أو القياس؟
إذا قمنا بإدخال العدد الخاطئ إلى نموذجنا، يمكننا توقُّع الحصول على العدد الخاطئ؛ فما يدخل خطأً يخرج خطأً. يبدو أن نماذجنا تتطلب «نوعًا» واحدًا من الأعداد، بينما تُقدِّم ملاحظاتنا نسخة مشوشة من نوع آخَر من الأعداد. في حالة توقُّع حالة الطقس حيث يُعتقَد أن تكون متغيراتنا المستهدفة — مثل درجة الحرارة، والضغط، والرطوبة — أعدادًا حقيقية، لا يمكن أن نتوقع أن تعكس ملاحظاتنا القيم الحقيقية على وجه الدقة، وهو ما قد يشير إلى أننا ربما نبحث عن نماذج ذات ديناميكيات «متوافقة» مع ملاحظاتنا، بدلًا من اعتبار أن ملاحظاتنا وحالات نماذجنا تمثِّلان، بصورة أو بأخرى، الشيءَ نفسه ومحاولة قياس المسافة بين حالةٍ ما مستقبليةٍ لنموذجنا والملاحظة المستهدفة المماثلة. إن هدف التوقع في النظم الخطية هو تقليص هذه المسافة؛ أي تقليص خطأ التوقع. عند إجراء توقع في النظم اللاخطية يصير من المهم التمييز بين أشياء متنوعة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذه الكمية، بما في ذلك حالات عدم اليقين في الملاحظة، والتقطع في القياس، والفرق بين نماذجنا الرياضية، ونماذج المحاكاة الحاسوبية لها، وأيًّا ما كان ما تولد عنه في حقيقة الأمر تلك البيانات. نستعرض أولًا ما يحدث عندما نحاول إدخال الديناميكيات إلى الحاسوب الرقمي.
الحاسوب والفوضى
تذكَّرْ أن اشتراطاتنا الثلاثة لأي نظام فوضوي رياضي كانت: الحتمية، والاعتماد الحساس، والتكرار. النماذج الحاسوبية حتمية إلى حدٍّ مبالغ فيه. يعكس الاعتماد الحساس ديناميكيات لا متناهية الصغر، بَيْدَ أنه في أي حاسوب رقمي ثَمَّةَ حد لمدى تقارب عددين، بعده لا يستطيع الحاسوب تمييز أي فارق على الإطلاق، ويتعامل معهما باعتبارهما عددًا واحدًا. وإذا لم توجد قيم لا متناهية الصغر، فلا يوجد سلوك رياضي فوضوي. ثَمَّةَ سبب ثانٍ في أن الحاسوب لا يستطيع التعبير عن الفوضى، ينشأ من حقيقة أن ثَمَّةَ حيزًا محدودًا من الذاكرة في أي حاسوب رقمي؛ فكل حاسوب لديه عدد محدود من وحدات البيانات، ومن ثَمَّ عدد محدود فقط من الحالات الداخلية المختلفة؛ لذا يعود الحاسوب حتمًا في النهاية إلى حالةٍ كان موجودًا فيها بالفعل، بعدها، وبسبب حتميته، سيكرر الحاسوب سلوكه السابق مرارًا وتكرارًا إلى الأبد، وهو مآل لا يمكن تفاديه، إلا إذا تدخلت قوة ما أخرى إنسانية أو خارجية، في الديناميكية الطبيعية للحاسوب الرقمي ذاته. فيما يلي صورة لحيلة بسيطة للعبة الورق توضح هذه النقطة على نحو رائع.
خدع لعبة الورق وبرامج الحاسوب
ما علاقة هذا بالحاسوب؟ الحاسوب الرقمي ماكينة حالة محدودة، وثَمَّةَ عدد محدود من وحدات البيانات في الحاسوب تحدد حالته الحالية. وقد شُفِّرت في الحالة الحالية للماكينة القاعدة التي تحدد أي حالة تأتي تالية؛ ففي لعبة الورق كان ثَمَّةَ عشر قيم محتملة عند كل موضع، فإذا تقدَّمَ لاعبان لديهما ورقتان مختلفتان إلى اختيار نفس الورقة، فستظل أوراقهما متطابقة من تلك اللحظة فصاعدًا. دون توخي المرء الحرص البالغ، قد تنهار الحالات المتقاربة في الحاسوب على النحو ذاته. يمتلك الحاسوب الحديث خيارات أكثر، لكنها خيارات محدودة؛ لذا في نهاية المطاف سيبلغ الحاسوب تهيئة (حالة داخلية) كان قد بلغها من قبلُ، وبعد حدوث هذا سيدور الحاسوب في الحلقة ذاتها إلى الأبد. تعمل خدعة لعبة الورق على ذات المنوال؛ إذ يبدأ جميع اللاعبين برقمهم الأوليِّ، ثم يقومون بالتحديث والانتقال إلى قيمة أخرى، ولكن بمجرد تقارب مسارين من هذه المسارات عند الورقة ذاتها، يتلازمان إلى الأبد. بالنسبة إلى الأوراق الموجودة على المائدة، سيصل الجميع إلى ورقة جاك القلوب، ولن يصل أحد إلى ورقة آس البستوني إلا إذا بدءوا اللعب منها. للتأكد من هذا، جَرِّب البَدء بكل قيمة. إذا اخترت واحدًا، تصل إلى ستة، ثم أربعة، ثم ورقة جاك؛ وإذا اخترت اثنين تصل إلى خمسة ثم أربعة ثم ورقة جاك؛ وإذا اخترت ثلاثة تصل إلى ثلاثة، والآس، وأربعة، وجاك؛ وإذا اخترت أربعة، تصل إلى اثنين، والآس، وأربعة، وجاك؛ وإذا اخترت خمسة، تصل إلى ستة وجاك؛ وإذا اخترت ستة، تصل إلى الآس، وأربعة، وجاك؛ وإذا اخترت سبعة، تصل إلى أربعة وجاك؛ وإذا اخترت ثمانية، تصل إلى الآس، واثنين، وجاك. تفضي جميع القيم إلى ورقة جاك. ضَعِ الأوراق في دائرة فيصبح لدينا ماكينة حالة محدودة لا بد أن تفضي كل قيمة أولية فيها إلى حلقة متكررة، لكن ربما يكون ثَمَّةَ أكثر من حلقة واحدة.
بعرض الأوراق على شاشة، يمكن استخدام هذا المثال أمام جمهور واسع. اختر رقمًا بنفسك ثم وزِّع الأوراق حتى تتأكَّد من أن الجميع قد تقاربوا، ثم سَلِ الجمهور أن يرفع يدَه كلُّ من كان لديه — في هذه الحالة — ورقة جاك القلوب. ستجد أن ثَمَّةَ نظرة دهشة على وجوه الحاضرين عندما يدركون أنهم جميعًا يحملون الورقة نفسها. سيكون هناك تقارب أسرع لدى اللاعبين إذا جرى قصر الأوراق الموزَّعة على القيم الصغيرة. إذا كنت راغبًا في رص مجموعة الأوراق للوصول إلى تقارب أسرع، فأي ترتيب ستضع الأوراق فيه؟
ظلال الواقع
الواقع هو الذي — عندما نتوقف عن الإيمان به — لا يتلاشى.
يجد الفيلسوف والفيزيائي لدينا هذه النتائج مزعجة. إذا كان الحاسوب لا يستطيع أن يعكس نماذجنا الرياضية، فكيف يمكن أن نقرِّر إن كانت النماذج الرياضية تعكس الواقع أم لا؟ إذا لم يستطع الحاسوب التعرُّف على نظام رياضي في مثل بساطة الخريطة اللوجيستية، فكيف لنا أن نقيِّم النظرية الكامنة وراء نماذج الطقس والمناخ الأكثر تعقيدًا؟ أو أن نقارن نماذجنا الرياضية مع الواقع؟ يُعتبر موضوع عدم ملاءمة النموذج أعمق من موضوع عدم اليقين في الشرط المبدئي.
أحد الاختبارات التي تُبيِّن عدم ملاءمة النموذج هو جمع الملاحظات التي تتوافر لدينا بالفعل، والبحث عما إن كان بإمكان نموذجنا توليد سلسلة زمنية تظل على مقربة من هذه الملاحظات. إذا كان النموذج مثاليًّا، فستكون ثَمَّةَ حالة أولية واحدة على الأقل تظلل أي نطاق ملاحظات قد نختاره، ونعني ﺑ «الظلال» أن الفرق (أو الفروق) بين السلسلة الزمنية للنموذج والسلسلة الزمنية للملاحظات يتوافق مع نموذجنا للتشويش، وهو ما يمنح نموذجنا للتشويش مكانةً أعلى كثيرًا مما كان عليه في الماضي. ألا نزال نتوقع حالات ظلال في حال كون نماذجنا غير كاملة؟ نعم، ليس على المدى الطويل، إذا كان نموذجنا فوضويًّا. يمكننا البرهنة على عدم وجود مسار ظلالي. لن يتلاشى التشويش، حتى عندما نتوقف عن الاعتقاد في وجوده؛ ففي النماذج الفوضوية غير الكاملة، لا نستطيع أن نجعل التشويش يقدِّم تفسيرًا مقبولًا للفرق بين نماذجنا والملاحظات. تختلط أخطاء النماذج وتشويش الملاحظات بصورة معقدة، وإذا كانت الملاحظات وحالات النماذج والأعداد الحقيقية تُمثِّل في الحقيقة أنواعًا مختلفةً من الأعداد — مثل التفاح وإنسان الغاب — فماذا كنَّا نظن أنفسنا فاعلين عندما كنَّا نحاول طرح أحد أنواع هذه الأعداد من نوع آخَر؟ لمتابعة الإجابة عن هذا السؤال، يجب أولًا معرفة المزيد عن إحصائيات الفوضى.