الفصل الأول

الفعالية اللامعقولة

إن المعجزة المتمثلة في ملاءمة لغة الرياضيات لصياغة قوانين الفيزياء لهي هبةٌ مدهشة لا نفهمها ولا نستحقها. إننا يجب أن نكون مُمتنِّين من أجلها، ونأمل أن تظل صالحة للاستخدام في الأبحاث المستقبلية، وأن تمتد — بغض النظر عن النتيجة، وسواء تسبَّب هذا في سعادتنا أو أضاف إلى حيرتنا — إلى فروعٍ عديدة من العلم.

يوجين فيجنر، كتاب «الفعالية اللامعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية»

ما فائدة الرياضيات؟

ما الذي تفعله من «أجلنا» في حياتنا اليومية؟

منذ زمن ليس ببعيد، كانت هناك إجابات سهلة على هذين السؤالين. إن الإنسان العادي كان يستخدم العمليات الحسابية الأساسية طوال الوقت، حتى لو كان فقط للتحقُّق من قيمة الفواتير عند التسوُّق. فكان يحتاج النجَّارون إلى معرفة المبادئ الأولية لعلم الهندسة. كما كان يحتاج المسَّاحون والملَّاحون إلى معرفة علم حساب المثلثات. وكان يتطلب العمل في المجالات الهندسية خبرةً في علم حساب التفاضُل والتكامُل.

أما اليوم، فالأمور مختلفة. إذ تؤدي ماكينات الحسابات في المراكز التجارية مهمةَ حساب القيمة الإجمالية للفواتير، وتُحدد قيمة العروض الخاصة، وتضيف قيمة ضريبة المبيعات. ونحن نسمع أصوات التنبيه أثناء مسح الليزر لرموز الباركود على كل سلعة، وما دامت الأصوات تتطابق مع السلع، فإننا نفترض أن الأجهزة الإلكترونية تعرف ما تفعله. ولا يزال العديد من المهن يحتاج إلى معرفة رياضية واسعة النطاق، ولكن حتى في تلك الحالة، فنحن نعهد بمهمة إجراء معظم العمليات الرياضية المطلوبة إلى أجهزة إلكترونية ذات خوارزميات مُدمَجة.

إن الرياضيات، التي هي مجال بحثي، غير مُقدرة في الوقت الحاضر مع زيادة معدل الأَتْمَتَة. لكنها أساسية جدًّا لأنشطة حياتنا اليومية على نحو لا يمكن إنكاره.

سيصبح من السهل استنتاج أن الرياضيات قد عفا عليها الزمن، ولم تعُد تُستخدم، لكن هذا الرأي خطأ. فمن دون الرياضيات سينهار عالم اليوم. ومن أجل إثبات هذا، سأعرض عليكم تطبيقات لها في السياسة، والقانون، وعمليات زرع الكُلى، وخدمة توصيل الطلبات من المراكز التجارية، وأمن الإنترنت، والمؤثرات الخاصة في الأفلام السينمائية، وصناعة الزُّنبُرُكات. سنرى كيف تلعب الرياضيات دورًا أساسيًّا في أجهزة الأشعة الطبية، والتصوير الرقمي، وشبكات الألياف الضوئية، والمِلاحة عبر الأقمار الصناعية. وسنعرف كيف تساعدنا في التنبؤ بآثار تغيُّر المناخ، وكيف يمكن أن تحمينا من الإرهابيين وقراصنة الإنترنت.

اللافت للنظر أن العديد من هذه التطبيقات تعتمد على مفاهيم رياضية نشأت لأسباب مختلفة تمامًا، غالبًا ما تتمثَّل في لذَّة الاستكشاف العقلي. فأثناء مرحلة البحث والإعداد لهذا الكتاب فوجئت أكثر من مرة عندما صادفت استخدامات للرياضيات لم أحلم قط أنها موجودة. وهذه الاستخدامات تعتمد على أشياء لم أكن أتوقع أن لها تطبيقاتٍ عمليةً بالفعل، مثل مُنحنيات ملء الفراغ، والكواترنيونات، والطوبولوجيا.

إن الرياضيات هي منظومة من الأفكار والأساليب، لا حدود لها، وتتَّسم بالابتكار الشديد. وهي تقبع تحت سطح التقنيات التحويلية، التي تجعل القرن الحادي والعشرين مختلفًا تمامًا عن أي عصر سابق، مثل ألعاب الفيديو، والطيران الدولي، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وأجهزة الكمبيوتر، وشبكة الإنترنت، والهواتف المحمولة.1 اخدش بأظافرك شاشة هاتف «آي فون»، وسترى البريق المشرق للرياضيات.

من فضلك لا تفعل ذلك حرفيًّا.

•••

هناك ميلٌ إلى افتراض أن أجهزة الكمبيوتر، بقُدراتها التي تقترب من الإعجاز، تجعل من علماء الرياضيات — وفي الواقع الرياضيات نفسها — أمرًا قد عفا عليه الزمن. لكن أجهزة الكمبيوتر لا تحل محل علماء الرياضيات مثلما لا تحل الميكروسكوبات محل علماء البيولوجيا. تعمل أجهزة الكمبيوتر على تغيير الطريقة التي نُجري بها العمليات الرياضية، لكنها في الغالب تريحنا من الجوانب المملَّة والمرهِقة منها. إنها تمنحنا وقتًا للتفكير، وتساعدنا في البحث عن الأنماط، وتضيف سلاحًا جديدًا قويًّا للمساعدة في تعزيز علم الرياضيات على نحو أسرع وأكثر فعالية.

في الواقع، هناك سبب رئيسي أدَّى إلى تزايد أهمية الرياضيات أكثر من أي وقت مضى، وهو انتشار أجهزة الكمبيوتر العالية الإمكانيات الرخيصة. لقد وفَّر انتشارها فُرصًا جديدة لاستخدام الرياضيات في المسائل الخاصة بالعالم الحقيقي. وأصبحت الأساليب التي كانت قبل ذلك غير قابلة للتطبيق، لأنها تحتاج إلى الكثير من العمليات الحسابية، مطبَّقةً على نحو روتيني. إن أعظم علماء الرياضيات في زمن الحساب باستخدام القلم الرصاص والورق كان سيرفع يديه في يأس واستسلام عند محاولة تطبيق أسلوبٍ يتطلب إجراء عدد هائل من العمليات الحسابية. أما اليوم، فنحن نستخدم مثل هذه الأساليب على نحو روتيني؛ لأن لدينا تقنية يمكنها إجراء العمليات الحسابية في جزء من الثانية.

ولا يفوتني هنا أن أضيف أنه لطالما كان علماء الرياضيات في طليعة ثورة الكمبيوتر، هذا إلى جانب عددٍ لا يُحصى من المهن الأخرى. تذكَّر جورج بول، الذي كان رائدًا في المنطق الرمزي، الذي يشكل أساس معمارية الكمبيوتر الحالية. تذكَّر أيضًا آلان تورينج، وآلة تورينج الشاملة الخاصة به، وهي نظام رياضي يمكنه حساب أي شيء قابل للحساب. تذكَّر الخوارزمي، الذي أكد في كتابه عن علم الجبر عام ٨٢٠ ميلاديًّا على دور الإجراءات الحسابية المنهجية، التي سُميت في زمننا الحالي على اسمه، «الخوارزميات».

تعتمد معظم الخوارزميات التي تمنح أجهزة الكمبيوتر قدراتها المثيرة للإعجاب على الرياضيات بشكل راسخ. وقد أُخذ العديد من التقنيات ذات الصلة من «على الرف» في المتجر الحالي للأفكار الرياضية، مثل خوارزمية «بيدج رانك» الخاصة بشركة جوجل، التي تحدد مدى أهمية أي موقع على شبكة الويب، والتي أسست صناعة تُقدر قيمتها بمليارات الدولارات. حتى أروع خوارزميات التعلُّم العميق في الذكاء الاصطناعي تستخدم مفاهيم رياضية مجرَّبة ومختبَرة، مثل المصفوفات والرسوم البيانية المرجحة. وتتضمن أي مهمة عادية للغاية، مثل البحث في مستند عن سلسلة معينة من الحروف، في إحدى الطرق الشائعة على الأقل، أداةً رياضية تُسمى آلة محدودة الحالة.

تميل إسهامات الرياضيات في هذه التطورات المثيرة إلى أن تصبح في طي النسيان. لذا في المرة القادمة، عندما تسلط وسائلُ الإعلام الضوء على إحدى القدرات الجديدة الإعجازية لأجهزة الكمبيوتر، ضع في اعتبارك أن وراء ظهورها هناك الكثير من العمليات الرياضية، والكثير كذلك من العمل الهندسي، والفيزيائي، والكيميائي، والنفسي، وأنه دون دعمِ هذا الفريق الخفِي من المساعدين، لن يتمكَّن ذلك النَّجم الرقمي من التبختُر تحت دائرة الضوء.

•••

الرياضيات في عالمنا اليوم يُبخَس حقُّها بكل سهولة؛ وذلك لأن كل العمليات الرياضية تقريبًا تُجرى خلف الكواليس. سر في أحد شوارع أي مدينة، وسيُداهم عينيك طوفان من اللافتات الإعلانية التي تعلن عن الأهمية اليومية للبنوك، ومتاجر بيع الخضراوات، والمراكز التجارية، ومتاجر الملابس، ووِرَش إصلاح السيارات، ومكاتب المحاماة، ومطاعم الوجبات السريعة، ومعارض بيع التحف، والجمعيات الخيرية، وغيرها من الأنشطة والمهن المتعددة الأخرى. لكنك لن تجد لوحة نحاسية تعلن عن مكتب لعالِم رياضيات استشاري. كما أنك لن تجد أن الرياضيات قد عُبِّئت في مُعلبات يمكن شراؤها من المراكز التجارية.

ورغم ذلك، عند التعمُّق في البحث قليلًا، سرعان ما ستصبح أهمية الرياضيات واضحة. فالمعادلات الرياضية للديناميكا الهوائية مهمَّة على نحو حيوي بالنسبة لتصميم الطائرات. كما تعتمد عمليات المِلاحة على حساب المثلثات. صحيح أن الطريقة التي نستخدم بها هذا العلم اليوم تختلف عن الطريقة التي استخدمها كريستوفر كولومبوس؛ لأن الأجهزة الإلكترونية للمِلاحة أصبحت هي ما تُجري العمليات الرياضية بدلًا من القلم، والحبر، وجداول الملاحة، لكن المبادئ الأساسية متشابهة إلى حد كبير. ويعتمد تطوير الأدوية الجديدة على علم الإحصاء للتأكد من أن الأدوية آمنة وفعَّالة. وتعتمد عمليات الاتصالات عبر الأقمار الصناعية على فهمٍ عميق لعلم الديناميكا المَدارية. ويتطلب التنبؤ بالطقس حل المعادلات المتعلقة بكيفية تحرك الغلاف الجوي، ومقدار الرطوبة، ومدى الدفء أو البرودة الخاصَّين به، وكيف تتفاعل كل هذه الخصائص معًا. وهناك الآلاف من الأمثلة الأخرى. ونحن لا نلاحظ أن تلك الأمثلة تتضمن عمليات رياضية؛ لأننا لسنا في حاجة لمعرفة هذه الحقيقة كي نتمكن من الاستفادة من النتائج.

السؤال الآن هو: ما الذي يجعل الرياضيات مفيدة للغاية، في مثل هذه المجموعة الواسعة من الأنشطة البشرية؟

إنه ليس سؤالًا جديدًا. في عام ١٩٥٩، ألقى عالم الفيزياء يوجين فيجنر محاضرة مهمة في جامعة نيويورك،2 حملت عنوان «الفعالية اللامعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية». وركَّز فيها على العلوم، ولكن كان من الممكن أيضًا إثبات الفعالية اللامعقولة للرياضيات في الزراعة، والطب، والسياسة، والرياضة، وأي مجال آخر. وقد أعرب فيجنر نفسه عن أمله في أن تمتدَّ هذه الفعالية إلى «فروع عديدة من العلم». وقد امتدت بالفعل.

إن الكلمة الرئيسية في العنوان الذي اختاره لمحاضرته جديرة بالملاحظة، لأنها بمنزلة مفاجأة: «اللامعقولة». فمعظم استخدامات الرياضيات معقولة تمامًا، بمجرد معرفة الأساليب التي تُستخدَم في حل مسألة مهمة أو اختراع أداةٍ مفيدة. من المعقول تمامًا، على سبيل المثال، أن يستخدم المهندسون معادلات الديناميكا الهوائية لتساعدهم على تصميم الطائرات. هذا هو السبب الذي من أجله ظهر علم الديناميكا الهوائية في المقام الأول. كما ظهر الكثير من الجوانب الرياضية المستخدمة في التنبؤ بالطقس مع وضع هذا الغرض في الاعتبار. وظهر علم الإحصاء من اكتشاف أنماط واسعة النطاق في البيانات المتعلقة بالسلوك البشري. وقدر العمليات الرياضية، اللازم لتصميم النظارات ذات العدسات متغيِّرة البُعد البُؤري، هو قدر هائل، ولكن طُوِّر معظمها بهدف خدمة مجال البصريات.

إن قدرة الرياضيات على حل المشكلات المهمة تصبح لا معقولة، من وجهة نظر فيجنر، عندما لا توجد مثل هذه الصلة بين الدافع الأصلي لتطوير المبادئ الرياضية، والاستخدام النهائي. وقد بدأ فيجنر محاضرته بقصة، سأُعيد صياغتها وأُنمِّقها قليلًا.

التقى رجلان كانا فيما مضى زميلين في الفصل نفسه بالمدرسة. عرض أحدهما، وهو اختصاصي إحصاء يعمل على اتجاهات النمو السكاني، على زميله إحدى أوراقه البحثية، التي تبدأ بصيغة رياضية معتادة تُستخدم في الإحصاء، وهي صيغة التوزيع الطبيعي أو «منحنى الجرس».3 وشرح له بعض الرموز — هذا يشير لعدد السكان، وهذا لمتوسط العينة — وكيف يمكن استخدام الصيغة لاستنتاج عدد السكان دون الحاجة إلى استخدام طريقة العَدِّ التقليدية، المتمثلة في عد جميع السكان. فظن زميله أنه يمزح، لكنه لم يكن متأكدًا تمامًا، لذا سأل عن الرموز الأخرى. في نهاية المطاف وصل إلى الرمز الذي بدا هكذا: .

«ما هذا الرمز؟ إنه يبدو مألوفًا.»

«أجل، إنه رمز «الباي» أو «ط»، ويعبر عن نسبة مُحيط الدائرة إلى قُطرها.»

قال الزميل: «الآن أعلم أنك تحاول خداعي. عجبًا، ما العلاقة بين الدائرة وتعداد السكان؟!»

النقطة الأولى حول هذه القصة هي أن شكوك الصديق كانت معقولة تمامًا. يدلُّنا التفكير السليم أن مفهومين متباينين مثل هذين لا يمكن أن تكون هناك صلة بينهما. فأحدهما له علاقة بعلم الهندسة، والآخر له علاقة بتعداد السكان. النقطة الثانية هي أنه على الرغم من التفكير السليم، هناك صلة بينهما. إن منحنى الجرس له صيغة رياضية، وهي تتضمن العدد . إنه ليس مجرد تقريب مناسب فقط؛ فالعدد الدقيق هو حقًّا العدد القديم المألوف . لكن سبب ظهوره في سياق مُنحنى الجرس ليس بديهيًّا على الإطلاق، حتى بالنسبة لعلماء الرياضيات، ويحتاج الأمر إلى معرفة متعمِّقة بعلم التفاضُل والتكامُل لفهم كيف ظهر في هذه الصيغة الرياضية، فضلًا عن «لماذا».
دعني أخبرك قصة أخرى عن . منذ بضع سنوات، قررتُ تجديد حمَّام الطابق السفلي في منزلي. واكتشف سبنسر، وهو حِرفي متعدد المهارات على نحو مدهش جاء لتركيب البلاط، أنني ألَّفت العديد من كتب الرياضيات الشهيرة. فقال: «لديَّ مسألة في الرياضيات أريدك أن تساعدني في إيجاد حلٍّ لها. يجب أن أُركب البلاط فوق أرضية على شكل دائرة، وأحتاج إلى معرفة مساحتها، كي أحدد عدد البلاطات الذي سأحتاجه. هناك صيغة رياضية قد علَّمونا إياها …»

أجبته: «ط نق تربيع.»

فقال: «أجل، إنها هي!» ومن ثَم ذكَّرته بكيفية استخدامها. فتركني وهو سعيد، بعد أن حصل على الإجابة على مسألته بخصوص عدد البلاطات، وحصل على نسخة موقعة من أحد كُتبي، وحصل على اكتشاف جديد وهو أن الرياضيات التي دَرَسها في المدرسة، على عكس اعتقاده الراسخ لفترة طويلة من الزمن، مفيدة في مِهنته الحالية.

الفرق بين القصتين واضح. في القصة الثانية، استخدمنا لأنها قُدمت إلينا في علم الرياضيات من أجل حل هذا النوع من المسائل الرياضية بالتحديد في المقام الأول. إنها قصة بسيطة ومباشرة حول فعالية الرياضيات. في القصة الأولى، استخدمنا أيضًا لحل المسألة، لكن وجودها كان مفاجأة. إنها قصة عن الفعالية «اللامعقولة»: تطبيق لفكرة رياضية في مجال منفصل تمامًا عن أصول تلك الفكرة ومجالات استخدامها.

•••

في هذا الكتاب، أنا لن أتحدث كثيرًا عن الاستخدامات المعقولة للمجال الذي أنا مُهتمٌّ به وهو الرياضيات. صحيح أنها استخدامات قيِّمة، ومثيرة للاهتمام، وتمثل جزءًا من نطاق مجال الرياضيات، مثلها مثل أي شيء آخر، فهي على القدر نفسه من الأهمية، لكنها لا تجعلنا نقول مشدوهين: «يا للعجب!». إنها استخدامات يمكنها أيضًا تضليل أولئك أصحاب القرار في المجال، وجعلهم يتخيلون أن الطريقة الوحيدة لتطوير الرياضيات هي تحديد المشكلات ثم جعل علماء الرياضيات يخترعون طُرقًا لحلها. ليس هناك خطأ في إجراء أبحاث محددة الهدف من هذا النوع، لكن هذا يشبه خوض المرء معركة بذراع واحدة، بينما الذراع الأخرى مربوطة خلف ظهره. إن استقراء التاريخ يُظهر لنا على نحو متكرر قيمة الذراع الثانية، وهو النطاق المذهل للخيال البشري. إن ما يمنح الرياضيات قوتها هو «اجتماع» هاتين الطريقتين في التفكير. إذ إن كلًّا منهما تكمل الأخرى.

على سبيل المثال، في عام ١٧٣٦، وجَّه عالم الرياضيات الكبير ليونهارت أويلر تفكيره لحل لُغز صغير غريب بخصوص تنزُّه الناس عبر الجسور. لقد كان يعلم أنه لغز مُثير للاهتمام؛ لأنه على ما يبدو يتطلَّب نوعًا جديدًا من الهندسة؛ نوعًا يتخلَّى عن الأفكار المعتادة للأطوال والزوايا. لكنه لم يكن ليتوقع أنه في القرن الحادي والعشرين سيصبح الحل الذي توصَّل إليه نقطةَ البداية في إيجاد طريقةٍ تساعد المزيد من المرضى في الحصول على فرصة إجراء عمليات زرع الكُلى التي تنقذهم من الموت. بدايةً، كانت عمليات زرع الكلى ستبدو خيالًا محضًا في ذلك الوقت، ولكن حتى لو لم تكن كذلك، فإن أي صِلة لها بذلك اللُّغز كانت ستبدو سخيفة.

ومن ذا الذي كان سيتخيل أن اكتشاف مُنحنيات ملء الفراغ — وهي المنحنيات التي تمر بكل نقطة من مربع مُصمَت — يمكن أن يساعد برنامج «وجبات على عجلات» — الذي يوصل وجبات طعامٍ إلى منازل كبار السن وذوي الحاجة — في تخطيط مسارات توصيل الطلبات الخاصة به؟ بالتأكيد ليس علماء الرياضيات الذين درسوا مثل هذه الموضوعات في تسعينيات القرن التاسع عشر، والذين كانوا مهتمين بكيفية تحديد مفاهيم معقَّدة مثل «الاتصال» و«البُعد»، والذين وجدوا أنفسهم في البداية يشرحون لماذا يمكن أن تكون المعتقدات الرياضية الراسخة خاطئة. وقد استنكر العديد من زملائهم هذا الخط البحثي بأكمله واعتبروه مُضللًا وسلبيًّا. وفي النهاية، أدرك الجميع أنه ليس من الجيد تجاهل الواقع، وافتراض أن كل شيء سيعمل بشكل مثالي، بينما في الحقيقة هذا لن يحدث.

ليست رياضيات الماضي فقط هي التي تُستخدم بهذه الطريقة. إذ تعتمد أساليب زرع الكُلى على العديد من الإضافات الحديثة على رؤية أويلر الأصلية، من بينها الخوارزميات الرائعة الخاصَّة بالتحسين التوافُقي التي تسعى للوصول إلى الخيار الأفضل من بين مجموعة كبيرة من الاحتمالات. إن التقنيات الرياضية اللانهائية التي يستخدمها محركو الصور المتحركة في الأفلام تشمل العديد من التقنيات الذين عُرفت منذ عقدٍ أو أقل. مثالٌ على ذلك هو «فراغ الأشكال»، وهو فراغ غير منتهي الأبعاد من المنحنيات التي تعتبر متشابهة إذا اختلفت فقط عن طريق تغيير الإحداثيات. وهي تستخدم لجعل تتابُعات التحريك تبدو أكثر سلاسة وأكثر طبيعية. وقد نشأ التماثُل المستمر، وهو تطور آخر حديث للغاية؛ لأن علماء الرياضيات البَحتة أرادوا حساب اللامتغيرات الطوبولوجية المعقَّدة التي تحسب الثقوب المتعدِّدة الأبعاد في الأشكال الهندسية. وقد تبيَّن أيضًا أن طريقتهم وسيلة فعالة لضمان أن شبكات الاستشعار تُوفِّر تغطية كاملة عند حماية المباني أو القواعد العسكرية ضد الإرهابيين أو المجرمين الآخرين. إن المفاهيم المجردة المستمدَّة من الهندسة الجبرية — مثل «الرسوم البيانية التماثُلية المتفرِّدة» — يمكن أن تجعل اتصالات الإنترنت آمنةً ضد أجهزة الكمبيوتر الكمية. وهذه الأجهزة أجهزةٌ حديثة للغاية ظهرت مؤخرًا ولا تزال في مهدها، لكنها ستقضي على نظم التشفير المستخدَمة في عالمنا اليوم إذا تمكنت من تحقيق الآمال المعقودة عليها.

إن الرياضيات لا تفاجئنا بمثل هذه المفاجآت في حالات نادرة. لكنَّها تعد أمورًا معتادة بالنسبة لها. في الواقع، ومن وجهة نظر الكثير من علماء الرياضيات، فإن هذه المفاجآت هي الاستخدامات الأكثر إثارة للاهتمام في هذا المجال البحثي، وهي المبرر الرئيسي لاعتباره «مجالًا بحثيًّا»، بدلًا من مجرد جرابٍ بالٍ يحتوي على حِيَل متنوعة، يناسب كل منها كل نوع من أنواع المسائل.

تابع فيجنر حديثه عن الرياضيات قائلًا: «إن الفائدة الهائلة للرياضيات في العلوم الطبيعية هي شيء يقارب حد الغموض، و… لا يوجد تفسير عقلاني لذلك.» لقد نشأت، بالطبع، المفاهيم الرياضية في المقام الأول لحل مسائل في العلوم، وفيجنر لم يكن في حيرة من فعالية تلك المفاهيم في المجالات التي صُمِّمت من أجلها. ما كان يحيره هو فاعليتها في المجالات التي بدت أنها غير ذات صلة بها. لقد نشأ علم التفاضل والتكامل من أبحاث إسحاق نيوتن حول حركة الكواكب، لذلك ليس من المثير للدهشة كثيرًا أنه يساعدنا على فهم حركة الكواكب. لكن ما يثير الدهشة بالفعل هو أنه يُمكِّننا من إجراء تقديرات إحصائية للسكان، كما هو الحال في قصة فيجنر القصيرة، وكذلك من تفسير التغيُّرات في أعداد الأسماك التي جرى صيدُها في البحر الأدرياتيكي خلال الحرب العالمية الأولى،4 والتحكم في عمليات تسعير عقود الخيارات في القطاع المالي، ومساعدة المهندسين في تصميم طائرات الركاب النَّفاثة، كما أنه أصبح مهمًّا للغاية في مجال الاتصالات. ويرجع ذلك إلى أنه لم يُبتكر من أجل أي غرض من هذا القبيل.

لقد كان فيجنر على حق. إن الطريقة التي تُستخدم بها الرياضيات على نحو متكرر — رغم أنها لم تُبتكر من أجل هذا — في العلوم الطبيعية، وكذلك في معظم مجالات النشاط البشري الأخرى، هي أمر يشبه اللغز. وأحد الحلول المقترَحة لهذا اللغز هو أن الكون قائم على الرياضيات، لذا يستعين به البشر في ابتكاراتهم المختلفة. وأنا لن أجادل حول مدى صحة هذا التفسير هنا، ولكن إذا كان صحيحًا، فهو يستبدل بهذا اللغز لُغزًا آخر أكثر عمقًا. وهذا اللغز هو: لماذا الكون قائم على الرياضيات؟

•••

على مستوى برجماتي أكثر، يمكن القول إن الرياضيات لديها العديد من الميزات التي تساعد على جعلها فعالة بشكل لا معقول من وجهة نظر فيجنر. إحدى تلك الميزات، التي أتَّفق مع وجهة نظر فيجنر بشأنها، هي صلاتها العديدة بالعلوم الطبيعية، التي تنتقل إلى عالم البَشر في شكل تكنولوجيا تحويلية. فالعديد من الابتكارات الرياضية الكبيرة قد نشأت بالفعل من الاستقصاءات العلمية. والبعض الآخر منها مُتجذِّر في اهتمامات البشر. فقد نشأت الأعداد من عمليات العد الأساسية (مثلًا: كم عدد الخراف التي أمتلكُها؟) والهندسة يعني مقابلُها الإنجليزي «قياس الأرض»، وكانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتحديد قيمة الضرائب المفروضة على الأراضي، وفي مصر القديمة ارتبطت بعمليات بناء الأهرامات. ونشأ علم حساب المثلثات من علم الفلك، والملاحة، وصنع الخرائط.

لكن هذا وحده ليس تفسيرًا ملائمًا. فالعديد من الابتكارات الرياضية الكبيرة الأخرى لم تنشأ من استقصاءٍ علمي أو مشاكل بشرية محدَّدة. إن الأعداد الأولية، والأعداد المركبة، والجبر المجرد، والطوبولوجيا؛ كل هذه الاكتشافات/الابتكارات كان الدافع الأساسي للتوصُّل إليها هو فضول الإنسان وإدراك وجود نمط. وهناك سبب ثانٍ للفعالية الكبيرة للرياضيات، وهو أن علماء الرياضيات تستخدمها للبحث عن الأنماط واستخلاص التركيب الأساسي. إنهم يبحثون عن «الجمال»، ليس في الشكل، ولكن في المنطق. فعندما أراد نيوتن فهم حركة الكواكب، توصَّل إلى الحل عندما فكَّر باعتباره عالمَ رياضيات، وبحَث عن أنماط أكثر عمقًا تحت سطح المعلومات الفلكية المجردة. وعندئذٍ استنتج قانون الجاذبية.5 إن العديد من أعظم الأفكار الرياضية لم يكن وراءها أي دافع واقعي على الإطلاق. فقد توصَّل بيير دو فيرما، المحامي الذي مارس الرياضيات من أجل التسلية في القرن السابع عشر، إلى اكتشافات أساسية في نظرية الأعداد؛ فقد توصَّل إلى أنماط متعمِّقة في سلوك الأعداد الصحيحة العادية. واستغرق الأمر ثلاثة قرون كي يجري التوصُّل إلى تطبيقات عملية لعمله في هذا المجال، ولكن في زمننا اليوم، المعاملات التجارية التي تعتمد عليها شبكة الإنترنت ما كانت لتصبح ممكنةً من دونه.

وهناك ميزة أخرى للرياضيات أصبحت واضحة بشكل متزايد منذ أواخر العقد الأول من القرن التاسع عشر وهي «العمومية». إن التراكيب الرياضية المختلفة لها العديد من الميزات المشتركة. فقواعد الجبر البسيط تشبه قواعد الحساب. كما ترتبط الأنواع المختلفة من الهندسة (الإقليدية، والإسقاطية، وغير الإقليدية، وحتى الطوبولوجيا) ارتباطًا وثيقًا بعضها ببعض. ويمكن جعل هذا الارتباط الخفي واضحًا عبر العمل، من البداية، مع تراكيب عامة تخضع لقواعد محددة. وعند فهم التراكيب العامة، تصبح جميع الأمثلة الخاصة واضحة. وهذا يوفر الكثير من الجهد، الذي كان سيضيع بسبب إجراء نفس العملية عدة مرات باستخدام لغة مختلفة على نحو طفيف. ومع ذلك، فإن هذا الأسلوب يحتوي على جانب سلبي واحد؛ إذ يتسبب في جعل المجال أكثر تجريدًا. فبدلًا من الحديث عن أشياء مألوفة، مثل الأعداد، يجب أن تشير التراكيب العامة إلى أي شيء يخضع لنفس القواعد، مثل الأعداد، كما يتضح في مفاهيم مثل «الحلقة النوتيرية»، أو «فئة الموتر»، أو «الفراغ المتجهي الطوبولوجي». عند تطبيق هذا النوع من التجريد إلى أقصى مدى، قد يصبح من الصعب فهم ماهية التراكيب العامة، فضلًا عن كيفية الاستفادة منها. ومع ذلك، فهي مفيدة لدرجة أن عالم البشر لن يستطيع أن يؤدي أنشطته من دونها. هل تريد إنشاء منصة نتفليكس؟ إذن يجب على شخصٍ ما أن يجري العمليات الرياضية الخاصة بها. إن الأمر ليس سحرًا؛ إنه فقط شيء يشبهه.

هناك ميزة رابعة للرياضيات، وثيقة الصلة بشِدة بهذه المناقشة، وهي «قابلية التطبيق المتعدِّد». وهذه نتيجة لميزة العمومية التي تتسم بها، كما أنها السبب في أن التجريد ضروري. فبصرف النظر عن المسألة التي حفَّزته، فإن المفهوم أو الأسلوب الرياضي يمتلك مستوًى من العمومية غالبًا، ما يجعله قابلًا للتطبيق على مسائل مختلفة بعضها عن بعض تمامًا. وأي مسألة يمكن إعادة صياغتها في الإطار المناسب تصبح هدفًا مشروعًا لها. إن أبسط طريقة وأكثرها فعالية لإيجاد مفاهيم رياضية قابلة للتطبيق المتعدِّد هي تصميم هذه الميزة فيها من البداية، من خلال جعل التراكيب العامة واضحة فيها.

على مدى الألفي عامٍ الماضيَين، استمدَّت الرياضيات مصدر إلهامها من ثلاثة مصادر رئيسية، وهي: أعمال الطبيعة، وأعمال البشر، ومَيل العقل البشري الداخلي نحو البحث عن أنماطٍ. هذه الأعمدة الثلاثة تَدعم المجال بأكمله. الشيء المذهل هو أن الرياضيات، على الرغم من دوافعها المتنوعة، هي «كيان واحد». فقد أصبح كل فرع من فروع هذا العلم، أيًّا كانت أصوله وأهدافه، مرتبطًا بشدة بكل الفروع الأخرى وتصبح الروابط أكثر قوة وأكثر تشابُكًا من أي وقت مضى.

يشير هذا إلى سبب خامس يجعل الرياضيات فعالة للغاية، وبطُرق غير متوقعة، ألا وهو «الوحدة». وإلى جانب هذا، هناك سبب سادس، وهو الذي سأقدم أدلةً وافرة عليه عبر هذا الكتاب؛ ألا وهو: «التنوع».

إذن لدينا الميزات التالية: الواقعية، والجمال، والعمومية، وقابلية التطبيق المتعدِّد، والوحدة، والتنوُّع. وهذه الميزات تجتمع معًا لتؤدي إلى الفعالية الشديدة للرياضيات.

إن الأمر بهذا القدر من السهولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤