ابتسم، من فضلك!
إن وظيفة الكاميرا الوحيدة هي عدم إعاقة عملية التقاط الصور.
يُحمِّل البشر حوالي تريليون صورة على الإنترنت كل عام، مما يوحي بتقييم مفرط في التفاؤل حول مدى حرص الآخرين على مشاهدة صورنا الذاتية أثناء العطلات، أو أطفالنا حديثي الولادة، أو غيرها من الأشياء، التي بعضها تافه. إن الأمر سريع، وسهل، وهاتف كل منا يتضمن كاميرا. هناك قدر هائل من الرياضيات متضمَّن في تصميم وتصنيع الكاميرات. إن هذه العدسات الصغيرة العالية الدقة هي أعاجيب تكنولوجية تتضمن بعض جوانب الفيزياء الرياضية المعقدة للغاية المتعلقة بانكسار الضوء بواسطة الأجسام الصلبة المنحنية. في هذا الفصل، أود التركيز على جانب واحد فقط من جوانب التصوير الفوتوغرافي المعاصر، ألا وهو: ضغط الصور. تُخزن الكاميرات الرقمية، سواء كانت قائمة بذاتها أو مدمَجة في الهاتف، صورًا مفصَّلة للغاية على هيئة ملفات ثنائية. ويبدو أن بطاقات الذاكرة قادرة على تخزين معلومات أكثر مما يمكنها الاحتفاظ به بالفعل. فكيف يمكن تضمين الكثير من الصور التفصيلية في ملف كمبيوتر صغير؟
يُعد ضغط الصور جزءًا رئيسيًّا من العملية الأكثر عمومية لضغط البيانات، وهو لا يزال ذا أهمية شديدة على الرغم من التطورات الهائلة في التكنولوجيا. وفي كل مرة تزداد فيها سرعة الجيل التالي من الإنترنت بمقدار عشر مرات وتصبح ذات سعة أكبر بكثير، يبتكر أحد العباقرة تنسيقًا جديدًا للبيانات (فيديو ثلاثي الأبعاد فائق الوضوح، على سبيل المثال) يحتاج إلى بيانات أكثر بكثير من ذي قبل، وهذا يعيدنا ثانية إلى المربع الأول.
في بعض الأحيان لا يكون لدينا خيار سوى ضغط كل بايت من السعة خارج قناة الإشارة. في ٤ يناير ٢٠٠٤، على سطح المريخ، سقط شيء من السماء، وارتطم بالأرض، ثم ارتد. في الواقع «مركبة استكشاف المريخ الأولى»، والمعروفة باسم «سبيريت»، ارتدت ٢٧ مرة، وهي محاطة ببالونات قابلة للنفخ مثل نوع كوني من اللفائف الفقاعية، خلال هبوط رائع للغاية. بعد القيام بفحص عام وتنفيذ إجراءات تهيئة مختلفة، شرعت المركبة في استكشاف سطح هذا الكوكب الغريب، وسرعان ما انضمت إليها رفيقتها المركبة «أوبُرتيونتي». وقد حققت هاتان المركبتان نجاحًا هائلًا وأرسلتا كميات هائلة من البيانات. في ذلك الوقت، أشار عالم الرياضيات فيليب ديفيس إلى أن تلك المهمة الفضائية استندت إلى قدر هائل من الجوانب الرياضية، لكن «العامة لا يدركون ذلك». وقد اتضح أن الأمر لم يقتصر على العامة فحسب. ففي عام ٢٠٠٧، زار أوفه يانكفيست وبيورن تولدبود، وهما عالما رياضيات في مرحلة الدراسات العليا من الدنمارك، مختبر الدفع النفاث في باسادينا في مهمة صحفية هدفها الكشف عن الجوانب الرياضية الخفية في برنامج استكشاف المريخ. وكان الرد:
«نحن لا نقوم بأي من ذلك. نحن لا نستخدم في الواقع أي جبر مجرد، أو نظرية المجموعات، أو هذا النوع من الأشياء.»
كان هذا أمرًا مقلقًا، لذلك سأل أحد العالمين الدنماركيين:
«ما عدا في تشفير القناة؟»
«أهذا يستخدم الجبر المجرد؟»
«تستند شفرات ريد-سولومون إلى حقول جالوا.»
«هذه معلومة جديدة بالنسبة لي.»
في الواقع، تستخدم بعثات ناسا الفضائية بعض المبادئ الرياضية المتقدمة جدًّا لضغط البيانات وتشفيرها بطريقة تصحح الأخطاء الحتمية في الإرسال. عليك أن تفعل ذلك عندما يكون جهاز الإرسال على بُعد نحو مليار كيلومتر من الأرض ولديه قدرة مصباح كهربائي. (يساعد ترحيل البيانات عبر مركبة مدارية حول المريخ مثل «مارس أوديسي» أو «مارس جلوبال سيرفيور» قليلًا.) لا يحتاج معظم المهندسين إلى معرفة ذلك، لذا فهم لا يعرفونه. إن هذا تمثيل مصغَّر لحالة عدم التقدير الأوسع نطاقًا للمجتمع تجاه الرياضيات.
•••
يُخزن كل شيء على جهاز الكمبيوتر الخاص بك، سواء كان رسالة بريد إلكتروني أو صورة أو مقطع فيديو أو ألبوم المغنية تايلور سويفت، في الذاكرة كتدفق من الأرقام الثنائية، «البتات»، ٠ و١. وكل ثمانية بتات تشكل بايتًا واحدًا، وكل ١٠٤٨٥٧٦ بايتًا يشكل ميجابايتًا واحدًا. وتشغل الصورة النموذجية المنخفضة الدقة حوالي ٢ ميجابايت من مساحة التخزين. وعلى الرغم من أن جميع البيانات الرقمية تتخذ هذا الشكل، فإن التطبيقات المختلفة تستخدم تنسيقات مختلفة، ومن ثَم فإن معنى البيانات يعتمد على التطبيق. ولكل نوع من البيانات بِنية رياضية خفية، وغالبًا ما تكون سهولة المعالجة أكثر أهمية من حجم الملف. ويمكن أن يؤدي تنسيق البيانات على نحو ملائم إلى التكرار؛ أي استخدام بتات أكثر مما يتطلَّبه محتوى المعلومات الفعلي. يوفر هذا فرصة لضغط البيانات عن طريق إزالة التكرار.
إن اللغة الإنجليزية المكتوبة (والمنطوقة) ذات طابع تكراري للغاية. وكدليل على ذلك، إليك عبارة حُذف فيها كل حرف خامس:
يمكنك على الأرجح معرفة ما تعنيه العبارة، بقليل من التفكير أو الجهد. فالمعلومات المتبقية كافية لإعادة بناء العبارة الأصلية بأكملها.
ومع ذلك، ستجد هذا الكتاب أسهل بكثير إذا لم أُقنع ناشري بتوفير الحبر عبر حذف كل حرف خامس. إن الكلمات الكاملة أسهل على الدماغ في معالجتها؛ لأنَّ هذا ما تعلَّم القيام به. ومع ذلك، عندما تريد إرسال سلسلة من البتات إلى شخص آخر، بدلًا من معالجة تلك البيانات باستخدام تطبيق ما، فإن التسلسل الأقصر من أرقام ٠ و١ يكون أكثر كفاءة. في بدايات نظرية المعلومات، أدرك الرواد مثل كلود شانون أن التكرار يجعل من الممكن تشفير إشارة باستخدام بتات أقل. في الواقع، لقد أثبت صيغةً تحدد مقدارَ أقصر شفرة يمكن أن يصنع إشارة، لمقدار معين من التكرار.
إن التكرار ضروري؛ لأن الرسائل التي ليس بها تكرار لا يمكن ضغطها دون فقدان المعلومات. والإثبات هو حُجة عَد بسيطة. لنفترض، على سبيل المثال، أننا مهتمون بالرسائل التي يبلغ طولها عشرة بتات، مثل ١٠٠١١١٠١٠١. هناك بالضبط ١٠٢٤ سلسلة بت من هذا القبيل. لنفترض أننا نريد ضغط عشرة بتات من البيانات في سلسلة ٨ بتات واحدة. يوجد على وجه التحديد ٢٥٦ سلسلة من هذا القبيل. لذلك عدد الرسائل يبلغ أربعة أضعاف عدد السلاسل المضغوطة. ولا توجد طريقة لتعيين سلسلة ٨ بتات لكل سلسلة ١٠ بتات؛ بحيث تحصل سلاسل ١٠ بتات مختلفة على سلاسل ٨ بتات مختلفة. إذا كان من الممكن أن تظهر كل سلسلة ١٠ بتات باحتمالية متساوية، فسيتضح أنه لا توجد طريقة ذكية للتغلب على هذا القيد. ومع ذلك، إذا كانت بعض سلاسل ١٠ بتات شائعة للغاية، والبعض الآخر ليس شائعًا للغاية، فيمكننا اختيار شفرة تعين سلاسل بتات قصيرة (على سبيل المثال، ٦ بتات) للرسائل الأكثر شيوعًا، وسلاسل بتات أطول (ربما ١٢ بتًا) للرسائل غير الشائعة. هناك عدد ضخم من سلاسل ١٢ بتًا، لذلك لن تنفد منا. في كل مرة تظهر فيها واحدة، فإنها تضيف اثنين من البتات إلى الطول، ولكن في كل مرة تظهر فيها رسالة شائعة، تحذف أربعة بتات. ومع الاحتماليات المناسبة، يُحذف عدد أكبر من البتات من ذلك الذي يُضاف.
لقد نشأ فرع كامل من الرياضيات، نظرية التشفير، حول مثل هذه التقنيات. وهي بشكل عام أكثر دقة من تلك التي أوجزتُها للتو، وعادة ما تستفيد من سمات الجبر المجرد لتحديد الشفرات. لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا للغاية؛ لقد رأينا في الفصل الخامس أن الشفرات، في جوهرها، دوال رياضية، وأن الدوال الخاصة بنظرية الأعداد مفيدة بشكل خاص. والهدف هناك هو السرية، بينما هنا هو ضغط البيانات، ولكن تنطبق نفس وجهة النظر العامة. إن الجبر يتمحور حول «البنية» وهكذا التكرار.
يستغل ضغط البيانات، ومن ثَم ضغط الصور أيضًا، التكرار لإنشاء شفرات تقصر البيانات من نوع معين. في بعض الأحيان تتم عملية الضغط «دون فقدان للبيانات»؛ إذ يمكن إعادة بناء المعلومات الأصلية بالضبط من النسخة المضغوطة. وفي بعض الأحيان تُفقَد بيانات، وتكون عملية إعادة البناء مجرد تقريب للبيانات الأصلية. قد يكون ذلك سيئًا، على سبيل المثال، فيما يتعلق بأرصدة البنوك، ولكنه غالبًا ما يكون جيدًا بالنسبة للصور؛ الحيلة هي إعداد الأشياء بحيث يظل التقريب يبدو أمام العين البشرية مثل الصورة الأصلية. في هذا السيناريو، لم تكن المعلومات التي فُقدت بشكل غير قابل للاسترداد مهمة كثيرًا في المقام الأول.
معظم صور العالم الحقيقي تحتوي على تكرار. غالبًا ما تحتوي صور العطلات على كُتل كبيرة من السماء الزرقاء، التي غالبًا ما تكون لها، إلى حد كبير، الدرجة نفسها من اللون الأزرق، لذلك يمكن أن يُستبدل بالكثير من البكسلات التي تحتوي جميعها على العدد نفسه: زوجين من الإحداثيات للأركان المقابلة لمستطيل، وشفرة قصيرة تعني «لوِّن «هذه» المنطقة ﺑ «تلك» الدرجة من اللون الأزرق». هذه الطريقة لا تفقد فيها أي بيانات. إنها ليست ما يُستخدَم بالفعل، ولكنها توضح سبب إمكانية الضغط دون فقدان للبيانات.
•••
أما الخطوة الثانية فهي ليست دون فقدان للبيانات. حيث تقلل بيانات التشبع اللوني إلى قِيَم أصغر عن طريق تقليل دقة الوضوح. هذه الخطوة وحدها تقلل حجم ملف البيانات إلى النصف. وهذا مقبول لأن النظام البصري البشري، مقارنةً بما «تراه» الكاميرا، أكثر حساسية للسطوع وأقل حساسية لاختلافات الألوان.
على الرغم من أن تحويل فورييه المتقطع لا ينتج عنه فقدان للبيانات، فإنه ليس بلا فائدة؛ لأنه يجعل الخطوة الرابعة ممكنة. تعتمد هذه الخطوة مرة أخرى على نقص الحساسية في الرؤية البشرية، مما يؤدي إلى وجود تكرار. إذا تباين السطوع أو اللون عبر مناطق كبيرة من الصورة، فإننا نلاحظ ذلك. وإذا تباين في مناطق صغيرة، فإن نظام الرؤية يقلل من تأثيرها ولا نرى سوى المتوسط. هذا هو السبب في أن الصور المطبوعة يمكن فهمها، على الرغم من أنها عند الفحص الدقيق تمثل ظلالًا رمادية من خلال أنماط النقاط السوداء على الخلفية البيضاء للورقة. تعني هذه السمة الخاصة بالرؤية البشرية أن الأنماط ذات القطاعات الدقيقة جدًّا أقل أهمية، لذلك يمكن تسجيل سعاتها بدقة أقل.
الخطوة الخامسة تُعَد حيلة تقنية، تُسمى «شفرة هوفمان»، لتسجيل سعات الأنماط الأساسية البالغ عددها ٦٤ على نحو أكثر كفاءة. ابتكر ديفيد هوفمان هذه الطريقة في عام ١٩٥١ عندما كان لا يزال طالبًا. حيث طُلب منه كتابة ورقة بحثية عن الشفرات الثنائية الفعالة على النحو الأمثل، لكنه لم يتمكن من إثبات أن أي شفرة موجودة هي المثلى. وبينما هو على وشك الاستسلام، فكر في طريقة جديدة ثم أثبت أنها أفضل ما يمكن. بشكل عام، تكمن المشكلة في تشفير مجموعة من الرموز باستخدام سلاسل ثنائية، ثم استخدامها كقاموس لتحويل رسالة إلى شكل مشفَّر. يجب القيام بذلك بحيث يُقلَّل الطول الإجمالي للرسالة المشفرة إلى الحد الأدنى.
•••
ظهرت طريقة أخرى لضغط الصور في أواخر ثمانينيات القرن العشرين من هندسة الفراكتالات. وكما تتذكرون، فإن الفراكتال هو شكل هندسي ببِنية مفصلة على جميع المقاييس، مثل الخطوط الساحلية والسحب. ويرتبط بأي فراكتال عدد، يُسمى البُعد الفراكتالي الخاص به، وهو مقياس لمدى تعقيد الفراكتال. عادةً ما يكون هذا البُعد ليس عددًا صحيحًا. تشتمل فئة مفيدة من الفراكتالات المرنة رياضيًّا على تلك المتشابهة ذاتيًّا؛ إذ تبدو الأجزاء الصغيرة منها، المكبَّرة بشكل مناسب، تمامًا مثل الأجزاء الأكبر للشكل ككل. والمثال الكلاسيكي هو نبات السرخس، الذي يتكون من عشرات السَّعفات الأصغر حجمًا، التي كل منها يشبه نبات سرخس مصغر. يمكن تمثيل الفراكتالات المتشابهة ذاتيًّا من خلال نظام رياضي يُسمى نظام الدوال المتكررة. وهو مجموعة من القواعد تخبرنا بكيفية إنشاء نسخ مصغرة من الشكل وتحريكها بحيث تتلاءم معًا لتعطي الشكل الكامل. ويمكننا إعادة بناء الفراكتال من هذه القواعد، وهناك أيضًا صيغة للبُعد الفراكتالي.
وخلال التسعينيات من القرن الماضي، بذلت الشركة محاولات حثيثة لتوسيع نطاق الطريقة ليشمل ضغط ملفات الفيديو، ولكن لم ينجح أيٌّ منها، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن أجهزة الكمبيوتر لم تكن سريعة بما يكفي ولم تكن مزوَّدة بذاكرة كافية في ذلك الحين. حيث كان يستغرق ضغط دقيقة واحدة من الفيديو ١٥ ساعة. لكن كل ذلك تغير الآن، وتحققت نسب ضغط فراكتالي للفيديوهات تبلغ ٢٠٠ : ١ في خلال حوالي دقيقة واحدة لكل كادر فيديو. ومع ذلك، فإن تطور إمكانيات المعالجة يجعل أيضًا الطرق الأخرى ممكنة، وقد جرى التخلي عن الضغط الفراكتالي للفيديوهات في الوقت الحالي. لكن الفكرة الأساسية كانت مفيدة لبعض الوقت، ولا تزال إمكانية مثيرة للاهتمام.
•••
لدى البشر حيلة غريبة جدًّا للتعرف على صورة غير واضحة المعالم؛ فنحن نضيق أعيننا ونحدِّق. إنه لأمر مدهش، كم يساعدنا ذلك في معرفة ماهية الصورة، خاصة إذا كانت ضبابية بعض الشيء، أو إذا كانت صورة كمبيوتر بها بكسلات خشِنة للغاية. هناك صورة شهيرة مكونة من ٢٧٠ مربعًا باللون الأسود والأبيض والرمادي، وقد أنشأها ليون هارمون في مختبرات بيل في عام ١٩٧٣ من أجل مقال حول الإدراك البشري والتعرف على أنماط الكمبيوتر. لقد كانت الصورة تسأل: لمن هذه الصورة؟ في النهاية إذا حدقت في الصورة، فسيبدو على نحو غامض أنه أبراهام لِنكولن، ولكن إذا ضيقت عينيك وحدقت فيها، فإنه سيبدو حقًّا مثل لِنكولن.
كلنا نفعل هذا، لذلك نحن نعلم أن الأمر ينجح، لكنه يبدو غير معقول. كيف يمكننا تحسين جودة صورة سيئة بجعل رؤيتنا لها أسوأ؟ جزء من الإجابة نفسي: من خلال تضييق العينين، نحن نضع نظام المعالجة المرئية لدماغنا في «وضع الصورة السيئة»، الذي يُفترض أنه يطلق خوارزميات خاصة لمعالجة الصور تطورت للتعامل مع البيانات غير الواضحة. لكن جزءًا آخر هو: أن تضييق العينين، للمفارقة، يعمل كنوع من المعالجة المسبَقة، التي تحسن الصورة بطرق مفيدة معينة. على سبيل المثال، إنه يطمس حدود صورة لِنكولن ذات البكسلات الخشنة بحيث لم تعد تبدو ككومة من كتل البناء الرمادية.
منذ حوالي أربعين عامًا، بدأ علماء الرياضيات في دراسة مكافئ دقيق ومتعدد الاستخدامات لتضييق البشر لأعينهم، وهو يُسمى التحليل المُوَيْجي. تنطبق هذه التقنية على البيانات العددية بالإضافة إلى الصور المرئية، وقد قُدمت في الأصل من أجل استخراج بِنية على مقياس مكاني معين. تتيح لنا المويجات اكتشاف الغابة، بينما نظل غير مدركين أنها تتكون من الكثير من الأشجار والشُّجيرات المتشابكة.
كان الدافع الأصلي نظريًّا إلى حد كبير؛ كانت المويجات أداة رائعة لاختبار النظريات العلمية لأشياء مثل التدفق المضطرب للموائع. في الآونة الأخيرة، اكتسبت المويجات بعض التطبيقات الواقعية للغاية. ففي الولايات المتحدة، يستخدم مكتب التحقيقات الفيدرالي المويجات لتخزين بيانات بصمات الأصابع بتكلفة أقل، وقد حذت وكالات إنفاذ القانون في بلدان أخرى حذوَه. ولا تسمح لنا الموَيجات بتحليل الصور فحسب، بل تتيح لنا ضغطها.
إن العقبة الرئيسية هي أن إشارات الماسح الضوئي لا تمثل بيانات الصورة بطريقة تجعل من السهل التعرف على العناصر غير المرغوب فيها وإزالتها. ومع ذلك، هناك طرق أخرى لتمثيل البيانات. فيستبدل تحويل فورييه بأحد المنحنيات قائمة من السعات والترددات، مما يُشفِّر المعلومات نفسها بطريقة مختلفة. وعندما تُمثل البيانات بطرق مختلفة، فإن العمليات الصعبة أو المستحيلة في أحد التمثيلات قد تصبح سهلة في تمثيل آخر. على سبيل المثال، يمكننا البدء بمحادثة هاتفية، وتشكيل تحويل فورييه الخاص بها، واقتطاع جميع أجزاء الإشارة التي تحتوي مكونات فُورييه الخاصة بها على ترددات عالية جدًّا أو منخفضة جدًّا؛ بحيث لا تستطيع الأُذن البشرية سماعها. ثم يمكننا تطبيق التحويل العكسي على النتيجة للحصول على أصوات مماثِلة للأصل بالنسبة للأذن البشرية. يمكننا الآن إرسال المزيد من المحادثات عبر قناة الاتصال نفسها. ولا يمكننا القيام بذلك مباشرةً على الإشارة الأصلية غير المحولة؛ لأن هذا ليس له «تردد» كخاصية واضحة له.
بالنسبة لبعض الاستخدامات، فإن تقنية فورييه بها خطأ واحد: إن الجيوب وجيوب التمام المكونة لها تمتد إلى ما لانهاية. ويعاني تحويل فورييه عند محاولة التمثيل الدقيق لإشارة مضغوطة. تعد «النبضة» الواحدة إشارة بسيطة، ولكنها تتطلَّب مئات من الجيوب وجيوب التمام لإنتاج نبضة مقنِعة إلى حد ما. لا تكمن المشكلة في الحصول على الشكل الصحيح للنبضة، ولكن في جعل كل شيء خارج النبضة يساوي صفرًا. علينا التخلص من الذيول المتموِّجة الطويلة بلا نهاية لكل تلك الجيوب وجيوب التمام، وهو ما نفعله عن طريق إضافة المزيد من الجيوب وجيوب التمام العالية التردد في محاولة يائسة لحذف العناصر غير المرغوب فيها. في النهاية، تصبح النسخة المحوَّلة أكثر تعقيدًا وتحتاج إلى بيانات أكثر من النبضة الأصلية.
يغير التحويل المويجي كل ذلك باستخدام النبضات باعتبارها مكوناته الأساسية. هذا ليس بالأمر السهل، ولا يمكنك فعل ذلك بأي نبضة قديمة، ولكن بالنسبة لعالم رياضيات فإن كيفية البدء واضحة. اختَر شكلًا محددًا من النبضات ليكون بمنزلة مُوَيجة «رئيسية». وَلِّد مويجات «فرعية» (وفرعية فرعية، وفرعية فرعية فرعية، إلخ) عن طريق تحريك المويجة الرئيسية بشكل جانبي إلى مواضع مختلفة، وتوسيعها أو ضغطها عن طريق تغيير المقياس. ولتمثيل دالة أكثر عمومية، نجمع المضاعفات المناسبة لهذه المويجات على مقاييس مختلفة. وبالطريقة نفسها، فإن منحنيات الجيب وجيب التمام الأساسية لفورييه هي «المويجات الرئيسية»، وجميع الجيوب وجيوب التمام التردُّدية الأخرى «مُويجات فرعية».
صُمِّمت المويجات لوصف البيانات الشبيهة بالنبضات بشكل فعال. وعلاوة على ذلك، نظرًا لأن المويجات الفرعية والفرعية الفرعية هي مجرد نُسخ تغيَّر مقياسها من المويجة الرئيسية، فمن الممكن التركيز على مستويات معينة من التفاصيل. إذا كنا نرغب في حذف بنية صغيرة الحجم، نحذف جميع المويجات الفرعية الفرعية في التحويل المويجي. تخيَّل تحويل فهد إلى مويجات؛ نخصص بعض المويجات الكبيرة من أجل الجسم، ومُويجات أصغر للعينين والأنف والبُقع، ثم مويجات أصغر منها للشعر. ولضغط البيانات مع الحفاظ على شكل الفهد، علينا أن نقرر أن الشعرات الفردية لا تهم، ونزيل تلك المويجات الفرعية الفرعية. ستبقى البقع، ولا تزال الصورة تشبه الفهد. لا يمكننا فعل ذلك بالسهولة نفسها باستخدام تحويل فورييه — هذا إذا كان بإمكاننا استخدامه في تنفيذه من الأساس.
كانت معظم الأدوات الرياضية اللازمة لتطوير المويجات موجودة في شكل مجرد لمدة نصف قرن أو أكثر، في مجال باناخ الخاص بالتحليل الدالي. وعندما ظهرت المويجات، اتَّضح أن الآلية الغامضة للتحليل الدالي هي بالضبط ما كان مطلوبًا لفهمها وتطويرها إلى تقنية فعَّالة. كان الشرط المسبَق الأساسي لآلة التحليل الدالي، كي تعلن عن وجودها، هو شكل جيد للمويجة الرئيسية. نريد أن تكون جميع المويجات الفرعية مستقلة رياضيًّا عن المويجة الرئيسية، مع عدم وجود تداخل في المعلومات المشفرة من قِبَل المويجة الرئيسية والمويجات الفرعية، وعدم وجود جزء متكرر من أي مويجة فرعية. في مصطلحات التحليل الدالي، يجب أن تكون المويجة الرئيسية والفرعية متعامدتين.
في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، توصَّل عالم الجيوفيزياء جان مورليه وعالم الفيزياء الرياضية ألكسندر جروسمان إلى مويجة رئيسية صالحة. وفي عام ١٩٨٥، حسَّن عالم الرياضيات إيف ماير مويجات مورليه وجروسمان. أما الاكتشاف الذي فتح المجال بأكمله على مصراعيه فحدث في عام ١٩٨٧ على يد إنجريد دوبشي. لقد بدت المويجات الرئيسية السابقة بشكل مناسب مثل النبضة، لكن كان لدى جميعها ذيلٌ رياضي صغير للغاية يمتد إلى ما لا نهاية. لكن دوبشي أنشأت مويجة رئيسية دون ذيل على الإطلاق؛ خارج مدة ما، تكون المويجة الرئيسية دائمًا صفرًا بالضبط. كانت مويجتها الرئيسية نبضة حقيقية، محصورة بالكامل في منطقة منتهية من الفراغ.
•••
تعمل الموَيجات كنوع من عدسة التكبير/التصغير العددي، مع التركيز على سمات البيانات التي تشغل مقاييس مكانية معينة. يمكن استخدام هذه القدرة لتحليل البيانات، وأيضًا لضغطها. من خلال معالجة التحويل المويجي، الكمبيوتر «يُحدِّق مُضيِّقًا عينيه» في الصورة ويتجاهل مقاييس دقة الوضوح غير المرغوب فيها. هذا ما قرر مكتب التحقيقات الفيدرالي القيام به في عام ١٩٩٣. في ذلك الوقت، احتوت قاعدة بيانات البصمات الخاصة بالمكتب على ٢٠٠ مليون سجل، جرى تخزينها كبصمات بالحبر على بطاقات ورقية، ثم أُجري تحديث للسجلات عن طريق رقمنة الصور وتخزين النتائج على جهاز كمبيوتر. إحدى الميزات الواضحة هنا هي القدرة على البحث بسرعة عن البصمات التي تتطابق مع تلك الموجودة في مسرح الجريمة.
لقد أصبحت المويجات مستخدمة في كل المجالات تقريبًا. فقد طبق فريق دينيس هيلي أساليب تحسين الصور القائمة على المويجات في عمليات الفحص بالتصوير المقطعي، والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني والتصوير بالرنين المغناطيسي. واستخدموا أيضًا المويجات لتحسين الاستراتيجيات التي تحصل بها أجهزة الأشعة على بياناتها في المقام الأول. كما استخدمها رونالد كويفمان وفيكتور فيكرهاوزر لإزالة الضوضاء غير المرغوب فيها من التسجيلات الصوتية. وتمثل أحد الإنجازات في هذا الشأن في تحسين التسجيل الصوتي لأداء يوهانس برامس وهو يعزف إحدى مقطوعات «رقصات مجرية» الخاصة به، التي سُجلت في الأصل على أسطوانة شمعية في عام ١٨٨٩، والتي ذابت جزئيًّا. وقد أعيد تسجيلها على قرص بسرعة ٧٨ دورة في الدقيقة. لقد بدأ كويفمان عمله من بث إذاعي للمقطوعة، وحينها كانت الموسيقى غير مسموعة تقريبًا وسط الضوضاء المحيطة. وبعد تنقية الصوت باستخدام المويجات، أصبح بالإمكان سماع ما كان برامس يعزفه؛ ليس على نحو مثالي، لكن كان يمكن سماعه.
قبل أربعين عامًا، كان التحليل الدالِّي مجرد مجال غامض آخر للرياضيات البحتة التي كانت تطبيقاتها الرئيسية في الفيزياء النظرية. لكن التوصل إلى المويجة غيَّر كل ذلك. يوفر التحليل الدالِّي الآن الأُسُس اللازمة لتطوير أنواع جديدة من المويجات بسِماتٍ خاصة تجعلها مهمة في التكنولوجيا والعلوم التطبيقية. تؤثر المويجات على نحو غير مرئي على جوانب عديدة من حياتنا اليوم؛ فهي تُستخدم في مجال منع الجريمة، والطب، وفي تطوير الجيل القادم من الموسيقى الرقمية. وغدًا سوف تستخدم في كل المجالات.