هل اقتربنا من الوصول إلى هناك؟
رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
كل والد يقود سيارته يعرف هذا السيناريو. تتجه العائلة لزيارة الجدة التي يقع بيتها على بعد ثلاثمائة ميل يستغرق قطعها ست ساعات. ويجلس الأطفال في المقعد الخلفي. ثم بعد نصف ساعة من بداية الرحلة تأتي الصيحة الحزينة: «هل اقتربنا من الوصول إلى هناك؟»
لديَّ خلاف مع أبناء عمومتي في الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي في أمريكا، الذين يبدو أنهم مقتنعون بأن السؤال الصحيح هو: «هل وصلنا إلى هناك؟» لا شك أنه كذلك، في أمريكا، لكن لا ينبغي أن يصبح هكذا؛ لأن هذه الصيغة ناتجة بوضوح عن سوء فهم. دائمًا ما تكون الإجابة على النسخة الثانية واضحة: إما أننا وصلنا، فيكون السؤال غير ضروري، أو لم نصل، ولذلك لا جدوى من السؤال. كلا، ما يحدث هو أنه في أي رحلة طويلة، عندما يشاكس الأطفال، فإن الوالد اللطيف (أو ربما المنزعج فقط) يحاول تهدئتهم. فيقول لهم: «لقد اقتربنا من الوصول إلى هناك.» حتى لو كانت الرحلة ستستمر لخمس ساعات أخرى. إن هذه الإجابة تسكتهم لبعض الوقت. على أي حال، بعد عدة رحلات، يبدأ الأطفال في إلقاء تلميحات لطيفة تدل على اليأس بدلًا من الأمل: «هل اقتربنا من الوصول إلى هناك؟» وهذا سؤال معقول؛ لأنه لا يمكنك معرفة ذلك من خلال النظر عبر النافذة. هذا ما لم تكن تعرف معالم الطريق بالطبع. كانت لدينا قطة تستطيع فعل ذلك.
هل اقتربنا من الوصول إلى هناك؟ أين نحن؟ قبل عقدين من الزمن، كنا بحاجة إلى خريطة، ومهارات جيدة في قراءة الخرائط، وشخص يقودنا من المقعد المجاور لمقعد السائق لمعرفة ذلك. أما اليوم، فتلك المهمة مُوكَلة بالكامل لأدوات إلكترونية. فنحن نستخدم جهاز مِلاحة بالأقمار الصناعية. صحيح أن البعض أحيانًا قد يجده نفسه وسط أحد الحقول. حيث سارت إحدى السيارات في نهر مؤخرًا، بفضل توجيهات من جهاز الملاحة بالأقمار الصناعية. فنحن نحتاج إلى النظر إلى الطريق أيضًا. لكن حتى هذا يمكن أن يؤدي لوقوع خطأ. لقد انتهى بنا المطاف في العام الماضي داخل نطاق منزل ريفي عندما كنا نبحث عن فندق صغير، لأن الجهاز لم يتمكن من تحديد الفرق بين طريق حقيقي بدا مثل مدخل منزل، ومدخل منزل بدا وكأنه طريق حقيقي.
إن الملاحة باستخدام الأقمار الصناعية أشبه بالسحر. إذ لدينا شاشة في السيارة تعرض جزءًا من خريطة. وتُظهر الخريطة موقعنا بالضبط. وأثناء القيادة، تتحرك الخريطة بحيث يكون رمز سيارتك دائمًا في المكان الصحيح. ويعرف الجهاز الاتجاه الذي تتجه فيه، واسم أو رقم الطريق الذي تسلكه حاليًّا. وينبهك إلى أماكن الازدحام المروري. إنه يعرف إلى أين أنت ذاهب، ومدى سرعتك، ومتى تتجاوز الحد الأقصى للسرعة، وأين توجد كاميرات المرور، والمدة التي تستغرقها قبل أن تصل إلى هناك. درِّب الأطفال على قراءة كل ذلك، ولن يحتاجوا إلى السؤال مرة أخرى أبدًا عما إذا كنتم قد اقتربتم من الوصول لوجهتكم أم لا.
لقد كتب كاتب الخيال العلمي العظيم وعالم المستقبليات آرثر سي كلارك قائلًا: «إن أي تقنية متقدمة بما فيه الكفاية لا يمكن تمييزها عن السحر.» وقد أعاد كاتب خيال علمي آخر، وهو جريجوري بينفورد، صياغة تلك العبارة على النحو التالي: «إن أي تقنية يمكن تمييزها عن السحر ليست متقدمة بما فيه الكفاية». وجهاز الملاحة بالأقمار الصناعية متقدم بما فيه الكفاية، لكنه ليس ضربًا من السحر. إذن كيف يعمل؟
إنه يعرف إلى أين أنت ذاهب لأنك أخبرته بذلك. لقد لمست الحروف والأرقام على الشاشة. هذا الجزء واضح. إنه أيضًا الجزء «الوحيد» الواضح. يعتمد السحر المتبقي على التكنولوجيا العالية؛ الأقمار الصناعية التي تدور في مدارات حول الأرض، التي هناك الكثير منها؛ والإشارات اللاسلكية، والشفرات؛ والأعداد شبه العشوائية، والكثير من معالجة الكمبيوتر الذكية. وهناك أيضًا الخوارزميات التي تسعى للعثور على المسار الأسرع/الأرخص/الأقل إضرارًا بالبيئة. والفيزياء الأساسية مهمة للغاية: الميكانيكا المدارية القائمة على قانون الجاذبية لنيوتن، والمدعومة بنظرية النسبية الخاصة لأينشتاين وكذلك نظريته العامة، التي طورت عمل نيوتن. تدور الأقمار الصناعية في الفضاء، وتنقل إشارات التوقيت؛ وبالنسبة لك، يحدث كل شيء تقريبًا في شريحة كمبيوتر صغيرة. هذا بالإضافة إلى بعض شرائح الذاكرة لتخزين الخريطة وما إلى ذلك.
ونحن لا نرى أيًّا من هذه الأشياء، لذلك نرى سحرًا بدلًا من ذلك.
وغنيٌّ عن القول أن جانبًا كبيرًا من هذا السحر قائم على الرياضيات، ويتطلب جرعات ضخمة من أنواع عديدة منها، ناهيك عن كميات هائلة من الفيزياء والكيمياء وعلوم المواد والهندسة. أحيانًا، قد يكون العلاج النفسي أيضًا فكرة جيدة لبعض المستخدمين، ولكن هذه قصة أخرى.
إذا تجاهلنا تصنيع وتصميم الأقمار الصناعية، والتكنولوجيا المطلوبة لإطلاقها في الفضاء، فإن الملاحة بالأقمار الصناعية لا تزال تتضمَّن سبعة مجالات على الأقل من الرياضيات، ولن تعمل دونها. إن المجالات التي أفكر بها هي:
-
حساب مسارات صواريخ الإطلاق لوضع الأقمار الصناعية في المدارات الخاصة بها؛
-
تصميم مجموعة من المدارات التي توفر تغطية جيدة: يجب أن تكون ثلاثة أقمار صناعية على الأقل، ويفضل أكثر من ذلك، مرئيةً من أي موقع معين في أي وقت؛
-
استخدام مُولِّد أعداد شبه عشوائية لإنشاء الإشارات، مما يجعل من الممكن قياس مدى بُعد كل قمر صناعي بدقة شديدة؛
-
استخدام حساب المثلثات والبيانات المدارية لاستنتاج موقع سيارتك؛
-
استخدام معادلات النسبية الخاصة لتصحيح حسابات تأثير السرعات العالية للأقمار الصناعية على مرور الوقت؛
-
استخدام معادلات النسبية العامة لتصحيح حسابات تأثير جاذبية الأرض على مرور الوقت؛
-
حل أحد أشكال مسألة البائع المتجول لإيجاد أفضل مسار وفقًا للمعيار الذي حددته: سريع، وقصير، وصديق للبيئة.
سأناقش معظم هذه المجالات بمزيد من التفصيل خلال الصفحات القليلة القادمة، مع التركيز على أكثرها إثارة للدهشة.
•••
يعتمد جهاز الملاحة بالأقمار الصناعية على إشارات توقيت دقيقة للغاية تنتجها ساعات ذرِّية عالية الدقة، مرسلة من عدد من الأقمار الصناعية المدارية الخاصة. إن ساعة السيزيوم، التي تترك لتحكم أجهزتها الخاصة، تبلغ دقتها حتى ٥ أجزاء في ١٠١٤، أو ٤ نانوثوانٍ في اليوم. هذا يناظر خطأً في موقعك بحوالي متر في اليوم. وللتعويض عن هذا الانحراف التدريجي، تتم إعادة ضبط الساعات بشكل دوري من المحطة الأرضية. وهناك مصادر أخرى لأخطاء التوقيت، وسأعود إليها لاحقًا.
توجد الآن العديد من أنظمة الملاحة بالأقمار الصناعية، لكنني سأركز على أسبقها ظهورًا وأكثرها استخدامًا، وهو نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس). لقد بدأ هذا المشروع في عام ١٩٧٣، تحت رعاية وزارة الدفاع الأمريكية. وجوهر هذا النظام هو مجموعة من الأقمار الصناعية المدارية؛ وكان عددها في البداية ٢٤، والآن أصبحت ٣١. لقد انطلق أول قمر صناعي منها في عام ١٩٧٨، وبدأ تشغيل المجموعة الكاملة في عام ١٩٩٣. في البداية، كان النظام مقصورًا على الاستخدامات العسكرية، ولكن الرئيس رونالد ريجان أصدر الأمر التنفيذي لعام ١٩٨٣، الذي جعله متاحًا للمدنيين في شكل ذي دقة أقل. إن هذا النظام في طور التحديث، وتقوم العديد من الدول الآن بتشغيل أنظمة تحديد المواقع بالأقمار الصناعية الخاصة بها، بدايةً من نظام الملاحة العالمي بالأقمار الصناعية (جلوناس) الخاص بروسيا، بدقة تصل إلى مترين. وفي عام ٢٠١٨، بدأت الصين نظام الملاحة بالأقمار الصناعية الخاص بها المُسمَّى بايدو، الذي يجب أن يكون قيد التشغيل في أي لحظة. وهناك أيضًا نظام الاتحاد الأوروبي المسمى جاليليو. وقد غادرت بريطانيا الآن الاتحاد الأوروبي ولن تشارك في نظام جاليليو، ولكن في انتصار للأيديولوجية على المنطق السليم، أعلنت حكومة المملكة المتحدة أن بريطانيا ستطور وتطلق نظامها الخاص. وتقوم الهند بإعداد نظام نافيك، وتنشئ اليابان نظام الأقمار الصناعية شبه السمتي (كيو زد إس إس)، الذي سيُنهي الاعتماد على نظام تحديد المواقع العالمي بحلول عام ٢٠٢٣.
من الناحية التشغيلية، يتكون نظام تحديد المواقع العالمي من ثلاثة «قطاعات»: الفضاء (الأقمار الصناعية)، والتحكم (المحطات الأرضية)، والمستخدم (أنت في سيارتك). ترسل الأقمار الصناعية إشارات توقيت. ويراقب قطاع التحكم مدارات الأقمار الصناعية ودقة ساعاتها، وإذا لزم الأمر، يرسل تعليمات لتعديل المدار وإعادة ضبط الساعة. ويمتلك المستخدم جهاز استقبال رخيص الثمن منخفض الطاقة صغير الحجم بما يكفي ليناسب الهاتف المحمول، لإخبار التطبيقات بمكانها.
يُطلق على مجموعة الأقمار الصناعية عمومًا اسم «كوكبة»، وهو الاسم المتعارف عليه منذ القدم لترتيب مجموعة نجوم في سماء الليل. وتتكون كوكبة نظام تحديد المواقع العالمي الأصلية من ٢٤ قمرًا صناعيًّا، كل منها في مدار دائري تقريبًا ٢٠٢٠٠ كيلومتر (١٢٦٠٠ ميل) فوق الأرض، أو ٢٦٦٠٠ كيلومتر (١٦٥٠٠ ميل) من مركزها. سأتجاهل لاحقًا الأقمار الصناعية الإضافية، التي لا تؤثر على الأفكار الرئيسية؛ فهي تجعل النظام أكثر موثوقية وأكثر دقة. هناك ستة مدارات، في مستويات تقابل خط الاستواء بزاوية ٥٥ درجة، متباعدة بالتساوي حول خط الاستواء. ويشغل كل مدار أربعة أقمار صناعية متباعدة بشكل متساوٍ، يقتفي أثرَ بعضها البعضُ بشكل دائم. يُحدَّد نصف قطر المدار باستخدام رياضيات المدارات، بحيث يعود القمر الصناعي إلى الموضع نفسه في مداره كل ١١ ساعة و٥٨ دقيقة. هذا يضمَّن أنه سيوجد تقريبًا فوق الموقع نفسه على الأرض مرتين يوميًّا، مع انحرافه ببطء.
السمة الرياضية التالية هي هندسة المدارات. يعني هذا التكوين للأقمار الصناعية والمدارات أنه في أي وقت محدد يمكن رؤية ستة من الأقمار الصناعية على الأقل (أي، يمكن استقبال الإشارات منها) من أي نقطة على هذا الكوكب. ويعتمد تحديد ما هي تلك الأقمار الستة على مكان وجود الشخص، وتتغير هذه المجموعة مع مرور الوقت، لأن الأرض تدور والأقمار الصناعية تدور في مداراتها.
لقد صُمم نظام تحديد المواقع العالمي بحيث لا يحتاج المستخدمون إلى إرسال أي معلومات إلى الأقمار الصناعية. بدلًا من ذلك، لديهم جهاز استقبال يلتقط إشارات التوقيت من الأقمار الصناعية المرئية. ويعالج جهاز الاستقبال بيانات التوقيت لمعرفة مكانها. والمبدأ الأساسي بسيط، لذلك دعونا نلقِ نظرة عليه أولًا. ثم سأشير إلى بعض التعديلات اللازمة لجعله يعمل في العالم الحقيقي.
لنبدأ بقمر صناعي واحد. إنه يرسل لك إشارات توقيت، ومن خلالها يعمل جهاز الاستقبال الخاص بك على تحديد مدى بُعد الأقمار الصناعية في تلك اللحظة. (سنرى لاحقًا كيف يتم هذا.) ربما تبلغ هذه المسافة ٢١ ألف كم. تضعك هذه المعلومة على سطح كرة مركزها القمر الصناعي ونصف قطرها يبلغ ٢١ ألف كم. هذا ليس مفيدًا للغاية وحده، ولكن يمكن رؤية خمسة أقمار صناعية أخرى على الأقل في اللحظة نفسها. اسمح لي أن أشير إليها على أنها القمر الصناعي ٢، القمر الصناعي ٣، وهكذا، حتى القمر الصناعي ٦. كل منها يرسل إشارات تستقبلها أنت في وقت واحد، وكل إشارة تضعك في كرة أخرى، مركزها أيضًا القمر الصناعي، وهكذا لديك الكرات ٢ و٣ و٤ و٥ و٦. الإشارة من القمر الصناعي ٢، جنبًا إلى جنب مع تلك الصادرة من القمر الصناعي ١، تضعك على تقاطع الكُرَتين ١ و٢، الذي هو عبارة عن دائرة. يساهم القمر الصناعي ٣ بكُرة أخرى تتقاطع مع الكرة ١ في دائرة أخرى. وتتقاطع الدائرتان عند نقطتين، تقع كل منهما في الكرات الثلاث. وتوفر الإشارة من القمر الصناعي ٤ الكرة ٤، التي تميز بشكل عام أي النقطتين هي موقعك الصحيح.
في عالم مثالي، يمكننا التوقف عند هذا الحد، وسيصبح القمران ٥ و٦ غير ضروريين. لكن في الواقع، الأمر ليس بهذه البساطة. فكل شيء عُرضة للأخطاء. يمكن أن يؤدي الغلاف الجوي للأرض إلى تدهور الإشارة، وقد يكون هناك تداخل كهربائي، أيًّا كان. بدايةً، هذا يعني ضِمنًا أن موقعك «قريب» من الكرة المعنية، وليس عليها. وبدلًا من سطح الكرة، يقع موضعك داخل طبقة سميكة تحتوي على السطح. لذا، يمكن لأربعة أقمار صناعية وأربع إشارات أن تحدد موقعك بمستوًى معين من الدقة، ولكن ليس بشكل مثالي. للقيام بعمل أفضل، يستخدم نظام تحديد المواقع العالمي القمرين الصناعيين الإضافيين. حيث تقلل كرتاهما السميكتان منطقة موقعك المحتملة أكثر. في هذه المرحلة، من شبه المؤكد أن المعادلات التي تحدد موقعك تكون غير متَّسقة إذا تجاهلتَ الأخطاء المحتملة، ولكن باستعارة حيلة قديمة من علم الإحصاء، يمكنك الحصول على أفضل تقدير لمركزك عن طريق تقليل الخطأ الكلي. وهذا ما يطلق عليه «طريقة المربعات الصغرى»، التي قد قدَّمها جاوس في عام ١٧٩٥.
والمحصلة هي أن جهاز استقبال نظام تحديد المواقع العالمي الخاص بك عليه فقط إجراء سلسلة منتظمة من الحسابات الهندسية البسيطة نسبيًّا، ينتج عنها أفضل تقدير يمكن أن يقوم به لموقعك. ومن خلال مقارنة ذلك بالشكل التفصيلي للأرض، يمكنه حتى معرفة مدى ارتفاعك بالنسبة إلى مستوى سطح البحر. وعملية تحديد الارتفاعات عمومًا هي أقل دقة من تحديد مواقع خطوط الطول/العرض.
•••
قد تبدو عملية إرسال إشارات التوقيت بسيطة، لكنها ليست كذلك. إذا سمعتَ هَزيم الرعد، فأنت تعلم أن هناك عاصفة في الجوار، لكن الهزيم وحده لا يخبرك بمدى بُعدها عنك. إذا رأيت أيضًا البرق، الذي يصل قبل هزيم الرعد، لأن الضوء ينتقل أسرع من الصوت، يمكنك استخدام فارق الوقت بين الإشارتين لتقدير مدى بُعد البرق؛ القاعدة الأساسية هي خمس ثوانٍ لكل ميل. ومع ذلك، فإن سرعة الصوت تعتمد على حالة الغلاف الجوي، لذا فإن هذه القاعدة ليست دقيقة تمامًا.
إن نظام تحديد المواقع العالمي ليس بإمكانه استخدام الموجات الصوتية كإشارة ثانية، لأسباب واضحة؛ فهي بطيئة جدًّا، والفضاء عبارة عن فراغ، لذلك لا يمكن للصوت أن ينتقل فيه بأي طريقة. لكن الفكرة الأساسية، المتمثلة في أنك تستنتج فرقًا زمنيًّا من خلال مقارنة إشارتين مختلفتين لكن مترابطتين، تشير إلى الاتجاه الصحيح. حيث يرسل كل قمر صناعي تسلسلًا من نبضات ٠ / ١ لا تحتوي على تكرارات، إلا إذا انتظرت وقتًا طويلًا جدًّا حتى يتكرر التسلسل بأكمله. يمكن لجهاز استقبال نظام تحديد المواقع العالمي مقارنة سلسلة ٠ و١ التي يحصل عليها من القمر الصناعي مع نفس السلسلة التي ينتجها مصدر محلي. تتأخر إشارة القمر الصناعي لأنه يتعين عليها تغطية المسافة بين القمر الصناعي وجهاز الاستقبال، ويمكننا استنتاج التأخير الزمني عن طريق محاذاة الإشارتين وتحديد المسافة التي يجب إزاحة إحداها خلالها لمطابقة الأخرى.
يمكننا توضيح هذه العملية باستخدام كلمات بدلًا من ٠ و١.
لنفترض أن الإشارة المستلمة من القمر الصناعي هي:
بينما في الوقت نفسه، الإشارة المرجعية من أسفل الطريق هي:
إذن، يمكننا إزاحة الإشارة المحلية حتى تتفق الكلمات، على النحو التالي:
الآن يمكننا أن نرى أن إشارة القمر الصناعي تصل متأخرة بأربع كلمات عن الإشارة المحلية.
ومع ذلك، فإن أجهزة الكمبيوتر ليست جيدة في استخدام طريقة رمي العملات المعدنية. إنها تتبع تعليمات محددة، ويجب أن تفعل ذلك بدقة ودون أخطاء. لحسن الحظ، هناك عمليات رياضية دقيقة يمكن أن تولد سلاسل من البتات التي تبدو عشوائية، بأي معنًى إحصائي معقول، حتى لو كان الإجراء الفعلي حتميًّا. تُعرف هذه الطريقة بمولِّد الأعداد شبه العشوائية. وهذا هو العنصر الرياضي الرئيسي الثالث في نظام تحديد المواقع العالمي.
في الواقع، يقوم نظام تحديد المواقع العالمي بالشيء نفسه مرة أخرى مع عدد شبه عشوائي آخر، حيث يُعدِّل الإشارة بمعدل أسرع بعشر مرات. يُطلق على التعديل الأبطأ «شفرة الاكتساب الخشن»، وهو مخصص للاستخدام المدني. أما التعديل الأسرع، «الشفرة الدقيقة»، فهو مخصص للجيش. كما أنه مشفر، ويستغرق سبعة أيام لتكرار نفسه.
وعند التعبير عنهما باستخدام النظام الثنائي، فإن عددي ميرسين الأوليَّين الموضحين أعلاه يصبحان كما يلي:
تتضمن إشارة نظام تحديد المواقع العالمي أيضًا إشارة ذات تردد أقل بكثير تقدم معلومات حول مدار القمر الصناعي، وتصحيحات الساعة الخاصة به، وعوامل أخرى تؤثر على حالة النظام. قد يبدو هذا معقدًا للغاية، وهو كذلك بالفعل، لكن الأجهزة الإلكترونية الحديثة يمكنها التعامل مع التعليمات المعقدة للغاية دون خطأ. وهناك أسباب وجيهة لهذا التعقيد. إنه يساعد جهاز الاستقبال على تجنب التتبُّع العرضي لإشارة عشوائية أخرى تَصَادف أنها تُبث في ذلك الوقت، لأنه من المستبعد جدًّا أن تؤدي الإشارة الشاردة إلى إنتاج مثل هذا النمط المعقَّد. يُعين لكل قمر صناعي الشفرة شبه العشوائية الشخصية الخاصة به، لذا فإن التعقيد نفسه يضمن أن جهاز الاستقبال لا يخلط بين إشارة من قمر صناعي وإشارة أخرى من قمر صناعي آخر. وكميزة إضافية، يمكن لجميع الأقمار الصناعية الإرسال على التردد نفسه دون التشويش على بعضها، مما يحرر المزيد من الترددات في طيفنا الراديوي المزدحم بشكل متزايد. وفي العمليات العسكرية على وجه الخصوص، لا يمكن للعدو اختراق النظام أو إرسال إشارات كاذبة. وبشكل عام، وزارة الدفاع الأمريكية هي المسئولة عن الشفرة شبه العشوائية، لذا يمكنها التحكم في الوصول إلى نظام تحديد المواقع العالمي.
•••
في عام ١٩٠٥، نشر أينشتاين ورقة بحثية بعنوان «حول الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة». ودرس فيها العلاقة بين ميكانيكا نيوتن ومعادلات ماكسويل للكهرومغناطيسية، ووجد أن هاتين النظريتين غير متوافقتين. وتتمثل المشكلة الرئيسية في أن السرعة التي تنتشر بها الموجات الكهرومغناطيسية — سرعة الضوء — ليست فقط ثابتة في إطار مرجعي ثابت، بل لها أيضًا نفس القيمة الثابتة في إطار متحرك. إذا أضأتَ مصباحًا يدويًّا من سيارة متحركة، فإن الفوتونات تنتقل بالسرعة نفسها التي كانت ستنتقل بها عندما كانت السيارة متوقفة.
على النقيض، في الفيزياء النيوتونية، ستُضاف سرعة السيارة إلى سرعة الضوء. لذلك اقترح أينشتاين تعديل قوانين نيوتن للحركة للتأكد من أن سرعة الضوء ثابتٌ مطلق، مما يعني ضمنًا على وجه التحديد أن معادلات الحركة النسبية يجب تعديلها. لهذا السبب سُميت النظرية بالنسبية، وهي تسمية مضلِّلة بعض الشيء؛ لأن النقطة الأساسية هي أن سرعة الضوء «ليست» نسبية. وقد أمضى أينشتاين سنوات عديدة في محاولة دمج الجاذبية في إطار نظريته، ونجح في النهاية في عام ١٩١٥. وأصبحت هاتان النظريتان المترابطتان والمتميزتان في الوقت نفسه معروفتين، على التوالي، بالنسبية الخاصة والنسبية العامة.
إن هذا ليس كتابًا عن النسبية، لذا اسمح لي أن أمُر سريعًا على بعض السمات البارزة، لإعطاء صورة تقريبية جدًّا لما ينطوي عليه الأمر. لا يوجد مجال هنا لتناول الفروق الفلسفية الدقيقة، وحتى لو كان موجودًا، فلن نتطرق إليها، لذا تحمَّلوني إذا بالغت في التبسيط.
في نظرية النسبية الخاصة، تُعدَّل معادلات الحركة للتأكد من أن سرعة الضوء لها القيمة نفسها في أي إطار مرجعي يتحرك بسرعة ثابتة. يتحقق ذلك باستخدام تحويلات لورنتس، وهي صِيَغ رياضية تحمل اسم الفيزيائي الهولندي هندريك لورنتس، وتصف كيف يتغير الموضع والزمن عند مقارنة الإطارات المختلفة. والتنبؤات الرئيسية تكون غريبة جدًّا من وجهة النظر النيوتنية. لا شيء يمكن أن ينتقل على نحو أسرع من الضوء؛ يتقلص طول الجسم مع زيادة سرعته، ويصبح صغيرًا بشدة مع اقتراب السرعة أكثر وأكثر من سرعة الضوء؛ وبينما يحدث هذا، فإن الزمن المدرك يمر ببطء شديد؛ وتزداد الكتلة بلا حدود. ببساطة، عند سرعة الضوء، يتقلَّص طول الجسم (في اتجاه الحركة) إلى الصفر، ويتوقف الزمن، وتصبح الكتلة غير محدودة.
إن نظرية النسبية العامة تحافظ على هذه المكونات، لكنها تضمن الجاذبية أيضًا. ومع ذلك، فبدلًا من أن تكون الجاذبية قوة، كما صاغها نيوتن، أصبحت تأثير انحناء الزمكان، وهو بناء رياضي رباعي الأبعاد يجمع بين أبعاد الفراغ الثلاثة وبُعد رابع، هو الزمن. بالقرب من أي كتلة، مثل نجم، «ينحني» الزمكان، مما يؤدي إلى نوع من الانخفاض، ولكن في أربعة أبعاد. وينحرف شعاع ضوء أو جُسَيم، مار في مكان قريب، عن خط مستقيم؛ لأنه يتبع الانحناء. وهذا يخلق الوهم بوجود قوة جذب بين النجم والجُسيم.
جرى التحقُّق من كلتا النظريتين بإسهاب من خلال تجارب شديدة الحساسية. وعلى الرغم من سماتهما الغريبة إلى حد ما، فإنهما توفران أفضل نموذج للواقع اكتشفته الفيزياء حتى الآن. يجب أن تأخذ المفاهيم الرياضية المستخدمة في نظام تحديد المواقع العالمي التأثيرات النسبية في الاعتبار، من جانب سرعة القمر الصناعي وبئر جاذبية الأرض، وإلا فسيصبح النظام عديم الفائدة. في الواقع، إن نجاح هذا النظام، المصحح على هذا النحو، لهو اختبار مهم لصحة كلٍّ من النسبية الخاصة والعامة.
إن معظم مستخدمي نظام تحديد المواقع العالمي يكونون في مواقع ثابتة على سطح الأرض، أو يتحركون ببطء؛ لا تتعدى السرعة سرعة سيارة سريعة، على سبيل المثال. لهذا السبب، قرر المصممون بث معلومات حول مدارات الأقمار الصناعية باستخدام إطار مرجعي مرتبط بشدة بالأرض الدوَّارة، وبافتراض أن معدل دورانها ثابت. إن شكل كوكبنا، الذي يطلق عليه «الجيويد»، هو تقريبًا مجسم قطع ناقص دوراني مفلطَح قليلًا.
عندما تكون في سيارتك، والأقمار الصناعية تدور في السماء فوقك، فمن الواضح أنها تتحرك بالنسبة إليك. وتتنبأ نظرية النسبية الخاصة بأنك ستلاحظ أن ساعة القمر الصناعي تتحرك ببطء أكثر من الساعة المرجعية على الأرض. في الواقع، ستتأخر ساعة القمر الصناعي بنحو ٧ ميكروثوانٍ لكل يوم، وذلك بسبب التمدد الزمني النسبي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن قوة الجاذبية الظاهرة على ارتفاع مدارات الأقمار الصناعية تكون أقل من تلك الموجودة على الأرض. ووَفقًا لنظرية النسبية العامة، يكون الزمكان بالقرب من الأقمار الصناعية أكثر انبساطًا — أقل انحناءً — مما هو بالقرب من سيارتك. يتسبَّب هذا التأثير في تشغيل ساعات الأقمار الصناعية بشكل أسرع من الساعات الأرضية. وتتنبأ نظرية النسبية العامة بأن ساعات الأقمار الصناعية تسبق الساعات الأرضية بمقدار ٤٥ ميكروثانية لكل يوم. بالجمع بين هذه التأثيرات المتضاربة، فإن ساعة القمر الصناعي ستعمل أسرع من الساعة الأرضية بنحو ٤٥ – ٧ = ٣٨ ميكروثانية لكل يوم. وسيصبح مثل هذا الخطأ ملحوظًا بعد دقيقتين، وسوف ينحرف موقعك بحوالي ١٠ كيلومترات لكل يوم عن الموقع الصحيح. وفي غضون يوم واحد، سيضعك جهاز الملاحة بالأقمار الصناعية في البلدة الخطأ، وفي غضون أسبوع في المقاطعة الخطأ، وفي غضون شهر في الدولة الخطأ.
في البداية، لم يكن المهندسون والعلماء العاملون في مشروع نظام تحديد المواقع العالمي على يقين من أن النسبية مهمة بالفعل لهذا النظام. فسُرعات الأقمار الصناعية سريعة وفقًا للمعايير البشرية، ولكنها أشبه بزحف بطيء مقارنة بسرعة الضوء. وجاذبية الأرض ضئيلة عند مقارنتها بالنِّسَب الكونية. لكنهم بذلوا قصارى جهدهم لتقدير حجم هذه التأثيرات. في عام ١٩٧٧، عندما وُضع أول نموذج أولي لساعة السيزيوم الذرِّية في المدار، لم يكونوا متأكدين من حجم هذه التأثيرات، أو ما إذا كان ينبغي أن تكون إيجابية أم سلبية، والبعض لم يعتقد أن التصحيحات ذات الصلة بالنسبية ستكون ضرورية على الإطلاق. لذا دمج المهندسون في الساعة دائرة إلكترونية، وعند إشارة معينة من الأرض، يمكنها تغيير ترددها لإلغاء التأثيرات النسبية المتوقعة، إذا تبين أن ذلك ضروري. في الأسابيع الثلاثة الأولى، تركوا هذه الدائرة مغلقة، وقاسوا تردد الساعة، ولاحظوا زيادته بمقدار ٤٤٢٫٥ جزء لكل تريليون، مقارنة بساعة على الأرض. كان التوقع من نظرية النسبية العامة زيادةً قدرها ٤٤٦٫٥ جزء لكل تريليون. إنها دقة مذهلة إلى حد كبير.
•••
هناك العديد من الاستخدامات الأخرى لنظام تحديد المواقع العالمي، بخلاف الاستخدام الواضح المتمثل في تحديد المواقع (للسيارات، والمركبات التجارية، والرحالة المتجولين)، والتطبيقات العسكرية، التي أدت إلى إنشاء النظام في المقام الأول. سأذكر هنا القليل فقط منها.
أنت لست بحاجة إلى معرفة مكانك عندما تستخدم تطبيقًا لطلب المساعدة على الطريق عندما تتعطل سيارتك؛ لأن نظام تحديد المواقع العالمي يفعل ذلك نيابةً عنك. كما يُستخدم النظام أيضًا لمنع سرقة السيارات، وللقيام بعمليات وضع الخرائط والمسح، ومراقبة الحيوانات الأليفة والأقارب المسنِّين، والحفاظ على أمان الأعمال الفنية. وتشمل الاستخدامات الرئيسية: الملاحة في السفن والطائرات، وتتبع مركبات شركات النقل. والآن بعد أن أصبحت معظم الهواتف المحمولة مزوَّدة بأجهزة استقبال خاصة بهذا النظام، فيمكنها ربط صورك بالموقع الذي التقطتها فيه، وإخبارك بمكان الهاتف المفقود أو المسروق، واستدعاء سيارة أجرة من أجلك. كما يمكنك استخدام النظام جنبًا إلى جنب مع خدمات الخرائط عبر الإنترنت مثل «جوجل مابس»، بحيث تُظهر لك الخريطة مكانك تلقائيًّا. ويمكن للمزارعين التحكم في الجرارات التي هي بغير سائق، ويمكن للمصرفيين مراقبة التحويلات المالية، ويمكن للمسافرين تتبُّع أمتعتهم. كما يمكن للعلماء مراقبة تحركات الأنواع المهددة بالانقراض وتتبع الكوارث البيئية مثل حالات التسرُّب النفطي.
كيف كان من الممكن أن نُدير شئوننا بفعالية دون نظام تحديد المواقع العالمي؟ إنه لأمر مدهش كيف يمكن لقليل من السحر الرياضي، الذي أتاح ظهور التقنيات التحويلية (والمكلفة للغاية)، أن يغير حياتنا بسرعة؟