الفصل الرابع عشر

الثعلب والقُنفُذ

يَعرف الثعلب أشياء كثيرة، لكن القُنفُذ يعرف شيئًا واحدًا كبيرًا.

مقولة منسوبة إلى أرخيلوخوس، ٦٥٠ ق.م. تقريبًا
عند البحث عن مصدر إلهام لهذا الكتاب، عثرت على هذه المقولة: Πόλλ’ οἶδ’ ἀλώπηξ, ἀλλ’ ἐχῖνος ἓν μέγα. لقد تعلمت اللاتينية في المدرسة، وليس اليونانية، لكن علماء الرياضيات يعرفون حروفهم اليونانية. حتى إنني أستطيع التعرف على كلمتَي echinos وmega، وعمل تخمين ملائم، لذلك فهي مقولة ذات صلة بقنفذ كبير. إنها في الواقع تُترجَم على النحو التالي: «يعرف الثعلب أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئًا واحدًا كبيرًا». وربما يكون قد صاغها الشاعر اليوناني القديم أرخيلوخوس، لكن هذا غير مؤكد.

هل يجب أن أكون ثعلبًا أم قُنفُذًا؟ هل يجب أن أحاول وصف مجموعة مختارة من التطورات المذهلة التي لا حصر لها في الرياضيات على مدى الخمسين عامًا الماضية، وكيف استُخدِمت؟ أم يجب أن أركز على «شيء واحد كبير»؟

لقد قررت أن أفعل الأمرين.

لقد استعرضنا معًا الجزء الخاص بالثعلب، عبر ثلاثة عشر فصلًا. والآن يأتي جزء القُنفُذ، للحصول على الخلاصة التي أريد توصيلها من الكتاب.

عند إلقاء نظرة على الموضوعات التي تناولتها، أجدُني مندهشًا من ثراء وتنوع المجالات المختلفة للرياضيات التي شقَّت الآن طريقها إلى الأنظمة والأجهزة التي تميز الحياة في أوائل القرن الحادي والعشرين. ليس فقط من أجل الأغنياء في الدول الديمقراطية الغربية، على الرغم من أنهم ربما يستفيدون أكثر من أولئك الناس الأقل ثراءً، ولكن من أجل مليارات الناس في كل بلدان العالم. لقد نقل الهاتف المحمول الاتصالات الحديثة إلى البلدان النامية. إنه الآن في كل مكان، وقد غيَّر كل شيء. ليس دائمًا للأفضل؛ إذ إن التغيير هو سلاح ذو حدين. ودون الرياضيات، والكثير من الناس الذين تدربوا على استخدامها على مستوًى متقدِّم، ما كانت لتوجد هواتف محمولة.

أنا أيضًا على دراية بالعدد الهائل من التطبيقات التي لم يكن لديَّ مساحة لأذكرها. وتلك التي استعرضتُها هنا ليست بالضرورة هي الأفضل أو الأكثر أهمية أو الأكثر إثارة للإعجاب أو الأكثر قيمة. إنها مجرد مجموعة من التطبيقات التي جذبتني لأنها استعانت بأفكار رياضية جيدة، وفي الغالب جديدة، واستخدمتها في مجال يُعَد بمثابة مفاجأة، لأن هذا النوع من الأفكار الرياضية لم يُبتكر لهذا الغرض على الإطلاق. أنا أيضًا قصدت التنوع؛ إذ لا أعتقد أنه كان من المنطقي أن أُخصص ٩٠٪ من الكتاب للمعادلات التفاضلية الجزئية التطبيقية، على سبيل المثال، رغم أنه كان من السهل العثور على مادة علمية كافية وتبرير أهميتها. لقد أردت أن أُبين لكم مدى التنوع والنطاق الواسع لاستخدامات مجالي في وقتنا الحاضر، بالإضافة إلى إثبات أهميته للإنسانية ككل.

ولإرضاء ضميري، سأذكر على نحو مختصر بعضًا من مئات التطبيقات الأخرى التي كان بإمكاني إخباركم عنها بدلًا من ذلك. حتى هذه مجرد قمة جبل جليدي يختفي الجزء الأكبر منه تحت مياه المحيط. أثناء عملية البحث عن المادة العلمية لهذا الكتاب، جمعت ملفًّا عنها، وهذه الأمثلة مأخوذة منه. وهي ليست مذكورة وَفق أي ترتيب خاص.

التنبؤ بمستويات الفيضانات.
تحليل البيانات الضخمة وداء لايم.
عدد الهزات التي يتطلبها إخراج الكاتشب من الزجاجة.
كيفية تحسين استخدام الخشب في مصنع لنَشْر الأخشاب.
أفضل طريقة لعزل منزل أو ماسورة.
اكتشاف التحيُّز (على أساس العِرق أو نوع الجنس) في الخوارزميات.
صلابة الهياكل الهندسية، مثل هياكل المباني المصنوعة من الصلب.
اكتشاف الخلايا السرطانية باستخدام الكمبيوتر.
تحسين طرق الحصول على سماكة ثابتة عند تصنيع ألواح الزجاج.
إنتاج ثاني أكسيد الكربون عند تماسك الخرسانة.
تصميم أنظمة مفاتيح رئيسية للمباني المكتبية.
نَمْذَجة قلبٍ افتراضي باستخدام الكمبيوتر.
تصميم المباني لمقاومة الأعاصير.
اكتشاف صلات القرابة بين الأنواع.
تخطيط حركات الروبوتات الصناعية.
الجوانب الوبائية الخاصة بأمراض الماشية.
الاختناقات المرورية.
بناء شبكة كهرباء حسَّاسة لحالة الطقس.
تحسين مقاومة المجتمعات للمد العاصِفي للأعاصير.
كابلات الاتصالات الموجودة تحت الماء.
اكتشاف الألغام الأرضية في البلدان التي انتهت فيها الحروب.
التنبؤ بحركة الغبار الخارج من البراكين لمساعدة شركات الطيران.
تقليل تقلبات الجهد في شبكات الطاقة.
تحسين كفاءة اختبارات الفيروسات خلال جائحة كوفيد-١٩.

إن كلًّا من هذه الموضوعات كان يستحق تخصيص فصل كامل لاستعراضه. فهي تضيف المزيد من الأمثلة على التنوع الهائل للطرق التي تُستخدم بها الرياضيات لصالح الجميع على هذا الكوكب.

•••

نظرًا لأن هذه الأمثلة، والأمثلة الأخرى التي ناقشتُها بمزيد من التفصيل، قد أوضحت أن التنوع الهائل لتطبيقات الرياضيات أمر محير للعقل، خاصةً عندما ندرك أن الكثير منها ظهر في الأصل بهدف مختلف، أو فقط لأن أحد علماء الرياضيات في مكان ما في وقت ما اعتقد أنه قد يكون من المثير للاهتمام العمل عليه. وهذا مرة أخرى يثير القضية الفلسفية العميقة التي حيرت فيجنر في عام ١٩٥٩. وقد ظلت — بالنسبة لي، على الأقل — محيرة الآن مثلما كانت آنذاك. بل زادت حيرتي أكثر بشأنها. لقد ركز فيجنر بشكل أساسي على الفعالية اللامعقولة للرياضيات في الفيزياء النظرية، لكننا نجد الآن أنها فعالة على نحو غير معقول في نطاق أوسع وأكثر إلحاحًا من الأنشطة البشرية. معظمها حتى ليست له علاقة واضحة بأي شيء رياضي.

وأنا، مثل فيجنر، لست مقتنعًا بالتفسير الذي يقترحه الكثير من الناس، والذي يرى أن الرياضيات مستمَدة من العالم الحقيقي، ومن ثَم يجب أن تكون فعَّالة في العالم الحقيقي. فكما قلت من قبل، أعتقد أن هذا يُغفِل الحقيقة، على الرغم من أنه يفيد في تفسير الفعالية «المعقولة». والقصص التي رويتُها في هذا الكتاب توضح بعض السمات التي تجعل الرياضيات مفيدة في مجالات لا علاقة لها على ما يبدو بأصولها. لقد عرَّف عالم الرياضيات والفيلسوف بنجامين بيرس، الرياضيات بأنها «العلم الذي يستخلص الاستنتاجات اللازمة». ففي ضوء مجموعة من الظروف، ما الذي سيحدث؟ هذه قضية عامة للغاية وشائعة في معظم المشكلات التي تنشأ في العالم الخارجي. ولأن الرياضيات في هذه الأيام عامة للغاية، فهي توفِّر مجموعة من الأدوات المفيدة للإجابة على مثل هذه الأسئلة، فقط هي في انتظار أن تُستخدم. نحن لا نحتاج إلى تصور كل استخدام ممكن للمطرقة من أجل أن نقرر أن المطرقة قد تستحق الاقتناء. إن القدرة على ربط الأشياء معًا، أو تفكيكها عن بعضها، لهي تقنية عامة من المحتمل أن تكون قابلة للتطبيق على نطاق واسع. تنجح المطرقة في إنجاز مهمة معينة، لذلك قد تصلح لإنجاز المهام الأخرى. لذا، غالبًا ما يمكن نقل طريقة رياضية استخدمت على نحو رائع في تطبيق واحد، بعد تعديلها على نحو مناسب، إلى تطبيقات أخرى.

وهناك تعريف آخر للرياضيات يعجبني، وهو تعريف لين آرثر ستين، الذي يرى أنها «علم الشكل الدال». فجوهر الرياضيات هو «البِنية». إنها تدور حول كيفية الاستفادة من البنية لفهم مشكلةٍ ما. مرة أخرى، تعتبر وجهة النظر هذه واحدة عامة للغاية، وتظهر التجربة أنها يمكن أن تعبر عن جوهر الأمر.

وهناك تعريف ثالث، قُدم على نحوٍ يائس، وهو أن الرياضيات هي «ما يمارسه علماء الرياضيات». ومن ثَم نضيف أن عالم الرياضيات هو «شخص يمارس الرياضيات». أعتقد أننا نستطيع أن نفعل ما هو أفضل من التكرار. هل التجارة هي «ما يمارسه التجار»، والتاجر هو «شخص يمارس التجارة»؟ أجل، ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك. ما يجعل شخصًا ما رائد أعمال ناجحًا ليس ممارسة التجارة على هذا النحو؛ إنه يقتنص «فرصة» للمتاجرة تجاهلها الآخرون. وبالمثل، فإن عالم الرياضيات هو شخص يقتنص فرصة لممارسة الرياضيات تجاهلها الآخرون.

إن طريقة القيام بذلك هي التفكير على نحو رياضي.

وعلى مر القرون، طوَّر علماء الرياضيات طرق تفكير بديهية تستهدف الجوانب الأساسية للمشاكل. إنهم يطرحون أسئلة، مثل: ما السياق الطبيعي للمشكلة؟ ما نطاق الاحتمالات؟ ما البنية الطبيعية التي من خلالها يمكن التعبير عن الخصائص ذات الصلة؟ ما السمات الأساسية، وما تلك التي تعتبر تفاصيل دقيقة غير ذات صلة، أو أشياء تشتت الانتباه يمكن تجاهلها؟ وكيف نتجاهلها؟ وما البنية الطبيعية لما تبقَّى؟ لقد صقل المجتمع الرياضي تلك الأساليب من خلال التعامل مع عدد لا يُحصى من المشكلات الصعبة، وطورها إلى نظريات متميزة وفعَّالة، واختبرها بأن جعلها تتصدَّى لمشاكل من العالم الحقيقي. ومن ثَم أصبحت على نحو متزايد تتصف بأنها عامة، ومترابطة، وفعالة، وقابلة للتطبيق المتعدِّد.

ربما تكون فعالية الرياضيات ليست لا معقولة للغاية.

وربما هي ليست لغزًا على الإطلاق.

•••

تخيل عالَمًا دون رياضيات.

أسمع الكثير من الأشخاص الذين يُهلِّلون فرَحًا لذلك بكل حماس، وأنا متعاطف معهم؛ لأنه لا ينبغي أن يصبح كل ما يروق لي يروق لك أنت أيضًا. لكنني لا أتحدث عنك شخصيًّا وأنت تتجنب الاضطرار إلى تعلم الرياضيات. فالأمر يتجاوزك.

لنفترض أن هناك في الكون المتَّسِع إلى ما لا نهاية حضارة فضائية تستهلك كميات هائلة من الرياضيات. أعني هذا حرفيًّا. يجادل بعض الفيزيائيين بأن الرياضيات فعَّالة على نحو لا معقول في تفسير الكون لأن الكون «مصنوع» من الرياضيات. والرياضيات ليست تقنية بشرية لفهم الأشياء؛ إنها حقيقية، إنها مادة غير ملموسة مدمَجة في كل الأشياء الموجودة حولنا.

أنا شخصيًّا أعتقد أن هذا الرأي مجنون، ويسفه اللغز الفلسفي، لكن الكائنات الفضائية تعرف أنني مخطئ. لقد اكتشفت منذ مليار سنة أن الكون مصنوع بالفعل من الرياضيات. وحضارتها تستهلكها بكميات هائلة، تمامًا كما نستنفد العديد من موارد الأرض. في الواقع، لقد استهلك الفضائيون الكثير من الرياضيات لدرجة أنهم كادوا أن يستنفدوها منذ مدة طويلة، لولا حلٌّ بسيط. إن قدراتهم التقنية متقدمة للغاية وتوجُّهاتهم عدوانية للغاية؛ لذلك يُرسلون أساطيل من سفن الفضاء العملاقة بين النجوم، وهي مدجَّجة بالأسلحة، للبحث عن حياة جديدة والاستيلاء على الرياضيات الموجودة هناك.

«الماثيفوريون»، أو آكلو الرياضيات، قادمون.

إنهم، عندما يصلون إلى عالم جديد، «يأكلون» كل الرياضيات الموجودة فيه. ليس فقط الأفكار، ولكن المادة غير الملموسة نفسها، وكل شيء اعتمد يومًا على هذا المجال يختفي أيضًا؛ نظرًا لأنه سيحرم من تدعيمه له. يفضل الماثيفوريون المواد الغذائية الأكثر نقاءً، لذلك يبدءون بالرياضيات المتقدمة للغاية، ثم يلتهمون كل ما يجدونه في طريقهم حتى يصلوا إلى الأشياء التقليدية. إنهم يغادرون عمومًا عندما يصلون إلى العمليات الحسابية البسيطة، مثل الضرب المطول؛ لأنهم لا يجدون مثل هذه العمليات مستساغة على نحو جيد، لذا فإن الحضارة في العالم الذي هاجموه لا تنهار بالكامل. لكن تصبح ظلًّا شاحبًا لمجدها السابق، وتتناثر في أنحاء المجرَّة كواكب دُفِع سكانها الأصليون إلى العودة إلى «عصور الظلام» دون أي إمكانية للنجاة.

إذا وصل الماثيفوريون إلى كوكبنا غدًا، فماذا سنخسر؟

ربما لن نلاحظ عندما تختفي مجالات البحث المتقدمة الخاصة بالرياضيات البحتة. فعلى الرغم من أن بعضًا منها قد يصبح أمرًا حيويًّا بعد قرن من الزمان، فإنه ليس ضروريًّا الآن. ولكن ما إن يبدأ الماثيفوريون في استكمال زحفهم في المسار الرياضي، حتى تبدأ أشياء مهمة في الاختفاء. أول ما سيختفي هو أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة والإنترنت، وهي المنتجات الأكثر تطورًا من الناحية الرياضية على هذا الكوكب. وسيلي ذلك اختفاء أي شيء له صلة بالفضاء: الأقمار الصناعية الخاصة بالطقس، والأقمار الصناعية الخاصة بالبيئة، والأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات، والمِلاحة عبر الأقمار الصناعية، والملاحة الجوية، والبث التليفزيوني المرتبط بالأقمار الصناعية، ومراصد التوهُّجات الشمسية. وستتوقف محطات الطاقة الكهربائية عن العمل. وستتعطل الروبوتات الصناعية، وتندثر قطاعات التصنيع، ونعود إلى المكانس اليدوية بدلًا من المكانس الكهربائية. ولن توجد طائرات نفاثة؛ إذ لن يمكننا تصميمها بعد الآن دون أجهزة كمبيوتر، كما أننا بحاجة إلى الديناميكا الهوائية لمعرفة كيفية جعلها تظل محلقة. وسيتلاشى الراديو والتليفزيون فجأة وتمامًا، لأن هاتين التقنيتين تعتمدان على معادلات ماكسويل للإشعاع الكهرومغناطيسي؛ أي، موجات الراديو. وستنهار كل المباني الشاهقة، لأن تصميمها وبناءها يعتمدان بشكل كبير على الأساليب الحاسوبية ونظرية المرونة لضمان السلامة الهيكلية. ولن تعود هناك ناطحات سحاب، ولا مستشفيات ضخمة، ولا استادات رياضية.

سيرتدُّ التاريخ إلى الخلف. ففي هذا السيناريو، ها نحن قد عدنا بالفعل إلى ما كانت عليه الحياة منذ قرن من الزمان، وما هي إلا مجرد البداية بالنسبة للماثيفوريين.

يمكن القول إن بعض الخسائر جيدة؛ الأسلحة النووية، على سبيل المثال، ومعظم التطبيقات العسكرية الأخرى للرياضيات، على الرغم من أننا سنفقد أيضًا القدرة على الدفاع عن أنفسنا. إن الرياضيات في حد ذاتها محايدة؛ ما هو جيد أو سيئ يعتمد على ما يستخدمها البشر فيه.

وتكون بعض الخسائر محيرة؛ إذ ستوقِف البنوك جميع الاستثمارات في أسواق الأوراق المالية؛ لأنها ستفقد القدرة على التنبؤ بما ستفعله، مما يقلل من مخاطرها المالية. لا يحب المصرفيون المخاطر، باستثناء تلك التي لا يدركونها إلا عندما ينهار النظام المالي. هذا يقلل من هَوَسنا المدمِّر لذواتنا بالمال، لكنه يمنع أيضًا الكثير من المشاريع المفيدة من الحصول على التمويل.

ستكون معظم الخسائر سيئة. ستعود عملية التنبؤ بالطقس إلى مرحلة لعق الإصبع ورفعه لأعلى لمعرفة الاتجاه الذي تهب منه الريح. وسيفقد الطب ميزات أجهزة الأشعة وقدرته على وضع نماذج انتشار الأوبئة، على الرغم من أنه سيحتفظ بتقنيات التخدير وأشعَّة إكس. وسيختفي تمامًا أي شيء يعتمد على الإحصاء. ولن يعود بإمكان الأطباء تقييم سلامة وفعالية الأدوية والعلاجات الجديدة. وستفقد الزراعة القدرة على تقييم سلالات جديدة من النباتات والحيوانات. ولن يعود بإمكان قطاعات التصنيع المراقبة الفعَّالة للجودة، لذا فإن كل ما ستشتريه — من النطاق المحدود من البضائع الذي سيبقى متاحًا — سيكون غير موثوق به. وستفقد الحكومات القدرة على التنبؤ بالتوجُّهات والمطالب المستقبلية. صحيح أنها ربما لم تكن جيدة بشدة في ذلك على أي حال، لكن قدرتها الآن في هذا الشأن ستقل للغاية. وسترتد اتصالاتنا إلى الحالة البدائية، ولن نجد حتى التلغراف. وسيصبح إرسال رسائل على ظهور الخيول هو أسرع وسيلة اتصال يمكننا الحصول عليها.

بالوصول إلى هذه المرحلة، سيصبح من المستحيل دعم سكان الكوكب. إذ لن تعمل أي من الحِيَل الذكية التي كنا نستخدمها لزراعة المزيد من الطعام ونقل البضائع عبر المحيطات. وسيكون علينا أن نرتدَّ إلى مرحلة السفن الشراعية. وستتفشى الأمراض مع تضوُّر المليارات من البشر جوعًا حتى الموت. وستحل نهاية العالم، ونصبح في انتظار معركة هرمجدون؛ لأن القِلَّة الناجين سيتناحرون من أجل الأشياء القليلة التي تبقَّت من عالمنا.

•••

قد تشعر أن هذا السيناريو يتَّسم بالمبالغة. أزعم أن الشيء الوحيد الذي بالغت فيه هو تصوير الرياضيات بأنها مادة صالحة للأكل. نحن نعتمد بالفعل على الرياضيات في كل شيء تقريبًا يحافظ على استمرارية كوكبنا. إن الحياة اليومية للأشخاص الذين يعتقدون أن الرياضيات عديمة الفائدة تعتمد بشكل غير مُدرَك على أنشطة أولئك الذين يعرفون أن هذا غير صحيح. إنه ليس خطأهم على الإطلاق؛ فتلك الأنشطة تحدث خلف الكواليس، حيث من غير المحتمل أن يصبح أحد على دراية بها باستثناء المتخصصين.

أنا لا أقول إننا «دون الرياضيات، كنا سنظل نعيش في الكهوف»؛ لأنني متأكد من أننا، دون الرياضيات، كنا سنجد طرقًا أخرى للتقدم. وأنا لا أدعي على الإطلاق أنه ينبغي منح الرياضيات «وحدها» الفضل في التقدم الذي حقَّقناه. فالرياضيات تكون في ذروة منفعتها عندما تنضم إلى كل الأشياء الأخرى المتاحة للبشرية كي تحل المشكلات التي تواجهها وتحقق الأهداف التي تتصورها. لكننا وصلنا لما نحن فيه من تقدم هائل؛ لأن الرياضيات، إلى جانب كل تلك الأشياء الأخرى، هي التي أوصلتنا إليه. لقد ضمنَّا، في الوقت الحاضر، الرياضيات بعمق في البِنى التكنولوجية والاجتماعية الخاصة بنا لدرجة أننا سنصبح في وضعٍ صعب للغاية من دونها.

في الفصل الافتتاحي، ذكرتُ ست ميزات للرياضيات: الواقعية، والجمال، والعمومية، وقابلية التطبيق المتعدِّد، والوحدة، والتنوُّع. إنها معًا، حسبما زعمتُ، تؤدي إلى الفائدة الكبيرة للرياضيات. والآن، بعد أن قرأت الفصول السابقة، كيف تقيم معقولية هذه الملاحظات؟

إن العديد من الأفكار الرياضية التي تطرقنا إليها نشأت في العالم الحقيقي. الأعداد، والمعادلات التفاضلية، ومسألة البائع المتجوِّل، ونظرية الرسم البياني، وتحويل فورييه، ونموذج إيزينج. فالرياضيات تأخذ الإلهام من الطبيعة، وتتطوَّر.

ونشأت جوانب أخرى من المجال إلى حد كبير بسبب الحِسِّ الجمالي المجرد لعلماء الرياضيات. فالأعداد المركبة ابتُكرت لأنه من السيئ أن يكون لبعض الأعداد جذران تربيعيان ولا يكون لأخرى أي جذور تربيعية. وظهر الحساب المقياسي، والمنحنيات الإهليلجية، وأجزاء أخرى من نظرية الأعداد، لأن الناس استمتعوا بالبحث عن أنماط عددية. وظهر تحويل رادون، لأنه سؤال مثير للاهتمام في الهندسة. وهناك أيضًا الطوبولوجيا، التي ظلَّت دون تطبيقات كثيرة في الواقع لمدة قرن، ولكنها أساسية بالنسبة للصرح الرياضي؛ لأن جوهرها هو الاستمرارية، وهو أمر أساسي.

إن الرغبة في التعميم واضحة في كل مكان. فلم يكتفِ أويلر بحل اللغز الخاص بجسور كونيجسبرج؛ بل حل كل الألغاز التي من النوع نفسه وأنشأ مجالًا جديدًا من الرياضيات تمَّثل في نظرية الرسم البياني. وقد أدَّت الشفرات المبنيَّة على الحساب المقياسي إلى مسائل التعقيد الحسابي وما إذا كانت P = NP. كما ألهمت الأعداد المركبة هاميلتون كي يتوصل إلى الكواترنيونات. وعُمِّم التحليل إلى التحليل الدالِّي، مع استبدال فراغات الدوال غير منتهية الأبعاد بالفراغات المنتهية الأبعاد، والداليات والمؤثرات بالدوال. وابتكر علماء الرياضيات فراغات هيلبرت في نظرية الكم قبل وقت طويل من أن يجد الفيزيائيون فائدة لها. وبدأت الطوبولوجيا بألعاب مثل شرائط موبيوس وانطلقت لتصبح واحدة من أعمق مجالات الفكر البشري وأكثرها تجريدًا. والآن بدأت تؤتي ثمارها في الحياة اليومية، أيضًا.
إن العديد من الأساليب التي صادفناها قابلة للتطبيق المتعدد، لذا تُستخدم في كل المجالات، بغض النظر عن المجال الذي نشأت فيه. حيث تظهر نظرية الرسم البياني في المشاكل الطبية ذات الصلة بزرع الكُلَى، وفي مسألة البائع المتجوِّل، وفي الشفرات الكمية (الرسوم البيانية الموسَّعة) التي يمكن أن تحمي بياناتنا من هجمات أجهزة الكمبيوتر الكمية، وفي قدرة المِلاحة بالأقمار الصناعية على اختيار مسار فعَّال. لقد صُمِّم تحويل فورييه في الأصل لدراسة تدفُّق الحرارة، لكن المفاهيم المشابهة تتضمن تحويل رادون، المستخدم في أجهزة الأشعة الطبية، وتحويل جيب التمام المتقطِّع المستخدَم في نظام ضغط الصور باستخدام تنسيق JPEG، والمُوَيجات التي يستخدمها مكتب التحقيقات الفيدرالي لتخزين بصمات الأصابع بكفاءة.

أما وحدة الرياضيات، فهي أيضًا خيط يمتد عبر كل قصصي هنا. حيث تؤدي مبادئ نظرية الرسم البياني إلى ظهور مجال الطوبولوجيا. وتظهر الأعداد المركبة في مسائل متعلقة بنظرية الأعداد. ويُلهم الحساب المقياسي بناء مجموعات التماثل. وتجمع المِلاحة بالأقمار الصناعية بين خمسة فروع متمايزة على الأقل من الرياضيات في تطبيق واحد؛ بدءًا من الأعداد شِبه العشوائية إلى النسبية. وتساعد الديناميكا في وضع الأقمار الصناعية في مداراتها وتقترح طريقة جديدة لمراقبة الجودة للسلك الزُّنبُركي.

ماذا عن التنوع؟ تعرض فصول هذا الكتاب، بين طيَّاتها، عشرات المجالات المختلفة للرياضيات، التي عادة ما تكون مُجمَّعة. وهي تتراوح من المجالات العددية إلى المجالات الهندسية، ومن الأعداد غير النسبية إلى قِنِّينات كلاين، ومن تقسيم الكعكة العادل إلى النماذج المناخية. كما تتضافر الاحتمالية (سلاسل ماركوف)، والرسوم البيانية، وأبحاث العمليات (أساليب مونت كارلو) لزيادة فُرص المرضى في الحصول على عملية زرع كُلًى.

بالنسبة إلى المنفعة، فإن نطاق التطبيقات أكثر تنوُّعًا، من أعمال التحريك في الأفلام إلى الطب، ومن تصنيع الزُّنبُرك إلى التصوير الفوتوغرافي، ومن التجارة عبر الإنترنت إلى توجيه الطائرات، ومن الهواتف المحمولة إلى أجهزة الاستشعار الأمنية. إن الرياضيات في كل مكان. ولقد عرضتُ لك فقط جزءًا صغيرًا مما هو موجود على أرض الواقع، فتلك التطبيقات تُدير العالم، دون أن تكون مرئية أو معلَنة. ليست لديَّ فكرة عما يكون معظمها. فالعديد من أفضل الأفكار هي أسرار تجارية، على أي حال.

عندما تتأزَّم الأمور، تتضح أهمية أن يمتلك أكبر عدد ممكن منَّا فَهمًا شاملًا للرياضيات قدر الإمكان. ليس فقط لمصلحتنا الشخصية؛ أقر بأنه، بالنسبة لمعظمنا، ليس الكثير مما نتعلمه عن الرياضيات مفيدًا على نحو مباشر. لكن هذا صحيح فيما يتعلق بكل شيء. لقد درستُ التاريخ في المدرسة، ومن المؤكد أنه أعطاني فكرة أفضل عن الثقافة التي أعيش فيها، بالإضافة إلى تلقيني دعاية استعمارية تبدو الآن متحيِّزة على نحوٍ متزايد. لكنني لا أستخدم التاريخ في عملي أو حياتي. إنني أجدُه ممتعًا (بدرجة أكبر، مع تقدُّمي في السن)، ويسعدني أن هناك مؤرخين يستخدمونه، ولن أجرؤ على التوصية بعدم تدريسه. لكنَّ هناك دليلًا واضحًا على أن الرياضيات «ضرورية» من أجل طريقة الحياة في وقتنا الحاضر. علاوةً على ذلك، من الصعب جدًّا التنبؤ بما قد يكون مفيدًا لنا منها غدًا. فلم يكن سبنسر، وهو الحِرفي الذي ركَّب بلاط الحمام الخاص بي، يظن أن العدد يمكن الاستفادة منه، حتى احتاج إليه.

إن الرياضيات، عندما يُنظَر إليها على نحو صحيح على أنها المجال الثري والمبدع الذي هي عليه بالفعل، وليس على الصورة الدونية التي يراها الكثيرون عليها، تُعَد واحدة من أعظم إنجازات البشرية. ليس فقط في نطاق الفكر، ولكن في نطاق التطبيق العملي. ومع ذلك فإننا نخفيها في الظلام. وقد حان الوقت لإخراجها إلى النور، قبل أن يحاول النُّظراء الواقعيون للماثيفوريين، الذين ابتكرهم خيالي، أن يسلبوها منا.

صحيح أن الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن علماء الرياضيات يعرفون «شيئًا واحدًا كبيرًا». إنه يُسمى الرياضيات، وهو يعيد صياغة عالمنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤