الفصل الثاني

كيف يختار السياسيون ناخبيهم؟

لقد جرب عبثًا أهل أنكه-موربورك العديد من أنواع الحكومات، وانتهى بهم الأمر بذلك النوع من الديمقراطية الذي يعرف ﺑ «رجل واحد، صوت واحد». كان الحاكم هو «الرجل»؛ وهو مَن حصل على «الصوت».

تيري براتشيت، رواية «مورت»

لقد قدَّم اليونانيون القدماء أشياءَ عديدة للعالم؛ الشعر، والمسرح، والنحت، والفلسفة، والمنطق. كما قدموا لنا علم الهندسة، والديمقراطية، واللذَين قد تبين أنهما تربطهما صلة وثيقة على نحو أكبر مما قد يتوقعه أحد، حتى اليونانيون أنفسهم. إن النظام السياسي في أثينا القديمة كان بالتأكيد شكلًا محدودًا للغاية من أشكال الديمقراطية؛ حيث كان حق التصويت متاحًا للرجال الأحرار فقط، وليس للنساء أو العبيد. ومع ذلك، في زمن سيطر عليه حكام توارثوا السلطة، وحكام ديكتاتوريون، وطغاة، كانت ديمقراطية أثينا تُعَد تقدمًا متميزًا للغاية. الأمر نفسه ينطبق على الهندسة اليونانية، التي — وعلى يد العالم إقليدس الإسكندري — شدَّدت على أهمية جعل افتراضاتك الأساسية واضحة ودقيقة، واستخلاص كل شيء منها بطريقة منطقية ومنهجية.

يا للعجب، كيف يمكن تطبيق الرياضيات في مجال السياسة؟ فالسياسة تدور حول العلاقات الإنسانية، والاتفاقيات، والالتزامات، في حين أن الرياضيات تدور حول منطق جافٍّ مجرد. في الأوساط السياسية، تتفوق الخطابة البليغة على المنطق، وتبدو الحسابات الرياضية التي لا علاقة لها بالعُنصر البشري بمعزلٍ تمامًا عن المشاحنات السياسية. لكن السياسة، التي تتَّخذ من الديمقراطية أساسًا لها، تُنفَّذ وَفقًا لقواعد، والقواعد لها نتائج يصعب توقعها دائمًا عند وضع القواعد في البداية. وقد وضع العمل الرائد الذي قام به إقليدس في الهندسة، والذي جُمع في مؤلفه الشهير بعنوان «العناصر»، معيارًا لاستنتاج النتائج من القواعد. في الواقع، هذا ليس تعريفًا سيئًا للرياضيات ككل. على أي حال، بعد ٢٥٠٠ عام فقط، بدأت الرياضيات في التسلُّل إلى عالم السياسة.

إن إحدى السمات الغريبة للديمقراطية هي أن السياسيين، الذين يدَّعون أنهم مخلصون لفكرة أن القرارات يجب أن تُتَّخذ بواسطة «الشعب»، يحيدون عن ذلك مرارًا وتكرارًا لضمان عدم حدوث ذلك. يعود هذا الاتجاه مباشرةً إلى أول تطبيق للديمقراطية في اليونان القديمة؛ حيث مُنح الحق في التصويت فقط للذكور البالغين من رجال أثينا، أي نحو ثلث السكان البالغين. ومنذ اللحظة التي جرى فيها تصوُّر فكرة انتخاب القادة واختيار السياسات عن طريق تصويت أفراد الشعب، جرى أيضًا تصوُّر الفكرة الأكثر جاذبية لعكس العملية برُمتها، من خلال التحكُّم فيمن يمكن أن يُدلوا بأصواتهم ومدى فعالية أصواتهم. وهذا أمر سهل، حتى عندما يكون لكل ناخبٍ صوت انتخابي واحد؛ لأن فعالية التصويت تعتمد على السياق الذي يجري فيه الإدلاء به، وهذا السياق يمكن التلاعبُ به. ومثلما وصف بروفيسور الصحافة وين دوكينز ذلك على نحو دقيق، فإن الأمر قد وصل إلى أن السياسيين أصبحوا هم الذين يختارون ناخبيهم، بدلًا من أن يختار الناخبون من يُمثلهم من السياسيين.1

هذا هو الموضع الذي تُستَخدم فيه الرياضيات. إنها لا تُستخدم في المناوشات التي تدور أثناء المناظرة السياسية، ولكن في هيكل قواعد المناظرة والسياق الذي تطبَّق فيه. إذ يُستخدم التحليل الرياضي في كلا الاتجاهين. فيمكنه أن يكشف عن أساليب جديدة ماكرة للتلاعب بالأصوات الانتخابية. كما يمكنه أن يُسلِّط الضوء على مثل هذه الممارسات، مما يوفر أدلةً واضحة على هذا النوع من التدخل، يمكن استخدامها في بعض الأحيان لمنع حدوثه من الأساس.

وتخبرنا الرياضيات أيضًا أن أي نظام ديمقراطي يجب أن ينطوي على بعض التنازلات. فلن يمكنك الحصول على كل ما تريد، مهما كنت ترغب فيه بشدة؛ لأن قائمة الأمور المرغوب فيها ذاتية التناقض.

•••

في ٢٦ مارس ١٨١٢ قدمت صحيفة «ذا بوسطن جازيت» إلى العالم كلمة جديدة، وهي «جيريماندر». إن هذه الكلمة، التي هجاؤها في الأصل «جيري-ماندر»، هي التي أوضح لويس كارول لاحقًا أنها كلمة مركَّبة، صِيغت عن طريق الجمع بين كلمتين عاديَّتين. «ماندر» وهي المقطع الأخير في كلمة «سالاماندر»، و«جيري» هو اسم العائلة الخاص بإلبريدج جيري، حاكم ولاية ماساتشوستس. ونحن لا نعرف على وجه اليقين مَن أوَّل من جمع المقطعين من أجل تكوين تلك الكلمة المركبة، ولكن على أساس غير قاطع، يميل المؤرخون إلى نسب الأمر لأحد مُحرِّري تلك الصحيفة التالين: ناثان هيل، أو بنجامين راسل، أو جون راسل. وبالمصادفة، تنطق كلمة «جيري» دون تعطيش حرف الجيم، لكن الكلمة المركبة «جيريماندر» تنطق مع تعطيش حرف الجيم.

ما الأمر الذي كان يفعله إلبريدج جيري كي يستفز المحرر ويجعله يدمج اسمه مع اسم مخلوق يشبه السِّحلِيَّة، الذي، في فولكلور العصور الوسطى، اشتهر بالعيش وسط النيران؟

الإجابة هي تزوير إحدى العمليات الانتخابية.

على نحو أكثر تحديدًا، كان جيري مسئولًا عن مشروع قانون أعاد ترسيم حدود الدوائر الانتخابية في ولاية ماساتشوستس من أجل انتخابات مجلس الشيوخ في الولاية. إن تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية له علاقة بالحدود بكل تأكيد؛ وهو أمر شائع، ولطالما كان كذلك منذ مدة طويلة، في معظم الدول الديمقراطية. إن السبب الظاهري لذلك هو أن يصبح الأمر عمليًّا أكثر؛ فمن الصعب اتخاذ القرارات إذا تَوجَّب على كل فرد من أفراد الأمة أن يصوِّت على كل اقتراح. (يحدث شيء مقارب لذلك في سويسرا؛ إذ خلال ما يصل إلى أربع مرات في السنة يختار المجلس الفيدرالي مقترحاتٍ كي يُدلي المواطنون بأصواتهم بشأنها، فيما يُعَد في الواقع سلسلة من الاستفتاءات. ومن ناحية أخرى، لم تُشارك النساء هناك في عملية التصويت قبل عام ١٩٧١، وظلت كانتون واحدة تعارض ذلك حتى عام ١٩٩١.) إن الحل التقليدي هو اختيار الناخبين لمجموعة من الأشخاص كي ينوبوا عنهم، والسماح لهؤلاء الأشخاص باتخاذ القرارات. ويتمثَّل أحد الأساليب الأكثر عدالةً في التمثيل النسبي؛ حيث يتناسب عدد نواب حزبٍ سياسي معين مع عدد الأصوات التي يحصل عليها هذا الحزب. وأكثر الطرق استخدامًا لفعل ذلك، هي تقسيم السكان إلى دوائر انتخابية، وتنتخب كل دائرة عددًا من النواب، يتناسبون مع عدد الناخبين في تلك الدائرة الانتخابية.

على سبيل المثال، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تُصوِّت كل ولاية لعددٍ محدَّد من أعضاء المجمع الانتخابي. كل عضو له صوت انتخابي واحد، ويفوز بمنصب الرئيس من يحصل على الأغلبية البسيطة من عددِ هذه الأصوات. إنه نظام نشأ عندما كانت الطريقة الوحيدة لإرسال رسالة من إحدى المناطق النائية في أمريكا إلى مراكز السلطة هي حملها على ظهر حصان أو في عَرَبة تجرُّها الخيول. ثم ظهرت قطارات السكك الحديدية التي تمتدُّ خطوطها لمسافات طويلة، وخدمة التلغراف في وقت لاحق. في ذلك الزمن، كانت عملية إحصاء عدد أصوات مجموعات ضخمة من الأفراد بطيئة للغاية.2 لكن هذا النظام منح أيضًا السيطرة للصفوة من أعضاء المجمَّع الانتخابي. في الانتخابات البرلمانية البريطانية، تُقسم البلاد إلى دوائر انتخابية (جغرافية في الأساس)، ينتخب كلٌّ منها عضوًا واحدًا في البرلمان. ثم يصبح الحزب (أو ائتلاف الأحزاب) الفائز بأغلبية مقاعد النُّواب هو الحزب الحاكم، ويُطلب منه تشكيل الحكومة، ويختار أحد نوابه ليصبح رئيسَ الحكومة، وذلك من خلال مجموعة متنوعة من الأساليب. ويتمتع رئيس الحكومة بسلطات كبيرة، ومن نواحٍ كثيرة، هو أشبه برئيس جمهورية.

هناك أيضًا سببٌ خفي لقصر المشاركة في عملية اتخاذ القرارات الديمقراطية على عدد صغير من النواب، وهو أن تزوير عملية التصويت يصبح أكثر سهولة. إن جميع هذه الأنظمة بها عيوب أساسية، تؤدي غالبًا إلى نتائج غريبة، وفي بعض الأحيان يمكن استغلالها لتجاهل إرادة أفراد الشعب. ففي العديد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أُجريت مؤخرًا، كان إجمالي عدد الأصوات التي منحها أفراد الشعب للمرشح الذي خسر الانتخابات أكبر من عدد الأصوات التي منحها للمرشح الذي فاز. من المعروف أن الطريقة الحالية لاختيار رئيس الجمهورية لا تعتمد على إجمالي عدد أصوات أفراد الشعب التي حصل عليها المرشَّح، ولكن رغم تطور وسائل الاتصال الحديثة، فالسبب الوحيد لعدم التغيير إلى نظام أكثر عدلًا هو أن الكثير من الأشخاص ذوي النفوذ يفضلون بقاء هذه الطريقة كما هي.

إن المشكلة الكامنة هنا هي «الأصوات المهدَرة». في كل ولاية، يحتاج أي مرشح إلى الحصول على نصف إجمالي عدد أصوات المصوِّتين في هذه الولاية زائد واحد (أو نصف صوت إذا كان المجموع فرديًّا) كي يفوز في الانتخابات عن هذه الولاية؛ وأي أصوات إضافية تتجاوز تلك العتبة لا تُحدِث فرقًا في مرحلة تصويت أعضاء المجمع الانتخابي. وهكذا، في الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٦، حصل دونالد ترامب على ٣٠٤ أصوات من إجمالي أصوات أعضاء المجمع الانتخابي؛ بينما حصلت هيلاري كلينتون على ٢٢٧ صوتًا، لكن إجمالي عدد أصوات أفراد الشعب التي حصلت عليها كلينتون كان أكثر مما حصل عليه ترامب بمقدار ٢٫٨٧ مليون صوت. وبذلك أصبح ترامب خامس رئيس أمريكي يُنتخب ويفوز بالمنصب رغم عدم حصوله على أغلبية عدد أصوات أفراد الشعب.

fig1
الرسم الكاريكاتيري الخاص بالتلاعب الجيريماندري، الذي أغلب الظن أنه قد رُسم في عام ١٨١٢ على يد إلكاينا تيسديل.

إن حدود الولايات الأمريكية في واقع الأمر غير قابلة للتغيير، لذلك لا يمكن تغييرها عند تقسيم الدوائر الانتخابية. في انتخابات أخرى، يمكن إعادة ترسيم حدود الدوائر، عادةً من قِبل الحزب الذي يتولى مقاليد السلطة، وهنا يمكن أن يبدأ التلاعب. على وجه التحديد، يمكن لهذا الحزب أن يرسم الحدود بطريقة تضمن إهدار أعداد كبيرة جدًّا من الأصوات المؤيدة للحزب المعارض. وهذا ما حدث من جانب إلبريدج جيري ومجلس الشيوخ. فعندما اطَّلع الناخبون في ولاية ماساتشوستس على خريطة الدوائر الانتخابية، بدا معظمُها طبيعيًّا تمامًا. عدا واحدة. إذ جمعت تلك الدائرة اثنتي عشرة مقاطعة من غرب وشمال الولاية في منطقة واحدة شاسعة ومتعرِّجة. وقد بدت تلك المنطقة أشبه بالسالاماندر لرسام الكاريكاتير السياسي المسئول عن الرسم الكاريكاتيري الذي ظهر بعد ذلك بمدة قصيرة في صحيفة «ذا بوسطن جازيت»، الذي أغلب الظن أنه الرسام والمصمِّم والنحات، إلكاينا تيسديل.

كان ينتمي جيري إلى الحزب الجمهوري الديمقراطي، الذي كان في منافسة مع الفيدراليين. وفي انتخابات عام ١٨١٢، فاز الفيدراليون بأغلبية مقاعد مجلس النواب في الولاية وبمنصب الحاكم، وخسر جيري المنصب. لكن ما فعله جيري فيما يتعلق بإعادة ترسيم الدوائر الانتخابية لمجلس الشيوخ في الولاية حقَّق الهدف منه، وضمن فوزًا مريحًا للجمهوريين الديمقراطيين في انتخابات مجلس الشيوخ الخاصة بالولاية.

•••

إن تحديد الجوانب الرياضية المتعلقة بالتلاعب الجيريماندري يبدأ بالنظر في كيفية قيام الناس به. وهناك نوعان من التكتيكات الرئيسية في هذا الشأن، وهما الحشد والتفتيت. من خلال تكتيك «الحشد»، يجري نشر الناخبين المؤيدين لك في أكبر عدد ممكن من الدوائر الانتخابية، على نحوٍ متساوٍ قدر الإمكان، بأغلبية صغيرة ولكنها حاسمة، مع ترك باقي الدوائر إلى العدو. آسف، أقصد المنافس. أما من خلال تكتيك «التفتيت»، فيُشتت الناخبون المؤيدون للمنافس حتى يخسر أكبر عدد ممكن من الدوائر الانتخابية. إن عملية «التمثيل النسبي»، التي يتناسب فيها عدد النواب مع إجمالي أصوات كل حزب (أو أقرب ما يكون إلى ذلك قدر الإمكان، بالنظر إلى الأرقام)؛ تتجنب هاتين الحيلتين، كما أنها أكثر عدلًا. ومما لا يثير الدهشة أن دستور الولايات المتحدة يرى أن «التمثيل النسبي» أمر غير قانوني؛ لأنه وَفق ما ينص عليه القانون، يجب أن ينوب عن الدائرة الانتخابية ممثل واحد فقط. في عام ٢٠١١ أجرت المملكة المتحدة استفتاءً على بديل آخر، وهو التصويت الفردي القابل للتحويل، وقد صوَّت الشعب ضده. ولم يحدث على الإطلاق أن أُجري استفتاء على التمثيل النسبي في المملكة المتحدة.

إليك كيفية عمل تكتيكَي الحشد والتفتيت، عبر عرض مثال تخيُّلي ذي جغرافيا وتوزيعات تصويت بسيطَين للغاية.

في ولاية جيريمانديا، يتنافس حزبان سياسيان على الفوز بأصوات الناخبين: الحزب الأبيض، والحزب الأسود. وهناك خمسون منطقة، يجب تقسيمها إلى خمس دوائر انتخابية. في الانتخابات الأخيرة، كان يحصل الحزب الأبيض على أغلبية الأصوات في عشرين منطقة، تقع كلها في الشمال، بينما كان يحصل الحزب الأسود على أغلبية الأصوات في المناطق الجنوبية الثلاثين المتبقية (كما هو موضَّح في الشكل التالي أعلى اليمين). ومن ثم أعادت إدارة الحزب الأبيض، التي فازت بفارق ضئيل للغاية في الانتخابات السابقة، ترسيمَ حدود الدوائر الانتخابية في الولاية من خلال تجميع الكثير من مؤيديها داخل ثلاث دوائر انتخابية (كما هو موضح في الشكل أعلى اليسار)، بحيث تفوز في ثلاث مناطق ويفوز الحزب الأسود في اثنتين فقط. وقد طعن الحزب الأسود لاحقًا على عملية إعادة ترسيم الدوائر في المحكمة، مستنِدًا إلى أن حدود الدوائر الانتخابية قد جرى التلاعب بها وفق الطريقة الجيريماندرية الشهيرة، وتمكن من الحصول على حق إعادة ترسيم الدوائر في الانتخابات التالية؛ حيث استخدم تكتيك التفتيت (كما هو موضَّح بالشكل أسفل اليمين) لضمان الفوز بأغلبية الأصوات في جميع الدوائر الانتخابية الخمس.

fig2
إعادة ترسيم حدود الدوائر الانتخابية في جيريمانديا. أعلى اليمين: خمسون منطقة يجب تقسيمها إلى خمس دوائر انتخابية، يضم كلٌّ منها عشر مناطق. تمثل الخانات ذات التظليل الفاتح مناطق الأغلبية المتوقَّعة للحزب الأبيض، وتمثل الخانات ذات التظليل الداكن مناطق الأغلبية المتوقَّعة للحزب الأسود. أعلى اليسار: تكتيك الحشد يمنح الحزب الأبيض أغلبية عدد الأصوات في ثلاث دوائر انتخابية، ويمنح الحزب الأسود أغلبية عدد الأصوات في دائرتين. أسفل اليمين: يمنح تكتيك التفتيت الحزب الأسود أغلبية عدد الأصوات في كل الدوائر الانتخابية الخمس. أسفل اليسار: هذا التقسيم سيعطي تمثيلًا نسبيًّا.

إذا كان من المحتَّم أن تتكون كل دائرة انتخابية من عشرٍ من المناطق المربعة الصغيرة، فإن أفضل ما يمكن أن يحققه الحزب الأبيض باستخدام تكتيك الحشد هو الفوز بثلاث دوائر من أصل خمس. إذ يحتاج إلى الفوز بست من أصل عشر مناطق للفوز بأي دائرة، وهو يفوز في عشرين منطقة، ومن ثَم يمكن حشد كل ست مناطق منها في دائرة ليتمكَّن من الفوز بثلاث دوائر، وتتبقى منطقتان لن يتمكن من الاستفادة منهما. بينما أفضل ما يمكن أن يحققه الحزب الأسود باستخدام تكتيك التفتيت هو الفوز بالدوائر الخمس. أما التمثيل النسبي، فسيمنح الحزب الأبيض دائرتين، ويمنح الحزب الأسود ثلاث دوائر، كما هو موضح في الشكل أسفل اليسار. (في واقع الأمر، إن التمثيل النسبي لا يتحقَّق من خلال ترسيم الدوائر الانتخابية.)

•••

إن البلدان التي يحكمها حاكم ديكتاتور، أو أشبه بالديكتاتور، تجري فيها الانتخابات عادة كي تُثبت للعالم كم أن ذلك الحاكم يتَّسم بالديمقراطية. وعلى نحوٍ عام تُزوَّر هذه الانتخابات، وحتى إذا سُمح بالطعون القانونية، فإن تلك الطعون لا تُجدي أبدًا؛ لأن الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم تُزوَّر أيضًا. أما في بلدان أخرى، ليس من الممكن فقط الطعن على أي محاولة لإعادة ترسيم الدوائر للمساءلة القانونية، ولكن أيضًا تكون هناك فرصة لأن يفلح ذلك الطعن، لأن الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم مستقلة في الغالب عن الحزب الحاكم. هذا بالطبع باستثناء تعيين بعض القضاة على أساسٍ حزبي.

في مثل هذه الحالات، فإن المشكلة الرئيسية التي تواجه القضاة ليست سياسية. إنها تتعلق بكيفية إيجاد طرقٍ موضوعية لتحديد ما إذا كانت هناك عملية تلاعب جيريماندري أم لا. ففي مقابل كل «خبير» يفحص الخريطة بمنتهى الدقة ويعلن عن وجود عملية تلاعُب جيريماندري، يمكنك دائمًا أن تجد خبيرًا آخر يصل إلى النتيجة المعاكسة. لذا هناك حاجة إلى طُرقٍ أكثر موضوعية من الآراء والحجج اللفظية.

هذه فرصة واضحة للاستفادة من الرياضيات. فيمكن أن تحدد الصِّيَغ الرياضية أو الخوارزميات ما إذا كانت حدود الدوائر الانتخابية معقولة وعادلة، أم مصطَنَعة ومنحازة، على نحو محدد بوضوح. إن تصميم هذه الصيغ أو الخوارزميات ليس في حد ذاته عمليةً موضوعية، بالطبع، ولكن بمجرد الاتفاق عليها (وهي عملية سياسية بعض الشيء)، يعرف جميع من له صلة بالأمر ماهيَّتها، وأنه يمكن التحقق من نتائجها بشكل مستقل. وهذا يوفر للمحكمة أساسًا منطقيًّا تبني عليه حكمها.

بعد أن فهمت الأسلوبين الخفيَّين اللذَين يمكن للسياسيين استخدامهما لتنفيذ عملية إعادة ترسيم للدوائر الانتخابية على نحو يخدم مصالحهم الحزبية، يمكنك ابتكار قواعد رياضية للكشف عنهما. وقواعد مثل تلك لا يمكن أن تكون قواعد مثالية؛ في الواقع، هناك دليل على أن وصولها إلى المثالية أمر مستحيل، وهذا ما سأتطرق إليه بمجرد أن تصبح لدينا خلفية لنفهم ما يوضحه لنا. هناك خمسة أنواع من الأساليب تُستخدم حاليًّا في هذا الإطار:

  • اكتشاف الدوائر الانتخابية ذات الشكل الغريب.

  • اكتشاف اختلالات في نسبة المقاعد إلى الأصوات.

  • تحديد عدد الأصوات المهدَرَة التي تتسبب فيها عملية معينة من ترسيم الحدود، ومقارنة ذلك بما تقرر أن يكون مقبولًا.

  • فحص جميع الخرائط الانتخابية الممكنة، وتقدير النتيجة المحتملة من حيث عدد المقاعد بِناءً على بيانات الناخبين الحالية، وتحديد ما إذا كانت الخريطة المقترحة تؤدي إلى نتائج مختلفة عن المتوقَّع إحصائيًّا.

  • إعداد البروتوكولات التي تضمن أن القرار النهائي عادل، ويُنظر إليه على أنه عادل، ويتفق كلا الحزبين على أنه عادل.

إن الأسلوب الخامس هو الأكثر إدهاشًا، وسبب الدهشة هو أنه يمكن تطبيقه بالفعل. فلنتحدث عن كل أسلوب على حدة، ونترك الدهشة للنهاية.

•••

لنتحدث، أولًا، عن الأشكال الغريبة.

منذ وقت طويل، وتحديدًا في عام ١٧٨٧، كتب جيمس ماديسون في «الأوراق الفيدرالية» أن «الحد الطبيعي في أي ديمقراطية هو تلك المسافة من النقطة المركزية التي ستسمح للمواطنين القاطنين بأبعد المناطق النائية أن يتجمَّعوا كلما تطلب الأمر معرفةَ رأيهم في القرارات العامة». وعند تطبيق ذلك حرفيًّا، فهو يقترح أن تصبح الدوائر الانتخابية على شكل دائرة تقريبًا، وألا تصبح ضخمة للغاية على نحوٍ يجعل زمن الرحلة من الأطراف إلى المركز غير معقول.

لنفترض، على سبيل المثال، أن التجمع الرئيسي للناخبين المؤيدين لحزبٍ سياسيٍّ ما يتركز في المناطق الساحلية. عند تجميع كل هؤلاء الناخبين في دائرة انتخابية واحدة نحصل على شكل طويل، ورفيع، ومتعرج، يمتدُّ على طول الساحل، وهو شكل غير طبيعي تمامًا مقارنةً بجميع الدوائر الانتخابية الأخرى ذات الشكل المعقول والمدمَج. سيصبح من الصعب ألا نستنتج أن هناك أمرًا غريبًا قد جرى تدبيره، وأنه أُعيد ترسيم حدود تلك الدائرة على نحوٍ يؤدي إلى إهدار الكثير من أصوات ناخبي هذا الحزب. إن الدوائر الانتخابية التي تحدث فيها عملية تلاعب جيريماندري غالبًا ما يشي شكلها الغريب بطبيعتها المتحيزة تجاه مصلحة حزبٍ ما، مثلما حدث في أول دائرة انتخابية جرى التلاعب فيها وأدت إلى ظهور هذا المصطلح.

يمكن للجدل الدائر بين المحامين حول ما يمكن اعتباره شكلًا غريبًا للدائرة الانتخابية أن يمتد إلى ما لا نهاية. لذا في عام ١٩٩١ قدَّم المحاميان دانييل بولسبي وروبرت بوبر طريقةً لتحديد مقدار غرابة شكل الدائرة الانتخابية أصبحت الآن تُعرف باسم «مقياس بولسبي-بوبر».3 وصيغتها هي:
× مساحة الدائرة الانتخابية ÷ مربع محيط الدائرة الانتخابية
إن أي شخص لديه أي وعي بالرياضيات سينجذب انتباهه على الفور إلى هذا العامل الرياضي . ومثلما تساءل صديق فيجنر عن الصلة بين التعداد السكاني والدوائر الهندسية، يمكننا أن نسأل ما هي الصلة بين الدوائر الهندسية والترسيم السياسي لحدود الدوائر الانتخابية. والإجابة بسيطة ومباشرة على نحو مثير: فالدائرة الهندسية هي أكثر شكل مدمَج يمكن الحصول عليه للدائرة الانتخابية.

هذه الحقيقة لها تاريخ طويل. فوَفقًا للمصادر اليونانية والرومانية القديمة، لا سيما القصيدة الملحميَّة «الإنيادة» للشاعر فيرجيل وكتاب «التواريخ الفيليبية» للمؤرخ نايوس بومبيوس تروجوس، فإن مَن أسس دولة مدينة قرطاج هي الملكة ديدو. وقد لخص المؤرخ جونيانوس جاستينوس كتاب تروجوس التاريخي في القرن الثالث الميلادي، وهو يحكي عن أسطورة مذهِلة. كانت ديدو وشقيقها بيجماليون وريثَي العرش لملك مدينة صور الذي لم يُحدد اسمه في الأسطورة. وعندما تُوفي الملك، أراد الشعب أن يُجلِس بيجماليون على العرش بمفرده ويتولى حكم المدينة، على الرغم من صِغَر سنه. وتزوجت ديدو من عمها، أسرباس، الذي كان يُشاع عنه أن لديه كَنزًا من الذهب يحتفظ به على نحو سري، وقد أراد بيجماليون الاستيلاء على ذلك الكنز، لذلك قتل أسرباس. ومن ثَم تظاهرت ديدو بإلقاء الكنز الذهبي المزعوم في البحر، بينما في الواقع ألقت أكياسًا تحتوي على رمال. ونظرًا لمخاوفها المبرَّرة من أن يصب بيجماليون جام غضبه عليها، سارعت بالهرب، في البداية إلى قبرص، ثم إلى ساحل شمال أفريقيا. وطلبت من ملك البربر يارباس منحها قطعة صغيرة من الأرض؛ حيث يمكن أن تقيم فيها لفترة من الوقت، فوافق على أنه بإمكانها الحصول على مساحة من الأرض بمقدار ما يمكن أن يحيط به جلد ثور واحد. فقطعت ديدو جلد الثور إلى شرائط رفيعة للغاية، وصنعت منها دائرة أحاطت بها تل قريب، وقد أصبح اسمه حتى يومنا هذا بيرسا، وهو ما يعني «جلد». وأصبح ذلك المقر فيما بعد هو مدينة قرطاج، وعندما تنامت ثروة المدينة، أرسل يارباس تهديدًا إلى ديدو بأنها يجب أن تتزوجه وإلا فسيدمر المدينة. ومن ثَم قدمت العديد من القرابين على مذبحٍ ضخم لحرق الجثث، متظاهرة بأن هذا كان لتكريم زوجها الأول، كي تصبح مستعدة للزواج من يارباس؛ ثم صعدت إلى المذبح، وقالت إنها ستلحق بزوجها الأول بدلًا من الخضوع لرغبات يارباس، وقتلت نفسها بسيف.

نحن لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الملكة ديدو شخصية حقيقية بالفعل أم أنها من وحي الخيال، على الرغم من أن بيجماليون شخصية حقيقية بالتأكيد، وقد ذكرت بعض المصادر الملكة ديدو مثلما ذكرته. لذلك من غير المجدي أن نتحرَّى الدقة التاريخية للأسطورة. وأيًّا ما كان الأمر، فإن الأسطورة التاريخية تحوي أسطورةً رياضية بداخلها: لقد استخدمت ديدو جلد الثور لتصنع دائرة حول التل. لماذا صنعت دائرة؟ لأنها — هكذا يزعم علماء الرياضيات — عرفت أن الدائرة تحيط بأكبر مساحة لمحيطٍ ما.4 كانت هذه الحقيقة العلمية، التي تحمل الاسم المثير للإعجاب «متباينة المحيط الثابت»، معروفة بِناءً على التجريب والملاحظة في اليونان القديمة، ولكنها لم تثبت على نحو دقيق حتى عام ١٨٧٩، عندما استطاع عالم الرياضيات المتخصص في التحليل المركَّب كارل فايرشتراس إكمال خمسة براهين مختلفة نشرها عالم الهندسة ياكوب شتاينر. أثبت شتاينر أنه إذا كان هناك وجود لما يُسمى شكلًا هندسيًّا مثاليًّا، فلا بد أنه دائري، لكنه فشل في إثبات وجوده.5

تنص متباينة المحيط الثابت على ما يلي:

مربع محيط الشكل أكبر من أو يساوي مضروبًا في مساحته
وهذا ينطبق على أي شكل في السطح المستوي، طالما أن له محيطًا ومساحة. علاوة على ذلك، الثابت، ، هو أكثر عدد مناسب يمكن استخدامه — إذ لا يمكن جعل قيمته أكبر من ذلك — ويكون الطرف الأول من المعادلة مساويًا للطرف الآخر فقط عندما يكون الشكل دائرة.6 وقد ساعدت متباينة المحيط الثابت المحاميَين بولسبي وبوبر على اقتراح أن الأسلوب الذي أسميته مقياس بولسبي-بوبر هو طريقة فعالة لقياس مدى دائرية شكلٍ ما. على سبيل المثال، إن ناتج هذا المقياس لكل شكل من الأشكال التالية هو كالتالي:

الدائرة: ١

المربع: ٠٫٧٨

المثلث متساوي الأضلاع: ٠٫٦

أما الشكل الذي يُثبت وجود التلاعب الجيريماندري، فإن ناتجه، وفقًا لهذا المقياس، يساوي ٠٫٢٥ تقريبًا.

ومع ذلك، فإن هذا المقياس له عيوب خطيرة. ففي بعض الأحيان تصبح الأشكال الغريبة أمرًا لا مفرَّ منه بسبب السمات الجغرافية المحلية، مثل الأنهار والبحيرات والغابات وأشكال السواحل. علاوة على ذلك، يمكن أن يكون شكل الدائرة الانتخابية أنيقًا ومُدمَجًا، ومع ذلك يبدو بوضوح حدوث تلاعب جيريماندري. في عام ٢٠١١ جرت عملية ترسيم لحدود الدوائر الانتخابية من أجل إجراء انتخابات الهيئة التشريعية لولاية بنسلفانيا، وقد كانت أشكال الدوائر مشوَّهة ومصطَنَعة للغاية، لذلك في عام ٢٠١٨، أعد الجمهوريون في الهيئة التشريعية بالولاية مقترحات لاستبدالها. وفي تلك المقترحات جرى ترسيم الدوائر على نحو مدمَج للغاية وفقًا لخمسة مقاييس حددتها المحكمة العليا للولاية، لكن التحليل الرياضي لتوزيعات الناخبين داخل تلك الدوائر أظهر أن حدودها شكَّلت مناطق ذات تحيُّز حزبي واضح، وأنها ستؤدي إلى حدوث انحراف في نتائج التصويت.

حتى مقياس الرسم الذي تُرسم الخريطة بِناءً عليه يمكن أن يُسبب مشاكل. إن الأمر الرئيسي هنا هو هندسة الفراكتالات. الفراكتال هو شكل هندسي ذو بِنية مفصلة على جميع المقاييس. إن العديد من الأشكال الطبيعية تبدو مثل الفراكتالات؛ على الأقل، هي تشبهها إلى حدٍّ كبير أكثر من مثلثات ودوائر إقليدس. يمكن نمذجة السواحل والسُّحب على نحو فعَّال للغاية على هيئة فراكتالات، وهي تستطيع أن تعبر عن بِنيتها المعقَّدة. وقد صاغ مصطلح الفراكتال في عام ١٩٧٥ بونوا ماندلبرو، وهو العالِم الذي أسس وطوَّر علم هندسة الفراكتالات بأكمله. تعتبر السواحل والأنهار منحنياتٍ فراكتالية معقدة للغاية، ويعتمد الطول الذي تقيسه على مدى دقة المقياس الذي تستخدمه لإجراء القياس. في الواقع، إن طول أي منحنى فراكتال يمتدُّ إلى ما لا نهاية من الناحية النظرية، ويترجم في الواقع اليومي إلى الآتي: «الطول المَقيس يتزايد بلا نهاية كلما نظرت إليه على نحو أكثر قربًا». لذلك يمكن للمُحامين أن يجادلوا إلى أجل غير مسمًّى حول قياس محيط الدائرة الانتخابية، وليس فقط حول ما إذا كانت الدائرة قد تعرَّضت للتلاعب الجيريماندري.

•••

نظرًا لأن تحديد مدى غرابة شكلٍ ما هو أمر صعب للغاية، فلنجرب شيئًا أكثر بساطةً. هل تتطابق نتائج الإدلاء بالأصوات مع أنماط التصويت الإحصائية للناخبين؟

إذا أُجريت الانتخابات بين حزبين في دائرة ما على ١٠ مقاعد، وقد أشارت الإحصائيات إلى انقسام أصوات الناخبين بنسبة ٤٠ إلى ٦٠، فيمكنك توقُّع حصول أحد الحزبين على ٦ مقاعد وحصول الحزب الآخر على ٤ مقاعد. لكن إذا فاز حزبٌ ما بكل المقاعد العشرة، فهنا يمكنك أن تشك في وقوع تلاعب جيريماندري. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فهذا النوع من النتائج شائع في أنظمة التصويت التي تقوم على «الفوز للأكثر أصواتًا». في الانتخابات العامة بالمملكة المتحدة لعام ٢٠١٩، حصل حزب المحافظين على ٤٤٪ من إجمالي عدد الأصوات، لكنه فاز ﺑ ٣٦٥ مقعدًا من أصل ٦٥٠، وهو ما يمثل ٥٦٪ من إجمالي عدد المقاعد. وحصل حزب العمال على ٣٢٪ من الأصوات و٣١٪ من المقاعد. وحصل الحزب الوطني الاسكتلندي على ٤٪ من الأصوات، و٧٪ من المقاعد (على الرغم من أن هذه حالة خاصة؛ لأن قاعدة الناخبين الخاصة بهذا الحزب موجودة بالكامل في اسكتلندا). وحصل الديمقراطيون الليبراليون على ١٢٪ من الأصوات، و٢٪ من المقاعد. وقد نتجت معظم هذه التناقضات عن أنماط التصويت الإقليمية، وليس عن إعادة ترسيم حدود الدوائر الانتخابية على نحوٍ غريب. في نهاية المطاف، إذا جرت انتخابات بين حزبين من أجل اختيار شخص واحد، لمنصب رئيس الجمهورية على سبيل المثال، ونصت القوانين الانتخابية على تحديد الفائز بالمنصب من خلال الأغلبية البسيطة من عدد أصوات الناخبين، فإن ٥٠٪ من الأصوات زائد صوت واحد ستمنحه المنصب بنسبة ١٠٠٪.

إليك مثال أمريكي. في ماساتشوستس، في الانتخابات الفيدرالية والرئاسية منذ عام ٢٠٠٠، يحصل الجمهوريون على أكثر من ثلث العدد الكُلي للأصوات. ومع ذلك، كانت المرة الأخيرة التي فاز فيها جمهوريٌّ بمقعد في مجلس النواب عن تلك الولاية في عام ١٩٩٤. هل حدث هذا بسبب عملية تلاعب جيريماندري؟ الإجابة على الأرجح هي كلَّا. إذا جرى توزيع نسبة الثلث التي يمثلها عدد الناخبين الجمهوريين على نحو عادل ومتساوٍ في جميع أنحاء الولاية، عندئذٍ فأيًّا كانت الطريقة التي سترسم بها حدود الدوائر الانتخابية — باستثناء الأشكال السخيفة التي تلتفُّ حول وبين منازل المواطنين — ستظل نسبة الناخبين الجمهوريين في أي دائرة انتخابية هي الثلث تقريبًا. وسوف يفوز الديمقراطيون بكل المقاعد. وهذا بالضبط ما حدث.

في أحد الانتخابات التي جرت بالفعل على أرض الواقع، أوضح علماء الرياضيات أن هذا النوع من التأثير يمكن أن يكون لا مفرَّ منه، بغضِّ النظر عن الطريقة التي جرى بها ترسيم حدود الدوائر الانتخابية؛ على الأقل، دون تقسيم المدن. في عام ٢٠٠٦، تنافس كينيث تشيس مع إدوارد كينيدي على مقعد لمجلس الشيوخ الأمريكي، عندما قُسمت ماساتشوستس إلى تسع دوائر انتخابية من أجل انتخابات الكونجرس. وقد حصل تشيس على ٣٠٪ من إجمالي عدد الأصوات، لكنه خسر في جميع الدوائر التسع. أظهر تحليل الاحتمالات بواسطة الكمبيوتر أنه لا توجد أي طريقة لترسيم حدود دائرة انتخابية مكوَّنة من مجموعة من المدن، حتى لو جرى توزيعها بشكل غير منتظم عبر الولاية، كانت من الممكن أن تمنح تشيس الفوز. لقد جرى توزيع مؤيدي تشيس على نحو عادل ومتساوٍ في أغلب المدن؛ فلم يكن بالإمكان إجراء عملية تلاعب جيريماندري بإعادة ترسيم حدود الدوائر الانتخابية بأي شكل من الأشكال، كي تجعله يفوز.

وبالعودة إلى ولاية جيريمانديا، فقد اعترض الحزب الأبيض على عملية إعادة ترسيم الحدود هذه، عندما فاز الحزب الأسود بكل الدوائر الخمس، وقد استند في اعتراضه إلى أن الدوائر الانتخابية المستطيلة الشكل كانت رفيعة وطويلة للغاية، لذا من الواضح أن الحزب الأسود قد قام بعملية تفتيتٍ للأصوات. ومن ثَم قضت المحكمة بأن يُعاد ترسيم حدود الدوائر الانتخابية لتُصبح مدمَجة أكثر. فقدم الحزب الأبيض تصوُّرًا ضم ثلاث دوائر انتخابية مدمجة، وعرض بسخاء أن يترك للحزب الأسود اختيار تصوُّرٍ لإعادة ترسيم حدود ما تبقى في دائرتين أخريين. اعترض الحزب الأسود؛ لأن هذا التصور منح ثلاث دوائر للحزب الأبيض وترك له اثنتين فقط، على الرغم من أن الحزب الأسود لديه النسبة الأكبر من إجمالي عدد الأصوات في الدوائر الخمس.

fig3
الشكل الأيمن: اقتراح الحزب الأبيض، الذي يتضمن ترك دائرتين انتخابيَّتين للحزب الأسود كي يحددهما. الشكل الأيسر: أكثر الاختيارات المدمَجة التي يمكنه التوصُّل إليها.

يكشف هذا التقسيم عن عَيبَين من العيوب الأخرى في استخدام الدمج لاكتشاف عمليات التلاعُب الجيريماندري. فعلى الرغم من أنه من المفترض أن عملية إعادة الترسيم هذه تتَّسم بأنها مدمجة — حتى الآن — فلقد منحت الفوز للحزب الأبيض في ثلاث دوائر من أصل خمس؛ رغم أن لديه نسبة اثنين إلى خمسة من إجمالي عدد الأصوات في الدوائر الخمس. وعلاوة على ذلك، لا توجد طريقة لإعادة تقسيم ما تبقَّى من مناطق في دائرتين انتخابيَّتين مدمَجتين. إذ إن الطبيعة الجغرافية في الولاية تجعل من الصعب تحقيق الدمج والعدالة في الوقت نفسه. بل ربما هو أمر مستحيل، عند أخذ تعريف الأمرين في الاعتبار.

•••

نظرًا لوجود مشاكل في الاعتماد على الدمج في اكتشاف التلاعُب على أساسٍ حِزبي في عملية إعادة ترسيم الدوائر الانتخابية، فما الطرق الأخرى التي يمكننا استخدامها في هذا الإطار؟ إن تحليل بيانات التصويت يوضح النتيجة الفِعلية للانتخابات، كما يوضح أيضًا ماذا كانت ستصبح تلك النتيجة إذا تغيَّر عدد الأصوات التي فاز بها كل حزب بمقادير محددة. على سبيل المثال، إذا حصل الحزب الأسود في إحدى الدوائر على ٦ آلاف صوت، وحصل الحزب الأبيض على ٤ آلاف صوت، سيفوز الحزب الأسود بهذه الدائرة. إذا قرر ٥٠٠ ناخب التخلِّي عن تأييد الحزب الأسود ومنحوا أصواتهم للحزب الأبيض، سيظل الحزب الأسود فائزًا بهذه الدائرة، ولكن إذا تخلى ١٠٠١ ناخب عن تأييد الحزب الأسود ومنحوا أصواتهم للحزب الأبيض، فسيخسر الحزب الأسود. بدلًا من ذلك، إذا كان الحزب الأسود قد حصل على ٥٥٠٠ صوت، وحصل الحزب الأبيض على ٤٥٠٠ صوت، فإن الأمر سيستلزم تخلي ٥٠١ ناخب فقط عن تأييد الحزب الأسود، كي يحدث تغير في النتيجة. باختصار، إن عدد الأصوات التي حصل عليها كل حزب في إحدى الدوائر يوضح لنا من فاز بهذه الدائرة، كما يوضح لنا مدى تقارب النتيجة.

يمكننا إجراء هذا الحساب لكل دائرة انتخابية، وتجميع النتائج لمعرفة كيف سيختلف عدد المقاعد مع التغيُّر في عدد الأصوات، كي نتمكن من رسم منحنًى يوضح العلاقة الرياضية بين عدد الأصوات وعدد المقاعد. (إنه في الواقع على شكل مُضلَّع، مع الكثير من الحواف المستقيمة، ولكن تقليل حدة تلك الحواف وتحويله إلى منحنًى يجعل الشكل أكثر ملاءمة.) توضح الصورة اليُمنى من الشكل التالي على نحوٍ تقريبي كيف يجب أن يبدو هذا المنحنى عند تمثيله للبيانات الناتجة عن انتخابات لم يحدث خلالها تلاعب جيريماندري. على وجه التحديد، يجب أن يمُرَّ المنحنى بالنقطة التي تمثل نسبة ٥٠٪ من المقاعد عند حصول الحزبين المتنافسين على نسبة ٥٠ /٥٠ من الأصوات، ويجب أن يصبح متماثلًا على جانبي هذه النقطة، عند تدويره بزاوية مقدارها ١٨٠ درجة.

توضح الصورة اليُسرى منحنى الأصوات والمقاعد لخريطةٍ استخدمت من أجل انتخابات الكونجرس في ولاية بنسلفانيا؛ حيث يمثل المحور الأفقي النسبة المئوية لعدد الأصوات التي حصل عليها الحزب الديمقراطي. وقد كان يتوجَّب على الديمقراطيين أن يحصلوا على نحو ٥٧٪ من عدد الأصوات كي يفوزوا بنسبة ٥٠٪ من المقاعد. وقد أُلغيت هذه الخريطة لاحقًا من قِبل الهيئة التشريعية للولاية.

في العديد من القضايا، رفضت المحكمة العليا للولايات المتحدة اتهاماتٍ بممارسة تلاعب جيريماندري بِناءً على هذا النوع من الحساب، ورفضت أيضًا دعاوى بِناءً على افتقار دوائر انتخابية لعنصر الدمج. ففي قضية «رابطة مواطني أمريكا اللاتينية المتَّحدين ضد بيري» عام ٢٠٠٦، حكمت بإعادة ترسيم حدود عدد قليل من الدوائر الانتخابية في ولاية تكساس، بسبب أن ترسيم حدود إحدى الدوائر جرى بما يناقض قانون حقوق التصويت. في الواقع، على الرغم من أن المحكمة العليا قد أعلنت أن ممارسة التلاعب الجيريماندري من أجل تحقيق مصالح حزبية هي أمر غير دستوري، فإنها لم تُصدر حتى الآن حُكمًا بإلغاء أي خريطة كاملة لترسيم حدود الدوائر الانتخابية.

fig4
التمثيل البياني للعلاقة الرياضية بين عدد الأصوات وعدد المقاعد. يوضح المحور الأُفقي النسبة المئوية لعدد الأصوات الخاصة بأحد الحزبين، وتمتد من ٣٠٪ إلى ٧٠٪. ويوضح المحور الرأسي النسبة المئوية لعدد المقاعد التي كان من الممكن أن يفوز بها عند حصوله على هذا العدد من الأصوات.

أحد الأسباب الرئيسية التي ذكرتها المحكمة في حيثيات حكمها السلبي هو أن الطرق الرياضية، مثل منحنى الأصوات والمقاعد، تعتمد على افتراضات؛ أي، ما كان سيفعله الناخبون في ظروف مختلفة. قد يكون هذا منطقيًّا بالنسبة للمحامين، ولكن من الناحية الرياضية هو أمر غير منطقي؛ لأن المنحنى مستنتَج من بيانات التصويت الفعلية من خلال إجراءات محددة بدقة. إن حساب المنحنى لا يعتمد على ما كان يمكن أن يفعله أي ناخبٍ في الواقع. إن الأمر يشبه النظر إلى مباراة في كرة السلة نتيجتها ١٠١–٩٧، وتحديد أن مستوى الفريقين خلال المباراة لا بد أنه كان متقاربًا، في حين أن نتيجة ١٢٠–٤٥ تعني أن المستوى لم يكن كذلك. فأنت لا تقدم تنبؤات عما كان سيفعله اللاعبون إذا لعبوا بشكل أفضل أو أسوأ. لذلك يمكننا إضافة هذه الحالة إلى القائمة الطويلة وغير المحددة من الحالات التي لم يستطِع القانون أن يفهم فيها العمليات الرياضية الأساسية، أو حتى يمنحها التقدير الواجب. إن الطبيعة الافتراضية المزعومة لهذه الخوارزمية المبنية بأكملها على حقائق، توفر، بالطبع، العذر المثالي لعدم إلغاء خريطة تكساس بأكملها.

•••

إن أفضل طريقة لمعالجة مشكلة الأحكام القضائية المثيرة للجدل هي عدم محاولة تثقيف القضاة، لذا فإن أولئك الذين يسعون لاستخدام أساليب رياضية للكشف عن ارتكاب تلاعب جيريماندري بحثوا عن تدابير أخرى لا يمكن التشكيك في فاعليتها من خلال أسباب زائفة. إن هذا النوع من التلاعب يجبر مؤيدي أحد الحزبين المتنافسين على إهدار العديد من أصواته. وبمجرد أن يصبح لدى مُرشحِّك أغلبية، فليس هناك أي تأثير للأصوات الإضافية على النتيجة. لذا جرى التوصُّل إلى أسلوب آخر لقياس مدى تحقيق العدالة عند ترسيم حدود الدوائر الانتخابية من عدمه، وهو مطالبة كلا الحزبين المتنافسين بإهدار نفس عدد الأصوات الانتخابية تقريبًا. ففي عام ٢٠١٥، قدَّم نيكولاس ستفانابولوس وإريك ميجي أحد الأساليب لقياس الأصوات المهدرة، وأطلقا عليه اسم «فجوة الكفاءة».7 في قضية «جيل ضد وايتفورد» عام ٢٠١٦، أعلنت إحدى المحاكم في ويسكونسن أن خريطة دوائر انتخابات مجلس الولاية غير قانونية، وقد كان أسلوب فجوة الكفاءة محوريًّا في اتخاذ هذا القرار. ولفهم كيفية حساب فجوة الكفاءة، دعنا نبسط الأمور ونستخدم مثالًا تجرى فيه الانتخابات بين اثنين فقط من المرشحين.

هناك طريقتان رئيسيَّتان لإهدار صوتك الانتخابي. يصبح الصوت مهدرًا عند الإدلاء به لصالح مرشح خاسر؛ لأن صوتك لم يؤثر في النتيجة النهائية. كما أن الأصوات الزائدة التي يُدلَى بها لصالح الفائز، بعد أن يحصل على ٥٠٪ من عدد الأصوات، هي أصوات مهدرة للسبب نفسه. تعتمد هاتان العبارتان على النتيجة الفعلية، وهما ينطبقان بعد انتهاء الانتخابات؛ حيث لا يمكنك التأكد من أن صوتك قد أُهدر إلا بعد أن تعرف النتيجة. فخلال الانتخابات العامة في المملكة المتحدة عام ٢٠٢٠، حصل مرشح حزب العمل في دائرتي الانتخابية على ١٩٥٤٤ صوتًا، وحصل مرشح حزب المحافظين على ١٩١٤٣. فاز حزب العمال بفارق ٤٠١ صوت، وكان إجمالي عدد أصوات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لصالح كلا الحزبين ٣٨٦٨٧ صوتًا. إذا قرر ناخب واحد ألا يدلي بصوته، ستظل الأغلبية هي ٤٠٠. ولكن إذا قرر ما يزيد قليلًا عن نسبة ١٪ من الناخبين المؤيدين لحزب العمل ألا يدلوا بأصواتهم، كان مرشح حزب المحافظين سيفوز.

وَفقًا لتعريف الأصوات المهدرة، فقد أهدر ناخبو حزب المحافظين ما مجموعه ١٩١٤٣ صوتًا، وأهدر ناخبو حزب العمل ٢٠٠ صوت. يقيس أسلوب فجوة الكفاءة مدى إجبار أحد الحزبين على إهدار عدد أصوات أكثر من الآخر. في هذه الحالة، سنستخدم الصيغة التالية:

عدد الأصوات المهدَرة من جانب حزب المحافظين

عدد الأصوات المهدَرة من جانب حزب العُمَّال

÷

إجمالي عدد الأصوات.

أي، (١٩١٤٣ − ٢٠٠)/٣٨٦٨٧ ما يساوي +٤٩٪.

هذه مجرد دائرة واحدة. والفكرة هي حساب فجوة الكفاءة لجميع الدوائر الانتخابية مجتمعة، ثم الاستعانة بمشرِّعي القوانين لتحديد حدٍّ قانوني. تقع قيمة فجوة الكفاءة دائمًا بين −٥٠٪ و+٥٠٪، وعندما تصبح قيمة الفجوة صفرًا فهي تشير إلى عملية انتخابية عادلة؛ حيث يهدر الطرفان نفس عدد الأصوات، لذلك اقترح ستفانابولوس وميجي أن قيمة فجوة الكفاءة إذا وقعت خارج النطاق ±٨٪ فهي تدل على حدوث عملية تلاعب جيريماندري.

ورغم ذلك، هناك بعض العيوب في هذا الأسلوب. إذ إنه عندما تصبح النتيجة متقاربة، تنتُج قيمة كبيرة لفجوة الكفاءة على نحوٍ حتمي، ويمكن لعدد قليل من الأصوات أن يجعلها تتأرجح مما يقرُب من +٥٠٪ إلى ما يقرب من −٥٠٪. فعلى الرغم من أن قيمة فجوة الكفاءة كانت +٤٩٪ في دائرتي الانتخابية، فلم يحدث بها عملية تلاعب جيريماندري. إذا كان ٢٠١ ناخب فقط ممن أدلوا بأصواتهم لصالح حزب العُمال قد أدلوا بها لصالح حزب المحافظين بدلًا من ذلك، لأصبحت قيمة فجوة الكفاءة −٤٩٪. وإذا كان أحد الحزبين قد حالفه الحظ وفاز في كل الدوائر، سيبدو الأمر كما لو أنه قد فاز من خلال عملية تلاعب جيريماندري؛ إذ إن العوامل السكانية يمكن أن تشوِّه الأرقام. في قضية «جيل ضد وايتفورد»، كشف الدفاع هذه العيوب على نحو صائب، لكن المدعين جادلوا على نحوٍ ناجح بأنها لا تنطبق على هذه الحالة بالتحديد. ورغم ذلك، وكتعليق عام، فهي معقولة تمامًا.

في عام ٢٠١٥، رصدت ميرا بيرنستاين ومون دتشين8 بعض العيوب الأخرى في أسلوب فجوة الكفاءة، وفي عام ٢٠١٨، اقترح جيفري بارتون تعديلًا لتلافي تلك العيوب.9 لنفترض، على سبيل المثال، أن هناك ثماني دوائر انتخابية، وفي كل دائرة يحصل الحزب الأبيض على ٩٠ صوتًا، بينما يحصل الحزب الأسود على الأصوات المتبقية وهي ١٠. إذن عدد الأصوات المهدَرة بالنسبة للحزب الأبيض هي ٤٠ × ٨ ما يساوي ٣٢٠ صوتًا، في حين أن عدد الأصوات المهدَرة بالنسبة للحزب الأسود هي ١٠ × ٨ ما يساوي ٨٠ صوتًا، ومن ثَم فإن فجوة الكفاءة هي (٣٢٠ − ٨٠)/٨٠٠ ما يساوي ٠٫٣، أي، ٣٠٪. إذا اتبعنا اقتراح حد ٨٪، فإن حجم فجوة الكفاءة هذا يشير إلى وجود تحيُّز على أساس حزبي ضد الحزب الأبيض. لكن الحزب الأبيض فاز بجميع المقاعد الثمانية!

غير أن هناك سيناريو ثانيًا يكشف لنا أمرًا آخر. لنفترض الآن أن الحزب الأبيض قد فاز بثلاث دوائر، وحصل في كلٍّ منها على ٥١ صوتًا مقابل ٤٩، في حين فاز الحزب الأسود في دائرتين وحصل في كلٍّ منهما على ٥١ صوتًا مقابل ٤٩. إذن عدد الأصوات المهدَرة بالنسبة للحزب الأبيض هي ١ + ١ + ١ + ٤٩ + ٤٩ ما يساوي ١٠١ صوت، في حين أن عدد الأصوات المهدَرة بالنسبة للحزب الأسود هي ٤٩ + ٤٩ + ٤٩ + ١ + ١ ما يساوي ١٤٩. ومن ثَم فإن فجوة الكفاءة هي (١٠١ − ١٤٩)/٥٠٠ ما يساوي −٠٫٠٩٦، أي −٩٫٦٪، مما يشير إلى وجود تحيز ضد الحزب الأسود. رغم ذلك، فالحزب الأسود هو حزب الأقلية ويجب ألا يتوقع الفوز بأكثر من مقعدين، مثلما حدث بالفعل. ومَنح مقعد آخر للحزب الأسود من شأنه أن يمنح حزب الأقلية غالبية المقاعد.

fig5
الصورة اليمنى: رسم بياني خاص بالمقاعد وعدد الأصوات يوضح نتيجةَ استخدام أسلوب التمثيل النسبي (الخط السميك)، ونطاق قِيَم فجوة الكفاءة الذي يعتبر عادلًا (الجزء المظلل). الصورة اليسرى: الرسم البياني المقابل لفجوة الكفاءة المعدَّلة؛ حيث يحيط الجزء المظلل بالخط القُطري.

وقد تتبَّع بارتون هاتين المشكلتين المتعلقتين باستخدامات الأصوات المهدرة. في أي انتخابات، يعتبر فائض الأصوات التي حصل عليها الفائز أصواتًا مهدَرة، بغض النظر عن كيفية ترسيم حدود الدوائر. ومن ثَم استبدل بمصطلح «الأصوات المهدرة» مصطلح «الأصوات المهدَرة على نحوٍ غير ضروري»، مع حساب نِسَب الأصوات التي من المؤكد أنها ستصبح مهدرة، ذلك لكل حزب، وطرحها من التعريف السابق للأصوات المهدرة. عند استخدام التعريف الأصلي، يظهر في الرسم البياني الخاص بالمقاعد وعدد الأصوات نطاقٌ ضيق حول الخط الذي يبدأ بنسبة ٢٥٪ من عدد الأصوات في الأسفل، وينتهي بنسبة ٧٥٪ في الأعلى، كما هو موضَّح في الشكل التالي في الصورة اليُمنى. ومن أجل المقارنة، يوضح الخط القُطري شكل الرسم البياني المثالي الذي نحصل عليه عند استخدام أسلوب التمثيل النسبي. إذ يتقارب الاثنان عندما تنقسم الأصوات بنسبة قريبة للغاية من  ٥٠ /٥٠. أما في حالة الأصوات المهدرة على نحو غير ضروري، فنحصل على الرسم البياني المقابل الموجود على اليسار. وهنا، يحيط الرسم البياني على نحو قريب للغاية بالخط القُطري، وهو ما يُعَد أكثر معقولية.

•••

هناك أيضًا طريقة مختلفة لاكتشاف حدوث تلاعب جيريماندري، وهي استخدام خرائط ترسيم حدودٍ بديلة ومقارنة النتائج المحتملة، مع استخدام بيانات أنماط التصويت المحتملة في جميع أنحاء المنطقة التي يُعاد ترسيم حدود دوائرها. إذا كانت الخريطة التي يقترحها الحزب الأسود تشير إلى حصوله على ٧٠٪ من المقاعد، ولكن معظم الخرائط البديلة تشير إلى حصوله على ٤٥٪ فقط، فإن هذا الحزب يسعى إلى ارتكاب تلاعُب.

المشكلة الرئيسية في هذه الفكرة هي أنه حتى بالنسبة للأعداد الواقعية من الدوائر والتقسيمات الفرعية، لا يمكن تحديد جميع الخرائط الممكنة. فهناك انفجار توافيقي؛ حيث تزداد الأعداد بسرعة متناهية. علاوة على ذلك، يجب أن تلتزم جميع الخرائط المستخدَمة بالقواعد القانونية، مما يؤدي إلى قيود يمكن أن تصبح مستعصية رياضيًّا. وقد تصادف، على نحو مثير للدهشة، أن علماء الرياضيات توصلوا منذ مدة طويلة إلى طريقةٍ لتفادي حدوث هذا الانفجار التوافيقي، وهي طريقة «سلسلة ماركوف مونت كارلو». فبدلًا من استعراض كل خريطة ممكنة، تنشئ تلك الطريقة عينة عشوائية من الخرائط، التي تكون كبيرة بما يكفي لتقديم تقديرات دقيقة. إن هذه الطريقة مشابهة للطريقة التي من خلالها تتوقع استطلاعات الرأي العام نوايا الناخبين عبر سؤال عينة عشوائية صغيرة نسبيًّا.

تعود أساليب مونت كارلو إلى مشروع مانهاتن في زمن الحرب العالمية الثانية، الذي كان موجهًا لصناعة قنبلة ذرية. كان أحد علماء الرياضيات ويدعى ستانيسواف أولام مريضًا، ثم تماثل للشفاء وتقرَّر أن يقضي فترةً للنقاهة. وكي لا يشعر بالملل خلال هذه الفترة، أمضى وقته في ممارسة لعبة السوليتير. وبينما هو يتساءل عن احتمالات النجاح، حاول توقُّع عدد ترتيبات أوراق اللعِب التي ستؤدي إلى النجاح بأقل عدد من الخطوات، وأدرك بسرعة أن هذا النهج لن يصل به إلى أي نتيجة. بدلًا من ذلك، لعب عددًا كبيرًا من المرات، وأحصى عدد المرات التي فاز فيها. ثم أدرك أن بإمكانه إجراء حيلة مماثلة مع معادلات الفيزياء التي يحتاج مشروع مانهاتن إلى إيجاد حل لها.

أما سلاسل ماركوف، التي سُمِّيت على اسم عالم الرياضيات الروسي أندريه ماركوف، فهي تعميمات لخصائص طريقة المشي العشوائي (أو مشي الشخص السِّكِّير). افترض أن شخصًا يمر بحالة نفسية سيئة قد أفرط في شرب الخمر حتى وصل إلى مرحلة السُّكر، ومن ثَم سيمشي وهو يترنَّح عبر الرصيف، ويتخذ خطواتٍ للأمام أو للخلف على نحوٍ عشوائي. في المتوسط، بعد عددٍ معين من الخطوات، ما المسافة التي سيقطعها؟ (الإجابة: في المتوسط، ما يقارب الجذر التربيعي لعدد الخطوات.) وقد تخيل ماركوف عمليةً مماثلة يستبدل فيها بالرصيف شبكةً، ويُعين للانتقالات عبر حواف الشبكة احتمالات محددة. وهنا يبرز سؤال رئيسي، وهو: ما احتمالية الوجود في أي موضع محدَّد، بعد التجوُّل بلا هدف لمدة طويلة للغاية؟ تشكل سلاسل ماركوف نموذجًا للعديد من مسائل العالم الحقيقي التي تحدث فيها تتابعات من الأحداث، مع تعيين احتمالات تتوقف على الظروف الحالية.

إن طريقة «سلسلة ماركوف مونت كارلو» هي ما نحصل عليه عند المزج بين الأسلوبين: استخدام أساليب مونت كارلو لأخذ عينات لقائمة الاحتمالات المطلوبة. في عام ٢٠٠٩، قدَّر عالم الإحصاء بيرسي دياكونيس أن نحو ١٥٪ من التحليلات الإحصائية في المجال العلمي، والأعمال الهندسية، والأعمال التجارية، تعتمد على طريقة «سلسلة ماركوف مونت كارلو»، لذلك فمن المنطقي تجربة مثل هذه الطريقة القوية والراسخة والمفيدة في كشف عمليات التلاعب الجيريماندري. استخدِم جَولات المشي العشوائي على غرار أسلوب ماركوف لإنشاء خرائط ترسيم الدوائر الانتخابية، واحصل على عينات منها باستخدام أسلوب مونت كارلو، وعندئذٍ ستصبح لديك طريقة إحصائية لتقييم مدى نموذجية الخريطة المقترحة. هناك بعض العمليات الرياضية الأكثر تعقيدًا التي تدعم هذه الأساليب، وهي المعروفة باسم النظرية الإرجوية، التي توفِّر ضمانًا بأن جولات المشي العشوائي الطويلة على نحو كافٍ تصلح لأخذ عينات من أجل الحصول على تقديرات إحصائية دقيقة.

وقد أدلى بعض علماء الرياضيات مؤخرًا بشهاداتهم أمام المحاكم حول هذه الطريقة. ففي ولاية نورث كارولينا، قارن جوناثان ماتينجلي بين تقديرات هذه الطريقة فيما يتعلق بالنطاق المعقول للكميات، مثل عدد المقاعد التي يجري الفوز بها، كي يثبت أن الخطة التي اختيرت كانت مبنية على قيمٍ إحصائية متطرفة، مما يشير إلى أنها متحيزة لصالح حزبٍ بعينه. وفي ولاية بنسلفانيا، استخدم ويسلي بيجدن أساليب إحصائية لحساب كيف أنه من غير المحتمل أن تؤدي خطةً محايدة سياسيًّا إلى نتائج أسوأ من الخطط التي أُنشئت بِناءً على أسلوب المشي العشوائي، ولتقدير احتمالية حدوث مثل هذه النتيجة بالصدفة البحتة. في كلتا الحالتين، وجد القضاة أن الإثباتات الرياضية ذات مصداقية.

•••

إن الفهم الرياضي لعملية التلاعب الجيريماندري سلاح ذو حدين. إذ يمكن أن يساعد الناخبين والمحاكم على اكتشاف التلاعُب عند حدوثه، ولكن يمكن أيضًا أن يساعد المتلاعبين على التوصُّل إلى طرقٍ أكثر فعالية لارتكاب هذا النوع من التلاعب. إنه يساعدنا على جعل الناس يمتثلون للقانون، ولكنه يمكن أن يساعدهم أيضًا على خرقه، أو، ربما أسوأ من ذلك: التحايل عليه. فمن المعتاد أنه عند سَن إجراءات تنظيمية من أجل منع نوع ما من إساءة الاستخدام، فإن الناس يحاولون التحايل على النظام والبحث عن ثغرات في تلك الإجراءات. إن الميزة الكبرى للنهج الرياضي هي أنه يجعل القواعد في حد ذاتها واضحة. كما أنه يُبرز احتمالية جديدة بالكامل. وبدلًا من بذل محاولات غير ذات جدوى لإقناع ذوي المصالح السياسية المتنافسة بأن يتفقوا على ما هو عادل، ومنحهم فُرصًا للتلاعب بالنظام، وشرعنة النظام من خلال المحاكم، قد يكون من المنطقي أكثر أن نجعلهم يجاهدون من أجل التوصل إلى ما هو عادل. ليس على نحوٍ فوضوي غير منظم؛ حيث يمنحهم النفوذ والمال مزايا ضخمة، ولكن من خلال إطار منظم يضمن، ليس فقط أن نحصل على نتيجة عادلة، وأن يعتبرها الجميع عادلة، ولكن أيضًا ألا يمكن للأحزاب المتنافسة تجنُّب قبول الاعتراف بأنها عادلة.

قد يبدو هذا مطلبًا مبالغًا فيه، ولكن ازدهر مؤخرًا فرع كامل من فروع الرياضيات مخصص لهذه الفكرة، وهو: نظرية التقسيم العادل. وهو يوضح لنا أن الأُطُر التي جرى تكوينها بعناية من أجل التفاوض يمكن أن تحقِّق ما قد يبدو في البداية مستحيلًا.

إن المثال الكلاسيكي، الذي ينبع منه كل شيء آخر، هو طفلان يتنازعان على كعكة. وتكمن المشكلة في كيفية تقسيمها بينهما، باستخدام بروتوكول — أي مجموعة من القواعد المحددة مسبقًا — عادل على نحو مثبت. يكمن الحل الكلاسيكي في الآتي: «أنا أقطع، وأنت تختار». فيُطلَب من الطفلة أليس أن تقطع الكعكة على نحو تعتبره قد جعل كلًّا من القطعتين ذات قيمة متساوية. ثم يُطلب من الطفل بوب اختيار واحدة من القطعتين. لا ينبغي أن يصبح لدى بوب أي اعتراضات؛ لأنه هو من اختار بين القطعتين. إذ كان بإمكانه اختيار القطعة الأخرى بدلًا من تلك التي اختارها. وكذلك لا ينبغي أن يصبح لدى أليس أي اعتراضات أيضًا: إذا ظنت أن بوب اختار القطعة الأكبر، فقد كان ينبغي عليها تقسيم الكعكة إلى نصفين متساويين في المقام الأول. إذا كانا منزعجين بشأن من سيبدأ العملية أولًا، فيمكن إجراء قرعة باستخدام قطعة نقود، لكن هذا ليس ضروريًّا في واقع الأمر.

نظرًا لسمات الطبيعة البشرية التي نعلم جميعًا ما هي عليه، فلا يمكننا أن نصبح متأكدين من أن الطفلين سيدركان مدى عدالة هذه الطريقة بعد تجربتها. عندما ذكرتُ هذه الطريقة في أحد المقالات، أرسل أحد القراء رسالة إليَّ وقال إنه قد جرَّبها على طفليه، فاشتكت أليس (ليس هذا اسمها الحقيقي) على الفور من أن بوب (ليس هذا اسمه) قد حصل على القطعة الكبرى. وعندما أشار والدها إلى أن هذا خطؤها؛ لأنها قسمت الكعكة على نحو سيئ، فإن الأمور لم تسِر على ما يُرام — فقد رأت أنه يلقي اللوم على الضحية — لذلك بدَّل والدها القطعتين بينها وبين أخيها. وكانت نتيجة ذلك هي فقط سماع صياحها وهي تشتكي: «لا تزال قطعة بوب أكبر من قطعتي!» لكن ينبغي أن يحوز هذا النوع من البروتوكول رضا السياسيين، أو على الأقل لا يمنحهم الفرصة للاعتراض، وبالتأكيد ينبغي أن يحظى بالقبول أمام أي محكمة. إذ يتعين على القاضي فقط التحقق من أن البروتوكول قد طُبق على نحو صحيح.

إن الميزة الرئيسية لهذا النوع من البروتوكول هي أنه بدلًا من محاولة القضاء على العداء المتبادل بين أليس وبوب، فإننا نستخدمه للوصول إلى نتيجة عادلة. لا تطلب منهما اللعب بشكل عادل، ولا تطلب منهما التعاون، ولا تقترح تعريفًا قانونيًّا مصطنَعًا لما تعنيه كلمة «عادل». فقط دعهما يعارض أحدهما الآخر ويلعبان اللعبة. بالطبع، يجب على أليس وبوب الاتفاق مسبقًا على اللعب وفقًا لتلك القواعد، لكن سيتعين عليهما الموافقة على شيء ما، والقواعد من الواضح أنها عادلة، لذلك من المحتمل ألَّا يحصلا على التعاطف أو الاهتمام الكافي إذا لم يمتثلا لقواعدها.

هناك ميزة مهمة لبروتوكول «أنا أقطع، وأنت تختار» وهي أنه لا يتضمن نوعًا من التقييم الخارجي لما تساويه قيمة قطعة الكعكة. فهو يستخدم تقييمات اللاعبين الشخصية لقيمتها. إنهما فقط بحاجة إلى أن يشعر كل منهما بالرضا عن أن حصته عادلة وفقًا لمعاييره الخاصة. وعلى وجه التحديد، هما لا يحتاجان إلى الموافقة على قيمة أي شيء. في الواقع، يصبح التقسيم العادل أكثر سهولة لو كان هذا هو الوضع. فأحدهما يريد القطعة التي فوقها حبَّة الكرز، والآخر يريد تلك التي عليها طبقة الكريمة، ولا يمثل باقي مكونات الكعكة أي فارق لكليهما؛ إذن أُنجزت المهمة بنجاح.

لقد ظهرت جوانب خفية هامة، عندما بدأ علماء الرياضيات وعلماء الاجتماع في أخذ هذا النوع من المسائل على محمل الجد. وجاءت أول خطوة للبحث في هذا الأمر عندما فكروا في كيفية تقسيم الكعكة بين ثلاثة أشخاص. من الصعب هنا العثور على إجابة بسيطة، وهناك أيضًا متغيِّر جديد في العملية. فعند تقسيم الكعكة بين أليس وبوب وتشارلي، يمكن أن يُقر كلٌّ منهم بأن النتيجة عادلة، على أساس أنه قد حصل على ثلث الكعكة على الأقل من خلال تقييمه الخاص، ولكن ربما لا تزال أليس تحسد بوب؛ لأنها تظن أن قطعة بوب أكبر من قطعتها. ويجب أن تعوض قطعة تشارلي عن هذا، من وجهة نظر أليس، بأن تصبح أصغر من قطعتها، ولكن لا يوجد أي تناقض في ذلك، لأنه يمكن أن يكون لدى كلٍّ من بوب وتشارلي أفكار مختلفة عن قيمة قطعته من وجهة نظره. لذلك من المنطقي البحث عن بروتوكول ليس عادلًا فحسب، ولكن أيضًا لا يتسبَّب في شعور أي طرف بالحسد تجاه طرف آخر. وفي الواقع، يمكن تحقيق ذلك.10
وقد شهدت تسعينيات القرن الماضي تقدمًا كبيرًا في فهمنا لعملية التقسيم العادل والخالي من الحسد، بدءًا بالتوصُّل إلى بروتوكول خالٍ من الحسد للتقسيم بين أربعة أشخاص، على يد ستيفن برامز وآلان تايلور.11 إن الكعكة هي بالطبع مجرد رمز لأي شيء ذي قيمة يمكن تقسيمه. ومن ثَم تتعامل النظرية مع الأشياء التي يمكن تقسيمها بدقة حسبما نرغب (مثل الكعكة) أو التي تأتي في كتل منفصلة (مثل الكتب، والمجوهرات). وهذا يجعلها قابلة للتطبيق على المشكلات الحقيقية التي تحتاج إلى التقسيم العادل، وأوضح برامز وتايلور كيفية استخدام مثل هذه الأساليب لحل النزاعات في تسويات الطلاق. ويتمتع بروتوكول «الفائز المعدل» الذي توصلا إليه بثلاث مزايا رئيسية: إنه عادل، وخالٍ من الحسد، وفعَّال (أو مثالي وفقًا للرؤية الباريتوية). وهذا يعني، أن كل طرف يشعر أن حصته كبيرة، على الأقل مثل الحصة المتوسطة المتعارف عليها، ولا يشعر برغبة في تبادل حصته مع أي شخص آخر، ولا توجد طريقة أخرى للتقسيم تتصف، على الأقل، بأنها جيدة بالنسبة لكل الأطراف ومناسِبة أكثر بالنسبة لأي منهم.

في مفاوضات الطلاق، على سبيل المثال، قد يُستخدم هذا البروتوكول على هذا النحو. بعد تعرض علاقتهما لمشكلات معقدة طوال فترة طويلة، سئم كل من أليس وبوب من العيش معًا وقررا الطلاق. فمُنح كل منهما ١٠٠ نقطة، وهي التي سيقسمانها من خلال تخصيص عدد من النقاط لكل عنصر من الممتلكات مثل المنزل، والتليفزيون، والقط. مبدئيًّا، يُمنح العنصر لمن خصص له أكبر عدد من النقاط. هذا الأسلوب فعال، لكنه عادة ليس عادلًا ولا خاليًا من الحسد، لذلك ينتقل البروتوكول إلى المرحلة التالية. إذا تساوى الطرفان في قيمة ما حصلا عليه، سيصبحان راضيَين وتنتهي عملية التقسيم. إذا لم يكن الأمر كذلك، فلنفترض أن حصة أليس، وفقًا لقيمة ما حصلت عليه، أكبر من حصة بوب، وفقًا لما حصل عليه. لذا تُنقل عناصر من حصة أليس (الفائزة) إلى حصة بوب (الخاسر) بترتيب يضمن تساوي قيمة ما حصل عليه كلٌّ منهما. ونظرًا لأن التقييمات لا يمكن أن تكون سوى أعداد صحيحة، وتكون العناصر غير قابلة للتقسيم، فقد يتوجب تقسيم أحد العناصر، لكن البروتوكول يشير إلى أن هذا سيحدث لعنصر واحد على الأكثر؛ وهو المنزل في أغلب الاحتمالات، الذي سيباع ثم يُقسم المقابل بينهما، ولكن ليس إذا اشترى بوب أسهمًا في شركة آبل قبل أن يرتفع سعرها في البورصة.

يستوفي بروتوكول «الفائز المعدل» ثلاثة شروط مهمة للتقسيم العادل. الأول أن به ضمانًا للعدالة؛ فهو يتسم على نحوٍ مثبت بالعدل والفعالية والخُلُو من الحسد. والثاني أنه يعمل من خلال التقييم متعدد الأطراف؛ إذ تؤخذ تفضيلات الأطراف في الاعتبار، وتُحسب قيم حصصها باستخدام التقييمات التي وضعوها. والثالث أنه عادل من الناحية الإجرائية؛ حيث يمكن للأطراف إدراك ضمانه للعدالة والتحقق منه، بالنسبة لأي حل يُتوصل إليه في النهاية، وإذا لزم الأمر، يمكن للمحكمة أن تقرر أنه عادل.

•••

في عام ٢٠٠٩، اقترح زيف لانداو، وأونيل ريد، وإيلونا يرشوف أن نهجًا مشابهًا يمكن أن يقضي على مشكلة التلاعب الجيريماندري.12 فالبروتوكول الذي يمنع أي مشارك من ترسيم الدوائر الانتخابية لصالحه، سيوقف عملية التلاعب هذه ويمنعها من تشويه الدوائر الانتخابية. لا تعطي هذه الطريقة أي اعتبار لشكل الخرائط، ولا تمنح القدرة للأطراف التي تزعم أنها حيادية، كي تفرض الخرائط التي تخدم مصالحها. بدلًا من ذلك، هي مصممة بحيث توازن بين المصالح المتنافسة.

والأفضل من ذلك أنه يمكن تعزيز هذه الأساليب لمراعاة عوامل إضافية مثل الدمج والتماسك الجغرافي. إذا طُلب من هيئة خارجية، مثل لجنة انتخابات أن تتخذ القرار النهائي، فيمكن تقديم نتائج لعبة التقسيم إليها كجزء من الدليل الذي ستبني عليه حكمها. لا أحد يدَّعي أن مثل هذه الأساليب ستزيل كل أثر للتحيز عند تطبيقها على أرض الواقع، لكنها تعمل بشكل أفضل بكثير من الأساليب الحالية، وتزيل إلى حد كبير إغراء الانغماس في ممارسات غير عادلة على نحو صارخ.

إن هذا البروتوكول، الذي هو معقد للغاية بحيث يصعب وصفه بالتفصيل، يتضمن طرفًا مستقلًّا يقترح طريقة لتقسيم الدوائر الانتخابية في الولاية. ثم يُعرض على الحزبين المتنافسين خيار تغيير الخريطة التي اقترحها هذا الطرف عن طريق إجراء تقسيم فرعي لإحدى الدوائر، بشرط أن يُسمح للحزب الآخر بتقسيم دائرة أخرى. وعلى نحو بديل، يمكنهم انتقاء خيارٍ مشابه مع عكس دور كل طرف. إن هذا البروتوكول هو نسخة من بروتوكول «أنا أقطع، وأنت تختار»، مع تسلسلات أكثر تعقيدًا من التقسيمات. وقد أثبت لانداو، وريد، ويرشوف أن البروتوكول الذي توصلوا إليه يتسم بالعدالة من وجهة نظر الطرفين. إذ يلعب الطرفان، في الأساس، لعبة معًا. ولكن صُمِّمت اللعبة لتنتهي بالتعادل، مع اقتناع كل طرف بأنها قد مورست بأفضل شكل ممكن. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فقد كان ينبغي أن يمارس اللعبة على نحو أفضل.

في عام ٢٠١٧، أجرى إريل بروكاتشيا وبيجدن تحسينات على هذا البروتوكول من خلال التخلُّص من الطرف المستقل؛ بحيث يصبح الحزبان المتنافسان هما من يقرران كل قواعد العملية. باختصار، يتولى أحد الحزبين السياسيين إعداد خريطة للولاية توضح عملية تقسيمها على نحو قانوني إلى العدد المطلوب من الدوائر الانتخابية، بحيث تضم كل دائرة نفس العدد من الناخبين (بقدر الإمكان). ثم «يجمد» الحزب الثاني دائرة واحدة؛ بحيث لا يمكن إجراء تغييرات أخرى عليها، ويعيد ترسيم حدود باقي الدوائر، كيفما شاء. ثم يختار الحزب الأول دائرة مختلفة من هذه الخريطة الجديدة ويجمدها ويعيد ترسيم البقية. ومن ثَم يتناوب الحزبان عمليتي التجميد وإعادة الترسيم، حتى يتجمدَ كل شيء. وينتج عن هذه العملية الخريطة النهائية التي توضح حدود الدوائر الانتخابية. إذا كان هناك، على سبيل المثال، ٢٠ دائرة انتخابية، فإن هذه العملية تُجرى عبر ١٩ دورة. وقد أثبت بروكاتشيا وبيجدن بالتعاون مع دينجلي يو، وهو طالب زائر يدرس علوم الكمبيوتر، باستخدام عمليات الرياضيات، أن هذا البروتوكول لا يمنح الحزب الذي بدأ التقسيم أي ميزة، وأنه لا يمكن للحزبين تركيز مجموعات محددة من الناخبين في نفس المنطقة إذا كان الحزب الآخر لا يريد حدوث ذلك.

•••

أصبحت العمليات الرياضية للانتخابات، في هذه الأيام، مجالًا واسع النطاق للغاية، والتلاعب الجيريماندري في تقسيم الدوائر الانتخابية هو جانب واحد منها فقط. ولقد أُجري الكثير من الأبحاث على أنظمة تصويت مختلفة، مثل نظام الفوز للأكثر أصواتًا، ونظام التصويت الفردي القابل للتحويل، ونظام التمثيل النسبي، وما إلى ذلك. وإحدى السمات العامة التي تنبثق من هذا البحث تتمثل في أنه إذا حدد المرء قائمة مختصرة من الخصائص المرغوب فيها في أي نظام ديمقراطي مقبول، سيتضح أن هذه المتطلبات تتعارض في بعض الحالات بعضها مع البعض.

إن أصل كل هذه النتائج هي مبرهنة الاستحالة التي نشرها عالِم الاقتصاد كينيث أرو في عام ١٩٥٠، وشرحها في كتابه «الاختيار الاجتماعي والقيم الفردية» بعد ذلك بعام. درس أرو نظام تصويت مصنف، حيث يمنح كل ناخب تقييمات رقمية لسلسلة من الخيارات: ١ لتفضيله الأول، و٢ للتالي، وهكذا. ومن ثَم حدد ثلاثة معايير لعدالة نظام التصويت هذا:

  • إذا فضل «كل» ناخب بديلًا عن آخر، فستفعل المجموعة ذلك.

  • إذا لم يتغير تفضيل الناخب بين خيارين محددين، فلن يتغير تفضيل المجموعة أيضًا، حتى إذا تغيرت التفضيلات بين الخيارات الأخرى.

  • لا يوجد ديكتاتور يمكنه دائمًا تحديد الخيار الذي تفضله المجموعة.

كل هذه المعايير مرغوب فيها للغاية، ولكنها متناقضة على نحو منطقي، وهو ما شرع أرو في إثباته. إن هذا لا يعني أن مثل هذا النظام غير عادل بالضرورة؛ كل ما في الأمر أنه في بعض الحالات تصبح النتيجة غير متوقعة.

إن التلاعب الجيريماندري له الصور الخاصة به من مبرهَنَة أرو. تحدد إحداها، وهي التي نشرها بوريس أليكسيف وداستن ميكسون13 في عام ٢٠١٨، ثلاثة مبادئ لترسيم الدوائر الانتخابية على نحو عادل:
  • نظام «رجل واحد، صوت واحد»: لكل دائرة نفس العدد من الناخبين تقريبًا.

  • الدمج باستخدام مقياس بولسبي-بوبر: كل الدوائر لديها درجة مقياس بولسبي-بوبر أكبر من القيمة المحددة قانونًا.

  • فجوة الكفاءة المقيدة: وهذا أمر تقني على نحو أكبر. تقريبًا، إذا كان عدد سكان أي دائرتين يمثل على الأكثر نسبة ثابتة من إجمالي عدد السكان في هاتين الدائرتين، فإن فجوة الكفاءة تكون أقل من ٥٠٪.

ثم أثبتا بعد ذلك أنه لا يوجد نظام تقسيم دوائر انتخابية يمكنه دائمًا استيفاء هذه المعايير الثلاثة.

إن الديمقراطية لا يمكنها أبدًا أن تصل إلى حد الكمال. في الواقع، إنه لأمر مدهش أنها قابلة للتطبيق من الأساس، نظرًا لأن الهدف هو إقناع ملايين الأشخاص، الذين لكل منهم آراؤه الخاصة، كي يتفقوا على شيء مهم يؤثر على كل واحد منهم. إن الديكتاتوريات أبسط بكثير. دكتاتور واحد، صوت واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤