دع الحمامة تقود الحافلة!
من ناحية، ربما شعر سائق الحافلة بالقلق من أن الحمامة لن تتمكن من قيادة الحافلة على نحو آمن. وربما، من الناحية الأخرى، شعر السائق بقلق أكبر من أن الحمامة لن تتمكن من اتِّباع مسارٍ يعطي، على نحو فعَّال، فرصة ركوب الحافلة لجميع الركاب الموجودين في المحطات المختلفة عبر المدينة.
لقد بدأ مو ويليمس في رسم الرسوم المتحركة في سن الثالثة. وبعد ذلك قرر كتابة قصصٍ مضحكة؛ حيث ساوره القلق من أن الكبار ربما يمتدحونه على نحوٍ تشوبه المجاملة. فالضحكات المصطَنَعة، هكذا قال لنفسه، يمكن اكتشافها بسهولة أكبر. وفي عام ١٩٩٣ انضم إلى فريق الكتابة وتحريك الرسوم في البرنامج التليفزيوني الشهير «سيسمي ستريت»، وفاز بست جوائز «إيمي» في غضون عشر سنوات. كما صنع مسلسل رسوم متحركة تليفزيوني للأطفال بعنوان «خروف في المدينة الكبيرة»، قدَّم فيه شخصية الخروف الذي تحطَّمت حياته الهانئة في المزرعة، عندما أرادت المنظمة العسكرية السرية التابعة للجنرال سبسيفك السيطرة عليه من أجل الاستفادة منه في تصنيع مسدس إشعاعي يستمد طاقته من الخرفان. ثم واصل خلال غزوتهمدينة ألمانية مذكورة في الكتاب الإرشادي الأولى لعالم كتب الأطفال الاعتماد على شخصيات من الحيوانات، عندما قدم كتابًا بعنوان «لا تدع الحمامة تقود الحافلة!»، وفاز بميدالية «كارنيجي» عن فيلم الرسوم المتحركة المقتبَس منه، وتكريم «كولديكوت»، الذي تحصُل عليه إذا وصلتَ إلى القائمة المختصرة من المرشحين للحصول على ميدالية «كولديكوت». وفي هذا الكتاب تستخدم الشخصية الرئيسية — التي من الواضح أنها حمامة — كل الحِيَل الممكنة (حرفيًّا) لإقناع القارئ بأنه ينبغي السماح لها بقيادة حافلة عندما اضطرَّ السائق البشري العادي إلى المغادرة على نحو مفاجئ.
لا ينبغي لأحد أن يدعي أن العلماء يفتقرون إلى روح الدعابة. أو أن العناوين اللطيفة لا تساعد في صنع دعاية جيدة لما توصَّلوا إليه.
على أي حال، فإن القصة التافهة للغاية التي ألهمتني كتابةَ هذا الفصل تعود أصولها إلى كتاب مفيد بالنسبة — كما لعلك قد خمنت — للبائعين المتجوِّلين. إنهم مندوبو المبيعات المتنقلون. أنا أستطيع أن أتذكرهم حتى لو لم تفعل أنت. غالبًا ما كانوا يبيعون المكانس الكهربائية. ولكن دعنا نعُد إلى عام ١٨٣٢، وبالتحديد في ألمانيا؛ حيث كان البائع الألماني المتجول (في تلك الأيام كان الرجال هم فقط من يعملون بتلك المهنة) يعتبر أن أهم عنصرين في مهنته هما الاستفادة من وقت العمل على نحو فعَّال، وكذلك خفض التكاليف، مثله في ذلك مثل أي شخص حصيف يعمل بالتجارة. ولحسن حظ الباعة الألمان في ذلك الوقت، أنهم وجدوا على نحو سريع ما يساعدهم في تحقيق هذا الأمر، عندما صدر كتاب إرشادي بعنوان: «البائع المتجول؛ كيف ينبغي أن يكون وماذا عليه أن يفعل، للحصول على طلبات الشراء، وللتأكد من تحقيق نجاح مبهر في عمله، بقلم بائع متجول مخضرم». أشار هذا البائع المتجول العجوز إلى ما يلي:
إن طبيعة عمل البائع المتجول تقوم على التنقل من مكان لآخر، ولا يمكن على نحو دقيق تحديد مسارات تنقل بعينها تناسب جميع الحالات التي تحدث؛ ولكن في بعض الأحيان، من خلال الاختيار والترتيب المناسبَين للجولة، يمكن كسب الكثير من الوقت، ولذلك نحن نظن أنه بإمكاننا تقديم بعض القواعد أيضًا في هذا الصدد … والنقطة الأساسية دائمًا تتمثل في زيارة أكبر عدد ممكن من الأماكن، دون الاضطرار إلى زيارة نفس المكان مرتين.
لم يقدم الكتاب الإرشادي أي عمليات رياضية لحل هذه المسألة، لكنه احتوى على أمثلة لخمس جولات مثالية، على حد زعمه، عبر مدن ألمانيا (إحدى تلك الجولات مرت بسويسرا). ويشتمل معظمها على جولات فرعية تزور نفس المكان مرتين، وهو أمر عملي تمامًا، إذا كنت تقضي النهار في زيارة المنطقة المحلية وتبيت الليل في فندق صغير. لكن إحدى الجولات لم تحدث خلالها زيارة نفس المكان مرتين. وقد أظهر حلٌّ حديث لنفس المسألة أن الحل الذي ورد في هذا الكتاب الإرشادي هو حل جيدٌ للغاية، مثلما توضح الصورة.
إن المسألة الشهيرة التي عُرفت باسم مسألة البائع المتجول هي مثال رائد للمجال الرياضي الذي يُعرف الآن بالتحسين التوافقي. وهذا يعني «إيجاد أفضل خيار من بين مجموعة من الاحتمالات الكثيرة للغاية التي لا يمكن التحقُّق من كلٍّ منها على حدة». من الغريب، أن اسم هذه المسألة يبدو أنه لم يُستخدم بشكل صريح في أي منشور ذي صلة بهذه المسألة حتى عام ١٩٨٤، رغم أنه كان يستخدم على نحو شائع قبل ذلك بكثير في المناقشات غير الرسمية بين علماء الرياضيات.
•••
لقد ولَّى عصر البائع المتجول الرجل منذ زمن بعيد، وتلاه، على نحو سريع، عصر البائع المتجول الذي يمكن أن يكون رجلًا أو امرأة. أما في عصرنا الحالي، عصر الإنترنت، فأصبح من النادر أن تبيع الشركات منتجاتها من خلال إرسال شخص يتنقل بين البلدات وهو يحمل حقيبة مليئة بالعيِّنات. بدلًا من ذلك، هي تعرض كل منتجاتها على موقعها الخاص على الويب. ومثلما هو معتادٌ مع كل حالات الفعالية اللامعقولة، لم يتسبَّب تغيُّر الثقافة هذا في جعل مسألة البائع المتجوِّل أمرًا عفا عليه الزمن. إذ إنه مع النمو المذهل في مجال التسوق عبر الإنترنت، تصبح الحاجة إلى إيجاد طُرُق فعالة لتحديد مسارات التوصيل وجداوله الزمنية أكثرَ أهمية من أي وقتٍ مضى، بخصوص كل شيء، من الطرود إلى طلبات المراكز التجارية وحتى البيتزا. وربما ينبغي أن يتغير اسم المسألة إلى «مسألة التسوُّق في متاجر تيسكو: ما أفضل مسارٍ يمكن أن تسلكه سيارة توصيل الطلبات؟»
إن ميزة قابلية التطبيق المتعدد التي تتميز بها الرياضيات لها دور أيضًا في هذا الشأن. إن تطبيقات مسألة البائع المتجوِّل لا تقتصر على السفر بين البلدات أو التجوُّل عبر شوارع المدن. يوجد على جدار غرفة الجلوس في بيتي لوحة مربعة كبيرة من القماش الأسود، مطرَّزة عليها باللون الأزرق أشكالٌ مغزلية أنيقة استنادًا إلى أعداد فيبوناتشي الشهيرة، وقد استُخدم الترتر في عملية التطريز. ويطلق عليها المصمم اسم «ترتر فيبوناتشي». لقد صُنعت تلك اللوحة باستخدام ماكينة يجري التحكم فيها بالكمبيوتر، يمكنها تطريز أي قطعة قماشية بأحجام تصل إلى حجم مفرش سرير. وتتصل الإبرة التي تخيط الخيوط بقضيب، على نحو يسمح بأن تنزلق على امتداده، ويمكن للقضيب أن يتحرك بشكل عمودي على طولها. وبالجمع بين الحركتين، يمكن تحريك الإبرة إلى أي مكان نريده على سطح القطعة القماشية. ولأغراضٍ عمليةٍ (تقليل إهدار الوقت، والأحمال على الماكينة، والضوضاء) لا ينبغي أن نتركها تقفز في جميع أجزاء القطعة، لذلك يجب تقليل المسافة الإجمالية التي تقطعها الإبرة إلى الحد الأدنى. وهذا يشبه للغاية مسألة البائع المتجول. إن الجيل الأول الذي تنحدر منه هذه الماكينة يعود إلى الأيام الأولى التي ظهرت فيها التطبيقات المستخدمة في تصميم الرسومات باستخدام الكمبيوتر، وماكينة تعرف باسم الرسام ثنائي المحور، وتعمل عبر تحريك قلمٍ لتنفيذ الرسومات بالطريقة نفسها.
يزخر مجال العلوم بتطبيقات مماثلة. فمثلًا في مجال علم الفلك، كان علماء الفلك البارزون فيما مضى يمتلكون تلسكوبات خاصَّة بهم، أو يتشاركونها مع عدد قليل من الزملاء. وقد كان من الممكن إعادة توجيه التلسكوبات بسهولة من أجل رصد أجرامٍ سماوية جديدة، لذا كان الارتجال أمرًا سهلًا. لكنه لم يعُد كذلك في الوقت الحاضر؛ حيث أصبحت التلسكوبات التي يستخدمها علماء الفلك ضخمة الحجم، وباهظة التكلفة للغاية، ويمكن استخدامها عبر الإنترنت. ومن ثَم يستغرق توجيه التلسكوب نحو جِرمٍ سماوي جديد وقتًا، وبينما يجري تحريك التلسكوب، لا يمكن استخدامه من أجل الرصد. وعند محاولة استكشاف الأجرام المستهدفة دون وضع ترتيب مناسب، فإن هذا يؤدي إلى هدر الكثير من الوقت في تحريك التلسكوب شوطًا طويلًا، ثم العودة مرة أخرى إلى مكانٍ ما بالقرب من المكان الذي بدأ فيه. وفي مجال تحديد تسلسلات الحمض النووي، يجب ربط التسلسلات المجزِّئة لقواعد الحمض النووي معًا على نحو صحيح، ويجب اختيار أفضل ترتيب ممكن لتنفيذ هذا، من أجل تجنُّب إهدار وقت الكمبيوتر المستخدم في العملية.
تتراوح التطبيقات الأخرى من توجيه الطائرات وتحديد مساراتها بكفاءة، إلى تصميم وتصنيع الرقائق الدقيقة للكمبيوتر ولوحات الدوائر الإلكترونية المطبوعة. كما استخدمت حلولٌ تقريبية لمسألة البائع المتجول لتحديد مساراتٍ فعَّالة لعمليات تسليم الطلبات في برنامج «وجبات على عجلات»، وتحديد أفضل وأسرع المسارات لتسليم عبوات الدم إلى المستشفيات. وحتى في مبادرة «حرب النجوم»، وهو الاسم الذي اشتهرت به مبادرة الدفاع الاستراتيجي الافتراضية التي أطلقها الرئيس رونالد ريجان، ظهرت نسخة من مسألة البائع المتجول؛ حيث ستُستهدف مجموعة صواريخ نووية معادية باستخدام مدفع ليزر قوي يتحرك في مدار فضائي حول الأرض.
•••
يبدو أن كارل مينجر، الذي يُنظر إلى بعض أعماله الآن على أنها رائدة في هندسة الفراكتالات، كان أول عالم رياضيات يكتب عن مسألة البائع المتجول، وذلك في عام ١٩٣٠. لقد درس المسألة من زاوية مختلفة تمامًا؛ لقد كان يدرس أطوال المنحنيات من وجهة نظر الرياضيات البحتة. في ذلك الوقت، جرى تعريف طول المنحنى على أنه أكبر قيمة نحصل عليها من خلال جمع أطوال أضلاع أي مضلَّع يشبه على نحوٍ تقريبي ذلك المنحنى، الذي تكون رءوسه عبارة عن مجموعة محددة من النقاط الواقعة على المنحنى، التي جرى المرور بها بنفس الترتيب مثلما تقع على المنحنى. أثبت مينجر أنك ستحصل على نفس الناتج عند استبدال مجموعةٍ محددة من النقاط الواقعة على المنحنى بكل مُضلَّع، وإيجاد المسافة الإجمالية الأدنى على طول أي مضلع يضم تلك الرءوس، بالترتيب الذي تريده. إن الصلة بين هذا ومسألة البائع المتجول هي أن أقصر مسارٍ عند مينجر هو الحل المناسب لمسألة البائع المتجول عند النظر إلى رءوس المضلَّع باعتبارها بلدات. وقد أطلق عليها مينجر «مسألة المرسال»، محاججًا بأنها تنطبق على ساعي البريد إلى جانب البائع المتجول، وكتب يقول:
إن هذه المسألة قابلة للحل من خلال عددٍ مُتَناهٍ من المحاولات. والقواعد التي من شأنها أن تجعل عدد المحاولات أقل من عدد تباديل النقاط المختارة؛ غير معروفة. إن القاعدة التي تنص على أن المرء يجب أن ينتقل أولًا من نقطة البداية إلى أقرب نقطة لها، ثم إلى النقطة الأقرب إلى سابقتها، وهكذا؛ لن تؤدي بشكل عام إلى الحصول على أقصر مسار.
يوضح هذا الاقتباس أنه قد فهِم سِمتَين رئيسيتين للمسألة. أولًا: توجد خوارزمية تساعدنا في التوصل إلى الحل. ما عليك سوى تجربة جميع مسارات التجوُّل على التوالي، وحساب المسافة المقطوعة في كل مسار، وتحديد أقصر مسار. إن العدد الإجمالي للجولات المحتملة هو بالضبط عدد تباديل النقاط، وهو عدد متناهٍ. خلال الحقبة التي كتب فيها مينجر هذا، لم تكن هناك خوارزمية أفضل من هذه معروفة ويمكن استخدامها، لكن تجربة كل الاحتمالات تصبح أمرًا شبه مستحيل إذا تجاوز عدد البلدات المطلوب تحديد مسارات التجول عبرها اثنتي عشرة أو نحو ذلك، لأن عدد المسارات سيصبح ضخمًا للغاية. ثانيًا: لقد توصل إلى أن الطريقة «البديهية» لتحديد المسار — من كل نقطة إلى أقرب نقطة مجاورة — ليست هي الطريقة الصحيحة في أغلب الأحوال. لقد أطلق الخبراء على هذه الطريقة اسم «طريقة أقرب جارٍ الاستكشافية». ويوضح الشكل التالي أحد أسباب فشلها.
لقد كان مينجر محاضرًا زائرًا في جامعة هارفرد لمدة ستة أشهر من عام ١٩٣٠ إلى عام ١٩٣١، وحضر عالم الطوبولوجيا الكبير هاسلر ويتني بعضًا من محاضراته، وقدَّم اقتراحات حول المسألة. وبعد مرور عام، ألقى ويتني محاضرة ذكر خلالها أنه قد توصل إلى أقصر مسار بين كل الولايات الأمريكية البالغة (في ذلك الوقت) ٤٨. وجرى تداول اسم «مسألة ٤٨ ولاية» لفترة من الزمن، ولا يبدو أن أحدًا يعرف على وجه اليقين من صاغ الاسم الأكثر شهرة «مسألة البائع المتجول». إذ كانت أول إشارة منشورة معروفة لهذا المسمَّى واردة في تقرير أعدته جوليا روبنسون صدر عام ١٩٤٩.
في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كانت إحدى المؤسسات الرائدة في مجال بحوث العمليات هي مؤسسة راند في مدينة سانتا مونيكا، بولاية كاليفورنيا. وقد كان باحثو المؤسسة يجرون الكثير من الأبحاث على مسألة ذات صلة، وهي «مسألة النقل»، واقترح جورج دانتسيج وتيجالينج كوبمانس أن أبحاثهما على ما يُسمى الآن بالبرمجة الخطِّية قد يكون ذا صلة بمسألة البائع المتجول. فالبرمجة الخطية هي إطار عمل قوي وعملي للعديد من مشاكل التحسين التوافقي. وهي طريقة لتعظيم الوصول لبعض التوافيق الخطية من المتغيرات الخاضعة للمتباينات التي تنُص على أن بعض التوافيق الخطية الأخرى يجب أن تكون موجبة أو سالبة. وقد ابتكر دانتسيج أول خوارزمية عملية، وهي الطريقة المبسطة، التي لا تزال مستخدَمة على نطاق واسع. إذ تُحدد المتباينات شكلًا متعدد السطوح محدَّب متعدد الأبعاد، وتحرك الخوارزمية نقطةً على طول حوافه التي تزيد من الكمية التي نريد تعظيمها، حتى تصبح غير قابلة للمزيد من التحريك.
لقد تحقق أول تقدُّم مهم على نحوٍ حقيقي في عملية إيجاد حل لمسألة البائع المتجول في عام ١٩٥٤، من خلال باحثي مؤسسة راند وهم دانتسيج وديلبرت فالكرسون وسيلمر جونسون، باستخدام طريقة البرمجة الخطية الخاصة بدانتسيج. إذ أجرَوا بعض المواءمات لتطبيقها على مسألة البائع المتجول، وقدَّموا طُرقًا جديدة منهجية، لا سيما استخدام «مستويات القطع». وكانت النتيجة هي التوصُّل إلى حد أقل لطول المسار الأمثل الذي يمكن استخدامه خلال الجولة. إذا كان بإمكانك إيجاد مسار جولة طوله أكبر قليلًا، فأنت على الطريق الصحيح، وفي هذه الحالة يمكن أحيانًا أن يقودك حَدسُك للوصول إلى المسار الأمثل. استخدم دانتسيج وفالكرسون وجونسون هذه الأفكار للوصول إلى أول حل لهذه المسألة مع عددٍ معقول من المدن، وعلى وجه التحديد أقصر مسار جولة عبر ٤٩ مدينة؛ واحدة في كل ولاية من الولايات الأمريكية البالغ عددها ٤٨، بالإضافة إلى واشنطن العاصمة. ربما تكون هذه هي المسألة التي ذكرها ويتني في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي بالضبط تلك التي ذكرتها روبنسون في عام ١٩٤٩.
•••
لطالما ظل علماء الرياضيات يراقبون مدى عملية طُرق حل المشكلات، على الرغم من أنهم، عندما تتأزم الأمور، يشعرون أن أي طريقة هي أفضل من لا شيء. ولأغراضٍ نظرية بحتة، فإن مجرد القدرة على إثبات وجود حل لمشكلة ما يمكن أن يمثل خطوة كبيرة إلى الأمام. لماذا هذا؟ لأنك إذا لم تكن متأكدًا من وجوده، فقد تستمر في إضاعة وقتك في البحث عنه.
إن المثال المفضل لديَّ هنا هو ما أسميه «خيمة أم البعوضة الصغيرة». وفيه، ترتفع البعوضة الصغيرة مسافة قدم (متر، أو ميل أو أي شيء أكبر من الصفر) فوق الأرضية. تريد الأم أن تصنع خيمة قاعدتها على الأرضية تحتوي البعوضة الصغيرة، وتريد استخدام أقل قدر ممكن من المواد. فما أقل مساحة لتلك الخيمة؟ إذا تصورنا البعوضة الصغيرة باعتبارها نقطة واحدة، فإن الإجابة هي: «لا وجود لهذا الشيء». يمكنك صنع خيمة مخروطية رفيعة وطويلة ذات أي مساحة أكبر من الصفر، لكن الخيمة التي تبلغ مساحة سطحها صفرًا عبارة عن خط مستقيم وليست خيمة. بالنظر إلى أي خيمة، هناك خيمة أخرى تفي بالغرض باستخدام نصف كمية المواد. لذلك لا يمكن الجزم بوجود خيمة ذات مساحة هي الأصغر.
بالنسبة لمسألة البائع المتجول، ومع أي مجموعة محدودة من البلدات، مرتبةً على أي نحو نختاره، يوجد حل بالتأكيد، نظرًا لوجود عدد محدود من المسارات الممكنة. يضمن هذا أنك لا تضيع وقتك في محاولة إيجاد أقصر مسار، لكنه لا يخبرك ما هو ذلك المسار. إذا كنت تبحث عن كنز مدفون، فليس من المفيد إخبارك أنه بالتأكيد موجود «في مكان ما»؛ إن التنقيب عبر الكوكب بأكمله ليس بالأمر العملي.
لقد لاحظ عالم الكمبيوتر دونالد كنوث، منذ زمن بعيد، أنه في مجال الحَوسبة يحتاج المرء إلى ما هو أكثر من الإثبات على أن الحل يمكن التوصُّل إليه. إذ يحتاج المرء إلى معرفة كم ستتكلف عملية حساب الحل. ليس بالدولار والسنت، ولكن بالجهد الحسابي. يُسمَّى المجال الرياضي الذي يعالج هذه المشكلة بنظرية التعقيد الحسابي. وخلال مدة قصيرة للغاية، انتقل الأمر من بضع أفكار بسيطة إلى مجموعة معقدة من المبرهَنات والأساليب، ولكنَّ هناك تمييزًا أساسيًّا يساعد، على نحو جزئي لكن بسيط، في فهم الفارق بين الحل العملي والحل غير العملي.
لقد كان فلود على حق.
•••
هذا ليس سببًا جيدًا للاستسلام التام، لأن هناك طريقتين محتملتين على الأقل للمُضي قُدمًا.
في عام ١٩٨٠ توصلوا إلى مسارٍ ﻟ ٣١٨ مدينة؛ وبحلول عام ١٩٨٧ وصل العدد إلى ٢٣٩٢ مدينة. وفي عام ١٩٩٤، ارتفع العدد إلى ٧٣٩٧ مدينة، وقد استغرق التوصُّل إلى هذه الإجابة نحو ثلاث سنوات من المعالجة على شبكة من أجهزة الكمبيوتر القوية للغاية. في عام ٢٠٠١، جرى التوصل إلى حلٍّ دقيق يتمثل في ١٥١١٢ مدينة ألمانية باستخدام شبكة من ١١٠ معالجات كمبيوتر. وكان التوصل إلى هذا الحل سيستغرق أكثر من عشرين عامًا باستخدام جهاز كمبيوتر مكتبي عادي. في عام ٢٠٠٤، جرى التوصُّل إلى حل لمسألة البائع المتجول من أجل مسار جولةٍ تشمل جميع مدن السويد البالغ عددها ٢٤٩٧٨. في عام ٢٠٠٥، توصل برنامج كونكورد المتخصِّص في حل مسألة البائع المتجول حلًّا لمسارٍ يتكوَّن من ٣٣٨١٠ نقاط على لوحة دوائر إلكترونية مطبوعة. إن تحقيق رقم قياسي من حيث عدد نقاط المسار ليس هو السبب الوحيد لمثل هذا البحث؛ إن الأساليب المستخدمة لتحقيقه تعمل بسرعة كبيرة بالفعل من أجل التوصل إلى حلول لمسائل أصغر. إذ يمكن عادةً التوصل إلى حل من أجل مسارٍ يشمل نحو مائة مدينة في غضون دقائق قليلة، وحتى ألف في ساعات قليلة باستخدام جهاز كمبيوتر مكتبي عادي.
أما الطريقة الثانية، فهي حل المسألة على نحو أقل جودة: إنه حل ليس ببعيد جدًّا عن الأفضل، ولكنه أسهل في إيجاده. في بعض الحالات، يمكن تحقيق ذلك باستخدام اكتشاف مذهل جرى التوصل إليه في عام ١٨٩٠، في مجال من الرياضيات غير مألوف للغاية، لدرجة أن العديد من الشخصيات الرائدة في ذلك الوقت وجدته غير ذي قيمة، ولم يقتنعوا في أغلب الأحوال بالإجابات التي كان يتوصل إليها ببطء علماء الرياضيات الحالمون أكثر. والأسوأ من ذلك أن المسائل التي تعاملوا معها بدت أشبه بالتدريبات الأكاديمية البحتة، التي ليس لها أي علاقة واضحة بأي شيء في العالم الحقيقي. وقد اعتُبرت النتائج التي توصلوا إليها على نطاق واسع مصطَنَعة للغاية، كما وُصفت الأشكال الهندسية الجديدة التي أنشَئُوها بأنها «أشكال منحرفة». وشعر الكثيرون أنه حتى لو كانت هذه النتائج صحيحة، فإنها لم تُسهِم في تطور علم الرياضيات ولو قيد أُنملة؛ فقد ألقت فقط عقبات سخيفة في طريق تقدم المجال، بالانغماس المبالغ فيه في التفاصيل المنطقية.
•••
لقد انبثقت إحدى الطرق لإيجاد حلول جيدة، ولكن أقل من المثلى، لتلك المسألة من إحدى هذه العقبات السخيفة. خلال العقود القليلة التي تسبق عام ١٩٠٠ وتليها، كان علم الرياضيات يمر بمرحلة انتقالية. فقد كانت روح المغامرة المبكرة للتقدم الجريء التي تجاهلت التفاصيل المزعجة قد وصلت لنهايتها للتو، وكان يزرع تخلِّيها عن أسئلة أساسية، مثل «ما الذي نتحدث عنه حقًّا هنا؟» أو «هل هذا واضح بالفعل مثلما نعتقد جميعًا؟»؛ بذرة الارتباك والحيرة في موضع ينبغي فيه توفر الوضوح والبصيرة. وفيما يتعلق بمجالاتٍ متقدمة، مثل حساب التفاضل والتكامل، حيث كان علماء الرياضيات يستخدمون عمليات لا نهائية بلا حدود، كانت المخاوف تنتقل ببطء من الأفكار المعقَّدة إلى الأكثر بساطة. فبدلًا من وجود شكوك حول تكاملات دوال رياضية معقَّدة مثل اللوغاريتم المركَّب، كان الناس يتساءلون عن ماهية الدالة. وبدلًا من تعريف منحنًى هندسي بأنه متصل إذا كان «يمكن رسمه باليد على نحو حُر»، سعوا إلى مزيد من الدقة، ووجدوا أن الأمر يعوزه ذلك. وحتى طبيعة شيء أساسي وواضح، مثل العدد، كان يتضح أنها مراوغة. ليس فقط بالنسبة للمفاهيم الجديدة مثل الأعداد المركبة، لكن بالنسبة للأعداد الصحيحة المألوفة ١، و٢، و٣. ومن ثَم استمرت الرياضيات التقليدية في مسارها المعتاد، مع افتراض ضِمني أن المسائل من هذا النوع ستُحَل في النهاية وسيصبح كل شيء على ما يرام. فيمكن ترك الحالة المنطقية للأمور الأساسية على نحو آمن للمتنازعين والمتحذلقين. ومع ذلك … فقد بدأ يتبلور شعور متزايد بأن هذا النهج المتعجرف في معالجة الموضوع لا يمكن أن يستمر لمدة أطول.
وقد بدأت الأمور تسوء بالفعل عندما شرعت الأساليب العتيقة في تقديم إجابات يتناقض بعضها مع بعض. فقد تبين أن المبرهَنات التي كان يُعتقد أنها صحيحة منذ مدة طويلة تكون خاطئة في ظل ظروف استثنائية، عادة ما تكون غريبة إلى حد ما. فعند حساب تكامل ما، بطريقتين مختلفتين، نحصل على إجابتين مختلفتين. وعند حساب متسلسلة ما، يُعتقد أنها تتقارب لكل قيم المتغير، فنجد أنها في بعض الأحيان تتباعد. لم يكن الوضع سيئًا بحيث يُرى أن ٢ + ٢ في بعض الأحيان يساوي ٥، لكنه جعل بعض الناس يتساءلون عن ماهية العددين ٢ و٥ في واقع الأمر، فضلًا عن الرمزين + و=.
وهكذا استمرت قلة من مُتصيِّدي الأخطاء، الذين لم تردعهم الأغلبية الرافضة — أو، على الأقل، لم يُردعوا بما يكفي لتغيير آرائهم — في التنقيب عبر صرح علم الرياضيات، من القمم العالية إلى الأساسات، بحثًا عن أرض صلبة، ثم بدءُوا في تجديد المبنى من أسفل إلى أعلى.
ومثل جميع عمليات التجديد، اختلفت النتيجة النهائية عن الأصل بطُرق طفيفة، لكن مزعجة. فعلى سبيل المثال، تبيَّن أن هناك جوانب خفية لمفهوم المنحنى المستوي، الذي كان موجودًا منذ زمن اليونانيين القدماء. صحيح أن الأمثلة التقليدية لهذا المنحنى — مثل الدائرة والشكل الإهليلجي والقطع المكافئ عند إقليدس وإراتوسثينز، والمنحنى التربيعي الذي استخدمه اليونانيون لتثليث الزوايا وتربيع الدائرة، ومنحنى العروتين الذي يشبه شكل العدد ثمانية باللغة الإنجليزية، والذي توصل إليه عالم الرياضيات والفيلسوف الأفلاطوني الجديد بروكلس، والأشكال البيضاوية التي توصل إليها العالِم جيوفاني دومينيكو كاسيني، والمنحنيات الدُّوَيرية والمنحنيات الأكثر تعقيدًا المستلهمة منها، مثل المنحنيات الدويرية التحتية والفوقية التي توصَّل إليها أوول رومر — قد احتفظت بسحرها الخاص، وقادت الطريق نحو تطورات ملحوظة. ولكن، مثلما تعطي الحيوانات المستأنسة صورةً مضلِّلة عن الحياة في الغابات المطيرة والصحاري الموحِشة، فإن هذه المنحنيات كانت أبسط بكثير من أن تمثِّل المخلوقات الوحشية التي تطوف في الغابة الرياضية. وعند اتخاذها نماذجَ للتعقيد المحتمل للمنحنيات المتصلة، بدت بسيطة وسهلة للغاية.
جاء هذا الاكتشاف بمثابة صدمة للحدس الساذج. آنذاك، كانت تُوصف المنحنيات من هذا النوع بأنها «منحرفة»، وكان رد فعل العديد من علماء الرياضيات تجاهها مشابهًا لرد فعلنا تجاه أي موضوع منحرف عن الحالة الطبيعية؛ حيث يعترينا الخوف والاشمئزاز. في وقت لاحق، اعتاد الوسط الرياضي عليها واستوعب الدروس الطوبولوجية العميقة التي تقدمها لنا. ونحن اليوم نعتبر منحنى بيانو مثالًا مبكرًا لهندسة الفراكتالات، ولم نعُد مطلقًا نتعامل مع الفراكتالات على أنها غير معتادة أو منحرفة. إنها شائعة، حتى في الرياضيات، وفي العالم الحقيقي تقدم نماذج ممتازة من التراكيب المعقَّدة للغاية في الطبيعة، مثل السُّحب والجبال والسواحل.
فحص رواد هذا العصر الجديد للرياضيات مفاهيم بديهية قديمة، مثل الاتصال والبُعد، وبدءُوا في طرح الأسئلة الصعبة. وبدلًا من افتراض أنهم يمكن أن يستمروا في الاعتماد على الحيل التقليدية المستخدمة في مجالات الرياضيات الأكثر بساطة، تساءل هؤلاء الرواد عما إذا كانت هذه الحيل تعمل بعمومية كافية، وإذا كانت كذلك، فما السبب؟ أو، إذا لم تكن تعمل دائمًا على هذا النحو، فما الخطأ الذي يحدث؟ أزعج هذا المنهج المتشكِّك العديد من علماء الرياضيات التقليديين، الذين رأوا أنه سلبي في حد ذاته. وقد كتب شارل إرميت في عام ١٨٩٣ إلى صديقه توماس ستيلتشس يقول: «لقد ابتعدت بخوف ورعب عن هذه الكارثة الرهيبة المتمثِّلة في الدوال المتصلة التي ليس لها مشتق».
كان التقليديون أكثر اهتمامًا بتوسيع الحدود بافتراض أن كل شيء في النطاق المنطقي حسن، لكن المنهج المتشكك الجديد، مع الموجة التي صاحبته من التحديات الغريبة للحدس، كان ردَّ فعل ضروريًّا ضد السذاجة. وبحلول الثلاثينيات من القرن الماضي، بدأ تأثير هذا المنهج الأكثر صرامة يصبح واضحًا؛ ثم بحلول الستينيات من القرن نفسه، ساد على نحو شِبه تام. يمكنك تأليف كتاب كامل عن هذه الفترة من تطور مجالنا، وقد فعل بعض المؤلفين ذلك. لكني هنا أريد التركيز على موضوع فرعي واحد، ألا وهو المنحنيات المتصلة ومفهوم البعد.
•••
يعود مفهوم المنحنى، على الأرجح، إلى الأزمان الغابرة، عندما جر شخص طرف عصا عبر رقعة من الرمال أو الطين واكتشف أنها قد تركت أثرًا. ثم بدأ في الحصول على صيغته الحالية عندما ظهر منهج منطقي لعلم الهندسة في اليونان القديمة، وأكد إقليدس أن النقطة لها موضع فقط وأن الخط ليست له سماكة. والمنحنى هو خط ليس من الضروري أن يكون مستقيمًا، وأبسط مثال على ذلك هو أن يصبح على شكل دائرة أو قوس. وقد طوَّر اليونانيون القدماء وحللوا مجموعة متنوعة من المنحنيات؛ مثل المنحنى الإهليلجي، والمنحنى التربيعي، والمنحنى الدويري وغيرها، مثلما ذكرنا آنفًا. وقد ناقشوا أمثلة محددة فقط، لكن كان «واضحًا إلى حد ما» كيف ينبغي أن تسير الفكرة العامة.
بعد ظهور حساب التفاضل والتكامل، حازت اثنتان من خصائص المنحنيات الاهتمام. الأولى هي الاتصال: يعتبر المنحنى مُتَّصلًا إذا لم يتخلَّله أي فجوات. الثانية، وهي أكثر رقة، هي الانسيابية أو السلاسة: يعتبر المنحنى انسيابيًّا إذا لم تكن له أركان حادة. وتتناسب المنحنيات المتصلة على نحو أفضل مع حساب التكامل، والمنحنيات الانسيابية مع حساب التفاضل. (أنا أُبدي قدرًا «كبيرًا للغاية» من التبسيط هنا، للحفاظ على الإيقاع السريع للسرد في الكتاب، لكنني أزعم أنني لم أقدم معلومات خاطئة.) بالطبع، لم يكن الأمر بهذه البساطة؛ كان من الضروري وضع تعريف محدد لكلمتَي «فجوة» و«ركن»، وفعل ذلك على نحو «دقيق». ومن الواضح أن أيًّا كان التعريف الذي سيُطرح، كان يجب أن يكون مناسبًا للدراسة الرياضية، ومصاغًا بمصطلحات رياضية. كما كان ينبغي أن نتمكن من «استخدامه». لا تزال تفاصيل ذلك تحيِّر الطلاب الدارسين لعلم للرياضيات في المرة الأولى التي يتعرضون فيها إليها، لذلك سأوفر هنا عليكم هذا العناء.
أما بالنسبة للمفهوم الرئيسي الثاني فهو البُعد. نعلم جميعًا أن الفراغ له ثلاثة أبعاد، وأن المستوى له بُعدان، وأن الخط المستقيم له بُعد واحد. ونحن لن ندرس هذه الفكرة من خلال وضع تعريف لكلمة «بعد» ثم تحديد عدد الأبعاد الموجودة في الفراغ أو المستوى. لن يسير الأمر على هذا النحو بالضبط. بدلًا من ذلك، نقول إن الفراغ له ثلاثة أبعاد؛ لأنه يمكننا تحديد موضع أي نقطة باستخدام ثلاثة أعداد. إذ نختار نقطة محددة، وهي نقطة الأصل، وثلاثة اتجاهات: محور شمال-جنوب، ومحور شرق-غرب، ومحور أعلى-أسفل. وبَعد ذلك علينا فقط قياس مدى بُعد هذه النقطة المختارة عن نقطة الأصل، في كل من هذه الاتجاهات الثلاثة. ينتج عن ذلك ثلاثة أعداد (وهي «الإحداثيات» المتعلقة بخيارات الاتجاهات هذه)، ويتحدد موضع كل نقطة في الفراغ عبر مجموعة ثلاثية الأعداد واحدة فقط. وبالمثل، فإن المستوى له بعدان، لأننا نستطيع الاستغناء عن أحد هذه الأعداد، لنقل العدد الممثل للمحور أعلى-أسفل، والخط له بُعد واحد.
يبدو كل هذا سهلًا إلى أن يبدأ المرء في التفكير. تفترض الفقرة السابقة أن المستوى محل الدراسة أفقي. لهذا السبب يمكن الاستغناء عن المحور أعلى-أسفل. ولكن ماذا لو كان المستوى مائلًا؟ عندئذٍ لن نتمكن من الاستغناء عن هذا المحور. ومع ذلك، اتَّضح أن العدد الممثل لإحداثي النقطة على المحور أعلى-أسفل يُحدِّده دائمًا العددان الآخران (شريطة أن تعرف قدر الميل). إذن ما يُهم ليس عدد الاتجاهات (المحاور) التي نقيس عبرها الإحداثيات، ولكن عدد الاتجاهات «المستقلة». وهذا يعني الاتجاهات التي لا تعتمد على مجموعة من الاتجاهات الأخرى.
لقد أصبح الأمر أكثر تعقيدًا بعض الشيء الآن؛ لأنه لا يمكننا فقط تحديد عدد الإحداثيات الموجودة لدينا. إذ أصبح الأمر أقرب إلى حالة تحديد أصغر عدد من شأنه أداء المهمة. وهذا يثير سؤالًا آخر، أكثر عُمقًا إلى حدٍّ ما، وهو: كيف للمرء أن يعرف أن اثنين من الإحداثيات هو في الواقع أصغر عددٍ مِن شأنه أداء المهمة بالنسبة لمستوًى؟ قد يكون هذا صحيحًا — وإن لم يكن كذلك، فنحن بحاجة إلى تعريف أفضل — لكن هذا ليس واضحًا على نحوٍ تام. وهذا يثير بدوره أسئلة أخرى. كيف نعرف أن ثلاثة إحداثيات هي أصغر عدد من شأنه أداء المهمة بالنسبة للفراغ؟ كيف نعرف أن «أي» اختيار للاتجاهات المستقلة يعطي دائمًا ثلاثة أعداد؟ في هذا الصدد، إلى أي مدًى نحن متأكدون من أن ثلاثة أعداد هي قدر كافٍ؟
إن هذا السؤال الثالث هو في الحقيقة سؤال يجب استكشافه من خلال مجال الفيزياء التجريبية، وهو يؤدي، من خلال أينشتاين ونظريته العامة للنسبية، إلى الاقتراح القائل بأن الفراغ الفيزيائي ليس، في واقع الأمر، هو الفراغ المسطح الثلاثي الأبعاد الخاص بإقليدس، لكنه نُسخة منحنِية منه. أو، إذا كان مُنظرو نظرية الأوتار محقِّين، أن الزمكان له عشرة أو أحد عشر من الأبعاد، جميعها، باستثناء أربعة، إما أصغر من أن نلاحظها أو أنها تفوق قدرتَنا على الملاحظة. يمكن الإجابة على السؤالين الأول والثاني على نحو مُرضٍ، ولكن ليس باستخفاف، من خلال النظر إلى الفراغ الإقليدي الثلاثي الأبعاد على أنه نظام إحداثيات من ثلاثة أعداد، ثم الالتحاق بدورة تدريبية في الجامعة لمدة خمسة أو ستة أسابيع لدراسة الفراغات المتجهية؛ حيث وجود أي عدد من الإحداثيات هو أمر ممكن، لإثبات أن البعد الخاص بالفراغ المتجهي مُتفرِّد.
وهناك فكرة مُتأصِّلة في نهج الفراغات المتجهية، وهي أن نظام الإحداثيات لدينا قائم على خطوط مستقيمة، وأن الفراغ مسطَّح. في الواقع، يطلق على هذا النهج اسم آخر هو «الجبر الخطي». ماذا لو تملكتنا روح أينشتاين وسمحنا لنظام الإحداثيات بالانحناء؟ حسنًا، إذا كان ينحني بانسيابية (تُسمى الإحداثيات في هذه الحالة على نحو كلاسيكي «الإحداثيات المنحنية»)، فكل شيء على ما يرام. ولكن في عام ١٨٩٠، اكتشف عالم الرياضيات الإيطالي جوسيب بيانو أنه إذا كان نظام الإحداثيات ينحني على نحو حاد — حاد لدرجة أنه لم يعد انسيابيًّا، لكنه يظل مُتَّصلًا — عندئذٍ يمكن لفراغ ثنائي الأبعاد أن يكون له نظام إحداثيات له عدد «واحد» فقط. وينطبق الشيء نفسه على فراغ ثلاثي الأبعاد. في هذه الحالة الأكثر عمومية ومرونة، يصبح، على نحو مفاجئ، «عدد» الأبعاد قابلًا للتغيير.
إن أحد ردود الفعل على هذا الاكتشاف الغريب هو رفضه؛ من الواضح أنه يتعين علينا استخدام الإحداثيات الانسيابية، أو أي شيء ذي صلة. ولكن اتضح أنه أمر أكثر إبداعًا وفائدة، وفي الواقع أكثر «متعة» بكثير أن نتقبل الغرابة على نحو حماسي ونراقب ما يحدث. لكن النُّقاد التقليديين كانوا مُتزمِّتين إلى حدٍّ ما، ولم يرغبوا في أن يحظى جيل الأحدث عهدًا بأي مُتعة على الإطلاق.
•••
دعنا ندخل في صلب الموضوع. إن ما اكتشفه بيانو — أو على وجه الدقة صمَّمه — هو منحنًى متصل يمر عبر كل نقطة في مربع. ليس فقط حدوده، فهذا سهل؛ بل في الجزء الداخلي بأكمله أيضًا. ويجب حقًّا أن يخترق المنحنى كل نقطة بالضبط، وليس فقط يقترب منها بشدة.
لنفترض أن هذا المنحنى موجود. إذن، فهو مجرد نوع من الخطوط الملتَوية، الذي له نظام إحداثيات جوهري خاص به؛ إلى أي مدًى يجب أن نذهب على طول الخط. هذا عدد واحد، ومن ثَم فإن المنحنى أُحادي الأبعاد. ومع ذلك، إذا مر هذا المنحنى الملتوي عبر كل نقطة من مربع مصمَت، الذي هو ثنائي الأبعاد، فقد تمكنَّا الآن من تحديد كل نقطة من هذا المربع باستخدام عددٍ واحد فقط متغير باستمرار. لذلك فإن المربع هو في الواقع أُحادي الأبعاد!
أنا أتجنَّب استخدام علامات التعجُّب بوجه عام عند تأليف أي كتاب، لكن هذا الاكتشاف يستحق واحدة. فهو اكتشاف مُذهِل. وصحيح أيضًا.
لقد توصَّل بيانو إلى المثال الأول لما نسميه الآن منحنى «ملء الفراغ». ويعتمد وجوده على التمييز الدقيق، ولكن الحيوي، بين المنحنيات الانسيابية والمنحنيات المتصلة. إذ يمكن أن تتحرك المنحنيات المتصلة على نحو ملتوٍ بشدة. لكن المنحنيات الانسيابية … لا يمكنها ذلك. فهي لا يمكنها التحرك بنفس درجة الالتواء.
لقد امتلك بيانو طريقة التفكير المناسبة التي مكَّنته من ابتكار المنحنى الذي أصبح يحمل اسمه. واهتم للغاية بالنقاط الدقيقة في التفاصيل المنطقية. وكان هو أيضًا أول شخص يكتب مسلمات رياضية دقيقة لمجموعة الأعداد الصحيحة؛ وهي قائمة بسيطة من الخواص التي تحدد هذه المجموعة بدقة. كما أنه لم يبتكر منحنى ملء الفراغ الخاص به فقط من أجل المتعة؛ لقد كان يضع اللمسات الأخيرة على عمل عالِم سابق لديه طريقة تفكير مشابهة، وكان أيضًا مُولعًا بدراسة طبيعة الأعداد الصحيحة والعد. كان هذا العالم اسمه جيورج كانتور، وقد اهتم للغاية بدراسة مفهوم اللانهاية. لكن معظم علماء الرياضيات البارزين في هذه الفترة رفضوا أفكار كانتور الثورية والرائعة، مما دفعه إلى اليأس. ربما لم يكن الرفض هو سبب إصابته بمرض عقلي فيما بعد، مثلما يفترض في بعض الأحيان، لكنه بالتأكيد كان أمرًا سلبيًّا. وكان من بين علماء الرياضيات الكبار القلائل الذين كانوا يُقدرون أفكار كانتور ديفيد هيلبرت، وهو العالم الذي حقق إنجازات كبيرة في علم الرياضيات. ربما كان هيلبرت عالم الرياضيات الرائد في عصره، الذي أصبح فيما بعد واحدًا من رواد المنطق الرياضي وأسَّس المجال الرياضي. ولعله وجد في أفكار كانتور مصدرَ إلهام له.
على أي حال، لقد بدأ كل شيء مع كانتور، وتقديمه للأعداد الأصلية الفوق المنتهية؛ وهي طريقة لحساب عدد عناصر المجموعة غير المنتهية. ولقد أثبت على نحو شهير أن بعض أشكال اللاتناهي أكبر من غيرها. بتعبير أدق، لا يمكن مقابلة عناصر مجموعة الأعداد الصحيحة وعناصر مجموعة الأعداد الحقيقية. وبينما هو يبحث عن عدد أصلي فوق منتهٍ أكبر من ذلك الخاص بالأعداد الحقيقية، لمدة من الوقت أصبح مقتنعًا بأن العدد الأصلي للمستوى لا بد أن يكون أكبر من ذلك الخاص بالخط. وفي عام ١٨٧٤ كتب إلى ريتشارد ديدكايند يقول:
هل يمكن أن تكون هناك مقابلة فريدة بين سطح ما (لنقل مربع يتضمن حدوده الخارجية) وخط ما (لنقل قطعة مستقيمة تتضمن طرفيها) بحيث تصبح بالنسبة لكل نقطة على السطح نقطة مقابلة على الخط، وعلى نحو عكسي، لكل نقطة على الخط هناك نقطة مقابلة على السطح؟ أعتقد أن التوصل إلى إجابة لهذا السؤال لن تكون مهمة سهلة، على الرغم من حقيقة أن الإجابة يبدو من الواضح جدًّا أنها «كلا، لا يمكن»، إلى درجة أن محاولة بذل جهد لتقديم إثبات لها هي محاولة غير ضرورية تقريبًا.
إن الفكرة الأساسية بسيطة: بالنسبة لأي نقطتين في فترة الوحدة (بين ٠ و١)، يمكننا كتابتهما بصيغة عشرية كما يلي:
ويمكن أن نجعل هذا يقابل نقطة في فترة الوحدة التي مفكوكها العشري هو:
وقد نشر كانتور بعض هذه النتائج في عام ١٨٧٨. وأجرى بحثه على مجموعات قابلة للعَدِّ يمكن وضعها في مقابلة فردية مع أعداد العد، ومجموعات في مقابلة بعضها مع البعض. كما أدرك أيضًا أن المقابلة التي توصل إليها بين فترة الوحدة ومربع الوحدة لا تحافظ على البُعد — حيث يتحول بعد واحد إلى اثنين من الأبعاد — وعلى نحوٍ مهم من أجل قصتنا، أكد أن المطابقة التي أثبتها غير متصلة. وهذا يعني أن النقاط القريبة جدًّا بعضها من بعض في فترة الوحدة لا تحتاج إلى أن تتقابل مع النقاط القريبة جدًّا بعضها من بعض في مربع الوحدة.
كانت أفكار كانتور مثيرة للجدل؛ حيث اعتبرها بعض علماء الرياضيات البارزين مجرد هراء، ربما لأنها كانت مبتكرة لدرجة أنها كانت تتطلب وجود مَلَكة الخيال والعقل المتفتح من أجل تقبلها. بينما أعلن آخرون، أبرزهم هيلبرت، أن المجال الجديد الذي استكشف كانتور آفاقه هو بمنزلة «جنة» في علم الرياضيات. ولم يحدث الاعتراف الكامل بأهمية عمل كانتور إلا بعد وفاته.
•••
•••
وقد ارتبط عملهم بفكرة مميزة حقًّا: الإثباتات الشفَّافة. الإثباتات هي جوهر الرياضيات الحقيقية. في معظم فروع العلم، يمكنك اختبار نظرياتك في مقابل الواقع من خلال الملاحظة أو إجراء التجارب. تفتقر الرياضيات إلى هذه الرفاهية، ومع ذلك فإن لديها طريقة للتحقق من نتائجها. أولًا: يجب دعمها بإثبات منطقي. ثانيًا: يجب التحقُّق من هذا الإثبات للتأكد من عدم وجود أخطاء وفجوات فيه. وبوجه عام، يصعب الوصول إلى هذه الحالة المثالية، وهي ليست ما يفعله علماء الرياضيات بالفعل، ولكنها تمثل ما يهدفون إليه. إن أي شيء يفشل في اجتياز مثل هذا الاختبار يُوصف على الفور بأنه «خطأ»، على الرغم من أنه قد يكون لا يزال مفيدًا باعتباره خطوة نحو إثبات أفضل يكون صحيحًا. إذن، منذ زمن إقليدس وحتى يومنا هذا، أمضى علماء الرياضيات الكثير من الوقت في التدقيق بعناية في الإثباتات، التي تخصهم أو تخص غيرهم، وتفحَّصوها سطرًا سطرًا، للبحث عن أشياء يُقرون بصحتها وأخرى غير منطقية تمامًا.
في السنوات الأخيرة، ظهرت طريقة مختلفة للتحقق من الإثباتات المتمثلة في استخدام الكمبيوتر. وهذا يتطلَّب إعادة كتابة الإثباتات بلغة يمكن لأجهزة الكمبيوتر معالجتها باستخدام الخوارزميات. وقد نجح الأمر، وحقق بعض النجاحات المهمة فيما يتعلق ببعض من أصعب الإثباتات في الدوريات العلمية، ولكن حتى الآن لم تستطع تلك الطريقة إزاحة الطرق الأكثر تقليدية. إن إحدى النتائج الفرعية لهذه الفكرة هي إعادة التركيز على كيفية تقديم الإثباتات بطرق متوافقة مع أجهزة الكمبيوتر، التي غالبًا ما تختلف تمامًا عن أي شيء يجده الإنسان مستساغًا. إذ لا تعترض أجهزة الكمبيوتر إذا طُلب منها أن تفعل نفس الشيء ملايين المرات، أو تتحقق من سلسلتين مكونتين من ألف رقم ثنائي للتأكد من أنهما متطابقتان. إنها فقط تؤدي المهام التي تُطلب منها.
إن علماء الرياضيات البشريين يفضلون الإثباتات ذات البنية القصصية، التي لها بداية ووسط ونهاية تتسم بالوضوح، وسيناريو مقنع يجذبك من البداية، المتمثلة في فرضيات المبرهنة، وحتى الوصول إلى الاستنتاج الخاص بها. فالسرد أكثر أهمية من التركيز المبالغ فيه على التفاصيل المنطقية. ويجب أن تصبح الأهداف واضحة وموجزة، وقبل كل شيء «مقنعة». ضع في الاعتبار أن علماء الرياضيات يشتهرون بأنهم من الصعب إقناعهم.
توصل علماء الكمبيوتر الذين يدرسون الإثباتات القابلة للتحقق منها باستخدام الكمبيوتر إلى طريقة مختلفة تمامًا، وهي الإثباتات التفاعلية. فبدلًا من تقديم الإثبات على هيئة قصة، يكتبها عالم رياضيات ويقرؤها آخر، فإن هذه الطريقة تحول عملية الإثبات إلى جدال. فعلى سبيل المثال نفترض أن عالم رياضيات، الذي يُسمى تقليديًّا في هذا الإطار بات، يريد إقناع زميلته فانا بأن إثباته صحيح؛ بينما تريد فانا إقناعه بأنه خطأ. يستمر الاثنان في طرح الأسئلة على بعضهما وتقديم الإجابات حتى يستسلم أحدهما. (إن بات ساجاك وفانا وايت هما المقدمان التليفزيونيان الأمريكيان الشهيران لبرنامج المسابقات «ويل أوف فورتشن».) إن هذه الطريقة تشبه مباراة شطرنج؛ حيث يدَّعي بات أنه «سيسقط الملك بعد أربعة تحركات». لكن فانا لا تتفق معه في الرأي، لذلك يقوم بات بأحد التحركات. فتواجهه فانا بتحرك مضاد قائلة: «ماذا لو تحركت أنا هكذا؟» فينفذ بات تحركًا آخر. ويستمر ذلك إلى أن تخسر فانا. والآن تبدأ في تتبع مسار اللعبة على نحو عكسي. وتقول: «لنفترض أن آخر تحرك لي كان «هذا» بدلًا من ذلك؟» عندئذٍ ينفذ بات تحركًا مختلفًا، ويسقط الملك! وهكذا يسير الأمر إلى أن تُستنفَد كل ردود فانا المحتملة على تحركات بات، ويفوز بات، أو حتى يُجبَر هو على الاعتراف بأنه، بالفعل، لم يستطع أن يسقط الملك بعد أربعة تحركات، كما زعم. من واقع خبرتي، هذا بالضبط ما يفعله علماء الرياضيات الحقيقيون عندما يعملون معًا لحل مشكلة بحثية، ويمكن أن يتحول الأمر إلى مناظرة مشتعِلة للغاية. أما النسخة السردية، فهي تشبه عرض النتيجة النهائية في ندوة علمية.
•••
لنعُد إذن إلى الورقة البحثية الخاصة بالحمام التي نشرها جيبسون وويلكينسون وكيلي في دورية «أنيمال كوجنيشن». لقد بدءُوها بملحوظة تقول إن مسألة البائع المتجول كانت قد استُخدمت مؤخرًا لدراسة خصائص الإدراك في البشر والحيوانات، وخاصة القدرة على التخطيط للتصرفات قبل فعلها. ومع ذلك، لم يكن من الواضح ما إذا كانت هذه القدرة مقصورة على رتبة الرئيسيات. هل يمكن للحيوانات الأخرى أن تخطط أيضًا من أجل المستقبل، أم أنها تتبع فقط قواعد ثابتة، حددتها عملية التطوُّر؟ ومن ثَم قرر الباحثون استخدام الحمام في تجارب مختبرية قدمت لها مسارات مصمَّمة على غرار مسألة البائع المتجول، وهي مسارات بسيطة تتكون من وجهتين أو ثلاث وجهات؛ في كل منها إناء ماء وطعام. ويبدأ الحمام مساره من موقع محدد، وينتقل إلى كل وجهة وفق ترتيب ما، ثم يواصل حتى يصل إلى الوجهة النهائية. واستنتج الفريق أن «الحمام أمكنه إجراء تقديرات دقيقة لمدى قرب الموقع التالي، ولكن بدا أنه يخطط على نحو مسبق لخطوات متعددة عندما بدا أن مشقة الانتقال ستصبح كبيرة إذا سلك مسارات غير فعالة. وقدمت النتائج أدلة واضحة وقوية على أن هناك حيوانات لا تنتمي لرتبة الرئيسيات يمكنها التخطيط لمسارات انتقالٍ معقَّدة».
وخلال استضافتهم في أحد الحوارات، شرح الباحثون صلة بحثهم بقصة الحمامة التي تقود حافلة. واقترحوا أن السائق ربما كان لديه سببان للاعتراض: السبب الواضح وهو السلامة، والسبب الثاني هو القلق من أن الحمامة لن تصبح قادرة على اتِّباع مسار من شأنه أن يسمح لجميع الركاب أن يستقلوا الحافلة عبر خط سيرها في المدينة. ومثلما يشير عنوان الورقة البحثية، استنتج الفريق من تجاربه أن السبب الثاني، وهو القلق، كان غير مبرَّر.
إذن، فلندَع الحمامة تقود الحافلة.
•••
إذا واصلت الحكومات وشركات تصنيع السيارات توجهاتهما الحالية، فإنه في المستقبل القريب لن يقود الحافلة أي من السائق أو الحمامة. بدلًا من ذلك، فإن الحافلة هي ما ستقود نفسها. إذ إننا نتَّجه سريعًا إلى العصر الجديد الرائع للمَركبات ذاتية القيادة.
أو ربما لا.
إن الجانب الأكثر صعوبة الذي يجب دراسته قبل تعميم استخدام المركبات ذاتية القيادة هو التأكد من أنها تستطيع تفسير العناصر المحيطة بها على نحو صحيح. من السهل تزويد تلك المركبات ﺑ «عيون» خاصة بها، لأن الكاميرات الصغيرة عالية الدقة أصبحت تُصنع الآن بكميات هائلة. لكن الرؤية تحتاج إلى عقلٍ مثلما تحتاج إلى عينين، لذلك تزوَّد السيارات والشاحنات والحافلات ببرامج رؤية إلكترونية. ومن ثَم ستتمكن من إدراك ما الذي تنظر إليه، وتصبح قادرة على التصرف وفقًا لذلك.
وفقًا للمصنعين، فإن إحدى الميزات المحتملة للمركبات ذاتية القيادة هي السلامة. إذ يرتكب السائقون البشريون أخطاءً ويتسببون في وقوع حوادث. أما الكمبيوتر فلا يتعرض لتشتيت الانتباه، ومع إجراء ما يكفي من البحث والتطوير، ينبغي أن يصبح السائق الكمبيوتر أكثر أمانًا من أي إنسان. وهناك ميزة أخرى تتمثل في أنه لا يتعيَّن عليك أن تدفع راتبًا للحافلة من أجل قيادة نفسها. لكنَّ هناك عيبًا كبيرًا، إلى جانب التسبب في فقدان السائقين لوظائفهم، وهو أن هذه التكنولوجيا لا تزال في مهدها، والأنظمة المتوفرة حاليًّا لا ترقى إلى مستوى الضجيج المحيط بهذه التكنولوجيا. فقد تعرَّض بالفعل عدد قليل من المارة وسائقي الاختبار إلى الموت في حوادث، ومع ذلك يجري الآن اختبار مركبات ذاتية القيادة على نحو كامل في شوارع المدن في العديد من البلدان. إن الأساس المنطقي الذي يستند إليه مؤيدو التجربة هو أنه يتعيَّن اختبار تلك المركبات في العالم الحقيقي، وأنها في نهاية المطاف سوف تصبح سببًا في إنقاذ حياة عدد من الناس أكبر مِن عدد مَن قد تقتلهم. ولقد كانت السرعة التي تقبلت بها الجهات التنظيمية تلك المحاجَّة المثير للجدل لافتة. فلو أن أحدًا اقترح إجراء اختبار دواء جديد على عينة عشوائية من الأشخاص، دون علمهم أو موافقتهم، على أساس أن هذا سينقذ حياة عدد من الناس أكبر من عدد من قد يقتلهم، فستظهر اعتراضات شديدة. في الواقع، سيصبح ذلك أمرًا مخالفًا للقانون في جميع البلدان تقريبًا، وبالقطع غير أخلاقي.
ومن أجل ذلك، أصبحت التكنولوجيا الأساسية للرؤية الإلكترونية هي مجال التعلُّم الآلي الأكثر شهرة. إذ تُدرب شبكة تعلم عميق، توائم قوة الارتباطات الخاصة بها؛ بحيث تستطيع التعرف على الصور بشكل صحيح، باستخدام عدد كبير من الصور حتى تصل إلى مستوًى مقبول من الدقة. وقد كان هذا الإجراء ناجحًا للغاية في مجموعة واسعة من التطبيقات. ومع ذلك، في عام ٢٠١٣، أصبح من الواضح أن الكثير من الاهتمام موجه إلى نجاحات التعلُّم الآلي، والقليل جدًّا إلى إخفاقاته المحتملة. لكن تتمثل إحدى المشكلات الخطيرة في «الأمثلة العدائية»، أي الصور التي جرى تعديلُها عن عمد، والتي يستطيع الإنسان على نحو صحيح اكتشاف أنها معدَّلة، ولكن الكمبيوتر يخطئ في ذلك بشكل مذهل.
يعرض الشكل التالي صورتين لنفس القطة. وهذا أمر واضح. إنهما مختلفتان فقط في بعض البكسلات القليلة، وبالنسبة للعين البشرية تبدوان متطابقتين. وعند عرض الصورتين على شبكةٍ عصبية قياسية، مدرَّبة على عدد ضخم من صور القطط وغير القطط، تتعرَّف بشكل صحيح على الصورة اليمنى وتحدد أنها صورة قطة. ومع ذلك، تصر على أن الصورة اليسرى هي صورة جواكامولي، وهي صلصة مكسيكية خضراء مصنوعة من الأفوكادو. في الواقع، إن الكمبيوتر واثق بنسبة ٩٩٪ من أنها صورة صلصة جواكامولي، مقارنة بنسبة وثوق تبلغ ٨٨٪ فقط من أنها قطة. وكما تقول المقولة المعروفة، إن الكمبيوتر هو جهاز يرتكب ملايين الأخطاء بسرعة كبيرة للغاية.
السبب الأساسي لهذه القابلية للتعرض لأخطاء كبيرة هو البُعد. إذ إن الطريقة المعتادة لقياس مدى اختلاف سلسلتين من سلاسل البتات المختلفة هي إيجاد مسافة هامنج الخاصة بهما؛ التي تحدد عدد البتات التي يجب تبديلها لتحويل إحداها إلى الأخرى. لذلك، على سبيل المثال، فإن مسافة هامنج بين ١٠٠٠١١٠١٠٠١ و١٠١٠١٠٠١١١١ هي أربعة، والبتات المختلفة هي الأرقام الأربعة المميزة بخط عريض في السلسلة ١٠١٠١٠٠١١١١. يجري تمثيل صورة ما في الكمبيوتر على هيئة سلسلة بتات طويلة للغاية. إذا كان حجم الصورة هو ١ ميجابايت، فإن طولها هو ٢٢٣، أو نحو ٨ ملايين بت. ومن ثَم فإن فراغ الصور له بعد يساوي ٨ ملايين، على الحقل المنتهي الذي يتكون من ٠ و١. وهو يحتوي على ٢٨٣٨٨٦٠٨ نقطة مختلفة.
يجب أن تضع خوارزمية التعرف على الصور في الشبكة العصبية المدرَّبة كل صورة في هذا الفراغ داخل عدد أقل بكثير من الفئات. في أبسط الحالات، يتمثَّل هذا في تقسيم فراغ الصور إلى نطاقات عن طريق رسم مستويات فائقة، وهو إجراء موضَّح مع فراغ ثنائي الأبعاد في الشكل التالي. وهذا يقسم الفراغ إلى خلايا عديدة، واحدة لكل فئة. إذا غيرنا الصورة إلى أخرى بمسافة هامنج تساوي، على سبيل المثال، ٤٠، فإننا نغير فقط ٤٠ بتًا في الصورة. وتتلقى العين ٨ ملايين بت، وهذا يمثل نسبة ٠٫٠٠٠٥٪ من البتات، أي أقل بكثير من العتَبة التي تلاحظ عندها عين الإنسان أي فرق كبير. ومع ذلك، فإن عدد الصور عند مسافة هامنج هذه يكون ٢٥٠، أي نحو ١ كوادريليون. هذا أكبر بكثير من عدد الفئات التي يمكن أن يميزها نظام الرؤية الإلكتروني. لذلك ليس من المستغرب أن يؤدي تغيير بسيط في الصورة مثل هذا إلى جعل الكمبيوتر يراها على نحو خاطئ.
من أجل التحليل الرياضي، من المناسب تمثيل سلاسل البتات كأعداد حقيقية وليس عبر حقل منتهٍ. على سبيل المثال، يمكن اعتبار بايت واحد يتكون من ثمانية بتات، مثل ١٠٠٠١١٠١، العدد الحقيقي بالمفكوك الثنائي ٠٫١٠٠٠١١٠١. الآن، يصبح فراغ جميع الصور التي حجمها ١ ميجابايت فراغًا متجهيًّا حقيقيًّا له أبعاد تساوي مليونًا. ومن خلال هذا التعديل، يثبت شامير وزملاؤه شيئًا أهم بكثير. فعند النظر إلى صورة في إحدى خلايا ترتيب المستويات الفائقة، وكذلك لخلية ثانية، كم عدد البتات التي نحتاج إلى تغييرها في الصورة من أجل تحريكها إلى الخلية الثانية؟ يوضح التحليل الخاص بهم أنه، على سبيل المثال، إذا قُسم فراغ الصورة إلى مليون خلية باستخدام ٢٠ مستوًى فائقًا، فحينئذٍ يجب تغيير إحداثيَّين فقط لتحريك نقطة معينة إلى أي خلية، شريطة أن يكون عدد أبعاد فراغ الصورة أكثر من ٢٥٠. وبوجه عام، إذا جرى تدريب الشبكة على التمييز بين عدد معين من الفئات، فإن عدد الإحداثيات التي يجب تغييرها لتحريك صورة معينة إلى «أي» فئة يساوي تقريبًا عدد الفئات.
وقد اختبروا هذه المبرهنة على نظام تجاري للتعرف على الأعداد. يوجد هنا عشر فئات، الأعداد من ٠ إلى ٩. لقد أنتجوا صورًا عدائية يمكن أن تحثَّ النظام على التعرف إلى العدد ٧ باعتباره أيًّا من الاحتمالات العشرة للأعداد بين ٠ و٩. ويتطلَّب الأمر تغيير ١١ بتًا فقط لتحقيق ذلك. ينطبق الشيء نفسه على أي عدد آخر غير ٧.
هل ينبغي أن نشعر بالقلق؟ إن الصور «الطبيعية»، من النوع الذي ستواجهه عادةً سيارتُنا ذاتية القيادة، لا تنشأ عن عمد لخداع النظام. ومع ذلك، ستلاحظ السيارة نحو نصف مليون صورة يوميًّا، ولا يتطلب الأمر سوى تفسير خاطئ واحد فقط كي يتسبب في وقوع حادث. إن التهديد الرئيسي هو أن المخربين أو الإرهابيين يمكنهم بكل سهولة تعديل علامات الطرق عن طريق إضافة قِطَع صغيرة من الشريط الأسود أو الأبيض، وخداع الكمبيوتر كي يظن أن علامة التوقُّف هي في الواقع علامة ضرورة عدم تجاوز حد السرعة ٦٠ ميلًا في الساعة. كل ذلك يضيف إلى الشعور بأن البدء في تشغيل السيارات ذاتية القيادة على أرض الواقع قد شابهُ التعجل على نحو غير ضروري وغير آمن بسبب الضغوط التجارية. إذا كنت لا توافقني الرأي، فاسمح لي أن أكرر ما قلته: نحن لن نطرح «أبدًا» دواءً جديدًا أو إجراءً طبيًّا بهذه الطريقة المتهورة. خاصة إذا كانت هناك أسباب وجيهة للشك في أنه قد تصبح له تبعات خطيرة.
لا تدع الحافلة تقود الحافلة.