مسألة كونيجسبرج وزرع الكُلى
بالإضافة إلى ذلك الفرع من الهندسة الذي يهتم بالمقادير، هناك فرع آخر، كان أول من توصَّل إليه هو العالم لايبنتس، وأطلق عليه اسم هندسة الموضع … ومن ثَم، عندما ذكرَت مؤخرًا إحدى المشكلات، التي بدت هندسية ولكنها لم تتطلب قياس مسافة، لم يكن لديَّ شك في أنها كانت ذات صلة بهندسة الموضع. لذلك قررت أن أوضح هنا الطريقة التي توصلت إليها من أجل حل هذا النوع من المشكلات.
على امتداد معظم فترات تاريخ البشرية، كانت أعضاء جسد الشخص التي تولد معه تموت أيضًا معه، وغالبًا ما تكون السببَ في موته. فإذا ما أُصيب قلبك، أو كبدك، أو رئتاك، أو أمعاؤك، أو معدتك، أو كليتاك، بمرض يؤدي إلى فشله في أداء وظيفته، فستفشل أنت أيضًا في الاستمرار على قيد الحياة. كان من الممكن أن تتعرَّض بعض أجزاء الجسد للبتر جراحيًّا، خاصة الذراعان والساقان، وإذا نجوت من هذه التجربة، فيمكن أن تعيش حياة صعبة بعض الشيء. إن اختراع مواد التخدير وأساليب التعقيم في غرف العمليات جعل إجراء العمليات أقل إيلامًا للمرضى، على الأقل أثناء إجرائها بينما هم غائبون عن الوعي، وزاد بشكل كبير من فرص بقائهم على قيد الحياة. وبعد اكتشاف المضادات الحيوية، أصبح من الممكن علاج الأمراض المعدية التي كانت قاتلة في السابق.
نحن نتعامل مع معجزات الطب الحديث هذه كأمر مسلَّم به، لكنها منحت، للمرة الأولى على نحو أساسي، الأطباء والجراحين إمكانية «علاج» الأمراض. وقد عملنا على تبديد معظم مزايا المضادات الحيوية من خلال إعطائها للحيوانات الداجنة على نطاق واسع؛ ليس لعلاج مرض ما، ولكن كي يزداد حجمها في أسرع وقت ممكن. وكذلك من خلال الملايين من الأشخاص الذين يوقفون العلاج بالمضادات الحيوية بمجرد أن يشعروا بتحسن، بدلًا من الاستمرار في تناولها وفق البرنامج العلاجي الكامل كما أخبرهم الطبيب. شجَّعت هاتان الممارستان، غير الضروريتين تمامًا، على تطوير البكتيريا لمقاومة للمضادات الحيوية. ومن ثَم يحاول العلماء الآن على نحو محموم أن يتوصَّلوا إلى الجيل التالي من المضادات الحيوية. وإذا فعلوا ذلك، آملُ أن نصبح على قدر من الوعي بحيث لا نفسد مزاياها هي أيضًا.
وقد تحقَّق حلمٌ آخر أيضًا من أحلام الجراحين في الماضي، وهو: عمليات زرع الأعضاء. حتى الآن يبدو أننا تمكنَّا من الحفاظ على هذا الكشف العلمي المتميز، ولم نبدد مزاياه هو الآخر. إذا كانت الظروف مواتية، فيمكنك الحصول على قلب جديد أو رئة جديدة أو كُلْية جديدة. وحتى وجه جديد أيضًا. وفي يوم ما، قد يجري إنماء عضو بديل من أجلك في جسد خنزير، على الرغم من أن هذا لن يحدث على نحو طوعي.
في عام ١٩٠٧، تكهَّن الباحث الطبي الأمريكي سايمون فليكسنر بشأن مستقبل الطب، واقترح أنه سيكون من الممكن جراحيًّا أن يُستبدل بأعضاء مريضة لشخص ما أعضاءً سليمة لشخص آخر. وعلى وجه الخصوص ذكر الشرايين والقلب والمعِدة والكليتين. وقد أجريت أول عملية زرع كُلًى في عام ١٩٣٣ من قِبل الجراح الأوكراني يوري فوروني، الذي استأصل كلية من متبرع تُوفي قبل ست ساعات وزرعها في فخذ المريض الذي يعالجه. ولكن توفي المريض بعد يومين عندما رفض جسده الكلية الجديدة لأن فصيلة دم المتبرع غير متوافقة مع فصيلة دم المتلقي. إن أكبر عقبة أمام نجاح زرع الأعضاء هي الجهاز المناعي للجسم، الذي يعتبر أن العضو الجديد ليس جزءًا من جسم المريض، ويهاجمه. وقد أجرى أول عملية زرع كلية ناجحة ريتشارد لولر في عام ١٩٥٠. واستمرت الكلية المتبرَّع بها في جسد المريضة المتلقية لمدة عشرة أشهر إلى أن رفضها، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت قد تعافت كليتاها على نحو أتاح لها العيش لمدة خمس سنوات أخرى.
إن الشخص الطبيعي لديه كليتان، ويمكن أن يؤدي جسده وظائفه على نحوٍ جيد للغاية باستخدام كلية واحدة منهما فقط. لذلك يمكن الحصول على كلية من متبرع حي وزرعها في جسد إنسانٍ آخر، وهو ما أدى إلى تبسيط العملية برُمتها. والكلية هي أسهل عضو يمكن زرعه في الجسد. إذ إنه من السهل التأكد من أنَّ نوع أنسجة المانح يتطابق مع ذلك الخاص بأنسجة المتلقي، وتفادي رفض جسده للعضو الجديد، وإذا حدث خطأ ما، فهناك أجهزة غسيل الكلى التي تؤدي وظيفة الكلى. وإلى أن جرى التوصل إلى الأدوية المضادة لرفض الجسد للأنسجة الغريبة عنه، وهو ما حدث في عام ١٩٦٤، لم تكن هناك عمليات زرع كُلًى من المتبرعين المتوفَّين (على الأقل، في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة). ولكن كان هناك الكثير من حالات التبرع من قبل المتطوعين الأحياء.
في معظم الحالات، كان المتبرع هو أحد الأقارب المقربين للمتلقي. وقد زاد هذا من احتمال حدوث توافق في الأنسجة، لكن السبب الرئيسي هو أن قِلة قليلة من الناس كانوا على استعداد للتضحية بكلية من أجل شخص غريب. ففي نهاية المطاف، عندما يتوفر في جسدك عضو بديل لعضو ما، يمكنك مواصلة عيش حياة طبيعية إذا أخفق هذا العضو في أداء وظيفته. وإذا كنت قد منحت إحدى كليتيك لشخص غريب، فستفقد هذه الميزة. لكن إذا كان الشخص المتلقي هو والدتك، أو شقيقك، أو ابنتك، فإن المكسب يفوق المخاطرة، خاصة إذا كنت تعلم أن المتلقي سيموت إذا رفضت. إن الأمر يكون شخصيًّا على نحو أقل إذا تعلَّق الأمر بشخص غريب، ويقل احتمال أن تعرض نفسك للمخاطرة.
تسمح بعض البلدان بتقديم حافز، وهو المال. فيمكنك أن تدفع مبلغًا ماليًّا لشخص غريب من أجل التبرع بكليةٍ لأحد أقاربك. إن مخاطر السماح لهذا النوع من المعاملات واضحة إلى حد ما؛ على سبيل المثال، يمكن إغراء الفقراء بالمال من أجل بيع كلية لغريب غني. في المملكة المتحدة، كان من غير القانوني التبرع بكلية لأي شخص لا تجمعك به صلة قرابة وثيقة. ثم ألغَى القانونان الصادران في عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٦ ذلك القيد، لكنهما أضافا ضمانات لمنع التجاوزات. أحدها كان «لا أموال مقابل التبرع».
مهَّد التغيير في القانون الطريق لاكتشاف استراتيجيات جديدة تبحث في مدى توافق أعضاء المانحين مع أعضاء المتلقِّين، مما يجعل من الممكن علاج المزيد من المرضى. كما مهَّد لظهور مجموعة كبيرة من المسائل الرياضية المتعلقة بكيفية استخدام هذه الاستراتيجيات بكفاءة. وقد تصادف أن الأدوات القوية لحل هذه المسائل موجودة بالفعل. ومن اللافت للنظر أن كل شيء بدأ بلُغز صغير سخيف، منذ ما يقرب من ٣٠٠ عام.
•••
إنها قصة معروفة جدًّا، لكنني سأحكيها على أي حال، لسببين. فهي توفر الأساس الرياضي لما سأتناوله هنا، كما أنه من الشائع تداولها على نحو محرَّف. وقد فعلت ذلك من قَبل بالتأكيد.
تقول الأسطورة إن المواطنين الصالحين في كونيجسبرج تساءلوا لفترة طويلة عما إذا كان من الممكن اتخاذ مسارٍ للتجول مشيًا عبر المدينة يمر بكل جسر مرة واحدة فقط. لقد كان لغزًا صغيرًا وبسيطًا، وهو من النوع الذي تتوقع رؤيته في الوقت الحاضر على صفحة الألغاز في جريدتك أو نسختها الإلكترونية. لا تُسفر تجربة المسارات المختلفة عن أي حلول؛ ويمكن أن تجرب ذلك بنفسك. ومع ذلك، فإن مسائل مماثلة لها حل، وهو أحيانًا حل يصعب إيجاده. علاوة على ذلك، فإن عدد المسارات التي قد تسلكها لا حصر لها، إذا كان فقط بسبب أن هناك طرقًا لا حصر لها للتجول من جانب إلى آخر، أو ذهابًا وإيابًا، وأنت تمشي على طول مسارٍ ما. لذلك لا يمكنك إيجاد حل، أو إثبات أنه لا يوجد حل، من خلال فحص كل مسارٍ ممكن.
يمكنك حل اللغز بسهولة بتدبير حيلةٍ ما. على سبيل المثال، يمكنك المشي على جسرٍ ما، ثم الالتفاف، والخروج منه، دون أن تتجاوز فعليًّا طرفه الآخر، وتدَّعي أنك قد «عبرت» الجسر. يجب تعريف شرط «العبور» بشكل صريح بحيث لا يُسمح بمثل هذه الحيل. وبالمثل، يجب تعريف شرط «المشي»، وأنه لا يمكنك القيام بجزء من الرحلة عن طريق السباحة، أو ركوب قارب، أو الطيران في بالون طائر، أو الانتقال عبر الزمن باستخدام آلة «دكتور هو». أو الإبحار لأعلى النهر للعثور على جسر غير موجود في صورة أويلر. يعرف عشاق هذه الألغاز أنه على الرغم من أن التلاعُب على هذا النحو قد يكون ممتعًا، ويتطلب حتى براعة كبيرة، فإن هذا يُعد نوعًا من الغش. لن أذكر كل شرط مطلوب لاستبعاد هذا النوع من الخداع. فأنا مُهتَم أكثر بكثير بكيفية إثبات أن اللغز، بعد أن أعيدت صياغته رياضيًّا على نحو مناسب، يمكن أن يصبح غير قابل للحل «ما لم» نستخدم الخداع. يدور الخداع حول كيف يمكن صياغة المسألة، وليس حول حلها أو إثبات أنها غير قابلة للحل بمجرد صياغتها.
هنا يأتي دور أويلر، عالم الرياضيات الرائد في عصره. لقد عمل في كل مجال من مجالات الرياضيات المعروفة تقريبًا حينها، وكذلك في مجالات لم تكن معروفة حتى تطرَّق هو إليها، وطبَّق المبادئ الرياضية ليحل مجموعة كبيرة ومتنوعة من المسائل الواقعية. وقد تنوعت مؤلفاته بين كتب مهمة في المجالات الرئيسية للرياضيات البحتة والفيزياء الرياضية وأعمالٍ أقل أهمية حول موضوعات متفردة وغريبة تَصادف أن استرعت انتباهه. وفي أوائل القرن الثامن عشر، ركز تفكيره على اللغز الخاص بجسور كونيجسبرج. وقد صاغه على هيئة مسألة رياضية دقيقة، وتوصل إلى إثبات على أنه، كما ذكر، لا حل له، وأن مثل هذا المسار لا يمكن إيجاده. هذا صحيح حتى لو أنه ليس مسارًا دائريًّا، ولكن ينتهي في مكان ما مختلف عن المكان الذي يبدأ فيه.
كان أويلر قد انتقل إلى سان بطرسبرج في روسيا عام ١٧٢٧، عندما كانت تحكم روسيا الإمبراطورة كاثرين الأولى، ليصبح عالم الرياضيات الخاص بالبلاط. وكان قد أسس زوجها، الإمبراطور بطرس الأول، أكاديمية سان بطرسبرج (أكاديمية بطرسبرج الملكية للعلوم) في عام ١٧٢٤–١٧٢٥ ، لكنه تُوفي قبل أن تخرج إلى النور. وقدم أويلر بحثه إلى الأكاديمية في عام ١٧٣٥، ونُشر بعد ذلك بعام. ونظرًا لكونه عالم رياضيات، يمكن القول إنه الأكثر غزارة في الإنتاج في التاريخ، فقد استخلص من اللغز قدر استطاعته من الأمور؛ إذ توصل لشروط ضرورية وكافية لإيجاد حل، ليس فقط لمسألة جسور كونيجسبرج، ولكن لأي مسألة من نوع مماثل. فيمكن أن تواجهك مسألة تتعلق بخمسين ألف جسر تربط بين أربعين ألفًا من الكتل الأرضية في ترتيبٍ معقَّد بشكل كبير، وستخبرك مبرهَنَة أويلر ما إذا كان يمكن إيجاد حل لها أم لا. وإذا درست الإثبات على نحو عميق، فستجد أنه يخبرك حتى بطريقة إيجاد حل، بعد القليل من البحث والتدقيق. كان تناول أويلر هزيلًا بعض الشيء، وقد استغرق الأمر ما يقرب من ١٥٠ عامًا قبل أن يعرض أي شخص جميع التفاصيل، على الرغم من أن الأمر ليس صعبًا للغاية.
يمكننا ذكر تلك الروابط لكل حرف صغير كما يلي:
حسنًا، لم تمكننا إذن سلسلة الخيارات هذه من إيجاد الحل المناسب، ولكن كان بإمكاننا اتخاذ خيارات مختلفة في وقت سابق. يمكننا الآن العمل بشكل منهجي عبر جميع التسلسلات الممكنة … وسيتضح أن جميعها لن ينجح. إذ في مرحلةٍ ما سنصبح غير قادرين على مغادرة منطقة ما، نظرًا لعدم وجود مخرج مناسب، مع وجود جسر واحد على الأقل ما زلنا لم نعبره. إن قائمة التسلسلات المحتملة محدودة، وصغيرة بما يكفي لتدوينها بالكامل. جرب ذلك إذا كنت ترغب.
بافتراض أنك فعلت ذلك، فقد أثبت أن هذا اللغز ليس له حل. كان من الممكن أن يرضي ذلك مواطني كونيجسبرج، لكنه لم يرضِ أويلر. أولًا: ليس من الواضح «سبب» عدم القدرة على مغادرة منطقة ما دائمًا. ثانيًا: لا تخبرك الإجابة متى يمكن أو لا يمكن حل الألغاز الأخرى من نفس النوع. لذلك طرح أويلر أهم سؤال يطرحه علماء الرياضيات دائمًا عندما يحل شخص مسألة ما، وهو: «رائع، ولكن لماذا نجح ذلك؟» وأتبع ذلك بالسؤال التالي الأكثر أهمية: «هل يمكننا أن نفعل ما هو أفضل؟»
فكر أويلر أكثر في الأمر، وقدَّم ثلاث ملاحظات بسيطة، وهي كالتالي:
-
إذا كان هناك حلٌّ ما، يجب أن تصبح كل منطقة مرتبطة بكل منطقة أخرى من خلال تسلسل «معين» من الجسور. على سبيل المثال، إذا كانت هناك جزيرتان أُخريان E وF متصلتان بعضهما ببعض عبر واحد أو أكثر من الجسور الجديدة h وi وj … إلخ، مع عدم وجود جسور جديدة أخرى تربط هاتين الجزيرتين بالمناطق الأخرى، فإن الطريق الوحيد لعبور هذه الجسور هي التنقل ذهابًا وإيابًا بين E وF. لذلك لا يمكنك الوصول إلى أي من الجسور الأخرى.
-
بافتراض أن شرط «الارتباط» السابق قائم، فباستثناء المنطقتين في بداية ونهاية مسارك، كلما دخلت منطقة ما يجب عليك الخروج منها مرة أخرى عبر جسر مختلف.
-
عندما تفعل ذلك، سيصبح الجسران المرتبطان بتلك المنطقة غير متاحين لك كي تسير عبرهما مرة أخرى.
ومن ثَم، وأنت تمشي عبر مسارك، فإنك تستخدم أزواجًا من الجسور. هذه هي النقطة الرئيسية التي يجب أن تدركها جيدًا. إذا كانت منطقة ما مرتبطة بعدد زوجي من الجسور، فيمكنك استخدامها جميعًا دون أن تصبح غير قادر على مغادرة تلك المنطقة. وإذا كانت مرتبطة بعدد فردي من الجسور، فيمكنك استخدام جميع الجسور باستثناء واحد دون أن تصبح غير قادر على مغادرة تلك المنطقة. لكن «سيتوجَّب عليك عبور ذلك الجسر» في مرحلة ما. وعندما تفعل ذلك، تصبح غير قادر على مغادرة المنطقة التي توجد بها.
إن عدم القدرة على مغادرة المنطقة التي توجد فيها هي أمر كارثي إذا كنت في وسط جولة افتراضية. لكن هذه ليست مشكلة إذا كنت في نهاية الجولة. كما أن عكس مسار الجولة بالسير للخلف ليس أيضًا مشكلة في بداية الجولة. يفترض هذا الخط من التفكير المنطقي ضمنيًّا أنه في حالة وجود جولة ما، يجب أن ترتبط منطقتان على الأكثر بعدد فردي من الجسور. وبالنسبة لمسألة كونيجسبرج:
لذلك فإن عدد المناطق المرتبطة بعدد فردي من الجسور هو أربعة، وهو أكثر من اثنين. لذلك لا يمكن أن تكون هناك جولة.
هذا التبسيط المرئي هو «الرسم البياني» لجسور كونيجسبرج. في هذا التمثيل، لا يهم المكان الذي تضع فيه النقاط الأربعة (على الرغم من أنها يجب أن تظل مميزةً لتجنُّب الخلط بينها)، والأشكال الدقيقة للخطوط لا تهم أيضًا. كل ما يُهم هو تحديد النقاط التي يربطها خط معين. في هذا المخطط المرئي، يصبح الإثبات الذي توصَّل إليه أويلر طبيعيًّا للغاية. إن أي مسار جولة يدخل منطقة ما عبر جسر ما يجب أن يخرج منها مرة أخرى عبر جسر آخر، إلا إذا كانت نهاية مسار جولة مغلق. وبالمثل، يجب أن يترك أي مسار جولة منطقة ما عبر جسر ما غير الذي دخلها عبره، إلا إذا كانت بداية مسار جولة مغلق. لذلك تُستخدم الجسور عبر المسار في أزواج إلا عند طرفي المسار. ومن ثَم، ترتبط المناطق التي لا تقع عند طرفي المسار بعدد زوجي من الجسور. إذا وُجد عدد فردي من الجسور عند طرفي المسار، يصبح المسار مفتوحًا ولا يمكن أن يصبح مغلقًا. بدلًا من ذلك، قد تكون بداية ونهاية المسار في نفس المنطقة، بحيث يمكن أن تربطهما معًا دون استخدام المزيد من الجسور الأخرى، مما ينشئ مسار جولة مغلقًا. والآن تصبح كل منطقة مرتبطة بعدد زوجي من الجسور.
إن أويلر، بحله لهذه الفئة المفردة من المسائل، تمكَّن من تقديم مجالين رئيسيين من الرياضيات. الأول هو نظرية الرسم البياني، التي تدرس النقاط المتصلة عبر خطوط. هذا يبدو أمرًا بسيطًا، وطفوليًّا حتى. إنه هكذا بالفعل. وفي الوقت نفسه، هو عميق ومفيد وصعب، كما سنرى. والمجال الآخر هو الطوبولوجيا، الذي يُسمى أحيانًا «الهندسة المطاطية»، وفيه يمكن تغيير صورة الأشكال باستمرار دون اعتبارها قد اختلفت على نحو جوهري. هنا يمكن تغيير صورة أشكال الخطوط ومواقع النقاط بأي طريقة ترغب فيها، شريطة ألَّا تتغير الطريقة التي يرتبطان بها (وهو متطلب الاتصال)، وستحصل على الرسم البياني نفسه. هذا يعني أنه ينقل المعلومات نفسها عن الارتباط بين عناصره.
أجد أنه من اللافت للنظر أن لغزًا بسيطًا مثل هذا يمكن أن يقود إلى مثل هذه الابتكارات الكبيرة. إنها الفعالية اللامعقولة، في واقع الأمر. هناك أيضًا درس مهم، غالبًا ما يُخفق في فهمه من لا ينتمون لمجتمع الرياضيات. لا تقلل من شأن الرياضيات التي «تبدو» بسيطة، أي مثل لعبة أطفال أكثر من شيء جدِّي. ما يهم ليس مدى بساطة اللعبة؛ لكن ما بإمكانك أن تفعله بها. في الواقع، إن أحد الأهداف الأساسية للأفكار الرياضية الجيدة هو جعل كل شيء بسيطًا قدر الإمكان. (قد تضحك سخريةً من هذا، وهو ما لا يمكن لومك عليه، بالنظر إلى مدى التعقيد الذي تبدو عليه الكثير من الأفكار الرياضية. لكن يجب أن أضيف التحذير المنسوب إلى أينشتاين: بسيط قدر الإمكان، «لكن ليس أكثر من ذلك».) إن تمثيل الجزر بنقاط والجسور بخطوط لا يغير شيئًا في اللغز، لكنه سينزع عنه ما يشوبه من معلومات غير جوهرية؛ مثل: ما حالة الطقس؟ هل الأرض موحلة؟ هل هو جسر خشبي أم معدني؟ هذه الأشياء مهمة، إذا كنت ستخرج من أجل نزهة يوم الأحد أو تنوي بناء جسر. ولكن إذا كنت ترغب في الإجابة على السؤال الذي حير المواطنين الصالحين في كونيجسبرج، فهي معلومات غير ذات صلة.
•••
وهنا ظهرت مشكلة رئيسية وهي مدى التوافق بين أنسجة المانحين والمتلقين؛ لأنه حتى عندما يكون هناك متبرع، قد لا تتطابق أنسجة جسده وفصيلة دمه مع أنسجة وفصيلة دم المتلقي المقصود. لنفترض أن العم فريد يحتاج إلى عملية زرع كلية، وابنه وليام مستعد للتبرع، ولكن ليس لشخص غير قريب له. لسوء الحظ، إن كُلية وليام أنسجتها غير متوافقة مع أنسجة كلية والده. قبل عام ٢٠٠٤، كانت تلك هي نهاية القصة، وسيظل فريد مضطرًّا إلى مداومة استخدام آلة غسيل الكُلى. وكذلك كان حال العديد من المتلقين المحتملين الآخرين الذين تتطابق أنواع أنسجتهم مع أنسجة ويليام. لنفترض الآن أن جون سميث، الذي لا تربطه صلة قرابة بفريد وويليام، لديه نفس المشكلة؛ إذ تحتاج أخته إيميلي إلى عملية زرع كلية، وهو على استعداد للتبرع بها، ولكن مرة أخرى، ليس لشخص غير ذي قُربى. ومرة أخرى يختلف نوع أنسجته عن ذلك الخاص بإيميلي. لذلك لا يمكن لأحد الحصول على عملية زرع كلية.
ومع ذلك، لنفترض أن نوع أنسجة جون يتطابق مع نوع أنسجة فريد، ونوع أنسجة وليام يطابق ذلك الخاص بإيميلي. بعد عام ٢٠٠٤، يُلبي هذا الوضع شروطًا مناسبة لعملية مبادلة الكلى على نحو قانوني. إذ يمكن للجراحين المعنيين أن يجتمعوا معًا، ويقترحوا أن يمنح جون كليته لفريد، بشرط أن يمنح وليام كليته لإيميلي. من المرجح أن يوافق كلا المانحين على مثل هذا الترتيب، لأن كلًّا من قريبيهما سيحصل على كلية جديدة، وسيمنح كل واحد منهما كليته وفق الشرط الذي كانا على استعداد دائمًا لتحقيقه وهو أن تكون عملية المنح لصالح قريب لهما. أما مَن الذي سيحصل تحديدًا على كلية مَن، فإن هذا لن يُحدث فرقًا كبيرًا عند المانحين أو المتلقِّين، على الرغم من أنه مهم للغاية لتطابق أنواع الأنسجة.
في ظل وسائل الاتصالات الحديثة المتوفرة في عصرنا هذا، يمكن للجراحين معرفة متى يحدث هذا النوع من التوافق العرضي من خلال الحفاظ على سجل للمانحين والمتلقين المحتملين، إلى جانب معلومات عن أنواع أنسجتهم. عندما يكون عدد المتلقين والمانحين المحتملين صغيرًا، تصبح احتمالات حدوث هذا النوع المريح من المبادلة ضئيلة، ولكن كلما زادت الأعداد أصبحت الاحتمالات أكبر. إن عدد المتلقين المحتملين ضخم للغاية؛ في عام ٢٠١٧ في المملكة المتحدة، كان أكثر من خمسة آلاف شخص على قائمة الانتظار للحصول على كلية جديدة. إنها يمكن أن تأتي من مانح متوفًّى أو حي، لكن عدد المانحين أصغر — نحو ألفي شخص في ذلك الوقت — مما يؤدي إلى فترة انتظار تتجاوز العامين للشخص البالغ وتسعة أشهر للطفل.
هناك طريقة واحدة لضمان استفادة المزيد من المرضى، وحصولهم على العلاج بسرعة أكبر، وهي إنشاء سلاسل أكثر تفصيلًا لعمليات تبادل الكلى. يسمح القانون الآن بهذا الإجراء أيضًا. لنفترض أن أميليا، وبرنارد، وكارول، وديردري كلهم بحاجة إلى كُلًى. لديهم جميعًا مانحون يرغبون على نحوٍ مبدئي في التبرع لهم، ولكن لهم هم فقط. لنفترض أن أسماءهم هي ألبرت، وبيريل، وتشارلي، وديانا. تبدأ السلسلة بمانحة إيثارية هي زوي، التي يسعدها التبرع بكلية لأي شخص. لنفترض أن أنواع الأنسجة تسمح بسلسلة من النوع التالي:
لقد أصبح الجميع، إجمالًا، راضين. أميليا، وبرنارد، وكارول، وديردري سيحصلون على كلًى جديدة. ألبرت، وبيريل، وتشارلي، وديانا جميعهم سيتبرعون بكُلاهم؛ ليس لأقاربهم، ولكن كجزء من سلسلة ستفيد قريبهم. غالبًا ما سيصبحون سعداء بهذا، وهو ما يجعل مثل هذه المعاملات ممكنة؛ في الواقع، إذا كان أحدهم لا يوافق، فلن يحصل قريبه على كلية في هذه الحالة. يسعد زوي أن تبرعها الإيثاري سيفيد شخصًا ما، ولا يهمها من هو. في هذه الحالة، ذلك الشخص هو أميليا. في النهاية، ستُمنح كلية إضافية إلى قائمة الانتظار؛ وهو أمر مفيد دائمًا.
إذا تبرعت زوي بدلًا من ذلك إلى قائمة الانتظار، فإن الطريقة الوحيدة لأميليا وبرنارد وكارول وديردري للحصول على الكلى هي الانضمام إلى قائمة الانتظار. ومن خلال عدم فعل ذلك، فإنهم يوفرون أربع كلًى أخرى لمن يحتاجها في قائمة الانتظار. يُطلق على هذه العملية «سلسلة التبرع التبادلي الشبيهة بقطع الدومينو المتراصَّة». حيث تدفع زوي قطعة دومينو كي تقع على أخرى بجوارها، فتقع سلسلة كاملة من قطع الدومينو المتراصة. دعنا نختصر ذلك الاسم إلى كلمة «سلسلة».
ما يهم هنا ليس الأسماء، ولكن أنواع الأنسجة. ألبرت هو أي شخص لديه نفس نوع الأنسجة مثل زوي. بيتي هو أي شخص لديه نفس نوع الأنسجة مثل «مانح» ألبرت، وتشارلي هو أي شخص لديه نفس نوع الأنسجة مثل مانح بيتي، وهكذا. ومع وجود أعداد معقولة من المتلقين والمانحين، فإن هذه السلاسل تكون كثيرة، ويمكن للجراحين اكتشافها. لكن هذا يستغرق وقتًا، حتى لو أوكلوا المهمة لمن يساعدهم، وكل كلية ثمينة، لذلك من المنطقي اختيار السلاسل بأفضل طريقة ممكنة. هذا أمر معقَّد؛ لأن العديد من السلاسل المحتملة يمكن أن تتزامن في وجودها. إذا كان الأمر كذلك، فيمكن للجراحين العمل مع أكثر من سلسلة في الوقت نفسه، ما لم تحتوِ سلسلتان على المانح نفسه، مما يعني أن عليه التبرع لشخصين مختلفين. حينها، ستُكسر إحدى السلسلتين.
تحسين اختيار السلاسل … حسنًا. تبدو تلك مسألة ملائمة كي تدرسها الرياضيات. إذا تمكنت من صياغة المسألة بشكل رياضي، وتطبيق أساليب مناسبة، فربما يمكنك حلها. علاوة على ذلك، ليس من الضروري أن يكون الحل مثاليًّا. فقط أفضل من أي شيء يمكن أن تصل إليه عن طريق التخمين. ومن ثَم، وجد ديفيد مانلاف طريقة لتحويل مسألة تبادل الكلى إلى سؤال حول رسم بياني. لكن مبرهنة أويلر لا تساعد في حله؛ فقد كان دوره هو إيجاد المجال بأكمله. على مدى السنوات التالية، طوَّر علماء الرياضيات المجال وابتكروا العديد من الأساليب الجديدة الخاصة بنظرية الرسم البياني. ولأن الرسم البياني هو كائن مكون من أجزاء منفصلة؛ مجرد قائمة من العُقد والحواف، ومعلومات عن أي الحواف تصل بين أي العُقد، فإن الرسوم البيانية مناسبة بشكل بارز للتحليل من قِبَل الكمبيوتر. وقد طُوِّرت خوارزميات رائعة لتحليل الرسوم البيانية واستخراج أنماط مفيدة. من بينها خوارزميات يمكنها التوفيق المثالي بين المانحين والمرضى، وذلك بالنسبة للرسومات البيانية ذات الحجم العملي. وتُستخدم هذه الأساليب، التي ينفذها الكمبيوتر، على نحو معتادٍ الآن في المملكة المتحدة.
•••
إن الأزواج المتوافقة من المانحين والمتلقِّين سهلة: تبديل الكُلى الخاصة بهم. هذا يتطلب اثنين من الجراحين يعملان في نفس الوقت، أحدهما على كل شخص. لذلك يمكننا تجاهل الأزواج المتوافقة عند محاولة إيجاد السلاسل، والتركيز على الأزواج غير المتوافقة. تلك الأزواج تمثل العُقَد في الرسم البياني.
على سبيل المثال، لنفترض أن ألبرت على استعداد للتبرع لأميليا، ولكنه متوافق في الأنسجة مع برنارد. يمكننا تمثيل هذا الموقف من خلال الشكل الأيمن من الشكل التالي. لقد وضعت اسم المانح بالأعلى وقريبه غير المتوافق في الأنسجة معه بالأسفل. ويعني السهم أن «المانح عند ذيل السهم متوافق مع المتلقي عند رأس السهم». هذا الشكل هو نوع خاص من الرسم البياني؛ حيث تكون للحواف اتجاهات محددة. وعلى عكس جسور كونيجسبرج، فإن هذه الحواف تكون في اتجاه واحد، لذا يطلق علماء الرياضيات عليها اسم الحواف الموجهة، والرسم البياني الناتج يكون رسمًا بيانيًّا موجهًا. عند الرسم، تمثَّل الحواف الموجهة بواسطة الأسهم.
إذا تصادف أن بيريل متوافقة في الأنسجة مع أميليا، تنص القواعد على أن نرسم سهمًا آخر في الاتجاه المعاكس. هذا يصنع صلة ثنائية الاتجاه، كما في الشكل الأيسر. يوضح هذا الشكل أبسط نوع من تبادل الكلى، الذي يطلِق عليه منظرو الرسم البياني «الدورة الثنائية». يمكن للجراحَين أن يقترحا تبرع ألبرت بكليته إلى برنارد، بشرط أن تتبرع بيريل بكليتها لأميليا. إذا وافق جميع الأطراف، فإن أميليا وبرنارد سيحصلان على كليتين جديدتين، بينما سيتبرع ألبرت وبيريل بكليتيهما. وعلى الرغم من أن قريبيهما لن يحصلا على كليتيهما، فإن كلًّا منهما سيحصل على الكلية التي يحتاجها. ومن ثَم سيستفيد كِلا المتلقيَين، ويتبرع كلا المانحين، لذلك فإن معظم المانحين المحتملين يكونون على استعداد لقبول هذا النوع من التبادل.
إن النوع التالي الأكثر تعقيدًا هو «الدورة الثلاثية». الآن هناك زوج ثالث، هما المانح تشارلي والمتلقية كارول. لنفترض ما يلي:
عندئذٍ يمكن للجراحين اتخاذ إجراءات لمنح كلية ألبرت إلى برنارد، وكلية بيريل إلى كارول، وكلية تشارلي إلى أميليا. مرة أخرى، سوف يقبل معظم المانحين هذا.
يجب التعامل مع المانحين الإيثاريين، مثل زوي، بشكل مختلف قليلًا؛ لأنهم لا يقترنون بأي شخص محدَّد. يجب الاستعانة بالقليل من الخداع الرياضي هنا. سنشكل العُقدة المقابلة من خلال قَرْن زوي مع متلقٍّ سنطلق عليه اسم «أي أحد»، ومن المفترض أن يُعتبر متوافقًا مع أي من المانحين غير الإيثاريين. في الواقع، يمثل هذا المتلقي التخيُّلي جميع الأشخاص في قائمة الانتظار. وسيصبح الافتراض هو أن كل واحد منهم متوافق مع أحد المانحين غير الإيثاريين، وهو أمر معقول؛ لأن قائمة الانتظار كبيرة. والآن نرسم سهمًا من
إلى أي عقدة يكون المتلقي الخاص بها متوافقًا مع زوي. في سلسلة التبرع التبادلي الشبيهة بقِطَع الدومينو المتراصَّة، يبدو الرسم البياني الموجه مثل الشكل التالي.
مثل هذه السلاسل ليست عملية؛ فهي تتطلب عشرة جراحين للعمل في الوقت نفسه. فيجب أن تُجرى في الوقت نفسه، وإلا — على سبيل المثال — يمكن أن يغير تشارلي رأيه فجأة ويرفض التبرع لديردري، بمجرد أن تتلقى كارول كلية من بيريل. لا يلتزم الأشخاص دائمًا بالاتفاقات عندما يصبح من مصلحتهم ألَّا يفعلوا، حتى لو وقَّعوا على مستندات قانونية. إذا أرادوا ذلك، فسوف يجدون طريقة للتنصُّل من اتفاقاتهم. ادعاء المرض، أيًّا كان. أو كسر ساق.
لهذا السبب، تقتصر عمليات التبادل حاليًّا على أربعة سيناريوهات: الدورات الثنائية والدورات الثلاثية، وهما ما عرضناهما بالفعل، والدورات المقابلة عندما يشارك مانح إيثاري، التي تُسمَّى السلاسل القصيرة والسلاسل الطويلة. ستشمل السلسلة القصيرة فقط زوي وألبرت وأميليا وأحد الموجودين على قائمة الانتظار. وستشمل السلسلة الطويلة أيضًا بيريل وبرنارد. إن عملية التبادل يمكن أن تتمثَّل في أي من هذه السيناريوهات الأربعة.
لاحظ الخداع الطفيف. لقد عرضت هذه السلسلة كدورة بها خمس عُقد. عندما نفكر في الأمر على أنه عملية تبادل، فإن الأمر ليس كذلك حرفيًّا، لأن زوي ليس لديها متلقٍّ محدد في ذهنها. زوي مستعدة للتبرع لأي شخص، وفي نهاية السلسلة «تتبرع» ديانا لأي شخص (أي لقائمة الانتظار). لكن «أي أحد» الذي تتبرع له زوي في الواقع هو أميليا، وهذا ليس الشخص نفسه الذي تتبرع له ديانا في النهاية. يتعامل النموذج الرياضي مع هذا الأمر، لأننا نستنتج من هو «أي أحد» في كل حالة من بِنية الرسم البياني الموجَّه.
•••
من أجل حل هذه المسألة رياضيًّا، نحتاج إلى توضيح مفهوم «أفضل مجموعة ممكنة من التبادلات». إذ لا يقتصر الأمر على مجموعة التبادلات التي تضم أكبر عدد من الأشخاص. هناك اعتبارات أخرى، مثل التكلفة ومعدل النجاح المحتمل. هنا، يأتي دور المشورة والخبرة الطبية. لقد طوَّرت وحدة نقل الدم وزرع الأعضاء التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية نظام تقييم قياسيًّا لتحديد الفائدة المحتملة لأي عملية زرع أعضاء معينة. يأخذ هذا في الاعتبار عوامل مثل طول فترة انتظار المريض، ومستويات عدم توافق نوع الأنسجة، وفرق السن بين المتبرع والمتلقي. وباستخدام التحليل الإحصائي، يُجمع بين هذه العوامل في تقييم عددي واحد، وهو عدد حقيقي يُسمى الوزن. ويُحسب هذا الوزن لكل سهم في الرسم البياني الموجه؛ أي، لكل عملية زرع محتملة.
هناك شرط واحد مباشر وواضح، وهو أنه لا يمكن أن تشتمل عمليتا تبادل مختلفتان في المجموعة على أي عُقَد مشتركة؛ لأنه لا يمكنك إعطاء الكلية نفسها لشخصين مختلفين. رياضيًّا، يعني هذا أن الدورات المكونة للمجموعة لا تتقاطع. الشروط الأخرى أكثر تعقيدًا. تتميز بعض الدورات الثلاثية بميزة إضافية مفيدة: سهم إضافي في الاتجاه العكسي بين العقدتين. ويُظهر الشكل التالي مثالًا، حيث، بالإضافة إلى الأسهم في الدورة الثلاثية السابقة، هناك سهم آخر من زوج بيريل إلى زوج أميليا. وهذا يعني أن بيريل متوافقة مع أميليا وكذلك مع كارول. إذا انسحب تشارلي في مرحلة متأخرة من عملية التبادل، فيمكن عندئذٍ استبعاد كارول أيضًا؛ ومن ثَم تتبقى دورة ثنائية يتبرع فيها ألبرت لبرنارد وبيريل لأميليا، ولا يزال من الممكن أن تستمر عملية التبادل. رياضيًّا، يشكل هذا الثلاثي من العقد دورة ثلاثية، وتشكل عقدتان دورة ثنائية. يُسمى السهم الإضافي القوس الخلفي. إن أي دورة ثلاثية لها قوس خلفي، وأي دورة ثنائية تسمى دورة ثنائية «فعَّالة».
حددت المجموعة الاستشارية للكلى لوحدة نقل الدم وزرع الأعضاء التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية مجموعة من عمليات تبادل الكلى، واعتبرتها مثالية إذا تحققت لها الشروط التالية:
-
(١)
أن يتوافر فيها أقصى عدد من الدورات الثنائية الفعَّالة.
-
(٢)
أن تحتوي على أكبر عدد ممكن من الدورات، مع مراعاة الشرط (١).
-
(٣)
أن تستخدم أقل عدد ممكن من الدورات الثلاثية، مع مراعاة الشرطين (١) و(٢).
-
(٤)
أن يتوافر فيها أقصى عدد من الأقواس الخلفية، مع مراعاة الشروط من (١) إلى (٣).
-
(٥)
أن يتوافر فيها أقصى قيمة للوزن الإجمالي لدوراتها، مع مراعاة الشروط من (١) إلى (٤).
إن السبب البديهي لوضع هذا التعريف هو إعطاء الأولوية لميزات محددة؛ وبمجرد تحقيق ذلك، يجري تِباعًا تحديد ميزات أخرى ذات أولوية أقل. على سبيل المثال، يتأكد الشرط (١) من أن تضمين التبادلات ثلاثية الاتجاهات لا يقلل من عدد التبادلات ثنائية الاتجاه التي كان من الممكن إجراؤها لولا ذلك. وهذا له مزايا، مثل: البساطة، وإمكانية المضي قُدمًا في الدورة الثنائية إذا انسحب شخصٌ ما. ويعني الشرط (٥) أنه بعد اتخاذ القرارات الرئيسية فيما يتعلق بالشروط من (١) إلى (٤)، وعندئذٍ فقط، ينبغي أن تصبح مجموعة التبادلات فعَّالة، ومن المرجح أن تنجح، قدر الإمكان.
تكمن المسألة الرياضية في إيجاد مجموعة مثالية من التبادلات، وفقًا لهذه الشروط. يُظهر القليل من التفكير وإجراء بعض العمليات الحسابية السريعة أنه ليس من الممكن التحقق من كل مجموعة ممكنة من التبادلات. هناك الكثير من الاحتمالات. لنفترض أن هناك ٢٥٠ عقدة و٥٠٠٠ حافة. في المتوسط، تلتقي كل عقدة ﺑ ٢٠ حافة، وإذا استخدمنا عددًا تقريبيًّا، يمكننا أن نفترض أنها تقع في مقدمة ١٠ ونهاية ١٠. لنفترض أننا نريد عرض كل الدورات الثنائية الممكنة. اختَر عقدة واتبع الأسهم العشرة المنبثقة منها. ينتهي كل سهم عند نقطة عقدة، يخرج من كل منها ١٠ أسهم. سنحصل على دورة ثنائية إذا كانت العقدة النهائية هي العقدة الأولى نفسها. إذن هناك ١٠٠ احتمال يجب التحقُّق منها. ويتطلب العثور على دورة ثلاثية ١٠٠ × ١٠ = ١٠٠٠ احتمال من هذا النوع؛ أي يصبح لدينا ١١٠٠ احتمال لكل عقدة. مع وجود ٢٥٠ عقدة، يصبح لدينا الآن ٢٧٥ ألف احتمال يجب التحقق منه، مع تجاهل الاختصارات التي يمكن أن تقلل الإجمالي إلى حد ما، ولكن لا تغير المقدار العام.
ومع ذلك، كل ما فعلناه الآن هو عرض الدورات الثنائية والثلاثية الممكنة. إن أي تبادل هو «مجموعة» منهما، وعدد المجموعات ينمو على نحو أُسِّي مع عدد الدورات. في أكتوبر ٢٠١٧، كان الرسم البياني الموجه مكونًا من ٣٨١ دورة ثنائية و٣٨١٥ دورة ثلاثية. وعدد مجموعات الدورات الثنائية فقط هو ٢٣٨١، وهو عدد يتكون من ١١٥ رقمًا. وعدد مجموعات الدورات الثلاثية مكون من ١١٤٩ رقمًا. ولم نتحقق بعدُ من المجموعات التي لا تحتوي على أي تقاطعات.
وغنيٌّ عن القول أن هذه ليست الطريقة التي نستخدمها لحل المسألة. لكنها توضح أنه يجب ابتكار بعض الأساليب القوية جدًّا لفعل ذلك. سأضع فقط بعض الخطوط العريضة للأفكار ذات الصلة. يمكننا التفكير في هذه المسألة باعتبارها نوعًا معقَّدًا من مسألة البائع المتجول: إنها مسألة تحسين توافُقي مع قيود مختلفة نوعًا ما، وبعض الاعتبارات متشابهة. أهم اعتبار هو الوقت الذي يستغرقه حساب الحل الأمثل. يمكننا اختبار هذه الاستراتيجية من وجهة نظر التعقيد الحسابي، كما في الفصل الثالث.
بحلول نهاية عام ٢٠١٧، حددت هذه الأساليب الخاصة بنظرية الرسم البياني ما مجموعه ١٢٧٨ عملية زرع محتملة، ولكن أجريت ٧٦٠ فقط؛ لأن جميع أنواع المشكلات العملية يمكن أن تظهر في المراحل المتأخرة من التقييم، مثل اكتشاف أن أنواع الأنسجة ليست متوافقة كما كان يُعتقد، أو أن المتبرعين أو المتلقِّين مرضى لدرجة تمنعهم من الخضوع للعملية. ومع ذلك، فإن الاستخدام المنهجي لخوارزميات نظرية الرسم البياني لتنظيم عمليات زرع الكُلى بكفاءة يُعَد تحسنًا كبيرًا مقارنة بالطرق السابقة. كما يوجهنا أيضًا إلى السبيل الذي من خلاله يمكن إجراء تحسينات مستقبلية؛ لأنه من الممكن الآن حفظ الكلى خارج الجسم لفترات أطول دون أن تفقد صلاحيتها للزرع، لذلك لا يلزم إجراء جميع العمليات في أي سلسلة تبادل في اليوم نفسه. وهذا يجعل من الممكن التفكير في استحداث سلاسل أطول. وهذا سيؤدي إلى ظهور مسائل رياضية جديدة.
أنا لا أحاول منح أويلر الفضل من أجل استبصاره. فهو لم يكن لديه أدنى فكرة أن الحل البارع الذي قدمه من أجل لغز سخيف سيصبح يومًا مفيدًا في الطب. بالتأكيد ليس في مجال زرع الأعضاء، في وقت كانت العمليات الجراحية فيه عمليات وحشية شديدة الإيلام. لكني أريد أن أنسب له الفضل في رؤيته، حتى في تلك المدة السابقة، أن هذا اللغز يشير إلى شيء أعمق بكثير. لقد قال ذلك صراحة. ارجع إلى الاقتباس الوارد في بداية هذا الفصل. حيث يذكر أويلر بشكل متكرر «هندسة الموضع» باعتبارها السياق ذا الصلة. كانت العبارة اللاتينية الفعلية التي استخدمها تعني «تحليل الموضع». وقد نسب إلى لايبنتس هذا المصطلح، وضمنيًّا، إدراك أن مثل هذا المجال قد يكون مهمًّا. من الواضح أنه كان مفتونًا بفكرة المجال الهندسي الذي لا يدور حول الأشكال الإقليدية التقليدية. إنه لا يرفضها لأنها غير تقليدية، بل العكس هو الصحيح تمامًا. إنه ليس متمسكًا بعنادٍ بالتقليد. ويسعده أن يضيف مساهمته الصغيرة في تطوير مثل هذا المجال. إنه مستمتع بذلك.
لقد تحقق حلم لايبنتس في القرن العشرين، مع بعض التطورات المهمة في القرن التاسع عشر. إننا نسميه الآن «الطوبولوجيا»، وسأعرض عليك بعض استخداماته الجديدة في الفصل الثالث عشر. لا تزال نظرية الرسم البياني مرتبطة بالطوبولوجيا، ولكنها تطورت بشكل أساسي عبر خطوط منفصلة. تعتبر المفاهيم مثل وزن حافةٍ ما عددية وليست طوبولوجية. لكن فكرة أنه يمكنك استخدام الرسوم البيانية لنمذجة أنظمة متفاعلة معقدة، ولحل مسائل التحسين، يُنسب الفضل فيها مباشرة إلى أويلر، وهو يحاول إيجاد حل لنوع جديد من المسائل «لأنها أسرت خياله»، ويبتكر طُرقًا خاصة به لفعل ذلك. لقد كانت تلك المسألة تعود لمدينة سان بطرسبرج، بروسيا، في عهد الإمبراطورة كاثرين الأولى، منذ ما يقرب من ثلاثة قرون. إن كل من يحصل على عملية زرع كلية، في المملكة المتحدة أو أي بلد آخر يستخدم تقنيات نظرية الرسم البياني لتخصيص الأعضاء على نحوٍ أكثر فعالية، يجب أن يسعد بأنه فعل ذلك.