الفصل السادس

مستوى الأعداد

لقد وجدَت «الروح المقدسة» منفذًا ساميًّا في أعجوبة التحليل تلك، بشارة العالم المثالي تلك، ذلك الشيء الذي بين حالة الوجود وحالة العدم، والذي نسميه الجذرَ التخيُّلي للوحدة السالبة.

جوتفريد فيلهلم لايبنتس، دورية «أكتا إروديتوروم»، ١٧٠٢

نحن الآن في خضم ثورة كمية ثانية. لقد أعطتنا الثورة الكمية الأولى قواعد جديدة تحكم الواقع المادي. وستأخذ الثورة الكمية الثانية هذه القواعد وتستخدمها لتطوير تقنيات جديدة.

جوناثان داولينج، وجيرارد ميلبرن، دورية «فيلوسوفيكال ترانزاكشانز أوف ذا رويال سوسايتي»، ٢٠٠٣

كان هناك الكثير من النشاط في الجزء الخاص بنا من مدينة كوفنتري في الأشهر الأخيرة. كانت الشاحنات الصغيرة البيضاء متوقفة في كل مكان على جانب الطريق، وغالبًا ما ترافقها شاحنات كبيرة محملة بالمجارف وعربات اليد. وأخذت حفارات صغيرة تجول الشوارع على عجلاتها المجنزَرة، لتحفر حفرًا على طول الأرصفة، وعبر الطرق، وداخل الحدائق، وأخذ الأسفلت الذي وُضع حديثًا بعد هذا الحفر يتلوَّى وسط المكان مثل آثارٍ لزجة خلفتها حلزونات ضخمة. وظهر رجال يرتدون سترات أعطال، ويبدو أنهم قد ابتلعتهم فتحات في الأرض؛ حيث انفتحت أغطية غرف التفتيش. تُزين لفائف الكابلات حواف الطريق وتستند على الأسيجة الشجرية، في انتظار أن تُدخَل في غرف التفتيش. ويجلس المهندسون في حيرة من أمرهم تحت المظلات وسط المطر، وهم يعبثون بآلاف الأسلاك المرمَّزة بالألوان داخل الصناديق المعدنية الكبيرة.

تحمل الشاحنات الصغيرة رسالة على جانبها تشرح كل هذا النشاط. إنها تقول: «شبكة ألياف واسعة النطاق فائقة السرعة في منطقتك».

لقد زُودت مراكز المدن في المملكة المتحدة بأعجوبةِ الاتصالات الحديثة هذه منذ سنوات، لكن منزلنا يقع في منطقة ريفية نائية. وقد رفضت إحدى الشركات المتخصصة في هذا المجال ذات مرة القدوم إلينا لأنها كانت بعيدة للغاية عنا؛ على بعد أربعة أميال. ولكي نكون منصفين، لا تبعد حدود المدينة سوى بضع مئاتٍ من الياردات. ويعتبر تزودينا بالكابلات أكثر تكلفة، كما أن الكثافة السكانية أقل؛ لأن أغلب المنطقة فيما يتجاوز الحدود عبارة عن حقول للمزارعين. لذا، فلا يوجد توسع سهل في هذا الاتجاه بتكلفة بسيطة. ولم نكن نمثل فرصة استثمارية جذابة. ولكن أخيرًا، بعد أن بدأت الحكومة في الضغط على شركات الاتصالات، أصبحت هناك دفعة قوية لتوصيل وصلات الألياف الضوئية لجميع المناطق الحضَرية ومعظم المناطق الريفية. وبدلًا من المراقبة اليائسة للمناطق ذات الكثافة السكانية العالية وهي تُمَد مرارًا وتكرارًا بخدمات أسرع من ذي قبل، لأن هذه المناطق أكثر ربحية، أصبحت بقية البلاد أخيرًا تسعى للَّحاق بالركب. أو، على الأقل، تسعى ألا تتخلف كثيرًا عن الركب.

في عصر تحولت فيه كل الأنشطة تقريبًا إلى الإنترنت، أصبحت الشبكة السريعة الواسعة النطاق ضرورة أساسية بعد أن كانت رفاهية. ربما هي ليست أمرًا حيويًّا مثل الماء أو الكهرباء، ولكنها على الأقل ضرورية مثل الهاتف. فقد حولت الإلكترونيات المتقدمة التي تقود ثورة الكمبيوتر والاتصالات العالمية السريعة عشرينيات هذا القرن إلى عالم كان سيبدو غريبًا تمامًا في تسعينيات القرن العشرين. وهي فقط في بداياتها. وتؤدي زيادة العرض إلى نُمو هائل في الطلب. وتختفي بسرعة الأيام التي كانت فيها خطوط الهاتف مصنوعة من النحاس وتنقل المحادثات فقط، وحتى تلك كانت لا تزال تعمل، في السنوات الأخيرة، بسبب بعض الحيل الإلكترونية والرياضية الماهرة لزيادة السعة. أما اليوم، فتحمل كابلات الاتصالات بياناتٍ أكثر بكثير من مجرد المحادثات الهاتفية. لهذا السبب برزت بشدة الألياف الضوئية.

وفي غضون بضعة عقود، ستصبح الألياف أمرًا عفا عليه الزمن مثل الحصان والعربة. إن التطورات المستقبلية، التي تسمح بنقل كميات أكبر بكثير من البيانات بسرعة مذهلة، هي في طور التنفيذ. وبعضها موجود بالفعل. إن الفيزياء الكلاسيكية للكهرباء والمغناطيسية ستبقى أساسية، لكن المهندسين الإلكترونيين يتجهون بشكل متزايد إلى عالم الكم الغريب لبناء الجيل التالي من أجهزة الاتصالات. إن الفيزياء الكلاسيكية وميكانيكا الكم اللتَين تعتمد عليهما كل هذه التطورات تقومان على أحد أكثر الابتكارات الرياضية غرابةً على الإطلاق. وهو ابتكار تعود جذوره إلى اليونان القديمة، وقد اكتسب بعض التقدير خلال عصر النهضة الإيطالية، ووصل إلى مرحلة الازدهار الكامل في القرن التاسع عشر، عندما استحوذ بسرعة على معظم المجالات الرياضية. وقد استُخدم على نطاق واسع قبل زمن طويل من الفهم الكامل لماهيته.

وأنا أسميه ابتكارًا وليس اكتشافًا لأنه لم يُستلهم من العالم الطبيعي. إذا كان هناك في مكان ما في انتظار العثور عليه، إذن ذلك المكان هو مكان غريب جدًّا، إنه عالم الخيال البشري والتزامات المنطق والتركيب. لقد كان نوعًا جديدًا من الأعداد، جديدًا للغاية؛ لدرجة أنه أطلق عليه وصف «تخيُّلي». لا يزال هذا الوصف قيد الاستخدام اليوم، وتظل الأعداد التخيلية غريبة تمامًا على معظمنا، على الرغم من أن حياتنا تعتمد عليها بشكل متزايد.

لقد سمعت عن خط الأعداد.

والآن تعرَّف على مستوى الأعداد.

•••

لفهم كيفية حدوث هذا التطور الغريب وسببه، يجب علينا أولًا إلقاء نظرة على أنواع الأعداد التقليدية. إن الأعداد عادية جدًّا، ومألوفة جدًّا، لدرجة أنه من السهل أن نغفل تعقيداتها وتفاصيلها. نعلم أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة، وخمسة في ستة يساوي ثلاثين. لكن ما هي «اثنان» و«أربعة» و«خمسة» و«ستة» و«ثلاثون»؟ إنها ليست الكلمات؛ إذ تستخدم اللغات المختلفة كلمات مختلفة لنفس الأعداد. إنها ليست الرموز ٢، و٤، و٥، و٦، و٣٠؛ فالثقافات المختلفة تستخدم رموزًا مختلفة. في الترميز الثنائي المستخدم في الحَوسَبة، تُمثَّل هذه الأعداد كالتالي: ١٠ و١٠٠ و١٠١ و١١٠ و١١١١٠. على أي حال، ما الرمز؟

كان الأمر أكثر بساطة عندما كان يُنظر إلى عدد ما على أنه وصف مباشر للطبيعة. إذا كنت تمتلك عشرة خراف، فإن العدد عشرة كان بيانًا بعدد الخراف التي تمتلكها. إذا بعت أربعة منها، فسيتبقى لديك ستة. كانت الأعداد في الأساس أداة محاسبة. ولكن عندما بدأ علماء الرياضيات في استخدام الأعداد بطرق أعقد، بدأت هذه النظرة البرجماتية تبدو مهتزة إلى حد ما. إذا كنت لا تعرف ما هي الأعداد، فكيف يمكنك التأكد من أن حساباتك لن تتعارض أبدًا بعضها مع بعض؟ إذا عدَّت الفلاحة نفس قطيع الخراف مرتين، فهل ستحصل بالضرورة على نفس الإجابة؟ وهنا، ماذا نعني ﺑ «العد»؟

في القرن التاسع عشر، خطرت على الأذهان أسئلة نيِّقة من هذا النوع، لأن علماء الرياضيات كانوا قد وسَّعوا مفهوم الأعداد عدة مرات. وتضمنت كل نسخة جديدة ما حدث من قبل، لكن الارتباط بالواقع كان يصبح غير مباشر بشكل متزايد. أول ما ظهر في المشهد كانت الأعداد «الطبيعية» أو «الصحيحة» أو أعداد «العد» ١، ٢، ٣، وهكذا. بعد ذلك، ظهرت الكسور مثل ١ / ٢ أو ٢ / ٣ أو ٣ /٤. وفي مرحلةٍ ما تسلل الصفر لينضم إليها. حتى تلك المرحلة، كان التناظر مع الواقع مباشرًا إلى حد ما؛ خذ برتقالتين ثم ثلاث برتقالات أخرى، وعُدَّها للتحقق من أن المجموع هو خمس برتقالات. بمساعدة سكين المطبخ، يمكنني أن أريكم نصف برتقالة. ولكن ما هو العدد صفر من البرتقالات؟ إنها اليد الفارغة.

حتى هنا، هناك صعوبات. نصف برتقالة ليست بالضبط «عدد» من البرتقالات. إنها ليست برتقالة على الإطلاق، وإنما جزء من برتقالة. هناك العديد من الطرق لقطع برتقالة إلى نصفين، ولا تبدو جميعها متشابهة. إن الأمر أبسط مع أطوال الخيوط، بشرط أن نقطعها بالطريقة الواضحة ولا نفعل شيئًا سخيفًا مثل تقسيم الخيوط بالطول. الآن كل شيء بسيط مرة أخرى. يكون لقطعة من الخيط نصف طول قطعة أخرى، إذا رُبطت نسختان من القطعة الأولى معًا، وكانا لهما طول القطعة الثانية نفسه. تعمل الكسور على أفضل نحوٍ عند «قياس» الأشياء. وقد وجد اليونانيون القدماء سهولة في التعامل مع القياسات مقارنةً برموز الأعداد؛ لذلك عكس إقليدس هذه الفكرة. فبدلًا من استخدام عددٍ لقياس طول خط، استخدم الخط لتمثيل العدد.

الخطوة التالية، الأعداد السالبة، أكثر تعقيدًا؛ لأننا لا نستطيع أن نجسد لأي شخص العدد سالب أربع برتقالات. الأمر أسهل باستخدام المال، حيث يمكن تفسير العدد السالب على أنه دَين. فُهم كل هذا في الصين حوالي عام ٢٠٠ بعد الميلاد، وكان أول مصدر معروف هو كتاب «تسعة فصول عن الفن الرياضي»، لكن الفكرة كانت أقدم بلا شك. عندما ترتبط الأعداد بالقياسات، تنشأ تفسيرات أخرى للقيم السالبة على نحو طبيعي. على سبيل المثال، يمكن تفسير درجة الحرارة السالبة على أنها درجة حرارة أقل من الصفر، في حين أن درجة الحرارة الموجبة تكون أعلى من الصفر. في بعض الظروف، يقع القياس الموجب على يمين نقطة ما، بينما يقع القياس السالب على يسارها، وهكذا. إن السالب هو عكس الموجب.

في الوقت الحاضر، يثير علماء الرياضيات ضجة كبيرة حول الفروق بين هذه الأنواع من أنظمة الأعداد، ولكن بالنسبة للمستخدمين العاديين، فإنها جميعًا صور مختلفة للموضوع نفسه: الأعداد. يسعدنا مواكبة هذا العرف الساذج إلى حد ما؛ لأن قواعد الحساب نفسها تعمل في كل هذه الأنظمة، ولأن كل نوع جديد من الأعداد يوسع فقط النظام القديم دون تغيير ما نعرفه بالفعل. إن ميزة توسيع مفهوم الأعداد تكمن في أن كل تمديد يجعل من الممكن إجراء «عمليات حسابية» كانت مستحيلة في السابق. في الأعداد الصحيحة لا يمكننا قسمة ٢ على ٣؛ لكننا نستطيع ذلك في الكسور. في الأعداد الصحيحة لا يمكننا طرح ٥ من ٣؛ في الأعداد السالبة نستطيع. كل هذا يجعل الرياضيات «أكثر بساطة»؛ لأنه يمكنك التوقف عن القلق بشأن ما إذا كانت بعض العمليات الحسابية مسموحًا بها أم لا.

•••

يمكن أن تقسم الكسور الأشياء كما نرغب. يمكننا تقسيم المتر إلى ملِّيمترات، أي واحد على ألف من قيمته، أو ميكرومترات، أي واحد على مليون من قيمته، أو نانومترات، أي واحد على مليار من قيمته، وهكذا. إن المسميات تَنفَد في هذا الصدد قبل وقت طويل من نفاد الأصفار. وعمليًّا، هناك دائمًا أخطاء صغيرة في القياس؛ لذا فإن الكسور هي كل ما نحتاج إليه. في الواقع، يمكننا القيام بمعظم الحسابات فقط باستخدام الكسور العشرية؛ انظر إلى أي آلة حاسبة إلكترونية. ولكن للأغراض النظرية الحيوية، وللحفاظ على ترابط وجمال الرياضيات، ثبت أن الكسور غير كافية.

اعتقدت الطائفة الفيثاغورية اليونانية القديمة أن الكون يعمل على أساس الأعداد، وهي وجهة نظر لا تزال سائدة في الفيزياء الحديثة، وإن كان ذلك بطريقة أكثر تعقيدًا. كانت الأعداد الوحيدة التي تعرَّفوا عليها هي الأعداد الصحيحة والكسور الموجبة. لذلك صُدِمت منظومة معتقداتهم بشدة عندما اكتشف أحدهم أن طول قُطر المربع لا يمكن تمثيله بكسرٍ من طول ضِلعه. أدى هذا الاكتشاف إلى ما يُسمَّى بالأعداد «غير النسبية»، وهي في هذه الحالة الجذر التربيعي للعدد ٢. وفي تطور تاريخي معقَّد يمتد من الصين في القرن الرابع قبل الميلاد إلى سيمون ستيفين في عام ١٥٨٥، جرى تمثيل هذه الأعداد على هيئة أعداد عشرية:

ولأن هذا العدد غير نسبي، يجب أن يستمر إلى «ما لا نهاية»، دون الانتهاء بعدد من الأصفار. لا يمكنه حتى تكرار مجموعة الأرقام نفسها مرارًا وتكرارًا، مثل ١ / ٣، الذي يصبح بالصيغة العشرية ٠٫٣٣٣٣٣٣٣٣٣…. إنه «عدد عشري غير منتهٍ». لا يمكننا أبدًا كتابته بالكامل، ولكن من الناحية المفاهيمية يمكننا التظاهر بأن هذا ممكن؛ لأنه من حيث المبدأ يمكننا كتابة أكبر عدد من أرقامه مثلما نرغب.

بغض النظر عن الحاجة إلى اللجوء إلى عملية غير منتهية، فإن الأعداد العشرية غير المنتهية لها خواص رياضية ممتعة للغاية، وعلى وجه الخصوص هي توفِّر تمثيلات «دقيقة» للقياسات الهندسية مثل ، التي لولا ذلك لما كانت ستصبح لها قِيَم عددية على الإطلاق. وأصبحت الأعداد العشرية غير المنتهية تُسمى أعدادًا «حقيقية»؛ لأنها كانت قياسات (مثالية) للقياسات الحقيقية، مثل الطول أو المساحة أو الحجم أو الوزن. ويمثل كل رقم لاحق مضاعف قياس محدد يُقسم على ١٠ في كل خطوة. يمكننا أن نتخيل استمرار هذا الإجراء إلى ما لا نهاية، مع عمليات القسمة الفرعية التي تُصبح أدقَّ؛ وهذا يتيح لنا تمثيل العدد المعنِي بدقة عالية. إن الفيزياء الحقيقية ليست كذلك على المستوى الذَّرِّي، والفراغ نفسه على الأرجح ليس كذلك، لكن الأعداد الحقيقية تمثل الواقع بشكل جيد للغاية في العديد من الحالات.

•••

تاريخيًّا، واجهت الأنواع الجديدة من الأعداد عمومًا مقاومة عند اقتراحها لأول مرة. ثم، عندما اتضحت فائدتها، وأصبحت استخداماتها راسخة، تحمَّس الناس لها. وفي غضون جيل واحد، اختفت معظم المقاومة؛ إذ لو نشأت على استخدام شيء ما بانتظام، فسيبدو أنه طبيعي تمامًا. يمكن للفلاسفة أن يتجادلوا حول ما إذا كان الصفر عددًا، وما زالوا يفعلون ذلك، لكن الناس العاديين استخدموه عند الحاجة وتوقفوا عن التساؤل عن ماهيَّته. حتى علماء الرياضيات فعلوا ذلك، رغم شعورهم بالذنب من حين لآخر. إن التسميات كانت تشي بالتحفظات المبدئية تجاه هذه الأعداد: كانت الأعداد الجديدة سالبة أو غير نسبية؛ ويعني مقابلها الإنجليزي غير منطقية.

ومع ذلك، حتى بين علماء الرياضيات، تسبَّبت بعض الابتكارات في حدوث مشكلات استمرت لعدة قرون. إن ما أثار الجدل بشدة «فعلًا» هو تقديم ما يُسمَّى بالأعداد «التخيُّلية». حتى الاسم (الذي لا يزال مستخدمًا لأسباب تاريخية فقط) يشير إلى درجة من الحيرة، فهو تلميح إلى أن هذه الأعداد كانت سيئة السمعة إلى حدٍّ ما. مرة أخرى، كانت القضية الأساسية هي الجذور التربيعية.

بمجرد أن وسَّعنا نظام الأعداد ليشمل الأعداد العشرية غير المنتهية، يصبح لكل عدد موجب جذر تربيعي. في الواقع، إن له اثنين: أحدهما موجب، والآخر سالب. على سبيل المثال، العدد ٢٥ له جذران تربيعيان، +٥ و−٥. هذه الحقيقة الغريبة هي نتيجة لقاعدة «سالب في سالب يساوي موجبًا»، التي غالبًا ما تحير الناس عندما يلتقون بها لأول مرة. فالبعض لا يقبلها أبدًا. ومع ذلك، فهي نتيجة بسيطة لمبدأ أن الأعداد السالبة يجب أن تخضع لنفس القواعد الحسابية مثل تلك الموجبة. يبدو هذا معقولًا، لكنه يعني ضِمنًا أن «الأعداد السالبة ليست لها جذور تربيعية». على سبيل المثال، العدد −٢٥ ليس له جذر تربيعي. يبدو هذا غير عادل، بالنظر إلى أن نظيره +٢٥ لديه جذران تربيعيان. لذلك افترض علماء الرياضيات وجود عالم جديد من الأعداد، فيه الأعداد السالبة لها جذور تربيعية. كما افترضوا ضمنيًّا أنه في هذا العالم الموسَّع، تستمر القواعد المعتادة للحساب والجبر في التطبيق. ثم أصبح من الواضح أن هناك حاجة إلى عدد واحد جديد على نحو جوهري؛ وهو الجذر التربيعي لسالب واحد. ومنح هذا الشيء بالغ الحداثة الرمز الذي يستخدمه الآن الجميع باستثناء المهندسين (إنهم يستخدمون j)، وسِمَته الرئيسية هي
والآن يسود الإنصاف، وأصبح لكل عدد، موجب أو سالب، جذران تربيعيان.1 باستثناء ٠؛ لأن −٠ يساوي +٠، لكن الصفر غالبًا ما يكون استثنائيًّا، لذلك لا أحد يقلق بشأن ذلك.2

يمكن إرجاع فكرة أن العدد السالب قد يصبح له جذر تربيعي معقول إلى عالم الرياضيات والمهندس الإغريقي هيرون الإسكندري، ولكن الخطوات الأولى نحو فهم هذه الفكرة قد اتُّخذت بعد ألف وخمسمائة عام في عصر النهضة بإيطاليا. حيث ذكر جيرولامو كاردانو الاحتمال في كتابه «الفن الكبير» (الذي يُعد أحد أوائل كتب الجبر) في عام ١٥٤٥، لكنه استبعد الفكرة باعتبارها لا طائل من ورائها. ثم حدث تطوُّر مثير في عام ١٥٧٢، عندما كتب عالم الجبر الإيطالي رافائيل بومبيلي قواعد لإجراء العمليات الحسابية بجذر تربيعي افتراضي للعدد سالب واحد، ووجد حلولًا بأعداد حقيقية لمعادلة تكعيبية باستخدام صيغة جمعت «عددين» معًا من غير الممكن أن يكونا عددين حقيقيين. ألغى العددان المستحيلان أحدهما الآخر بشكل ملائم، تاركَين الإجابة الصحيحة؛ والحقيقية. هذه القطعة الجريئة من الحيل الغامضة لفتت انتباه علماء الرياضيات؛ لأنه يمكن التحقق من هذه الحلول مباشرة، وقد كانت صحيحة.

ومن أجل تقبُّل الأمر على نحو أسهل، قيل إن الأعداد الجديدة «تخيلية»، على عكس الأعداد «الحقيقية» التقليدية التي يمكن استخدامها لقياس الأشياء الحقيقية. وقد منحت طريقة التسمية هذه للأعداد الحقيقية مكانةً خاصة غير مستحقة، وأدت إلى الخلط بين مفهوم رياضي وطريقة قياسية لاستخدامه. كما سنرى، فإن للأعداد التخيلية استخدامات وتفسيرات منطقية تمامًا، ولكن ليس كقياسات للكميات الفيزيائية القياسية، مثل الطول أو الكتلة. كان بومبيلي أول شخص يثبت أن الأعداد التخيلية — التي قد تبدو طبيعتها محيرة — يمكن استخدامها لحل مشاكل حقيقية تمامًا. كان الأمر كما لو أن أداة نجَّارٍ غريبة، لم تكن موجودة أصلًا، يمكن بطريقة ما التقاطها واستخدامها لصنع كرسي عادي تمامًا. بالطبع، كانت أداة مفاهيمية، لكن مع ذلك، كان الإجراء محيرًا. وما كان محيرًا على نحو أكبر هو الدليل على فاعليتها.

وعلى نحو إعجازي، استمرت في النجاح، في نطاق دائم الاتساع من التطبيقات. وبحلول القرن الثامن عشر، كان علماء الرياضيات يستخدمون هذه الأعداد الجديدة بحُرية. حيث قدَّم أويلر الرمز القياسي كجذر تربيعي للعدد سالب واحد في عام ١٧٧٧. أدى الجمع بين الأعداد الحقيقية والتخيُّلية إلى وجود نظام جميل وذاتي الاتِّساق يُعرف باسم الأعداد المركَّبة؛ مركبة هنا بمعنى «مكونة من عدة أجزاء»، وليس «معقدة». وتبدو صيغتها الجبرية كالتالي: ، حيث و عددان حقيقيان. يمكنك جمعها وطرحها وضربها وقسمتها وأخذ الجذور التربيعية والجذور التكعيبية لها وما إلى ذلك، دون ترك نظام الأعداد المركبة.
يتمثَّل العيب الرئيسي لها في أنه من الصعب العثور على تفسير لها في العالم الحقيقي، أو، على الأقل، هذا ما اعتقده الجميع في ذلك الوقت. ليس من الواضح كيف يبدو قياس يساوي ، على سبيل المثال. احتدمت المناقشات شِبه الفلسفية حول شرعية الأعداد المركبة، حتى اكتشف علماء الرياضيات كيفية استخدامها لحل مسائل في الفيزياء الرياضية. ونظرًا لأنه كان يمكن التحقق من الحلول بوسائل أخرى، ويبدو دائمًا أنها صحيحة، فقد أُهملت النقاشات وسط الاندفاع نحو استغلال هذه الأدوات الجديدة الفعَّالة.

•••

لمدة طويلة، حاول علماء الرياضيات تبرير الأعداد التخيلية من خلال اللجوء إلى «مبدأ الاتِّساق» وهو قاعدة حاسمة، لكنها غامضة، والذي يدَّعي على نحو أساسي أن أي قاعدة جبرية تصلح في الأعداد الحقيقية يجب أن تصلح تلقائيًّا في الأعداد المركبة أيضًا. وفي انتصار للأمل على المنطق، كان الدليل الرئيسي على هذا الادعاء هو أنه، عند التطبيق العملي، كان يُعطي استخدام الأعداد المركبة إجابات صحيحة. باختصار، لقد نجحت بسبب فاعليتها، والدليل على صحتها هو أداؤها.

fig21
مستوى العدد المركب.

فقط بعد وقت طويل تمكن علماء الرياضيات من تحديد كيفية تمثيل الأعداد المركبة. في الواقع، تمامًا كما هو الحال مع الأعداد السالبة، إن لها عدة تفسيرات واقعية مختلفة. سنرى بعد قليل أنه في الهندسة الكهربائية، يدمج العدد المركب مقدار الإشارة المتذبذِبة (أي الحجم الأقصى لها) مع طورها، في حِزمةٍ واحدة مدمَجة وملائمة. يحدث الشيء نفسه في ميكانيكا الكم. وعلى نحو أكثر واقعية، مثلما تمثل الأعداد الحقيقية على هيئة نقاط على خط ما، فإن الأعداد المركبة تُمثَّل على هيئة نقاط في مستوًى ما. إن الفكرة بهذه البساطة. وكما هو الحال مع العديد من الأفكار البسيطة، جرى تجاهلها لعدة قرون.

يمكن ملاحظة أول مَلمَح لهذا التطور السريع في عام ١٦٨٥ في كتاب «الجبر» لجون واليس. لقد وسع التمثيل القياسي للأعداد الحقيقية على شكل خط ليضم الأعداد المركبة. افترض أن العدد هو . إن «الجزء الحقيقي» هو مجرد عدد حقيقي قياسي، لذا يمكننا تحديد موقعه على الخط الحقيقي المعتاد، الذي يمكن اعتباره خطًّا ثابتًا في مستوًى ما. المكون المتبقي هو عدد تخيلي، لذلك لا يتطابق مع أي نقطة على هذا الخط. ومع ذلك، فإن المعامل حقيقي؛ لذا يمكننا رسم خط طوله في ذلك المستوى، بزاوية قائمة على الخط الحقيقي. تمثل النقطة في المستوى التي جرى الحصول عليها بهذه الطريقة . نرى اليوم على الفور أن هذا يمثل ذلك العدد كنقطة في المستوى ذي الإحداثيين ، ولكن في ذلك الوقت لم يلقَ اقتراح واليس قبولًا. يعود الفضل التاريخي عادةً في توضيح ذلك إلى جان-روبير أرجان، الذي نشر هذا في عام ١٨٠٦، لكنَّ مسَّاحًا دنماركيًّا غير معروف، اسمه كاسبار فيسيل، كان قد سبقه في نشر الفكرة عام ١٧٩٧. لكن كانت الورقة البحثية الخاصة بفيسيل باللغة الدنماركية، ولم تدخل إلى دائرة الضوء إلا بعد أن ظهرت لها ترجمة فرنسية بعد قرن من الزمان. وقدم كلاهما تركيبات هندسية على النمط الإقليدي توضح كيفية جمع وضرب أيِّ عددين مركبين.

وفي النهاية، في عام ١٨٣٧، أشار عالم الرياضيات الأيرلندي ويليام روان هاميلتون بوضوح إلى أنه يمكنك تمثيل عدد مركب كزوج من الأعداد الحقيقية؛ على هيئة إحداثيَّي نقطة في المستوى:

العدد المركب = (العدد الحقيقي الأول، العدد الحقيقي الثاني)

ثم أعاد كتابة التركيبات الهندسية كصيغتين لجمع هذه الأزواج وضربها. سأعرضهما لكم هنا لأنهما بسيطتان وأنيقتان للغاية:

قد يبدو هذا غامضًا بعض الشيء، لكنه يؤدي المهمة بشكل جميل. تتصرف الأعداد التي على شكل تمامًا مثل الأعداد الحقيقية، والعدد الغامض هو الزوج ؛ هذا هو اقتراح واليس بأن الأعداد التخيلية تصنع زوايا قائمة مع الأعداد الحقيقية، ويُعبَّر عنها عن طريق الإحداثيات. وتخبرنا صيغتا هاميلتون أن

الذي حددناه بالفعل بالعدد الحقيقي −١. هكذا، تم إنجاز المهمة. بطبيعة الحال، اتَّضح بعد ذلك أن جاوس قد ذكر الفكرة نفسها في رسالة إلى فولفجانج بوياي في عام ١٨٣١، لكنه لم ينشرها.

ربما أن ما لم يقدره جاوس تمامًا، لكن هاميلتون فعل، هو أن هاتين الصيغتين تسمحان لنا أيضًا بإثبات أن الأعداد المركبة تخضع لجميع قواعد الجبر المعتادة، التي كانت مرتبطة سابقًا بالأعداد الحقيقية فقط. إنها القواعد التي من أمثلتها قانون الإبدال ، وقانون التجميع ، والتي يعتبرها معظمُنا من المسلَّمات عندما نتعرف على الجبر لأول مرة. لإثبات أنها تنطبق أيضًا على الأعداد المركبة، استبدل بالرموز أزواجًا من الأعداد الحقيقية، وطبق صيغتَي هاميلتون، وتحقق من أن كلا الجانبين يعطيان الزوج نفسه باستخدام القواعد الجبرية التي تتبعها الأعداد الحقيقية. إنه أمر سهل للغاية. ومن المفارقات أنه بحلول الوقت الذي توصل فيه جاوس وهاميلتون إلى المنطق الأساسي للفكرة على هيئة أزواج من الأعداد «الحقيقية» المعتادة، كان علماء الرياضيات قد استفادوا كثيرًا من الأعداد المركبة؛ لدرجة أنهم فقدوا اهتمامهم بإعطائها معنًى منطقيًّا محددًا.

كان من بين أهم هذه الاستخدامات مسائل في الفيزياء، مثل المجالات المغناطيسية والكهربائية، والجاذبية، وتدفُّق الموائع. ومن اللافت للنظر أن بعض المعادلات الأساسية للتحليل المركب (حساب التفاضل والتكامل مع الدوال المركبة) كانت مطابقة على نحو دقيق للمعادلات القياسية للفيزياء الرياضية. لذا يمكننا حل المعادلات الفيزيائية عن طريق استخدام حساب التفاضل والتكامل مع أعداد مركبة. كان القيد الرئيسي هو أن الأعداد المركبة تقع في مستوًى. لذلك كان يجب أن تعمل الفيزياء أيضًا في مستوًى، أو أن تكون مكافئة لمسألة ما في مستوًى.

•••

تعطي الأعداد المركبة المستوى تركيبًا جبريًّا منهجيًّا يتواءم على نحو جيد مع الهندسة، ومن ثَم أيضًا مع الحركة. يمكننا اعتبار بقية هذا الفصل بمنزلة تمهيد لمفاهيم مماثلة في الهندسة الثلاثية الأبعاد، التي هي موضوع الفصل التالي. ستكون هناك بعض الصيغ — فهذا جبر، في نهاية المطاف — لكنني لست أدري كيف أتجنبها دون أن يبدو كل شيء غامضًا إلى حد ما.

عندما نمثل عددًا مركبًا بالصيغة ، حيث و عددان حقيقيان، فإن المفهوم الهندسي الأساسي ذا الصلة هو نظام الإحداثيات الكارتيزية، المسمَّى على اسم رينيه ديكارت، الذي هو عبارة عن محورين عموديَّين أحدهما على الآخر؛ الجزء الحقيقي (المحور الأفقي) والجزء التخيلي (المحور الرأسي). ومع ذلك، هناك نظام إحداثيات مهم آخر في المستوى، يُسمَّى الإحداثيات القطبية، وهو يمثل نقطةٍ ما كزوج حيث عدد حقيقي موجب و زاوية. يرتبط هذان النظامان ارتباطًا وثيقًا: حيث هي المسافة من نقطة الأصل ٠ إلى ، و هي الزاوية بين المحور الحقيقي والخط الذي يربط نقطة الأصل بالعدد .
fig22
هندسة الإحداثيات الكارتيزية والقطبية للمستوى المركب. هنا cos وsin هما الدالَّتان المثلثيَّتان، جيب التمام والجيب. (يحدد الشكل هاتين الدالتين بشكل فعَّال.)
تعتبر الإحداثيات الكارتيزية مثالية لوصف كيفية انتقال العناصر دون تدوير. إذا أُزيحت نقطة أفقيًّا بمقدار وحدة، وعموديًّا بمقدار وحدة، فإنها تنتقل إلى . إذا وسعنا هذه الفكرة إلى مجموعة من النقاط، مع وجود قائمة من القيم ﻟ و ، فإن المجموعة بأكملها تنتقل أفقيًّا بمقدار وحدة، وعموديًّا بمقدار وحدة، إذا أضفنا عددًا مركبًا ثابتًا لكل نقطة في المجموعة. علاوة على ذلك، هذه الحركة تكون «متماسكة»؛ حيث يتحرك العنصر بأكمله دون أن يتغير شكله أو حجمه.
نوع آخر مهم من الحركة المتماسكة هو التدوير. مرة أخرى، لا يغير العنصر شكله أو حجمه، ولكن اتجاهه يتغير، وهو يدور بزاوية ما حول نقطة مركزيةٍ ما. الملاحظة الرئيسية هنا هي أن الضرب في يؤدي إلى دوران النقاط بزاوية قائمة، حول مركز عند نقطة الأصل. هذا هو السبب في أن المحور ، الذي يمثل «الجزء التخيُّلي» من العدد ، يصنع زاوية قائمة مع المحور ، والذي يمثل «الجزء الحقيقي» . (وعلى الرغم من الاسم، فإن الجزء التخيلي هو عدد حقيقي؛ إنه «يصبح» تخيليًّا عندما نضربه في لنحصل على .)
إذا أردنا تدوير مجموعة من النقاط بزاوية قائمة، فإننا نضرب كل نقطة في المجموعة في . وبشكل عام، إذا أردنا تدوير مجموعة من النقاط بزاوية ما ، فإن علم حساب المثلثات يخبرنا بأنه يتعين علينا ضربها جميعًا في العدد المركب
اكتشَفَ أويلر علاقة مهمة وجميلة بين هذا التعبير والنظير المركب للدالَّة الأُسِّية ، حيث تساوي ٢٫٧١٨٢٨ … الذي هو أساس اللوغاريتم الطبيعي. يمكننا تعريف الدالة الأسية لعدد مركب بحيث يصبح لها الخصائص الأساسية نفسها مثل الدالة الأُسية الحقيقية، وتتفق معها عندما يكون عددًا حقيقيًّا. وقد تبين أن
إحدى الطُّرق الرائعة لمعرفة سبب حدوث ذلك هي استخدام المعادلات التفاضلية: لقد أوضحتها في الملاحظات3 لأنها متخصصة للغاية.
fig23
تحريك (الرسم الأيمن) وتدوير (الرسم الأيسر) النقطة يضبط PIG باستخدام أعداد مركبة.

عند تمثيل الإحداثيات القطبية لعدد مركب، تمثل الإحداثيات النقطة كما يلي:

وهي صيغة بسيطة ومختصرة.

يتجلَّى جمال الأعداد المركبة، فيما يتعلق بالهندسة، في أن لها في الوقت نفسه نظامَي إحداثيات طبيعيَّين، الكارتيزي والقطبي. إن لتحريك عنصر ما صيغة بسيطة في الإحداثيات الكارتيزية، ولكن في الإحداثيات القطبية الأمر معقَّد. وتدوير عنصرٍ ما له صيغة بسيطة في الإحداثيات القطبية، ولكن في الإحداثيات الكارتيزية الأمر معقد. إذن عند استخدام أعدادٍ مركبة، لديك حرية اختيار التمثيل الذي يناسب أغراضك على أفضل نحو.

يمكن استغلال هذه الميزات الهندسية لجبر الأعداد المركبة في رسومات الكمبيوتر الثنائية الأبعاد، ولكن تبيَّن أنه نظرًا لأن المستوى بسيط ولأن أجهزة الكمبيوتر يمكنها التعامل مع الصيغ المعقدة، فلن نستفيد الكثير من خلال القيام بذلك. في الفصل السابع سنرى أنه بالنسبة لرسومات الكمبيوتر ذات الأبعاد الثلاثية، فإن حيلة مماثلة ستكون لها نتائج مذهلة. لكن في الوقت الحالي، نحتاج إلى إنهاء قصة الأعداد المركبة بمناقشة بعض التطبيقات المفيدة بحق.

•••

أدرك علماء الرياضيات تدريجيًّا أنه على الرغم من عدم وجود تفسير مادي واضح لها، فإن الأعداد المركبة غالبًا ما تكون أبسط من الأعداد الحقيقية، وهي تلقي الضوء على سمات الأعداد الحقيقية التي تكون محيرة بخلاف ذلك. على سبيل المثال، وكما لاحظ كلٌّ من كاردانو وبومبيلي، فإن المعادلات التربيعية لها إما حلان حقيقيَّان أو لا حلول لها، وللمعادلات التكعيبية إما حل حقيقي واحد أو ثلاثة. لكن الأمر أبسط بكثير بالنسبة للحلول المركبة؛ فالمعادلات التربيعية دائمًا لها حلان مركبان، والمعادلات التكعيبية دائمًا لها ثلاثة. علاوة على ذلك، فإن معادلات الدرجة العاشرة لها عشرة حلول مركبة، ولكن قد يصبح لها من الحلول الحقيقية ما يصل إلى ١٠ أو ٨ أو ٦ أو ٤ أو ٢، أو لا تكون لها حلول على الإطلاق. في عام ١٧٩٩، أثبت جاوس حقيقة ظلت مشكوكًا في صحتها لفترة طويلة، وقد خمنها بول روث منذ عام ١٦٠٨، وأصبحت تُعرف باسم المبرهَنَة الأساسية للجبر؛ وهي معادلة متعددة الحدود من الدرجة لها حلول مركبة عددها . إن جميع دوال التحليل القياسية، مثل الدالة الأسية ودالة الجيب ودالة جيب التمام وما إلى ذلك، لها نظائر مركبة طبيعية، وتصبح خصائصها بشكل عام أبسط عندما نراها من منظور مركب.

إحدى النتائج العملية هي أن الأعداد المركبة أصبحت أداة قياسية في مجال الهندسة الإلكترونية، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى أنها توفر طريقة رائعة وبسيطة للتعامل مع التيارات المترددة. فالكهرباء عبارة عن فيض من الإلكترونات، وهي جسيمات دون ذَرِّية مشحونة. في التيار المباشر، الذي يُنتج على سبيل المثال بواسطة بطارية، تَسري جميع الإلكترونات في الاتجاه نفسه. أما في التيار المتردد، المستخدم على نطاق واسع في الكهرباء الخدمية، لأنه أكثر أمانًا، تتحرك الإلكترونات ذهابًا وإيابًا. ويبدو الرسم البياني للجهد (والتيار) مثل منحنى جيب التَّمام في علم حساب المثلثات.

وهناك طريقة بسيطة لرسم هذا المنحنى تظهر إذا تَخيلتَ نقطة على حافة عجلة دوارة. لنفترض أن نصف قُطر العجلة يساوي ١، من أجل التبسيط. إذا نظرت إلى المسقط الأفقي للنقطة الدوارة، فستجدها تتحرك من جانب إلى آخر، وتصل إلى القيمتين +١ و−١ في أقصى حدودها. إذا كانت العجلة تدور بسرعة ثابتة، فإن الرسم البياني لهذه المسافة الأفقية يكون منحنى جيب تمام، والرسم البياني للمسافة الرأسية يكون منحنى جيب (المنحنيات السوداء في الشكل التالي).

fig24
الدوران المسقط في المستوى المركب يؤدي إلى تذبذُبات دورية. وتؤدي إضافة إلى الزاوية إلى تحريك الرسوم البيانية إلى اليسار: تغير الطور.
إن موضع النقطة المتحركة هو زوج الأعداد الحقيقية حيث هي الزاوية بين النقطة والمحور الأفقي. وباستخدام حيلة هاميلتون يمكننا تأويل ذلك باعتباره العدد المركب . ومع تغير ، يتحرك هذا العدد دائريًّا حول دائرة الوحدة في المستوى المركب. إذا قِسنا الزوايا بوحدة الراديان، فهي تشكل دائرة كاملة عندما تزيد من ٠ إلى . ثم تشكل دائرة أخرى عندما تزداد من إلى ، وهكذا، ومن ثَم فإن الحركة تكون دورية مع زيادة بمقدار .
تشير صيغة أويلر ضمنيًّا إلى أنه بينما تأخذ قيمة أعدادًا حقيقية، فإن القيمة المقابلة تدور وتدور حول دائرة الوحدة بسرعة ثابتة. توفر هذه الصلة طريقة لتحويل أي بيانٍ حول دالة تذبذُب على شكل دالة جيب أو جيب تمام إلى دالة أُسِّية مركبة. رياضيًّا، إن الدالة الأسية أبسط وأسهل في التعامل معها. علاوة على ذلك، فإن الزاوية لها تفسير مادي طبيعي وهو طور التذبذُب، وهو يعني أن تغيير بإضافة زاوية ثابتة يؤدي إلى إزاحة مُنحنيات الجيب وجيب التَّمام بالمقدار المقابل (المنحنيات الرمادية في الشكل السابق).

والأفضل من ذلك أن المعادلات التفاضلية الأساسية للجهود والتيارات في الدوائر الكهربية تمتد دون تغيير إلى المعادلات المركبة المقابلة. ويصبح التذبذُب المادي هو الجزء الحقيقي من دالة أُسية مركبة، وتنطبق الأساليب نفسها على التيار المتردد وكذلك على التيار المباشر. يبدو الأمر كما لو أن السلوك الحقيقي له رفيق تخيُّلي سِري، والاثنان معًا أبسط من أي منهما بمفرده. يستخدم مهندسو الإلكترونيات هذه الحيلة الرياضية بشكل روتيني لتبسيط حساباتهم، حتى عند استخدام الكمبيوتر.

•••

في هذا التطبيق على الإلكترونيات، تُخرَج الأعداد المركبة مثل أرنب رياضي من قُبَّعة المشعوذ، الأمر الذي تصادف أنه يجعل الحياة أبسط للمهندسين. ولكن هناك سياقًا رائعًا تصبح فيه الأعداد المركبة ضرورية للغاية ولها معنى مادِّي. وهو، على وجه التحديد، ميكانيكا الكم.

لقد جعل فيجنر هذا المثال على الفعالية اللامعقولة محور محاضرته:

دعونا لا ننسى أن فراغ ميكانيكا الكم الخاص بهيلبرت هو فراغ هيلبرت المركب … بالتأكيد بالنسبة للعقل غير المشغول، فإن الأعداد المركبة بعيدة كل البعد عن كونها طبيعية أو بسيطة ولا يمكن أن تنتج عن الملاحظات المادية. علاوة على ذلك، فإن استخدام الأعداد المركبة في هذه الحالة ليس حيلة حسابية للرياضيات التطبيقية، ولكنه يقترب من كونه ضرورة في صياغة قوانين ميكانيكا الكم.

كما بذل قصارى جهده للتأكيد على ما كان يقصده بكلمة «اللامعقولة»:

لا شيء في خبرتنا يشير إلى وجود هذه الكميات. في الواقع، إذا طُلب من عالم رياضيات أن يبرر اهتمامه بالأعداد المركبة، فسوف يشير، ببعض السخط، إلى المبرهَنَات الجميلة العديدة في نظرية المعادلات ومتسلسلات القُوى والدوال التحليلية بشكل عام، التي تدين بوجودها إلى تقديم الأعداد المركبة … من الصعب تجنب الانطباع بأن معجزة تواجهنا هنا، والتي يمكن مقارنتها إلى حد كبير … بمعجزتَي وجود قوانين الطبيعة وقُدرة العقل البشري على تخمينها.

لقد ظهرت ميكانيكا الكم حوالي عام ١٩٠٠ لشرح السلوك الغريب للمادة داخل نطاقها الدقيق للغاية، الذي كان قد بدأ علماء الفيزياء التجريبية في اكتشافه، ثم تطورت بسرعة لتصبح أنجح نظرية فيزيائية اخترعتها البشرية حتى الآن. إذ تتصرف المادة بطرق مدهشة ومحيرة على مستوى الجزيئات والذرات، وخاصة الجُسيمات دون الذَّرِّية التي تتجمع لتكوين الذرات. إنها تتصرف بطرق مدهشة ومحيرة؛ لدرجة أنه ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت كلمة «مادة» تنطبق عليها. إن الموجات، مثل الضوء، تتصرف أحيانًا مثل الجُسيمات، التي تُسمَّى الفوتونات. وتتصرف الجسيمات، مثل الإلكترونات، أحيانًا مثل الموجات.

فُسرت ازدواجية الموجة والجُسيم هذه في النهاية بإدخال المعادلات الرياضية التي تحكم كلًّا من الموجات والجسيمات، على الرغم من أن الكثير لا يزال محيرًا حتى الآن. في هذه العملية، خضعت الطريقة التي يُمثل كلاهما في الرياضيات، بحسب تعبير شكسبير، إلى «تغيير جذري. إلى شيء غني وغريب». حتى ذلك الوقت، كان الفيزيائيون يصفون حالة جسيم المادة من خلال قائمة صغيرة من الأعداد: الكتلة، والحجم، والموضع، والسرعة، والشحنة الكهربائية، وما إلى ذلك. في ميكانيكا الكم، توصف حالة أي نظام باستخدام موجة؛ بتعبير أدق، دالته الموجية. وكما يوحي الاسم، هذه دالة رياضية لها خصائص شبيهة بخصائص الموجة.

إن الدالة هي قاعدة أو عملية رياضية تحول عددًا ما إلى عدد آخر بطريقة محددة. بشكل عام، يمكن للدالة تحويل قائمة من الأعداد إلى عدد واحد، أو حتى قائمة أخرى من الأعداد. علاوة على ذلك، يمكن ألَّا تعمل الدالة على الأعداد فقط، ولكن أيضًا على مجموعات من العناصر الرياضية من أي نوع. على سبيل المثال، تعمل دالة «المساحة» على مجموعة كل المثلثات، وعندما تطبقها على أي مثلث محدد، فإن ناتج الدالة يكون مساحة ذلك المثلث.

تعمل الدالة الموجية لأي نظام كمي على قائمة القياسات الممكنة التي قد نُجريها على النظام، مثل إحداثيات الموقع أو إحداثيات السرعة. في الميكانيكا الكلاسيكية، يحدد عدد متناهٍ من هذه الأعداد حالة النظام، ولكن في ميكانيكا الكم، قد تتضمن هذه القائمة عددًا لا متناهيًا من المتغيرات. إن هذه مأخوذة مما يُسمى فراغ هيلبرت، الذي هو (في الغالب) فراغ غير منتهي الأبعاد لديه مفهوم معرف جيدًا للمسافة بين أي اثنين من أعضائه.4 وناتج الدالة الموجية هو عدد واحد لكل دالة في فراغ هيلبرت، لكن العدد الذي تنتجه لا يكون عددًا حقيقيًّا: إنه عدد مركب.
في الميكانيكا الكلاسيكية، إن أي كمية قابلة للملاحظة (أي، يمكننا قياسها) تقرن عددًا بكل حالة ممكنة للنظام. على سبيل المثال، عندما نلاحظ المسافة بين الأرض والقمر، نتوصل إلى عدد معين، وهذه دالة حُددت بِناءً على جميع الأوضاع الممكنة التي قد تتخذها الأرض والقمر نظريًّا. في ميكانيكا الكم، الكميات التي يمكن ملاحظتها تكون «مؤثرات». حيث يأخذ المؤثر عنصرًا من فراغ حالات هيلبرت ويحوله إلى عدد مركب. يجب أن تخضع المؤثرات لقائمة قصيرة من القواعد الرياضية. أحدها هو الخطية. لنفترض أن لدينا الحالتين و ، وأن المؤثر يعطي الناتجين و . في نظرية الكم، يمكن للحالات أن تتراكب — تُجمع معًا — لتعطي . والخطية تعني أن المؤثر يجب حينها أن يعطي الناتج . وعند تحقق القائمة الكاملة للخصائص المطلوبة في مؤثرٍ ما فإنه يُطلَق عليه مؤثر هرميتي، وهو يعمل على نحو جيد فيما يخص المسافات في فراغ هيلبرت.

يختار الفيزيائيون هذه الفراغات والمؤثرات بطرقٍ مختلفة لنمذجة أنظمة كمية محددة. إذا كانوا مهتمين بحالات الموضع والزخم لجُسيم ما، فإن فراغ هيلبرت يتكون من جميع الدوال «القابلة للتكامل تربيعيًّا»، التي هي غير منتهية الأبعاد. وإذا كانوا مهتمين بدوران إلكترون ما، فإن فراغ هيلبرت يصبح ثنائي الأبعاد، ويتكون مما يُسمَّى «سبينورات». مثال على ذلك هو معادلة شرودنجر، التي تبدو كالتالي:

لستم بحاجة إلى فهم الجوانب الرياضية المتضمَّنة هنا، ولكن دعونا نلقِ نظرة على الرموز. لننظر على وجه الخصوص إلى الرمز الأول، الذي يكشف الكثير من الأمور: إنه ، الجذر التربيعي لسالب واحد. نحن ننظر إلى المعادلة الأساسية لميكانيكا الكم، والرمز الأول الذي نراه هو العدد التخيلي .
والرمز التالي، ، هو عدد يُسمى ثابت بلانك المختزل، وهو صغير للغاية؛ حوالي ١٠−٣٤ جول ثانية. إنه ما يمنح ميكانيكا الكم الكُموم الخاصة بها، وهي قفزات صغيرة للغاية، ولكنها متقطعة في الأحجام التي يمكن أن تفترضها الكميات المختلفة. ثم هناك الكسر . إن هو الزمن، ورمزا يخبرانا بأن نجد معدَّل التغير، كما هو الحال في حساب التفاضل والتكامل، لذلك فهي معادلة تفاضلية. إن مجموعة الرموز هي الدالَّة المَوجية، التي تحدد الحالة الكمية للنظام عند الزمن ، لذلك هذا هو الشيء الذي نريد معرفة معدل تغيُّره. وأخيرًا، هو ما يُطلَق عليه مؤثر هاميلتون؛ وهو، في الأساس، يعبر عن الطاقة.
إن التفسير المعتاد للدالة المَوجية هو أنها لا تمثل أي حالة فردية، ولكن «احتمال» أن الملاحظة ستجد النظام في تلك الحالة. ومع ذلك، فإن الاحتمالات هي أعداد حقيقية بين ٠ و١، في حين أن مخرجات الدالة الموجية هي أعداد مركبة من أي حجم. لذلك يركز الفيزيائيون على مقدار (أو ما يُسمِّيه علماء الرياضيات مقياسَ) العدد المركب، وهو مدى بُعده من نقطة الأصل، الذي يُرمز له ﺑ في الإحداثيات القطبية. إنهم يعتقدون أن هذا العدد هو احتمال نسبي، لذلك إذا كانت إحدى الحالات لها مقدار ١٠ وأخرى لها مقدار ٢٠، فإن احتمال الثانية هو ضعف احتمال الأولى.
يخبرنا المقياس بمدى بُعد العدد المركَّب عن نقطة الأصل، لكنه لا يخبرنا بالاتجاه الذي علينا أن نسلكه للوصول إليه. هذا الاتجاه محدد بعدد حقيقي آخَر، وهو الزاوية في الإحداثيات القطبية. يطلق علماء الرياضيات على هذه الزاوية سعة العدد المركب، لكن الفيزيائيين يسمونها الطَّور؛ أي إلى أي مدًى يجب أن تسير حول دائرة الوحدة. لذا فإن الدالة المَوجية المركبة لها مقدار، وهو يحدد الاحتمال النسبي لحدوث تلك الملاحظة، ولها طور، وهو لا يغير المقدار ويكاد يكون من المستحيل قياسه. تؤثر الأطوار على كيفية تراكب الحالات، ومن ثَم أيضًا احتمالات حدوث تلك الحالات المتراكبة، ولكنها في الواقع العملي مخفية عن الرؤية التجريبية.

ما يعنيه كل هذا هو أن عددًا حقيقيًّا واحدًا ليس النوع المناسب من الأعداد لوصف الحالة الكمية. ونحن لا يمكننا حتى التعبير عن ميكانيكا الكم باستخدام الأعداد الحقيقية التقليدية.

•••

إذا كان السؤال هو: «ما الاستخدامات العملية للأعداد المركَّبة؟» فيمكننا أن نشير إلى جميع التطبيقات المتنوعة لميكانيكا الكم، واثقين في أنها لا بد أن تكون أيضًا تطبيقاتٍ للأعداد المركبة. حتى وقت قريب، كان معظم الإجابات سيدور حول التجارب المعملية؛ الفيزياء الحديثة، ولكن ليس نوع الأشياء التي تجدها في مطبخك أو غرفة المعيشة. لقد غيرت الإلكترونيات الحديثة كل ذلك، وأصبح العديد من أجهزتنا المفضلة يعمل وفق أسس ميكانيكا الكم. يحتاج المهندسون إلى فهم مثل هذه الأشياء بعُمق وتفصيل كبيرين، ولكننا يمكننا الاكتفاء بالجلوس والإعجاب بإبداعاتهم. أو، من وقت لآخر، نهاجمها عندما تفشل في فعل ما نريد بسبب بعض الجوانب الفنية الغامضة في تركيبها.

إن كابل شبكة الألياف الضوئية الواسعة النطاق المركبة حديثًا في منطقتنا هو مثال على ذلك. إذ يبدو مثل الكابل التقليدي، لكنه جزء من نظام نقلٍ يعتمد بالفعل على تقنية الكم. ومع ذلك، فإن الجانب الكمي لا يوجد في الكابل في حد ذاته؛ إنه موجود في الأجهزة عبر النظام التي تنتج نبضات الضوء التي يعتمد عليها الإعداد بالكامل. بالطبع، إن الضوء في الواقع كمِّي على أي حال، لكن هذه الأجهزة «مصمَّمة» باستخدام ميكانيكا الكم، ولن تعمل بدونها.

تشير كلمة «ألياف» إلى كابل متعدد الخيوط، وخيوطه الفردية عبارة عن خيوطٍ زجاجية رفيعة تنقل الضوء. لقد صُممت بحيث ينعكس الضوء داخل جدرانها بدلًا من التسرُّب منها، ومن ثَم يمكننا ثني الكابلات عند الأركان ويبقى الضوء داخل الكابل. ويجري تحويل المعلومات في شعاع الضوء إلى سلسلة من النبضات الحادة. وقد استُخدمت صناعة الاتصالات الألياف الضوئية لأنها تجمع بين العديد من المزايا. فالألياف المتوفرة الآن شفافة للغاية، لذا فهي تنقل الضوء لمسافات طويلة دون إضعاف الإشارة. ويمكن أن تحمل نبضات الضوء معلومات أكثر بكثير من أسلاك الهاتف النحاسية التقليدية. هذا النطاق التردُّدي الأعلى هو ما يعطي «السرعة» الأكبر؛ لا يتعلق الأمر بمقدار السرعة التي تتحرك بها النبضات، بل بعدد النبضات وكمِّ المعلومات التي يمكن حشرها في خيط ألياف واحد أو كابل واحد. كما أن كابلات الألياف أخف من الكابلات النحاسية، لذا فهي أسهل في النقل والتركيب وأقل عُرضةً للتداخل الكهربائي.

يتكون نظام الاتصالات الضوئية من أربعة مكونات رئيسية: جهاز إرسال (مصدر الضوء)، وكابل لحمل الإشارة، وسلسلة من المكرِّرات التي تلتقط الإشارة قبل أن تضعُف للغاية، وتنقِّيها، ثم ترسلها، وبالطبع جهاز استقبال (كاشف). سأركز على جهاز واحد فقط، وهو جهاز الإرسال. يجب أن يكون هذا جهاز يمكنه إنشاء الضوء، ويمكن التحكم فيه بحيث ينبعث الضوء كسلسلة من النبضات المفردة، يمكن تشغيلها (١) أو إيقاف تشغيلها (٠) لتشفير رسالة وفق النظام الثنائي. يجب أن يكون التبديل بين الوضعين سريعًا للغاية، ويجب أن يكون كل شيء دقيقًا للغاية. على وجه التحديد، يجب أن يكون الطول الموجي («اللون») الخاص بالضوء ذا قيمة واحدة محددة. أخيرًا، تحتاج النبضات إلى الاحتفاظ بهيئتها، حتى يتمكن جهاز الاستقبال من التعرف عليها.

إن الجهاز المثالي (والوحيد في الواقع) لفعل هذا، هو الليزر، وهو جهاز يصدر شعاعًا قويًّا من الضوء المترابط الذي له طول مَوجي محدد. تعني كلمة «مترابط» أن جميع الموجات الموجودة في الشعاع متوافقة الطَّور، ومن ثَم لا يُلغي بعضها بعضًا. يقوم جهاز الليزر بذلك عن طريق عكس الضوء (على هيئة فوتونات) ذهابًا وإيابًا بين زوج من المرايا، مما يؤدي إلى حدوث تدفق متزايد من الفوتونات في حلقة تغذية مُرتدة موجبة. وعندما يصبح الشعاع قويًّا بدرجة كافية، يُسمح له بالتسرب.

كانت أجهزة الليزر في بداياتها ضخمة ومعقدة، لكن معظم أجهزة الليزر الخفيفة الوزن الحالية تُصنع باستخدام نفس العمليات العامة التي تُنتج الدوائر المجهرية الموجودة في «رقائق» الكمبيوتر؛ دوائر أشباه الموصلات المتكاملة. وعلى مدى الثلاثين عامًا الماضية، كانت تقريبًا جميع أنواع أجهزة الليزر المستخدمة في التكنولوجيا الموجهة للمستهلكين والشركات (مثل مشغلات أقراص البلو-راي، التي أصبحت ممكنة بسبب أجهزة الليزر التي تنتج ضوءًا أزرق)، ذات بِنى حصرٍ متعددة ومنفصلة. هذه تُعد تطويرًا لأجهزة ليزر البئر الكمية، وهي تشبه السندوتش الذي تعمل الطبقة الوسطى فيه كبئر كمية. يؤدي هذا إلى إنشاء دوال مَوجية تبدو كسلسلة من الدرجات، وليس منحنًى، ومن ثَم يجري تكميم مستويات الطاقة، لتصبح حادة ومنفصلة بدلًا من كونها ضبابية ومتداخلة. يمكن ضبط هذه المستويات، من خلال التصميم المناسب للبئر الكمية، لتوليد ضوء بالتردد المناسب لعمل جهاز الليزر.

تضيف أجهزة الليزر ذات بِنى الحصر المتعددة والمنفصلة طبقتين إضافيتين أعلى وأسفل السندوتش، مع مُعامل انكسار أقل من الطبقات الثلاثة الوسطى، مما يحصر الضوء داخل تجويف الليزر. من المنطقي أنه لا يمكنك معرفة كيفية تصنيع جهاز كمي من هذا النوع دون تطبيق الكثير من مبادئ ميكانيكا الكم. لذلك حتى الألياف الضوئية في التسعينيات من القرن الماضي كانت تستخدم بالفعل مكونات كمية، والشيء نفسه صحيح اليوم على نحو أكبر.

في المستقبل، من المحتمل أن يغير نطاقٌ كبير من الأجهزة الكمية الجديدة من نمط حياتنا. ويخبرنا مبدأ اللَّايَقين لهايزنبرج في ميكانيكا الكم أنه لا يمكن قياس بعض الكميات القابلة للملاحظة على نحو دقيق في نفس الوقت؛ على سبيل المثال، إذا كنت تعرف بالضبط موضع جسيم، فلا يمكنك التأكد من مدى سرعة تحركه. يمكن استخدام هذه الميزة لاكتشاف ما إذا كان شخص ما غير مصرَّح له يتنصَّت على رسائل سرية. فعندما تراقب إيف المتنصِّتة الحالة الكمية لإشارة مارة — لنقل دوران فوتون ما — تتغير هذه الحالة، ولا يمكنها التحكم في كيفية تغيُّرها. إن الأمر مثل جرس مدمَج في الرسالة، يرن كلما حاولَت إيف قراءتها.

fig25
الهيكل التخطيطي لجهاز ليزر ذي بِنى حصر متعددة ومنفصلة. يشير المصطلحان النوع n والنوع p، على التوالي، إلى أشباه الموصلات؛ حيث تُنقل الشحنة بواسطة الإلكترونات أو بواسطة «الثغرات»، حيث تكون الإلكترونات غير موجودة.

تتمثل إحدى طُرق تنفيذ هذه الفكرة في استخدام الفوتونيات الكمية، وهي المعنية بالخصائص الميكانيكية الكمية للفوتونات. وهناك طريقة أخرى هي التلاعب في دوران الجسيمات الكمية، وهذا هو المجال الناشئ للإلكترونيات الدورانية. يمكن لمثل هذه الأجهزة أن تنقل معلومات أكثر من الإشارات التقليدية عن طريق تشفير بيانات إضافية في دورانات الجسيمات، وليس فقط ما إذا كانت موجودة أم لا. لذا فإن شبكة الألياف الضوئية الواسعة النطاق الفائقة السرعة في منطقتنا، قد تحل محلها قريبًا شبكة إلكترونيات دورانية واسعة النطاق متناهية السرعة، تحمل معلومات أكبر بكثير عبر الكابل نفسه. وسيبقى الأمر هكذا إلى أن يخترع أحد العباقرة تقنية تصوير هولوجرافي عالية الدقة سداسية الأبعاد تستهدف حواسَّ أخرى غير البصر، وتلتهم كل ذلك النطاق الترددي الإضافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤