الفصل السابع

أبي، هل يمكنك ضرب الثلاثيات؟

كيف صُممت أمواج المحيط وهي ترتطم على نحو هادئ بجدار قاربك في لعبة «أساسينز كريد: بلاك فلاج»؟ إنها الرياضيات.

كيف صُممت تلك الرصاصات المتطايرة فوق رأسك في لعبة «كول أوف ديوتي: جوستس»؟ إنها الرياضيات.

كيف يمكن أن يجري «سونيك» بسرعة وأن يقفز «ماريو»؟ إنها الرياضيات.

كيف يمكن الانجراف حول ذلك الركن بسرعة ٨٠ ميلًا/ساعة في لعبة «نيد فور سبيد»؟ إنها الرياضيات.

كيف يمكن التزلُّج بلوح الثلج نحو أسفل منحدر في لعبة «إس إس إكس»؟ إنها الرياضيات.

كيف يمكن أن ينطلق ذلك الصاروخ في لعبة «كيربال سبيس بروجرام»؟ إنها الرياضيات.

الموقع الإلكتروني لمجلة «فوربس»، مقال «هذه هي الجوانب الرياضية وراء لعبة «سوبر ماريو»»

تبدو القرية مثل قرى القرون الوسطى، مع أكواخ مسقَّفة بالقش، وعربات تجرُّها الخيول على طريق تُرابي، وحقول بها محاصيل وخِراف. ويتدفق المجرى الضيق لنهرٍ بين المباني المتراصَّة، مُتلألئًا باللون الذهبي في غروب الشمس. نرى المشهد من أعلى وكأننا على متن طائرة؛ يدور الكادر ويتأرجح بينما تهبط الطائرة وتلتف. لكن هذه ليست طائرة؛ يُظهر قطع لوجهة نظر على مستوى الأرض الخطوط العريضة الواضحة لتِنِّين. إنه قادم باتجاهنا. ثم هناك قطع وعودة إلى منظور التنين، وهو يهبط الآن على نحو شديد الانحدار، وينزلق على أسطح الأكواخ، بينما يتدفق تيار من اللهب أمامه ليشتعل القش …

قد يكون هذا فيلمًا أو لعبة كمبيوتر؛ إذ في الوقت الحاضر يكون من الصعب التمييز بينهما. في كلتا الحالتين، يُعَد هذا انتصارًا لتقنية إنشاء الصور الرسومية باستخدام الكمبيوتر.

هل هذه التقنية قائمة على الرياضيات؟

أجل، بالتأكيد.

لا بد أنها حديثة العهد للغاية، إذن.

ليس بالضبط. إن «التطبيق» جديد، وبعض الجوانب الرياضية جديدة ومعقدة، لكن الجزء الذي أتصوره في ذهني منها يبلغ عمره نحو ١٧٥ عامًا. وهذا الجزء لم يكن مخصصًا على الإطلاق لإنشاء رسومات الكمبيوتر. إذ لم يكن هناك أي أجهزة كمبيوتر في تلك الأيام.

كان القصد منه التعامل مع مسألة أكثر عمومية، لا تتعلق بأي أجهزة؛ وهي: الهندسة في الفراغ ثلاثي الأبعاد. من منظور اليوم، إن إمكانية أن له صلة برسومات الكمبيوتر واضحة. لكن بدا أنه لا ينتمي لعلم الهندسة. لقد بدا وكأنه ينتمي لعلم الجبر. إلا أنه خالف إحدى القواعد الجبرية الأساسية، لذلك هو حتى لم يكن ينتمي إلى علم الجبر. لقد استدعاه إلى الوجود معجزة الرياضيات الأيرلندية السير ويليام روان هاميلتون، الذي أطلق على فكرته اسم «الكواترنيونات». ومن المفارقات أن الكواترنيونات لم تكن بالضبط هي الشيء الذي كان يرغب في التوصل إليه، وهناك سبب لذلك.

إن الشيء الذي كان يرغب في التوصل إليه ليس له وجود.

•••

إن عدد أجهزة الكمبيوتر الموجودة على هذا الكوكب اليوم يفوق عدد البشر. إن عدد البشر يتجاوز ٧٫٦ مليار. في حين يوجد أكثر من مليارَي جهاز كمبيوتر محمول، وما يقرب من ٩ مليارات هاتف ذكي وجهاز لوحي، وكلاهما يتمتعان في كثير من الأحيان بقُدرة حَوسَبية أكبر من قدرة أفضل جهاز كمبيوتر فائق كان يمكن شراؤه في عام ١٩٨٠.1 وبإحصاء أجهزة الكمبيوتر الصغيرة التي يتسابق المصنعون لاستخدامها داخل كل غسالة أطباق، ومحمصة خبز، وثلاجة، وغسالة، وبوابة قط على هذا الكوكب، فإن عدد أجهزة الكمبيوتر الآن يصل الآن لما يزيد عن أربعة أضعاف عدد البشر.

من الصعب إدراك أن الأمر لم يكن دائمًا على هذا النحو. إن وتيرة الابتكار كانت شديدة التسارُع. لقد وصل أول أجهزة الكمبيوتر المنزلية — «آبل ٢»، و«تي آر إس ٨٠»، و«كومودور بي إي تي» — إلى السوق الاستهلاكية في عام ١٩٧٧، قبل ما يزيد قليلًا عن أربعين عامًا. منذ البداية تقريبًا، كان أحد الاستخدامات الرئيسية لأجهزة الكمبيوتر المنزلية هو ممارسة الألعاب. كانت الرسومات غير متقَنة، والألعاب بسيطة للغاية. بعضها تألف فقط من رسائل نصية: «أنت في متاهة من الممرات الملتَوِية، التي كلها مختلفة». تليها رسالة أكثر تخويفًا: «أنت في متاهة من الممرات الملتوية، التي كلها متشابهة».

وبينما ازدادت سرعة أجهزة الكمبيوتر، أصبحت ذاكرتها لا نهائية تقريبًا، وانخفضت الأسعار، وأصبحت الصور التي أُنشئت بواسطة الكمبيوتر أكثر إقناعًا، لدرجة أنها بدأت في السيطرة على صناعة السينما. وكان أول فيلم رسوم متحركة طويل أُنتج بالكامل بواسطة الكمبيوتر هو «حكاية لعبة» (توي ستوري) عام ١٩٩٥، على الرغم من أن إنتاج أفلام أقصر منه بدأ قبل ذلك بعشرة أعوام. وقد أصبحت المؤثرات الخاصة الآن فائقة الواقعية، وهي مستخدمة على نطاق واسع؛ لدرجة أننا بالكاد نلاحظ وجودها في الأفلام. فعندما صور بيتر جاكسون ثلاثية «ملك الخواتم» (لورد أوف ذا رينجز)، لم يقلق بشأن الإضاءة؛ إذ جرت مراجعتها فيما بعد، ومعالجتها بواسطة أجهزة الكمبيوتر.

لقد أصبحنا معتادين على الصور الرسومية العالية الجودة والسريعة الحركة؛ لدرجة أننا نادرًا ما نتوقف لنتساءل من أين أتت جميعها. متى ظهرت أول لعبة فيديو؟ لقد ظهرت قبل ثلاثين عامًا من ظهور أجهزة الكمبيوتر المنزلية. في عام ١٩٤٧، قدم الرائدان في مجال التليفزيون توماس جولدسميث الابن وإستل راي مان طلبًا للحصول على براءة اختراع من أجل «جهاز تسلية يقوم على أنبوب أشعة كاثود». إن أنبوب أشعة الكاثود عبارة عن قنينة زجاجية سميكة قصيرة ذات قاعدة عريضة ومقوسة قليلًا — الشاشة — وعنق ضيق. يطلق جهاز في العنق شعاعًا من الإلكترونات على الشاشة، وتتحكم المغانط الكهربائية في اتجاه الشعاع، وتمسحه عبر الشاشة في سلسلة من عمليات المسح الأفقية، مثل قراءة عين بشرية لصفحة من النص. عندما يصطدم الشعاع بمقدمة الأنبوب، فإنه يتسبب في تألق طبقة خاصة، مما يُولِّد بقعة مضيئة من الضوء. وقد استخدمت معظم أجهزة التليفزيون أنابيب أشعة الكاثود لعرض الصورة، حتى ظهرت أجهزة التليفزيون ذات الشاشات المسطحة تجاريًّا في عام ١٩٩٧. لقد كانت لعبة جولدسميث ومان مستوحاة من شاشات أجهزة الرادار الخاصة بالحرب العالمية الثانية. حيث كانت تمثل بقعة الضوء صاروخًا، ويحاول اللاعب جعله يصيب أهدافًا مرسومة على ورق ملصق على الشاشة.

وبحلول عام ١٩٥٢، كان الكمبيوتر الرئيسي «إي دي إس إيه سي» قد وصل إلى قمة التطور في عالم الألعاب بتقديمه لعبة «إكس أُو» الخاصة به. ثم جاءت القفزة الهائلة على المستوى التجاري بتقديم لعبة «بونج»، وهي من أوائل الألعاب التي تعمل بالعملات المعدنية، والتي صنعتها شركة أتاري؛ وهي لعبة مبسطة ثنائية الأبعاد لتِنِس الطاولة، الكرة فيها ترتد بين مضربين، واحد لكل لاعب. وفقًا لمعايير اليوم، كانت الرسومات بدائية للغاية، فهي عبارة عن مستطيلين متحركين يُمثلان المضربين ومربع متحرك يمثل الكرة، وكانت الحيوية غير موجودة تقريبًا، ولكن حتى التوصُّل إلى تكنولوجيا أفضل، كانت لعبة «بونج» تُعد أحدث ما جرى التوصل إليه في مجال ألعاب الفيديو.

غني عن القول أن هاميلتون لم يكن ليقصد استخدام ابتكاره الرياضي بهذه الطريقة. فقد استغرقت هذه الفكرة ١٤٢ سنة أخرى لكي تظهر. لكن يمكننا أن ندرك، بتأمل الأمور الآن، أن هذا الاحتمال كان مُتأصلًا في نوع المسألة التي كان الهدف من اكتشافه المساعدة في حلها. هناك العديد من أساليب ممارسة الرياضيات. فيمكن أن يكون علماء الرياضيات ممن يسعون لحل المشكلات، ويركزون على إيجاد إجابة لمسألة معينة، سواء أكان ذلك في العالم الحقيقي أو العالم التخيُّلي للرياضيات البحتة. ويمكن أن يكونوا ممن يضعون النظريات؛ حيث ينظمون مبرهَنات خاصة لا حصر لها في إطار موحد. كما يمكن أن يكونوا مستقلين في التفكير، يتنقلون على نحو غير متوقَّع من مجال إلى آخر، ويعملون على كل ما يخطر ببالهم. أو يمكن أن يكونوا صانعي أدوات، يصممون أدوات جديدة قد تكون مفيدة عند تناول الأسئلة التي لم تُطرَح بعد؛ أي، طريقة تبحث عن تطبيق.

يعتمد الجزء الأكبر من شهرة هاميلتون على عمله كواضع للنظريات، لكن الكواترنيونات توضح براعته كصانع أدوات. إذ ابتكرها لتوفير بِنية جبرية لإجراء حسابات منهجية حول هندسة الفراغ ثلاثي الأبعاد.

•••

وُلد هاميلتون في دبلن بأيرلندا عام ١٨٠٥، وكان ترتيبه الرابع بين إخوته التسعة. كانت والدته هي سارة هاتن وكان والده آرتشيبولد هاميلتون، وكان يعمل محاميًا. عندما كان ويليام في الثالثة من عمره، أُرسل للعيش مع عمه جيمس، الذي كان يدير مدرسة. كان لدى ويليام موهبة مبكرة في تعلم اللغات، لكن يبدو أنه علَّم نفسه قدرًا كبيرًا من الرياضيات أيضًا، وكان هذا هو المجال الذي درسه في كلية ترينيتي في دبلن من سن ١٨ عامًا، وتفوق فيه للغاية. وقد أعلن جون برينكلي، أسقف كلوين، أن «هذا الشاب، لا أقول إنه سيصبح، بل هو بالفعل، أول عالم رياضيات في مثل عمره». يمكن القول إن الأسقف كان على حق، وفي عام ١٨٣٧، بينما كان هاميلتون لا يزال طالبًا جامعيًّا، عُين أستاذَ كرسي أندروز لعلم الفلك، وكذلك عالمَ الفلك الملكي في أيرلندا. وقد أمضى ما تبقى من حياته المهنية في مرصد دانسينك بالقرب من دبلن.

وكانت أكثر أعماله شهرةً في مجال البصريات والديناميكا، وخاصة اكتشاف وجود صلة ملحوظة بين هذين المجالين المختلفَين من الفيزياء الرياضية، وقد أعاد هاميلتون صياغتها على أساس مفهوم رياضي مشترك، وهو الدالة الأساسية. إننا نسميها الآن الدالة الهاميلتونية، وقد أدت إلى تقدم كبير في كلا المجالين. وفي وقت لاحق اتضح أنها بالضبط الشيء المطلوب من أجل النظرية الحديثة والغريبة جدًّا الخاصة بميكانيكا الكم.

لقد تكلمنا عن هاميلتون على نحو مختصر في الفصل السابق. في عام ١٨٣٣ حل معضلة شبه فلسفية عمرها قرون، وجرَّد الأعداد المركبة من الغموض الذي يحيط بها، وكشف عن الاحتيال الذي يشوبها، وأن تفرُّدها البادي ناتج عن خدعة ماهرة، وأن طبيعتها الحقيقية تكاد تكون تافهة. إذ قال هاميلتون إن العدد المركب ليس أكثر من زوج مرتب من الأعداد الحقيقية، له قائمة محددة من القواعد لجمع الأزواج وضربها. وقد رأينا أيضًا أن هذا الحل الخاص باللُّغز جاء متأخرًا جدًّا بحيث لم يهتم به أي شخص، وأنه عندما جاء جاوس بالفكرة نفسها لم يكلِّف نفسه عناء نشرها. ومع ذلك، فإن طريقة هاميلتون في التفكير حول الأعداد المركبة كانت ذات قيمة كبيرة؛ لأنها ألهمته فكرة إنشاء الكواترنيونات.

من أجل هذه الإنجازات الرياضية، وغيرها، حصل هاميلتون على لقب سير في عام ١٨٣٥. وقد توصل إلى الكواترنيونات في وقت لاحق، وعندما فعل ذلك، أدرك عدد قليل من الناس، غير هاميلتون نفسه وعدد قليل من أنصاره، أهميتَها. وأظن أنه خلال حياته نظر معظم علماء الرياضيات والفيزياء إلى ترويجه الحماسي للكواترنيونات على أنه نوع من الهَوَس؛ إنه ليس جنونًا على وجه التحديد، ولكن شيء قريب منه بشكل خطير. لكنهم كانوا مخطئين. حيث أطلق ابتكاره الجديد ثورة، قادت الرياضيات إلى منطقة جامحة مجهولة. ويمكنكم إدراك لماذا فشل معظمهم في تقدير إمكاناته، لكن هاميلتون كان يعلم أنه اكتشف شيئًا مثيرًا للاهتمام. ولا تزال منطقته الجامحة المجهولة تقدم رؤًى جديدة ورائعة إلى اليوم.

•••

إن الأسئلة التي يهتم بها عدد قليل جدًّا من هُواة الألعاب أو رُوَّاد السينما هي: كيف تعمل الصور الرُّسومية؟ كيف تنشأ هذه الأوهام؟ وما الذي يجعلها مقنِعة للغاية؟ صحيح أننا لسنا بحاجة إلى معرفة أي شيء عن ذلك للاستمتاع بلعب اللعبة أو مشاهدة الفيلم. لكن التطور التاريخي، والتقنيات التي كان لا بد من ابتكارها لجعل ذلك ممكنًا، والشركات المتخصصة في صنع الصور الرسومية بواسطة الكمبيوتر، وكذلك كتابة شفرات الألعاب؛ تحتاج إلى الكثير من الأشخاص المدربين تدريبًا عاليًا الذين يعرفون كيف تعمل تلك الحيل المختلفة، بتفصيل فني كبير، ولديهم الإتقان والإبداع لابتكار أشياء جديدة. إنها ليست صناعة يمكنك أن ترتكن فيها على أمجادك.

إن المبادئ الهندسية الأساسية لهذا المجال كانت موجودة منذ نحو ٦٠٠ عام على الأقل. خلال عصر النهضة الإيطالية، بدأ العديد من الرسامين البارزين في فهم هندسة الرسم المنظوري. حيث تتيح هذه التقنيات للفنان إنشاء صور واقعية لعالم ثلاثي الأبعاد على لوحة ثنائية الأبعاد. وتفعل العين البشرية تقريبًا الشيء نفسه؛ حيث تحل الشبكية محل اللوحة. والوصف الكامل لهذا معقَّد، ولكن بعبارات بسيطة، يُسقط الفنان مشهدًا حقيقيًّا على لوحة مسطحة من خلال إنشاء خط مستقيم من كل نقطة في المشهد إلى نقطة تمثل عين المشاهد، وتحديد المكان الذي يلتقي فيه هذا الخط مع اللوحة. ويعد النقش الخشبي الرائع «رجل يرسم آلة عود» للرسام ألبريشت دورر تصويرًا حيًّا لهذا الإجراء.

يمكن تحويل هذا الوصف الهندسي إلى صيغة رياضية بسيطة تحول الإحداثيات الثلاثة لنقطة في الفراغ إلى إحداثيَّي الصورة المقابلة على اللوحة. لتطبيق الصيغة، عليك فقط معرفة موضع اللوحة وعين المشاهد بالنسبة إلى المشهد. لأسباب عملية، لا يُطبَّق هذا التحويل، المسمَّى إسقاطًا، على كل نقطة من العنصر، ولكن على نقاط كافية لإعطاء تقريب جيد. وهذه السمة واضحة في النقش الخشبي، الذي يُظهر مجموعة من النقاط على شكل عود، وليس المخطط الكامل للعود. وبالنسبة للتفاصيل الدقيقة، مثل قش السقف، وتموجات النهر، وبالطبع ألوانها، فيمكن بعد ذلك تطبيقها فوق هذه المجموعة من النقاط، باستخدام طُرُق لن أخوض فيها؛ لأننا سنحتاج إلى كتاب آخر لتناولها.

fig26
النقش الخشبي «رجل يرسم آلة عود» للرسام ألبريشت دورر، والذي يوضح إسقاطًا من فراغ ثلاثي الأبعاد إلى لوحة ثنائية الأبعاد.

هذا هو ما يحدث بالأساس عندما يُعرَض علينا منظور التِّنين للقرية. يحتوي الكمبيوتر بالفعل على إحداثيات تمثيلية لكل سمة مهمة للقرية مُخزَّنة في الذاكرة. تلعب شبكية عين التِّنين دور اللوحة. إذا عرفنا أين هي، وعند أي زاوية، يمكننا استخدام الصيغة لحساب ما سيراه التنين. هذا يعطي كادرًا واحدًا من المشهد، يظهر القرية في لحظة زمنية محددة. في الكادر التالي، لا تزال القرية في المكان نفسه، لكن التِّنين وشبكيته قد تحركا. اكتشِف أين ذهبا، وكرر العملية الحسابية، وستحصل على الكادر التالي. اتبع مسار التِّنين عبر السماء، وجمع الكادرات واحدًا تلو الآخر لتحصل على لقطات للمشهد الذي يراه التِّنين.

هذا ليس وصفًا حرفيًّا بالطبع؛ فقط الفكرة الأساسية. هناك حِيَل خاصة لجعل العمليات الحسابية أكثر كفاءة، مما يوفر وقت المعالجة على الكمبيوتر. وللتبسيط، دعونا نتجاهل ذلك.

ينطبق نفس النوع من الحسابات على مشاهد التِّنين المهاجم، التي تُعرض من منظور على مستوى الأرض. نحتاج الآن إلى مجموعة أخرى من النقاط لتحديد مكان التِّنين، والشاشة التي سنسقط عليها كل شيء موجودة على الأرض، وليس التِّنين. من أجل التحديد، دعونا نركز على منظور التِّنين. من وجهة نظره، عينه ثابتة، ويبدو أن القرية هي التي تتحرك. وبينما ينطلق نحو الأرض، يبدو أن كل شيء في القرية يكبر في الحجم، ثم يميل ويلتفُّ، محاكيًا حركاته الخاصة. وبينما يحلق باتجاه السُّحب، يصغر حجم القرية. طوال الوقت، يجب أن يظل المنظور مقنِعًا، والسبيل الرياضي لذلك هو التعامل مع القرية كعنصر متماسك (ومعقد للغاية). يمكنك الحصول على فكرة عما ينطوي عليه الأمر من خلال التظاهر بأنك تنِّين، وإمساك شيءٍ ما أمام عينيك، ثم تحريكه ذهابًا وإيابًا، وتدويره في اتجاهات عديدة مختلفة.

والآن نحن نمثل كل شيء في «الإطار المرجعي» للتِّنين، وهو ثابت «بالنسبة إلى التِّنين». تتحرك القرية كعنصر متماسك، وهو ما يعني رياضيًّا أن المسافة بين أي نقطتين تظل كما هي. لكن الجسم ككل يمكن أن يتحرك في الفراغ. هناك نوعان أساسيَّان من الحركة: الانتقال، والدوران. في الانتقال، ينزلق الجسم في اتجاهٍ ما دون التواء أو دوران. في الدوران، يدور الجسم حول خط ثابت، وهو المحور، وتتحرك كل نقطة عبر الزاوية نفسها في مستوًى يقطع المحور بزاوية قائمة. يمكن أن يكون المحور أي خط في الفراغ، ويمكن أن يكون للزاوية أي قياس.

كل حركة متماسكة هي مزيج من الانتقال والدوران (ولكن يمكن أن يكون الانتقال عبر مسافة صفرية، وقد يكون الدوران عبر زاوية صفرية، وفي هذه الحالة ليس لهذه التحولات أي تأثير). في الواقع، هذا خطأ؛ فهناك حركة متماسكة ممكنة أخرى، وهي الانعكاس، الذي يعمل كمرآة. لكن لا يمكنك الحصول على انعكاسات بالحركة المتصلة، لذلك يمكننا تجاهلها.

لقد اتخذنا الآن الخطوة الأساسية في تحويل تحريك التِّنين إلى مسألة رياضية. ما نحتاج إلى فهمه هو كيف تتغير إحداثيات نقطة في الفراغ عندما نطبق انتقالًا أو دورانًا. بعد فعل ذلك، يمكننا استخدام الصيغة القياسية لإسقاط الناتج على شاشة مسطَّحة. وقد اتضح أن حركة الانتقال سهلة. لكن مصدر القلق الكبير هو الدوران.

•••

إن كل شيء أسهل بكثير في حالة البُعدين؛ أي في مستوًى ثنائي الأبعاد. لقد صاغ إقليدس قواعد هندسة المستوى في نحو عام ٣٠٠ قبل الميلاد. ومع ذلك، لم يستخدم الحركات المتماسكة. بدلًا من ذلك، استخدم المثلثات المتطابقة، وهي مثلثات لها نفس الشكل والحجم، ولكن في مواضع مختلفة. وبحلول القرن التاسع عشر، كان قد تعلم علماء الرياضيات تفسير مثل هذا الزوج من المثلثات على أنه حركة متماسكة؛ أي، تحوُّل في المستوى يؤدي إلى تحرك المثلث الأول إلى موضع الثاني. وقد عرَّف جيورج برنهارد ريمان الهندسة فيما يتعلق بأنواع محددة من التحول.

باتباع مسار مختلف تمامًا، توصَّل علماء الرياضيات أيضًا إلى طرق فعالة لحساب الحركات المتماسكة في المستوى، كأثر جانبي غير متوقَّع لتطور جديد في الجبر، تكلمنا عنه في الفصل السابق، وهو: الأعداد المركَّبة. فمن أجل انتقال (إزاحة) شكل، مثل PIG الموضح في الفصل السابق، نضيف عددًا مركبًا ثابتًا إلى كل نقطة من هذا الشكل. ومن أجل دورانه عبر الزاوية ، نضرب كل نقطة في . وكميزة إضافية، كانت الأعداد المركبة مثالية لحل المعادلات التفاضُلية للفيزياء، ولكن فقط في الفراغ ثنائي الأبعاد.

كل هذا ألهم هاميلتون فكرةً، أصبحت تشبه الهوس بالنسبة له. فنظرًا لأن الأعداد المركبة فعَّالة جدًّا للفيزياء في حالة البُعدين، لا بد أن يكون هناك أعداد مركبة «فائقة» مناظِرة لها الفعالية نفسها في حالة الأبعاد الثلاثة. وإذا تمكن من إيجاد نظام أعداد جديد من هذا القبيل، فإن الفيزياء الواقعية بأكملها ستكون مفتوحة على مصراعيها. وكان من الواضح حتى كيفية البدء. فنظرًا لأن الأعداد المركبة هي «أزواج» من الأعداد الحقيقية، فإن هذه الأعداد الافتراضية المركبة الفائقة يجب أن تكون «ثلاثيات» من الأعداد الحقيقية. عدد حقيقي لكل بُعد. كانت صيغة إضافة مثل هذه القيم الثلاثية (أو الثلاثيات، كما يطلِق عليها هاميلتون غالبًا) واضحة؛ فقط أضِف المكونات المقابلة. وقد حل الجزء الخاص بالحركات الانتقالية. كل ما كان عليه فعله الآن هو معرفة كيفية ضربها. لكن كل ما جربه فشل، وبحلول عام ١٨٤٢ أصبح مهووسًا بهذه العقبة، حتى إن أطفاله قد لاحظوا الأمر. وكانوا يسألونه كل يوم: «أبي، هل يمكنك ضرب الثلاثيات؟» وفي كل يوم، كان هاميلتون يهز رأسه نافيًا في تجهُّم. كان يمكن جمعها أو طرحها، لكن حساب ناتج ضربها مستحيل.

غالبًا ما يكون من الصعب تحديد التاريخ الدقيق الذي حدث فيه إنجاز رياضي كبير؛ لأنه غالبًا ما تكون هناك فترة طويلة ومُربِكة يتلمَّس خلالها علماء الرياضيات طريقهم قبل الوصول للاكتشاف النهائي. لكن في بعض الأحيان نعرف الوقت والمكان بالضبط. في حالتنا هنا، التاريخ الدقيق هو يوم الاثنين ١٦ أكتوبر ١٨٤٣، والمكان هو دبلن. يمكننا حتى محاولة عمل تخمين مدروس للوقت؛ لأن هاميلتون، الذي كان رئيسَ الأكاديمية الملكية الأيرلندية في ذلك الوقت، كان يسير عبر ممر لجرِّ القوارب موازٍ لقناةٍ مع زوجته في طريقه لحضور اجتماع لمجلس الأكاديمية. وبينما وقف ليلتقط أنفاسه على جسر بروم، خطر في ذهنه حلٌّ للمسألة التي كانت تزعجه لسنوات، ونقشه على سور الجسر بمُديته:

وقد تلاشى هذا النقش مع مرور الزمن، ولكن كل عام ينظم مجموعة من العلماء وعلماء الرياضيات مَسيرة عبر الجسر لإحياء الذكرى.

دون تفسير، هذا النقش غامض للغاية. وحتى مع التفسير، قد يبدو الأمر غريبًا وعديم الجدوى، للوهلة الأولى، ولكن هذا هو الحال غالبًا مع الإنجازات الرياضية الكبرى. فهي تستغرق وقتًا حتى تُسبر أغوارها. إذا كان الاكتشاف هو الأعداد المركبة، لكان هاميلتون قد نقش قاعدة بسيطة هي: . تحتوي هذه المعادلة على مفتاح نظام الأعداد المركبة بأكمله؛ وأي شيء آخر يمكن أن يُفهم إذا انطبقت القواعد الحسابية المعتادة. أضف و ، وكذلك ، وستحدد صيغ هاميلتون نظامًا أكثر شمولًا للأعداد؛ أو بالأحرى، عناصر تشبه الأعداد. وقد أطلق على هذه العناصر اسم «الكواترنيونات»؛ لأنها تحتوي على أربعة مكونات، كل منها عدد حقيقي تقليدي. هذه المكونات عبارة عن عدد حقيقي عادي، ومضاعف حقيقي لعدد يُسمَّى ، وهو الذي يعمل تمامًا مثل العدد التخيُّلي المعتاد الذي له هذا الرمز، ومكونين جديدين: مضاعف حقيقي لعدد يُسمى ، ومضاعف حقيقي لعدد يُسمى . ومن ثَم، فإن الكواترنيون النموذجي هو تركيب ، حيث ، و ، و ، و هي أربعة أعداد حقيقية عادية. أو، لإزالة أي غموض، رباعية ( و و و ) من الأعداد الحقيقية، تخضع لقائمة قصيرة من القواعد الحسابية.

في اليوم التالي لعملية النقش هذه، التي ربما تُعد من أعمال التخريب الطفيفة للممتلكات العامة، كتب هاميلتون إلى صديقه عالم الرياضيات جون جريفز: «لقد بزغت في ذهني فكرة أنه يجب علينا أن نعترف، على نحوٍ ما، بوجود بُعد رابع للفراغ من أجل إجراء العمليات الحسابية على الثلاثيات». وفي رسالة إلى والده، كتب: «بدت دائرة كهربائية وكأنها تغلق، وومضت شرارة». لقد تحدث بصدق كما لو كان يعرف ما سيحدث في المستقبل، لأن اكتشافه اليوم يلعب دورًا حيويًّا في مليارات الدوائر الكهربائية التي تنفذ كوادريليونات من الشرر الصغير. فهي توجد في أجهزة ألعاب الفيديو مثل «بلاي ستيشن ٤»، و«نينتندو سويتش»، و«إكس بوكس»، وتُستخدَم في تشغيل ألعاب مثل «ماينكرافت»، و«جراند ثيفت أوتو»، و«كول أوف ديوتي».

نحن الآن نفهم لماذا واجه هاميلتون الكثير من المتاعب في محاولة ضرب الثلاثيات. إذ لا يمكن أن يتم ذلك. لقد كان يُفترض أن جميع قوانين الجبر المعتادة يجب أن تنطبق، وعلى وجه الخصوص أنه يمكنك القسمة على أي عدد غير صفري، ولكن أيًّا كانت الصيغة التي جربها، فقد فشلت في الامتثال لجميع القوانين اللازمة. وقد أثبت علماء الجبر في وقت لاحق أن هذا المتطلب متناقض منطقيًّا. إذا كنت تريد انطباق جميع القوانين، فلا يمكنك تجاوز الأعداد المركَّبة. أنت مضطر للتعامل مع بُعدين فقط. إذا كنت تتلاعب بصيغ هاميلتون، وتفترض أن قانون التجميع ينطبق، فستجد بسرعة أنه قد تجاهل بالفعل قانونًا آخر، وهو قانون الإبدال في الضرب. على سبيل المثال، تشير الصيغ الخاصة به ضمنيًّا إلى أن ، في حين أن .

كان لدى هاميلتون الخيال للتخلي عن هذا القانون، على الرغم من أن هذا كان مزعجًا، على أقل تقدير. لكننا نعلم الآن أنه حتى في هذه الحالة كان لا يزال من المتعذر إنشاء نظام عددي مستقل من الثلاثيات. تخبرنا مبرهَنة رائعة لأدولف هورفيتس، نُشرت بعد وفاته في عام ١٩٢٣، أن الأعداد الحقيقية، والأعداد المركبة، والكواترنيونات هي «جبور القسمة الحقيقية» الوحيدة. وهذا يعني أنه يمكننا إجراء هذه العملية مع واحد أو اثنين أو أربعة من المكونات الحقيقية، ولكن «ليس ثلاثة». من بين هذه، فقط الأعداد الحقيقية، والأعداد المركَّبة هي التي تخضع لقانون الإبدال. من خلال إضعاف قانون التجميع، يمكنك أيضًا الحصول على نظام مكون من ثمانية مكونات، تُسمى الأوكتونيونات أو أعداد كايلي. سيصبح العدد الطبيعي التالي للمكونات هو ١٦، ولكن الآن حتى الشكل الذي جرى إضعافه من قانون التجميع يفشل. هذه نهاية المهمة. لا شيء آخر ممكن على هذا المنوال. إن هذا هو أحد تلك الأشياء الغريبة التي تقدمها الرياضيات أحيانًا؛ في هذا السياق، الحد التالي في التسلسل ١، ٢، ٤، ٨، … غير موجود.

ومن ثَم قضى السِّير ويليام المسكين سنوات من الجهد غير المثمِر في محاولة لتحقيق المستحيل. واعتمد إنجازه النهائي على التخلي عن «مبدأين» رئيسيين، وهما: أن الضرب يجب أن يكون إبداليًّا، وأن نظام الأعداد «الصحيح» للفيزياء ثلاثية الأبعاد يجب أن يتكوَّن من ثلاثة مكونات. إنه يستحق تقديرًا كبيرًا لإدراكه أنه لتحقيق تقدم، كان عليه التخلي عن كليهما.

•••

يعكس الاسم الذي اختاره هاميلتون لنظامه الجديد، الكواترنيونات، علاقته بالأبعاد الأربعة. وقد روَّج لاستخدامها في العديد من مجالات الرياضيات والفيزياء، موضحًا أن نوعًا خاصًّا من الكواترنيون، «الجزء المتَّجهي» ، يمكن أن يمثل الفراغ ثلاثي الأبعاد بطريقة أنيقة. ومع ذلك، فقد أصبحت الكواترنيونات صيغًا عفا عليها الزمن عندما ظهر نظام أكثر بساطة، هو الجبر المتجَّهي. لقد ظلت مهمة في الرياضيات البحتة والفيزياء النظرية، لكنها فشلت في الارتقاء إلى مستوى آمال مكتشفها فيما يتعلق بالاستخدامات العملية. ظل هذا إلى أن ظهرت ألعاب الكمبيوتر والصور الرُّسومية المنشأة بالكمبيوتر المستخدمة في صناعة السينما.

وقد نشأ الرابط بين هذا المجال والكواترنيونات لأن عناصر الصور الرسومية المنشأة بالكمبيوتر يجب أن تدور في فراغ ثلاثي الأبعاد. وأفضل طريقة للقيام بذلك تعتمد على كواترنيونات هاميلتون. فهي توفر أداةً جبرية بسيطة لحساب تأثيرات التدوير بسرعة وبدقة. كان هاميلتون سيُصاب بالدهشة، لأن الأفلام لم تكن موجودة في عصره. فالرياضيات القديمة يمكن أن تكتسب استخدامات جديدة على نحوٍ جوهري.

لقد ظهر اقتراح استخدام الكواترنيونات في الصور الرسومية المصمَّمة بالكمبيوتر في ورقة بحثية عام ١٩٨٥ كتبها كين شوميك، وكانت بعنوان «تحريك الدوران باستخدام منحنيات الكواترنيون».2 وتبدأ الورقة بعبارة «إن الأجسام الصلبة تتدحرج وتتقلب في الفراغ. وفي الرسوم المتحركة المنشأة باستخدام الكمبيوتر، هكذا تفعل الكاميرات. ويُوصَف دوران هذه العناصر على أفضل نحوٍ باستخدام نظام رباعي الإحداثيات، أي، الكواترنيونات». ويضيف شوميك أن الكواترنيونات لها الميزة الرئيسية المتمثِّلة في السماح بحدوث «حركة» سلسة؛ وهذا يعني توليد الصور البينية بين نقطتي نهاية محددتين.

قبل الخوض في التفاصيل، تجدر مناقشة بعض ميزات الرسوم المتحركة المنشأة باستخدام الكمبيوتر التي تدعم منهجه. هذه المناقشة مُبسَّطة إلى حد كبير، ويُستخدم الكثير من التقنيات الأخرى أيضًا. إن الفيلم أو الصورة المتحركة على شاشة الكمبيوتر هي في الواقع سلسلة من الصور الثابتة، تظهر في تتابُع سريع لخلق وهم الحركة. في بدايات الرسوم المتحركة — فكر في رسوم والت ديزني — رسم الفنانون كُلًّا من هذه الصور الثابتة كقطعة فنية واحدة. لقد تطلب الأمر مهارة كبيرة لإنشاء حركات واقعية (بقدرِ ما يمكن أن يصبح وجود فأر متكلم أمرًا واقعيًّا). يمكن استخدام حِيَل مختلفة لتبسيط العملية، مثل وجود خلفية واحدة تظل كما هي طوال التتابع، وتركيب العناصر التي تتغير فوقها.

هذه الطريقة شاقة للغاية، وغير عملية في معارك الفضاء السريعة الحركة، أو أي رسوم متحركة أخرى عالية الجودة. تخيَّل أنك تحرك تتابع صور من فيلم أو لعبة تتفاعل فيها عدة مركبات فضائية. وقد صُمِّمت بالفعل كل مركبة (على جهاز كمبيوتر) بواسطة فنان متخصِّص في هذا المجال. وتُمثل كمجموعة ثابتة من النقاط في الفراغ، المرتبِطة بعضها ببعض لتشكيل شبكة من المثلثات الصغيرة. يمكن تمثيل هذه بدورها من خلال قوائم مناسبة من الأعداد؛ إحداثيات النقاط، مع تحديد أي منها يتصل بالآخر. يمكن لبرامج الكمبيوتر «تصيير» هذه المجموعة من الأعداد (وغيرها، مثل اللون) لإنشاء صورة ثنائية الأبعاد لمَركَبة الفضاء. يوضح هذا كيف ستبدو المَركَبة عند وضعها في موضع مرجعي ومشاهدتها من موقع معيَّن.

ولجعل مركبة الفضاء تتحرك، يغير مُصمِّم الرسوم المتحركة هذه القائمة من الأعداد بطريقة مناسبة. على سبيل المثال، لنقلها إلى موقع جديد، تُضاف ثلاثية ثابتة من الأعداد (متجه الإزاحة) إلى جميع النقاط، بينما تظل الروابط كما كانت من قبل. وبعد ذلك يجري تصيير هذه القائمة الجديدة للحصول على الصورة الثابتة التالية، وهكذا. وتُعد إضافة مُتَّجه أمرًا بسيطًا وسريعًا، ولكن يمكن أيضًا تدوير العناصر في الفراغ. إذ يمكنها الدوران حول أي محور، وقد يتغير هذا المحور مع تحرك العنصر. يغير الدوران أيضًا قوائم الأعداد، ولكن بطرق أكثر تعقيدًا.

في كثير من الأحيان، يُعرف مصمم الرسوم المتحركة من أين يبدأ العنصر (على الأرض، مثلًا)، وإلى أين يجب أن ينتقل (يصطف في مواجهة القمر البعيد، مثلًا). يُعد الموضع الدقيق على الشاشة ثنائية الأبعاد أمرًا حيويًّا، لأن هذا ما يراه المشاهد. إنه يجب أن يبدو فنيًّا أو مثيرًا للاهتمام على نحوٍ مناسب. لذلك فإن هذين الموقعين، البداية والنهاية، يُمثلان بقائمتين محسوبتين بعناية من الأعداد. إذا كانت الحركة الدقيقة بينهما أقل أهمية، فيمكن توجيه الكمبيوتر إلى إجراء عملية توليد للصور البينية بين موقعي البداية والنهاية. هذا يعني أن تُدمَج القائمتان معًا بواسطة قاعدة رياضية تمثل الانتقال من واحدة إلى الأخرى. إن حساب متوسط كل زوج من الإحداثيات المقابلة، على سبيل المثال، يعطي عنصرًا في منتصف المسافة بين موقعَي البداية والنهاية. ومع ذلك، هذا أمر مبسط للغاية بحيث لا يمكن قبوله. فهو عادة ما يُشوِّه شكل مَركَبة الفضاء.

إن الحيلة المطلوبة هنا هي استخدام حركات متماسكة في الفراغ للقيام بتوليد الصور البينية. يمكنك البدء بنقل المركبة إلى نقطة المنتصف، وتدويرها بزاوية قياسها ٤٥ درجة. افعل هذا مرة أخرى وستصبح في موقع النهاية الصحيح، بعد أن استدارت بزاوية ٩٠ درجة. من أجل وهم الحركة المتصلة، يمكنك تكرار الانتقال بنسبة ١ / ٩٠ من الاختلاف في المواضع، والتدوير بزاوية قياسها ١ درجة في كل مرة. في الممارسة العملية ستُستخدم خطوات أصغر بكثير.

بشكل أكثر تجريدًا، يمكننا التفكير في هذا الإجراء من حيث «فراغ التكوين» لجميع الحركات المتماسكة. حيث تتوافق كل نقطة في هذا الفراغ مع حركة متماسكة متفردة، وتعطي النقاط القريبة حركاتٍ قريبةً. لذا فإن تسلسلًا من الحركات، كلٌّ منها قريب من سابقه، يتوافق مع تسلسل من النقاط، كلٌّ منها قريب من سابقه. وبربط هذه النقاط بعضها ببعض على الترتيب يمكننا الحصول على مسار مضلَّع في فراغ الحركات المتماسكة. وبجعل الخطوات صغيرة جدًّا يمكننا الحصول على مسار متصل. إذن الآن أعيدت صياغة مسألة توليد الصور البينية بين صورة البداية إلى صورة النهاية على أنها مسألة إيجاد مسار عبر فراغ التكوين. إذا أردنا أن تكون الانتقالات سلِسة، يجب أن يكون هذا مسارًا سلِسًا، دون انحناءات مفاجئة. وهناك طُرق جيدة لجعل المضلَّع سلِسًا.

إن «بُعد» فراغ التكوين هذا — أي، عدد الإحداثيات اللازمة لتحديد نقطة فيه — هو ستة. هناك ثلاثة أبعاد للانتقالات: إحداثي واحد لكل من الشمال-الجنوب، والشرق-الغرب، وأعلى-أسفل. ثم نحتاج إلى اثنين آخرين لتحديد موضع محور الدوران، وواحد أخير لزاوية الدوران. لذا فإن ما بدأ كمسألة حول تحريك عنصر بسلاسة في ثلاثة أبعاد أصبح الآن مسألة تحريك نقطة على طول مسارٍ سلِس في ستة أبعاد. يمكن معالجة مسألة إعادة الصياغة هذه الخاصة بالرسوم المتحركة باستخدام تقنيات من الهندسة متعدِّدة الأبعاد لتصميم المسارات المناسبة.

•••

في الرياضيات التطبيقية، تعود الطريقة التقليدية للتعامُل مع دوران أي عنصر متماسك إلى أويلر. فقد أثبت في عام ١٧٥٢ أن أي حركة متماسكة لا تعكس العنصر هي إما انتقال، أو دوران حول محورٍ ما.3 ومع ذلك، من أجل الحسابات، جمع ثلاث عمليات دوران حول المحاور الثلاثة في التمثيل الإحداثي المعتاد للفراغ، وهي طريقة تُسمى الآن «زوايا أويلر». وكمثال، درس شوميك اتجاه طائرة ما، وهو الذي يُحدد في علوم الطيران من خلال ثلاث زوايا:
  • الانعراج (أو الوجهة)، أي، الدوران حول محور رأسي، يعطي اتجاه الطائرة في مستوًى أفقي

  • الميل، أي، الدوران حول محور أفقي عبر الأجنحة

  • اللف، أي، الدوران حول الخط الذي يمتد من مقدمة الطائرة إلى ذيلها.

المشكلة الأولى في هذا النوع من التمثيل هي أن الترتيب الذي تُطبَّق المكونات به مهم للغاية. عمليات الدوران لا تبديلية. أما المشكلة الثانية، فهي أن اختيار المحاور ليس متفردًا، وأن مجالات التطبيق المختلفة تستخدم خيارات مختلفة. أما الثالثة، فهي أن الصيغ الخاصة بدمج دورانَين متتاليين، المعبر عنها بزوايا أويلر، معقَّدة للغاية. لا تسبب هذه السمات الكثير من المتاعب في تطبيقات الطيران الأساسية، وهي ذات صلة إلى حدٍّ كبير بالقوى المؤثرة على الطائرة عندما تكون في اتجاه معيَّن، ولكنها غير ملائمة للرسوم المتحركة المنشأة باستخدام الكمبيوتر، حيث تخضع العناصر لتتابعاتٍ كاملة من الحركات.

حاجَج شوميك بأن الكواترنيونات، على الرغم من أنها أقل مباشرةً، توفر طريقة لتحديد الدورانات التي تكون أكثر ملاءمةً بكثير لمصمِّمي الرسوم المتحركة، خاصَّة فيما يتعلق بتوليد الصور البينية. ينقسم الكواترنيون إلى جزء قياسي وجزء متَّجهي . ولتدوير المتَّجه بمقدار الكواترنيون ، نضرب في على اليسار و على اليمين لنحصل على . ومهما كانت قيمة ، فإن النتيجة ستكون مرة أخرى هي متَّجه، مع وجود جزء قياسي صِفري. تُظهر قواعد هاميلتون الخاصة بضرب الكواترنيونات، على نحوٍ مثير للاهتمام، أن أي دوران يناظر كواترنيونًا واحدًا. والجزء القياسي هو جيب تمام نصف الزاوية التي يدور من خلالها العنصر؛ ويشير الجزء المتَّجهي في اتجاه محور الدوران، ويكون طوله مساويًا لجيب نصف تلك الزاوية. لذا فإن الكواترنيون يشفر بدقة الهندسة الكاملة للدوران، مع الإزعاج الطفيف المتمثِّل في أن الصيغ الطبيعية تعمل مع نصف الزاوية، وليس الزاوية مباشرة.4

تتجنب الكواترنيونات التشوُّهات التي يمكن أن تتراكم إذا جرى تدوير عنصر عدة مرات، مثلما لا بد أن يحدث في كثير من الأحيان. ويمكن لأجهزة الكمبيوتر إجراء حسابات دقيقة مع الأعداد الصحيحة، ولكن لا يمكن تمثيل الأعداد الحقيقية بدقة تامة، لذلك تحدُث بعض الأخطاء الصغيرة. فمع الأساليب المعتادة لتمثيل التحويلات، يتغير شكل العنصر الذي يجري التعامُل معه قليلًا، وهو أمر تستطيع العين اكتشافه. في المقابل، إذا أخذت أحد الكواترنيونات وغيَّرت الأعداد قليلًا، فإن النتيجة تظل كواترنيونًا، ولا تزال تمثل دورانًا؛ لأن «كل» كواترنيون يناظر دورانًا ما. إنه مجرد دوران مختلف قليلًا عن الدوران الدقيق. وتكون العين أقل حساسية لاكتشاف مثل هذه الأخطاء، ويمكن تخفيف أثرها بسهولة إذا كانت كبيرة جدًّا.

•••

تُعتبر الكواترنيونات إحدى الطرق لإنشاء حركة واقعية في ثلاثة أبعاد، ولكن حتى الآن ما وصفته ينطبق على العناصر المتماسكة. ربما مَركَبة فضاء، أما تنين، فلا. فالتنين ينثني. إذن كيف نصمم تنينًا واقعيًّا باستخدام تقنية الصور الرسومية المعتمِدة على الكمبيوتر؟ هناك طريقة شائعة تنطبق ليس فقط على التنين، ولكن على أي شيء تقريبًا، وسنجربها مع ديناصور؛ لأنني حصلت على صور مناسبة. يقلل هذا الأسلوب حركة العنصر المرن إلى حركة مجموعة من العناصر المتماسكة المرتبطة. يمكنك استخدام أي طريقة تريدها مع العناصر المتماسكة، مع تعديلات إضافية لربط بعضها ببعض على نحو صحيح. على وجه التحديد، إذا كنت تستخدم الكواترنيونات لتدوير وانتقال العناصر المتماسكة، فيمكن تعديل نفس الطرق لتعمل مع ديناصور مرِن.

fig27
على اليمين: شبكة مضلَّعة بسيطة لتيرانوصورس ريكس. على اليسار: شبكة متصلة بهيكل عظمي بدائي.

تتمثل الخطوة الأولى في إنشاء نموذج رقمي ثلاثي الأبعاد للديناصور، يكون سطحه عبارة عن شبكة معقدة من المضلعات المسطحة؛ مثلثات ومستطيلات ومضلعات رباعية أقل انتظامًا. يعرض برنامج الكمبيوتر المستخدم في أداء هذه المهمة الشكل على نحو هندسي، ويمكننا تحريكه وتدويره وتكبير التفاصيل وما إلى ذلك، مع ظهور كل حركة على شاشة الكمبيوتر. ومع ذلك، فإن ما يتعامل معه البرنامج ليس الجوانب الهندسية في حد ذاتها، ولكن قائمة الإحداثيات العددية لنقاط تلاقي المضلعات. في الواقع، المبادئ الرياضية التي يستخدمها البرنامج لمساعدتك في رسم الديناصور هي نفسها، إلى حد كبير، تلك المستخدمة لتحريك الناتج. الفرق الرئيسي هو أنه في هذه المرحلة يكون الديناصور ثابتًا، ويجري تدوير وانتقال وجهة النظر. في الرسوم المتحركة، يمكن أن تكون وجهة النظر ثابتة أثناء تحرك الديناصور؛ أو، كما هو الحال مع التنين المهاجم، قد تتحرك وجهة النظر أيضًا.

إذن الآن أصبح لدينا نموذج ديناصور متماسك وبسيط. كيف نجعله يتحرك؟ ما لن نفعله هو ما كان على الرسامين فعلُه في أيام ميكي ماوس: إعادة رسم صورة الديناصور وهو في وضع مختلف على نحو طفيف وتكرار ذلك مئات المرات. فنحن نريد أن يقوم الكمبيوتر بكل المهام الشاقة. لذلك نختزل الديناصور إلى هيكل عظمي بدائي: عدد صغير من العِصِيِّ المتماسكة («العظام») المتصلة عند أطرافها. ونمرر هذه العصي عبر الجسم والأطراف والذيل والرأس. ليس هذا هيكلًا عظميًّا صحيحًا من الناحية التشريحية، بل مجرد إطار يسمح لنا بثني الأجزاء الرئيسية للحيوان. ويُمثَّل هذا الهيكل العظمي أيضًا على شكل قائمة إحداثيات لطرفي كل عظمة.

هناك طريقة فعَّالة للغاية للحصول على حركات واقعية، خاصة للأشخاص أو المخلوقات التي تتخذ هيئة بشرية، وهي التقاط الحركة. فيؤدي أحد الممثِّلين الحركات المطلوبة أمام كاميرا واحدة، أو عدة كاميرات للحصول على بيانات ثُلاثية الأبعاد. وتُلحَق نقاط بيضاء بالنقاط الرئيسية على جسده، مثل القدمين والركبتين والوركين والمرفقين، ويحلل الكمبيوتر مقطع الفيديو الخاص بالممثِّل لتحديد كيفية تحرك النقاط. ثم تُستخدَم البيانات الناتجة لتحريك الهيكل العظمي. هذه هي الطريقة التي حُرِّك بها المخلوق «جولوم» في ثلاثية «ملك الخواتم». بطبيعة الحال، إذا كنت تريد حركات غير بشرية غريبة (لكن واقعية)، فيجب على الممثل أن يتحرك بطريقة غريبة على نحوٍ ملائم.

بغض النظر عن الطريقة التي حركنا بها الهيكل العظمي، بمجرد أن نحصل على النتيجة المطلوبة، نضع الشبكة فوق الهيكل العظمي. هذا يعني أننا نجمع بين قائمتَي الإحداثيات، مع تحديد روابط إضافية بين مواضع العظام وتلك الخاصة بالأجزاء المحيطة من الشبكة. ثم، لجزء كبير من العملية، ننسى أمر الشبكة، ونحرك الهيكل العظمِي. فهنا يُثمر عملنا على الحركات المتماسكة على نحوٍ جيد، لأن كل عظمة متماسكة، ونريدها أن تتحرك في ثلاثة أبعاد. يجب علينا أيضًا فرض قيود على الحركة، بحيث يستمر الهيكل العظمي في الترابط. فإذا حركنا عظمة معيَّنة، يجب أن تتحرك أيضًا بعض أطراف العظام المرتبطة بها، لذلك نُغير إحداثيات تلك الأطراف إلى المواضع الصحيحة. ثم يمكننا تحريك تلك العظام بشكل متماسك أيضًا، مما يؤثر بالطبع على العظام المرتبطة بها، وبتتبُّع عظمة وراء عظمة يمكننا جعل الهيكل العظمي بأكمله ينثني قليلًا. يمكننا تحريك القدمين لجعله يمشي، وجعل ذيله ينثني لأعلى أو لأسفل أو جانبيًّا، وجعل فَكَّيه الشرسَين ينفتحان، لكننا نفعل كل ذلك على الهيكل العظمي. فهذا أبسط وأسرع و«أرخص»، لأن الهيكل العظمي له عدد أقل من الأجزاء.

عندما نحصل على الحركة المطلوبة للهيكل العظمي، فقد نجد أنه من المفيد تغطيته بالشبكة مرة أخرى، بدءًا من الكادر الأول للحركة. ثم يجعل برنامج التحريك الشبكةَ تتبع حركات الهيكل العظمي عبر كادرات متتالية، دون الحاجة إلى أن نقوم نحن بأي عمل إضافي يتجاوز نقرة واحدة أو نقرتين بالماوس. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا التحقق من أن التحريك لا يزال يبدو واقعيًّا عندما يتحرك الديناصور بالكامل وفق حركة هيكله العظمي.

الآن يمكننا ممارسة أي نوع من الأعمال الإبداعية. يمكننا تغيير موضع «الكاميرا»، أي، وجهة النظر التي يستخدمها البرنامج، من خلال استخدام وضع التقريب للحصول على لقطة مقرَّبة، أو عرض الديناصور وهو يعدو من مسافة بعيدة، أو غير ذلك. ويمكننا إنشاء مخلوقات أخرى، ربما قطيع من الحيوانات العاشبة وهو يهرب من التيرانوصور المتوحش. مرة أخرى، يتم ذلك بشكل أساسي باستخدام الهياكل العظمية ثم تُغطَّى بالشبكات. يمكننا تحريك كل مخلوق على حدة، ثم تركيبها جميعًا معًا لصنع مشهد صيد.

نظرًا لأن الهياكل العظمية هي مجرد أشكال عَصَوية، ففي هذه المرحلة ربما لم نقُم بأي شيء لمنع مخلوقين من احتلال المساحة نفسها. يمكن أن ينبهنا إجراء المزيد من التعديلات عبر البرنامج إلى أي تصادمات من هذا النوع. عندما نضع الشبكات فوق الهياكل العظمية، ستتداخل المضلَّعات الموجودة في المقدمة مع تلك الموجودة في الخلف، وبما أن الديناصورات ليست شفَّافة، يتعين علينا التخلُّص من أي مناطق يجب إخفاؤها. كل هذا يتم باستخدام عمليات حسابية بسيطة في هندسة الإحداثيات، ولكنها عمليات كثيرة إلى حدٍّ ما. وقبل أن تصبح أجهزة الكمبيوتر سريعة جدًّا، لم يكن ذلك ممكنًا. أما الآن فأصبح الأمر روتينيًّا.

لا يزال هناك المزيد من العمل الذي يتعيَّن القيام به، لأن الديناصور الذي يشبه تجمُّعًا من العديد من المضلَّعات ليس مثيرًا للإعجاب على نحوٍ كبير. علينا أن نضع أنماطَ جلدٍ واقعيةً فوق المضلعات، ثم نحدد معلومات الألوان، وربما نصنع أنسجة واقعية؛ إذ يبدو الفراء مختلفًا تمامًا عن القشور. تتطلب كل خطوة برنامجًا مختلفًا، ينفذ تقنيات رياضية مختلفة. هذه الخطوة تُسمَّى التصيير، وهي تجمع الصورة النهائية التي تظهر على الشاشة عندما نشاهد الفيلم. ولكن في قلب كل شيء توجد مليارات العمليات الحسابية التي تحرك النقاط والحواف على نحو متماسك.

هذه الأساليب الرياضية لها ميزة أخرى أيضًا. في أي مرحلة، يمكننا أن نقرر أن شيئًا ما ليس صحيحًا تمامًا، ونغيِّره. إذا كنا نريد ديناصورًا أخضر بدلًا من ديناصور بُني، فلن يتعيَّن علينا رسم كل شيء مرة أخرى. سنستخدم نفس الهيكل العظمي والشبكة، ونفس الحركات ونفس نسيج الجلد، لكننا سنغير اللون.

عند تحريك فيلم أو لعبة، تستخدم فِرَق الخبراء مجموعة من حِزَم البرامج القياسية التي طورتها الصناعة لتنفيذ هذه العمليات. لإعطائك فكرة عن مدى تعقيد هذه الأنشطة، سأُلقي نظرة على بعض الشركات وحِزَم البرامج المستخدمة في صنع فيلم «أفاتار».

لقد نُفذ الجزء الأكبر من أعمال التحريك بواسطة شركة ويتا ديجيتال في نيوزيلندا، المشهورة بعملها في سلسلة أفلام «ملك الخواتم» و«ذا هوبيت». وأنشأت شركة إندستريال لايت آند ماجيك، التي تأسست في عام ١٩٧٥ على يد جورج لوكاس لإنشاء مؤثرات خاصة لأول فيلم من سلسلة أفلام «ستار وورز» (حرب النجوم)، ١٨٠ تتابعًا، خاصةً تلك الخاصة بالطائرة في المعركة النهائية. أما باقي الإسهامات فجاءت من شركات في المملكة المتَّحدة وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، أضافت تفاصيل خاصة مهمة؛ مثل شاشات غرف التحكم، وشاشات العرض بمستوى الرأس الملحقة بالأقنعة، محاكية بذلك تكنولوجيا المستقبل. وقد نُفِّذت معظم هذه اللقطات بواسطة حزمة برامج «مايا» الخاصة بشركة أوتوديسك. مع الاستعانة بحزمة برامج «مودو» الخاصة بشركة لوكسولوجي لتصميم النماذج، وخاصة الطائرة الحربية «سكوربيون». وصنع برنامج «هوديني» المشاهد الخاصة ﺑ «هيلز جيت». وصُمِّمت المخلوقات الفضائية باستخدام أداة «زي برش». وصُحِّحت الألوان باستخدام برنامج «سموك» الخاص بشركة أوتوديسك، وصنعت حزمة برامج «ماسيف» محاكاة للنباتات الفضائية، واستُخدمت أداة «مدبوكس» لتصميم الجبال الطافية. وأُنشئت الأنسجة والتصميمات المفاهيمية الأولية باستخدام برنامج «فوتوشوب» الخاص بشركة أدوبي. إجمالًا، لقد شاركت حوالي اثنتي عشرة شركة، واستُخدمت ٢٢ أداة برمجية مختلفة، بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من البرامج المساعدة المخصصة.

•••

يتم الآن دمج بعض المبادئ الرياضية المعقدة للغاية في التحريك بواسطة الكمبيوتر. تتمثل الأهداف دائمًا في جعل مهمة مصمِّم الرسوم المتحركة بسيطة قدر الإمكان، والحصول على نتائج واقعية، وخفض التكاليف والوقت. إننا نريدها كلها، ونريدها الآن، ونريدها رخيصة.

لنفترض، على سبيل المثال، أن استوديو الأفلام به مكتبة للصور المتحركة لديناصور تتضمَّن تتابعات حركية مختلفة له. في أحدها، يعدو للأمام خلال «دورة مشي» واحدة، جزء واحد من حركة متكررة بشكل دوري. وفي تتابع آخر، يقفز في الهواء ثم يرتطم بالأرض. ونحن نريد إنشاء تتابع يركض فيه خلف حيوان صغير آكل للعشب ثم يقفز فوقه. إن إحدى الطرق الفعالة للبدء هي أن نجمع معًا اثنتي عشرة، أو نحو ذلك، من دورات المشي الخاصة بالعَدْو، ثم نضيف القفزة في النهاية. بالطبع سنقوم بعد ذلك بتعديل كل شيء حتى لا يكون من الواضح أن نفس التتابع يتكرر اثنتي عشرة مرة، لكن هذه بداية جيدة.

من المنطقي تجميع التتابعات معًا على مستوى الهيكل العظمي. يمكن عمل جميع الأشياء الأخرى، مثل تطبيق الشبكات وإضافة اللون والنسيج لاحقًا. لذا علينا أن نفعل ما هو بسيط، ونجمع اثنتي عشرة نسخة من دورة المشي الخاصة بالعدو مع القفزة، ونرى كيف يبدو الأمر.

سيبدو فظيعًا.

الأجزاء المنفصلة جيدة، لكنها لا تتكامل معًا على نحو سلِس. لذا، النتيجة متقطعة وغير مقنِعة.

حتى وقت قريب، كان سيكون ملاذك الوحيد هو تعديل الروابط يدويًّا، وربما دمج بعض أجزاء حركة جديدة. وحتى عندئذٍ، كانت المهمة صعبة. لكن بعض التطورات الحديثة في التقنيات الرياضية تَعِدُ بتقديم حلول للمشكلة بطريقة أفضل بكثير. والفكرة هي استخدام طرق انتقال سلس بين الكادرات لملء أي فجوات والتخلص من الانتقالات المفاجئة. تتمثل الخطوة الأساسية في إيجاد طرق جيدة للقيام بذلك مع عَظْمة واحدة في الهيكل العظمي، أو بشكل أعم منحنًى واحد. بعد حل هذه المشكلة، يمكنك تجميع الهيكل العظمي معًا من العظام الفردية.

يُطلق على مجال الرياضيات الجاري تجربته حاليًّا اسم نظرية الأشكال. لذا فلنبدأ بالسؤال الواضح: ما الشكل؟

في الهندسة العادية، تقابلنا الكثير من الأشكال القياسية: مثلث، مربع، متوازي أضلاع، دائرة. عندما تفسَّر هذه الأشكال في هندسة الإحداثيات، فإنها تتحول إلى معادلات. في المستوى، على سبيل المثال، النقطتان على دائرة الوحدة هما بالضبط هاتان اللتان تحققان المعادلة . هناك طريقة أُخرى مناسبة جدًّا لتمثيل الدائرة وهي استخدام ما يُسمى «البارامتر». وهو متغير مساعد، على سبيل المثال ، ويمكننا التفكير فيه على أنه يمثل الزمن، إلى جانب صيغتين لكيفية اعتماد و على . إذا كان يمر عبر نطاقٍ معين من الأعداد، فإن كل قيمة من قيم تعطي إحداثيَّين و . احصل على الصيغتين الصحيحتين، وعندئذٍ ستحدد هذه النقاط الدائرة.

إن الصيغتين البارامتريَّتين القياسيتين للدائرة مثلثيتان:

ومع ذلك، من الممكن أيضًا تغيير كيفية ظهور البارامتر في الصيغة ويظل الناتج دائرة. على سبيل المثال، إذا غيرنا إلى ، فإن الصيغتين
تحددان أيضًا دائرة، وهي الدائرة نفسها. يحدث هذا التأثير لأن بارامتر الزمن ينقل معلومات أكثر من مجرد كيفية اختلاف و في الصيغة الأولى، تتحرك هذه النقطة بسرعة ثابتة مع تغيُّر . بالنسبة للثانية، فهي لا تفعل ذلك.
نظرية الأشكال هي وسيلة للتحايل على هذا النقص في التفرد. فالشكل هو منحنًى، يُنظر إليه على أنه عنصر لا يعتمد على صيغة بارامترية محددة. لذا فإن منحنيَين بارامتريَّين يحددان نفس الشكل إذا كان بإمكاننا تغيير البارامتر وتحويل صيغة إلى الأخرى، مثل تغيير إلى . على مدى القرن الماضي، توصَّل علماء الرياضيات إلى طريقة قياسية للقيام بهذا النوع من الأشياء. إنه ليس ما يرجح أن أي شخص آخر قد يفكر فيه، لأنه يتطلب وجهة نظر تجريدية إلى حدٍّ ما.

لا تتمثل الخطوة الأولى في دراسة منحنًى بارامتري واحد فقط، بل و«فراغ» جميع المنحنيات البارامترية «الممكنة». ومن ثَم نقول إن «نقطتين» في هذا الفراغ (أي منحنيين بارامتريين) تكونان متكافئتين، إذا كان بإمكاننا الانتقال من إحداهما إلى الأخرى عن طريق تغيير البارامتر. وعندئذٍ يُعرَّف «الشكل» على أنه فئة تكافؤٍ كاملة من المنحنيات، أي، مجموعة جميع المنحنيات المكافئة لمنحنًى محدد.

إنها نسخة أكثر عمومية من الحيلة المستخدمة في القيام بعمليات حسابية وفقًا لمقياس. فبالنسبة للأعداد الصحيحة بمقياس ٥، على سبيل المثال، «الفراغ» هو جميع الأعداد الصحيحة، ويصبح عددان صحيحان متكافئين إذا كان الفرق بينهما من مضاعفات ٥. هناك خمس فئات تكافؤ، وهي:

كل مضاعفات العدد ٥
كل مضاعفات العدد ٥ مع إضافة ١
كل مضاعفات العدد ٥ مع إضافة ٢
كل مضاعفات العدد ٥ مع إضافة ٣
كل مضاعفات العدد ٥ مع إضافة ٤.

لماذا نتوقف عند هذا الحد؟ لأن مضاعف ٥ مع إضافة ٥ هو مجرد مضاعف أكبر قليلًا للعدد ٥.

في هذه الحالة، فإن مجموعة فئات التكافؤ، التي يشار إليها ﺑ ، لها الكثير من الخصائص المفيدة. في الواقع، أظهر الفصل الخامس أن جانبًا كبيرًا من نظرية الأعداد الأساسية يرتكز على هذه البنية. نقول إن هي «فراغ خارج القسمة» للأعداد الصحيحة بمقياس ٥. وهذا ما تحصل عليه إذا تظاهرت أن الأعداد التي الفرق بينهما ٥ متطابقة.

يحدث شيء مشابه للحصول على فراغ الأشكال. فبدلًا من الأعداد الصحيحة، لدينا فراغ كل المنحنيات البارامترية. فبدلًا من تغيير الأعداد بمضاعفات ٥، نغير صيغة البارامتر. لذا سنحصل على فراغ خارج قسمة عبارة عن فراغ جميع المنحنيات البارامترية التي تعد متكافئة إذا كان بالإمكان الانتقال من أحدها للآخر بتغيير البارامتر. قد يبدو هذا بلا معنًى، لكنها حيلة قياسية أصبحت قيمتها واضحة على مدى مدة زمنية طويلة. أحد أسباب أهميتها هو أن فراغ خارج القسمة هو الوصف الطبيعي للعناصر التي نهتم بها. والسبب الآخر هو أن فراغ خارج القسمة عادةً ما يكتسب تركيبًا مثيرًا للاهتمام من الفراغ الأصلي.

بالنسبة لفراغ الأشكال، فإن العنصر الرئيسي المثير للاهتمام في التركيب هو قياس المسافة بين شكلين. خذ دائرة وشَوِّهْها قليلًا؛ ستحصل على منحنًى مغلق، يظل مشابهًا للدائرة، لكنه مختلف. زد تشويه الدائرة، وستحصل على منحنًى مغلق يكون على نحو بديهي أكثر اختلافًا؛ «إلى حد بعيد». يمكن جعل هذه البداهة أمرًا مثبتًا، ويمكن إثبات أن فراغ الأشكال له مفهوم معقول وطبيعي للمسافة؛ أي، دالَّة مِترية.

بمجرد أن يصبح لفراغٍ ما دالة مترية، يمكننا القيام بكل أنواع الأشياء المفيدة. يمكننا، على وجه التحديد، التمييز بين التغيرات المتصلة والتغيرات غير المتصلة، ويمكننا زيادة الرهان قليلًا للتمييز بين التغيرات السلسة والتغيرات غير السلسة. وها نحن، أخيرًا، نعود إلى مشكلة تجميع تتابعات التحريك معًا. على أقل تقدير، تتيح لنا تلك الدالة في فراغ الأشكال اكتشاف حالات عدم الاتصال أو نقص السلاسة على الكمبيوتر، عن طريق أداء العمليات الحسابية المطلوبة، بدلًا من الاعتماد على العين. لكن هناك المزيد.

توجد في الرياضيات العديد من تقنيات السلاسة، التي يمكن أن تحوِّل دالة غير متصلة إلى دالة متصلة، أو دالة غير سلسة إلى دالة سلسة. لقد اكتُشف أنه يمكننا تطبيق هذه التقنيات على فراغ الأشكال. لذلك يمكنك، تلقائيًّا، تعديل تتابع مجمَّع به عدم اتصال مفاجئ للتخلص من عدم الاتصال هذا، عن طريق قيام الكمبيوتر بالعمليات الحسابية الصحيحة. هذا ليس بالأمر السهل، ولكن يمكن القيام به، ويمكن القيام به بكفاءة كافية لتوفير المال. إن مجرد حساب المسافة بين منحنيين يستخدم طرق تحسين، تشبه قليلًا تلك التي عرضناها عند الحديث عن مسألة البائع المتجول. تتضمن عملية إضفاء السلاسة في التتابع حل معادلة تفاضلية تشبه نوعًا ما معادلة فُورييه لتدفق الحرارة، التي سنعرضها في الفصلين التاسع والعاشر. الآن يُضبط تتابع متحرك كامل من المنحنيات كي «يتدفق» في تتابع متحرك مختلف، للتخلص من حالات عدم الاتصال، وهو الأمر الذي يشبه مرة أخرى تدفق الحرارة لتحقيق سلاسة موجة مُربَّعة.5

تتيح الصيغ المجردة المماثلة أيضًا تحويل تتابعات التحريك إلى تتابعات متشابهة، ولكن مختلفة. فيمكن تعديل تتابع يُظهر ديناصورًا يمشي لجعل الحيوان يجري. إنها ليست مجرد مسألة تسريع الحركة؛ لأن الطريقة التي يجري بها الحيوان تختلف بشكل واضح عن طريقة سيره. لا تزال هذه المنهجية في مهدها، لكنها تشير بقوة إلى أن بعض التفكير الرياضي عالي المستوى للغاية يمكن أن يوفر الكثير من الوقت في أعمال التحريك في الأفلام في المستقبل.

هذه فقط بعض الطرق التي تساهم بها الرياضيات في مجال التحريك الرُّسومي. وهناك طرق أخرى تنشئ نُسخًا مبسطة من العمليات الطبيعية لمحاكاة الأمواج في المحيط والركامات الثلجية والسُّحب والجبال. إن الهدف هو الحصول على نتائج واقعية مع إبقاء العمليات الحسابية بسيطة قدر الإمكان. وتوجد الآن نظريات رياضية عديدة حول تمثيل الوجوه البشرية. في فيلم «روج وان»، وهو أحد سلسلة أفلام «حرب النجوم»، أُعيد تجسيد الممثلين بيتر كوشينج (الذي كان قد تُوفي عام ١٩٩٤) وكاري فيشر (التي تُوفِّيت في عام ٢٠١٦) رقميًّا عن طريق وضع وجهيهما على وجهَي اثنين من الدوبليرات. لم يكن الأمر مقنعًا على نحو جيد، واعترض المعجبون بشدة. وقد استخدمت طريقة أفضل في فيلم «الجيداي الأخير» (ذا لاست جيداي)؛ حيث اختيرت لقطات مستبعدة لفيشر من أفلام سابقة وتجميعها معًا، مع تكييف السيناريو ليلائمها. ومع ذلك، كانت لا تزال هناك حاجة إلى الكثير من الصور الرسومية المنشأة بالكمبيوتر لتغيير ملابسها، من أجل الاتساق. في الواقع، جرى تصيير كل شيء تقريبًا على نحوٍ رقمي باستثناء وجهها؛ الرأس، وطريقة تصفيف الشعر، والجسم، والملابس.6

تُستخدم نفس التقنيات بالفعل لصنع مقاطع «تزييف عميق» كدعاية سياسية. صوِّر شخصًا ما يُدلي بملاحظات عنصرية أو جنسية، أو يبدو وكأنه مخمور؛ ثم ضع وجه خصمك فوق وجه هذا الشخص وانشر المقطع على وسائل التواصل الاجتماعي. حتى عندما يُكشَف عن التزييف، فأنت متقدم على خصمك؛ لأن الشائعات تنتقل أسرع من الحقائق. إن الرياضيات، والتكنولوجيا التي تعتمد عليها، يمكن أن تُستخدَم في الشر مثلما تُستخدَم في الخير. ما يهم هو: كيف نستخدمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤