لعلَّ خيالَ العامريَّة زائرُ
فيُسعَدَ مَهجورٌ ويُسعَد هاجِرُ
وإني على طول الشِّماسِ عن الصَّبا
أحنُّ وتصبِيني إليك الجآذِرُ
٢
وفي كِلَّتَيْ ذاك الخِباءِ خريدةٌ
لها من طِعانِ الدَّارعينَ سَتائرُ
٣
تقولُ إذا ما جئتُها متدرِّعًا
أزائرُ شوقٍ أنتَ أم أنتَ ثائرُ
٤
تثنَّت فغصنٌ ناعمٌ أم شَمائلٌ
وولَّت فَليلٌ فاحِمٌ أم غدائِرُ
٥
وقد كنتُ لا أرضى من الوَصلِ بالرِّضا
لياليَ ما بيني وبينكِ عامرُ
فأمَّا وقد طالَ الصُّدودُ فإنَّه
يقرُّ بعينيَّ الخيالُ المزاوِرُ
٦
تَنامُ فتاةُ الحيِّ عني خَليَّةً
وقد كثُرتْ حولي البواكي السَّواهرُ
وتُسعدُني غيرُ البَوادي لأجلِها
وإن رغمتْ بين البُيوت الحَواضرُ
٧
وما هي إلا نظرةٌ ما احتَسبتُها
بعُربٍ أضارَتني إليها المصايِرُ
كلِفتُ بها والرَّكْبُ والحيُّ كلُّه
حيارَى إلى وجهٍ به الحسنُ حايِرُ
وما ظلَّلتْ عن رائقِ الحُسن إنما
نممنَ على ما تحتهنَّ المَعاجِرُ
٨
فيا نفسُ ما لاقيتِ من لاعجِ الهوى
ويا قلبُ ما جرَّت عليكَ النواظرُ؟
ويا عفَّتي ما لي ومالُكِ كلَّما
هممت بأمرٍ همَّ لي منكِ زاجِرُ
٩
كأنَّ الحِجى والصَّونَ والعقلَ والتُّقَى
لديَّ ورباتُ الحِجالِ ضَرائرُ
وهنَّ وإن جانبتُ ما يَبتغينَه
حبائبُ عندي منذ كُنَّ أَثائرُ
١٠
وكم ليلةٍ خُضت الأسنَّة نحوَها
وما هدَأتْ عينٌ ولا نامَ ساهِرُ
فلمَّا خَلَونا يعلَمُ اللهُ وحدَه
لقد كَرُمَتْ نَجوَى وعفَّتْ ضَمائِرُ
وبتُّ يظنُّ الناسُ فيَّ ظنونَهم
وثوبيَ مما يرجُمُ الناسُ طاهِرُ
١١
وكم ليلةٍ ماشيتُ بدرَ تمامِها
إلى الصُّبحِ لم يشعُر بأمريَ شاعِرُ
ولا ريبةٌ إلا الحديثُ كأنَّه
جمانٌ وَهَى أو لؤلؤٌ متناثِرُ
أقولُ وقد ضجَّ الحليُّ بجَرسِه
ولم تُر منها للصَّباح بَشائرُ
١٢
فيا ربِّ حتى الحليُ مما نخافُهُ
وحتى بياضُ الصبحِ مما نحاذِرُ
١٣
ولي فيكِ من فرط الصبابة آمِرٌ
ودونَكِ من حُسن الصِّيانةِ زاجرُ
عفافُك غيٌّ إنما عفَّةُ الفتَى
إذا عفَّ عن لذَّاته وهو قادِرُ
نفَى الهمَّ عني همَّةٌ علويَّة
وقلبٌ على ما شئتُ منه موازِرُ
١٤
وأسمرُ ممَّا يُنبتُ الخَطُّ ذابلٌ
وأبيضُ مما يطبَعُ الهندُ باترُ
١٥
وقلبٌ تَقرُّ الحربُ، وهْو محارِبٌ
وعزمٌ يُقيم الجسمَ وهْو مُسافرُ
ونفسٌ لها في كلِّ أرض لُبانةٌ
وفي كل حيٍّ أسرةٌ ومعاشِرُ
١٦
إذا لم أجِدْ في كل فجٍّ عشيرةً
فإنَّ الكرامَ للكِرامِ عَشائرُ
ولاحِقةُ الإِطْلَينِ من نَسلِ لاحِقٍ
أمينةُ ما نِيطتْ إليه الحَوافرُ
١٧
من اللاءِ تأبَى أن تُعانِدَ ربَّها
إذا حسَرتْ عند المُغَارِ المآزرُ
١٨
وخرقاءُ ورقاءٌ بطيءٌ كَلالُها
تكلَّفُ بي ما لا تُطيقُ الأباعِرُ
١٩
غَريريَّة صافتْ شقائقَ دابِقٍ
مدَى قيظِها حتى تضرَّم ناجِرُ
٢٠
وحمَّضَها الرَّاعي بميثاءَ بُرهةً
تناولُ من خِذْرافِه وتُغاوِرُ
٢١
أقامَ بها حتى اطمأنَّتْ وضمَّنَتْ
بقيةَ صَفوانٍ قِراها المَناظِرُ
وخوَّضها بَطْنَ السَّلوطَحِ رَيثَما
أُديرَتْ بمِلحانَ الشُّهورُ الدَّوائرُ
٢٢
فجاءَ بكوماءٍ إذا هيَ أقبلَتْ
ظَننتَ عليها رحلَها وهو حاسِرُ
٢٣
فيا بُعدَ ما بين الكَلالِ وبينَها
ويا قُربَ ما يرجُو عليها المُسافِرُ
دعِ الوطَنَ المألوفَ رابَكَ أهلُه
وعَدِّ عن الأهلِ الذين تَكاشَروا
٢٤
فأهلُك مَن أصفَى ووُدُّك من صَفَا
وإن نزَحتْ دار وقلَّت عشائر
تبوَّأتُ من قرْمَيْ معدٍّ كِلَيهما
مكانًا أراني كيف تُبنى المَفاخِرُ
٢٥
لئن كان أَصلِي من معدٍّ نِجارُه
ففَرعيَ سيفُ الدَّولةِ القَرم ناصِرُ
وما كانَ لولاه لِيَنفعَ أوَّلٌ
إذا لم يُزيِّنْ أولَ المجدِ آخِرُ
لعَمرُك ما الأبصارُ تنفَعُ أهلَها
إذا لم يكنْ للمُبصرينَ بَصائرُ
فهل ينفعُ الخَطِّيُّ غيرَ مثقَّفٍ
وتظهَرُ إلا بالصِّقالِ الجَواهرُ
أُناضل عن أحسابِ قومِي بفَضلِه
وأفخرُ حتى لا أرَى مَن أُفاخِرُ
وأسعَى لأمرٍ عُدَّتي لحُصولِه
أَواخِيهِ مِن آرائِه وأَواصِرُ
٢٦
أيشغلكُم وصفُ القديمِ ودونَه
مَفاخِرُ فيها شاغلٌ ومآثِرُ
٢٧
لنا أولٌ في المَكرُماتِ وآخرٌ
وباطنُ مجدٍ تغلبيٍّ وظاهرُ
أيا راكبًا تَخدُو بأعوادِ رحلِه
غدافرةٌ غيرانةٌ وعذافرُ
٢٨
ألِكْني إلى أبناءِ وَرقا رِسالةً
على نَأيِها وهْي القَوافي السَّوايِرُ
٢٩
لئنْ باعَدتْكُم نيةٌ طالَ شَحطُها
فقَد قرَّبَتْني نيةٌ وضَمائِرُ
ونشرُ ثناءٍ لا يَغيبُ كأنما
به نَشرَ العضبَ اليمانيَّ ناشِرُ
ويجْمَعُنا في وائلٍ عَشَريَّةٌ
ووُدٌّ وأرحامٌ هناك سَواجِرُ
فقُل لبني ورقاءَ إن شطَّ منزلٌ
فلا العهدُ منسِيٌّ ولا الوُدُّ داثرُ
وكيف ترث الخيلُ أو تضعُف القُوَى
فقد قرُبت قُربَي وشُدَّت أواصِرُ
٣٠
أبا أحمدٍ مهلًا إذا الفَرعُ لم يطِبْ
فلا طِبنَ يومَ الإفتخارِ العناصرُ
أتسمُو بما شادَت أوائلُ وائلٍ
وقد غمرتْ تلك الأوالي الأواخِرُ
وتطَّلبُ العزَّ الذي هو غائِبٌ
وتتَّرِكُ العزَّ الذي هو حاضرُ
٣١
عليَّ لأبكارِ الكلامِ وعُونه
مفاخرُ تُفنِيه وتبقَى مَفاخرُ
أنا الحارثُ المختارُ من نسلِ حارثٍ
إذا لم يسُدْ في القومِ إلا الأخايِرُ
فجَدِّي الذي لمَّ العشيرةَ جودُه
وقد طارَ فيها للتفرُّقِ طائرُ
تحمَّلَ قتلاها وساقَ دِيَاتِها
حَمولٌ لما جرَّت عليه الجَرائرُ
ودَى مائةً لولاه جرَّت دِماؤُهم
مواردَ مرَّت ما لهنَّ مصادِرُ
٣٢
ومنَّا الذي ضافَ الإمامَ وجيشَه
ولا جودَ إلا ما يضيف العَساكرُ
وجدِّي الذي ساسَ الديارَ وأهلَها
وللدَّهرِ نابٌ فيهما وأظافِرُ
ثلاثةُ أعوامٍ يكابد مَحْلَها
أشمُّ طويلُ الساعدينِ عُرَاعِرُ
٣٣
فآبوا بجَدواه وباءَ بشُكرِهم
وما فيهما في صَفقةِ المجد خَاسِرُ
أسى داءَ ثغرٍ كان أعيا دواؤُه
وفي قلبِ مَلْكِ الرُّوم داءٌ مُخامِرُ
بنى الثُّغَرَ الباقي على الدَّهرِ ذكرُه
نتائِجُ فيها السَّابقاتُ الضَّوامرُ
٣٤
وسوف على رغمِ العدو يُعيدُها
معوَّد ردِّ الثَّغر والثغرُ داثرُ
ولما ألمَّت بالدِّيارينِ أزمَةٌ
جَلاها ونابُ الموتِ بالموت كاشِرُ
كفى عدَاوتِ الغيثِ وارفُ كفِّه
فأمرعَ بادٍ واجتَنى العيشَ حاضرُ
٣٥
أناخوا بوهَّاب النفائسِ ماجدٌ
يُقاسِمهم أموالَه ويشاطرُ
وعمِّي الذي أردَى الكماةَ وفاتكًا
وما الفارسُ القتَّال إلا المُجاهِرُ
٣٦
أذاقَهما كأسَ الحِمامِ مُشيَّعٌ
مُثاورُ غاراتِ الزَّمان مُساوِرُ
يُطيعهمُ ما أصبحَ الدَّهرُ فيهمُ
ولا طاعةٌ للمرء والمرءُ جائرُ
لنا في خلافِ الناس عثمانَ أسوةٌ
وقد جرَّت البلوى عليه الجَرائرُ
٣٧
وسار إلى دارِ الخلافة عَنوةً
فحرَّقَها والجيشُ بالدَّارِ دائرُ
أذلَّ تميمًا بعد عزٍّ وطَالما
أذلَّ بنا الباغي وعزَّ المُجاوِرُ
فأقبلَ بالساري يُقاد أَمامَه
وللقَيد في يُمنى يديه ضفائِرُ
وشنَّ على ذي الخَالِ خيلًا تناهبتْ
سماوةُ كَلبٍ بينَها والعُراعِرُ
٣٨
أضَقْنَ عَلَيه البِيدَ وهي فَضافضٌ
وأضْلَلْنَه عن سُبْلِه وهو خابِرُ
٣٩
أماطَ عن الأعراب ذل إناءَةٍ
تساوَى البَوادي عندها والحَواضِرُ
٤٠
وأجلَتْ لنا عن فتحِ مصرَ سحائبٌ
من الطَّعنِ سُقياها المنايا الحوَاضرُ
٤١
تَخالط فيها الجَحفلان كلاهما
فتَعفو القَنا عنها وتنبُو البَواترُ
وقاد إلى أرض السبكْريِّ جَحفلًا
يسافر فيه الطرفُ حين يسافر
٤٢
تناسى به القتَّالُ في العدِّ قتلَه
ودارتْ بربِّ الجيشِ فيه الدوائر
وعمِّي الذي سُلَّت بنجدٍ سيوفُه
فروَّع بالغَورين من هو غائرُ
٤٣
تناصرتِ الأحياءُ من كل وجهةٍ
وليس له إلا مِن الله ناصرُ
فلم يُبقِ غمرًا طعنُه الغمرُ فيهم
ولم يُبقِ وِترًا ضربُه المتواترُ
٤٤
وساق إلى ابنِ الديوَداد كتيبةً
لها لجَبٌ من دونها وزماجر
٤٥
جَلاها وقد ضاق الخِناقُ بضربة
لها من يدَيه في الملوك نظائرُ
بحيث الحُسام الهندوانيُّ خاطبٌ
بليغٌ وهاماتُ الرجالِ منابرُ
٤٦
وعمِّي الذي سمَّته قيس مُزَرفنًا
وقد شجَرتْ فيه الرماحُ الشَّواجر
٤٧
وردَّ ابنَ مزروعٍ ينوءُ بصدره
وفي صدره ما لا تنال المَسابِرُ
٤٨
وعمِّي الذي أفنَى السُّراة بوقفةٍ
شهيدانِ فيها رابيانِ وحادرُ
٤٩
أصبنَ وراءَ السِّن صالحَ وابنَه
ومنهنَّ نوءٌ بالبَوارح ماطِرُ
٥٠
كفاه أخي والخَيل فوضى كأنها
وقد عضَّت الحربَ النعامُ النوافرُ
٥١
غداة وأجزات المدام بمنزلٍ
يعاشر فيه المرء مَن لا يُعاشَرُ
وعمِّي الذي ذلَّت حبيبٌ لسيفه
وكانت ومَرعاها من العز ناضرُ
٥٢
وعمي حَرونٌ قلب كل كتيبة
تخفُّ جبالٌ وهو للموت صابرُ
٥٣
أولئك أعمامي ووالديَ الذي
حمَى جنَبات المُلك والمُلك شاغرُ
٥٤
بحيث نساءُ الغادرين طوالقٌ
وحيث إِماءُ الناكثين حرائرُ
له بسليمٍ وقعةٌ جاهليةٌ
تقرُّ بها قندٌ وتشهد حاجرُ
٥٥
وأذكتْ مذاكِيه بسَرحٍ وأرضُها
من الضَّرب نارًا جمرُها متطايِرُ
٥٦
شفَتْ من عقيل أنفسٌ شفها السُّرى
فهوَّم عَجلانٌ ونوَّم ساهِرُ
٥٧
وأوَّل من شدَّ المجيد بعينهِ
وأول من قدَّ الكَميَّ المظاهرُ
٥٨
غزا الرومَ لم يقصِدْ جوانبَ غزَّةٍ
ولا سبقتْه بالمُراد النَّذائرُ
فلم ترَ إلا فالقًا هامَ فيلقٌ
وبحرًا له تحتَ العجاجةِ زاجرُ
٥٩
ومستردفاتٍ من نساءٍ وصِبيةٍ
تثنَّى على أكتافهنَّ الجواهرُ
٦٠
فإن يمضِ أشياخِي فلم يمضِ مجدُها
ولا دُثرتْ تلكَ العُلى والمآثِرُ
٦١
نشيدُ كما شادُوا ونبني كما بنَوا
لنا شرَفٌ ماضٍ وآخر غابرُ
ففينا لدينِ الله عز ومنَّة
ومنا لدينِ الله سيفٌ وناصرُ
هما وأميرُ المؤمنين مشرَّدٌ
وجاراه لمَّا لم يجِد من يجاورُ
وردَّاه حتى ملَّكاه سريرَه
بعشرين ألفًا بينها الموتُ سافِرُ
وساسا أمورَ المسلمين سياسةً
لها الدينُ والإسلامُ واللهُ شاكرُ
ولما طغى عجلُ العراق ابن زايقٍ
شفى منه لا طاغٍ ولا متكاثرُ
إذ العربُ العرباءُ تنبي عمادَه
ومنَّا له طاوٍ على الثار ذاكِرُ
أذاق العلاءَ الثعلبيَّ ورهطَه
عواقبَ ما جرَّت عليه الجرائرُ
٦٢
وأوطأَ حصنَيْ رستنيس خيولَه
وقبلهما لم يقرع النجمَ حافرُ
٦٣
فآب بأسراها تغنِّي كبولُها
وتلك غوانٍ ما لهنَّ مزاهِرُ
٦٤
وصبَّ على الأتراكِ نقمةَ مُنعمٍ
رماه بكُفران الصنيعة غادرُ
وإن معاليه لكُثرٌ غوالبٌ
وإن أياديه لغُرٌّ غرائرُ
٦٥
ولكنَّ قولي ليس يفضُل عن فتًى
على كلِّ قولٍ من معاليه حاطرُ
ألا قُلْ لسيفِ الدولة القَرمِ إنني
على كلِّ شيء غير وصفِك قادرُ
فلا تُلزمَنِّي خطةً لا أُطيقها
فمجدُك غلَّاب وفضلُك باهرُ
ولو لم يكن فَخري وفخرُك واحدًا
لما سار عني بالمدائح سائرُ
ولكنني لم أُغفلِ القول عن فتًى
أُساهم في عَليائه وأشاطِرُ
وعن ذكرِ أيامٍ لنا ومواقفٍ
مكانيَ منها بيِّنُ الفضل ظاهرُ
مساعٍ يضلُّ القولُ فيهنَّ كلُّه
وتهلَكُ في أوصافهنَّ الخواطرُ
بناهنَّ باني الثَّغرِ والثغرُ دارسٌ
وعامِرُ دينِ الله والدِّينُ داثرُ
٦٦
ونازلَ منه الديلميَّ بأردَنٍ
لجوجٌ إذا نادَى مَطول مصابرُ
٦٧
وشقَّ إلى نفس الدمستقِ جيشَه
بأرضِ سلامٍ والقنا مُتشاجِرُ
٦٨
سقى أرسياسًا مثلَه من دِمائِهم
عشيةَ غصَّتْ بالقلوبِ الحَناجرُ
٦٩
وبات يُدير الرأيَ من أين وجهُه
وذو الحزم ناهِيه وذو العزمِ آمرُ
وساق نميرًا أعنَفَ السوق بالقَنا
فلم يمسِ شاميٌّ ولم يُضحِ حادِرُ
٧٠
وناهضَ أهلَ الشام منه مشيَّعٌ
يسايرُه الإقبالُ فيمن يُسايرُ
له وعليه وقعةٌ بعد وقعةٍ
ولوع بأطرافِ الأسنَّة عاقرُ
فلا هو فيما سرَّه متطاولٌ
ولا هو فيما ساءَه متقاصرُ
فلمَّا رأى الإخشيدَ ما قد أظلَّه
تلافاه يَثني عزمَه ويُكاشر
٧١
رأى الصهرَ والرسل الذي هُو عاقِدُ
تنال به ما لا تنال العساكرُ
وأوقعَ في خلياط بالرُّومِ وقعةً
به الغَمق واللكَّام والروج فاخرُ
٧٢
وأوردها بطنَ اللقان فظهره
يطأنَ به القَتلى خفاف جواذرُ
٧٣
أخذْنَ بأنفاسِ الدمستق وابنِه
وعبَّرن بالتِّيجان من هو عابرُ
وجُبنَ بلادَ الرُّوم سِتينَ ليلةً
تغادر مَلكَ الرُّوم فيمنْ تُغادرُ
تخرُّ لنا تلك القبائلُ عنوةً
وترمي لنا بالأهلِ تلك المظاهرُ
٧٤
ولما وردنا الدَّربَ والرُّوم فوقَه
وقدر قسطنطين أن ليس صادِرُ
٧٥
ضربنا بها عرضَ الفُرات كأنَّما
تسيِّرنا تحت السروجِ حرائرُ
إلى أن وَردْنا الرَّقتينِ نسوقُها
وقد نكَلَتْ أعقابُها والمخاصرُ
ومال بها ذاتَ اليمينِ بمرعشٍ
مجاهيد يتلو الصابرَ المتصابرُ
٧٦
فلما رأى جيشَ الدمستق زاحمَتْ
عزائمها واستنهضتْها البصائرُ
وما زلن يحمِلْنَ النفوس على الوجَى
إلى أن خُضبنَ بالدماء الأشاعرُ
٧٧
وأين لقسطنطينَ وهو مكبَّل
تحفُّ بطاريقٌ به وزراورُ
٧٨
وولَّى على الرسم الدمستق هارِبًا
وفي وجهه عُذرٌ من السيف عاذِرُ
٧٩
فدَى نفسه بابنٍ عليهِ كنفسِه
وللشدةِ الصماءِ تُقنى الذخائرُ
٨٠
وقد يُقطع العضوُ النفيسُ لغيره
وتُدفع بالأمر الكبيرِ الكبائرُ
وحسبي بها يوم الأحيدة وقعةً
على مثلِها في العزِّ تُثنى الخناصرُ
٨١
عدَلنا بها في قِسمةِ الموتِ بينَهم
وللسيفِ حُكمٌ في الكَتيبة صايرُ
إذا الشيخُ لا يَلوي ويقفُو محجَّرٌ
ففي القيد ألفُ كالليوثِ قساوِرُ
٨٢
فلم يبقَ إلا صهرُه وابنُ بنتِه
وثوَّر بالباقين من هو ثائرُ
وأجلى إلى الجُولان كلبًا وطيِّئًا
وأقفَر عجب منهمُ وأشاعرُ
وباتتْ نزارٌ يَقسمُ الشامَ بينها
كريمُ المحيَّا لوذعيٌّ مُغاورُ
علاءُ كليبٍ للضَّبابِ علاؤُه
وحاضرُ طيٍّ للجعافرِ حاضرُ
٨٣
وأنقذَ من مسِّ الحديدِ وثِقله
أبا وائلٍ والدهر أجدَعُ صاغرُ
وآب براس القُرمطيِّ أمامَه
له جسدٌ من أكعَب الرمح ضامرُ
٨٤
وقد يكبر الخطْب اليسيرُ ويجتني
أكابرُ قوم ما جناه الأصاغرُ
كما أهلكتْ كلبًا غواةُ جُناتِها
وعمَّ كلابًا ما جناهُ الجعافرُ
شرَينا وبِعنا بالسيوفِ نفوسَهم
ونحن أناسٌ بالسيوفِ نتاجِرُ
وصنَّا نساءً نحن أولى بصَونها
رجعنَ ولم تكشفْ لهنَّ ستائرُ
يُنادينَه والعيسُ تُزجَى كأنها
على شُرفات الروم نخلٌ مُواقرُ
٨٥
ألا إن من أبقيت يا خير منعم
عبيدُك ما ناح الحمام السواجرُ
فنرجوك إحسانًا ونخشاك صَولة
لأنك جبَّار وإنك جابرُ
وجشَّمها بطنَ السماوة قابِضًا
وقد أوقدت نار السَّموم الهواجرُ
٨٦
فيطرد كعبًا حيث لا ماءَ يُرتجَى
لتعلمَ كعبٌ أيَّ قَرم نخاصرُ
ويطلب كعبًا حيث لا الإثرُ يقتفى
لتعلمَ كعب أيَّ عود تكاسرُ
فَجعْنا بنصفِ الجيش حوبةَ كلَّها
وأرهقَ جرَّاح وولَّى مغاورُ
٨٧
أبو الفيض مارَ الجيشَ حولًا محرَّمًا
وكان له جدٌّ من القوم مائرُ
٨٨
يناديكمُ يا سيفَ دولةِ هاشمٍ
تطولُ بني أعمامِنا وتفاخرُ
فإنا وإيَّاكم ذُراها وهامُها
إذا الناسُ أعناق لها وكَراكِرُ
٨٩
ترى أيَّها لاقيتَه من بني أبي
له حالبٌ لا يستفيق وجازِرُ
وكان أخي إن يسعَ ساعٍ بمجدِه
فلا الموتُ محذورٌ ولا السُّم ضائرُ
٩٠
فإن جدَّ أو لفَّ الأمور بعزمِه
فقلْ هو مأثورُ الحشَى وهو آثرُ
٩١
أزال العِدى عن أردبيل بوَقعةٍ
صريعانِ منها عاذلٌ ومساورُ
٩٢
وجازَ أراضي أذْربيجانَ بالقَنا
وأدَّى إليه المرزبان مسافرُ
٩٣
وناهض منه الرَّقتَين مشيَّعٌ
بعيدُ المدى عبلُ الذراعين قاهرُ
٩٤
فلما استقرَّت بالجزيرة خيلُه
تضَعْضع بادٍ بالشآم وحاضرُ
ممالكُها للبيضِ بيضِ سيوفِنا
سبايا ومنها للمُلوك مَهايرُ
٩٥
وحلَّ بنا لبَّا عُرى الجيشِ كلِّه
وحكَّم حرَّان ومولاه داغرُ
له يومُ عدلٍ موقفٌ بل مواقفُ
ردَدن إلينا العزَّ والعزُّ نافرُ
غداة يصب الجيشَ من كل جانبٍ
بصيرٌ بضربِ الخيل والخيلُ ماهرُ
بكل حسام بين حدَّيهِ شُعلةٌ
بكفِّ غلامٍ حشوُ درعيه خازرُ
٩٦
على كل طيَّار الضلوعِ كأنه
إذا انقضَّ من علياءَ فتخاءُ كاسرُ
٩٧
إذا ذُكرت يومًا غطاريفُ وائلٍ
فنحنُ عالِيها ونحن الجماهرُ
٩٨
ومنَّا الفتى يحيى ومنَّا ابنُ عمِّه
همامًا هما للثَّغر سمعٌ وناظرُ
له بالهُمام ابن المعمر فَتكةٌ
وفي السَّيف فيها والرِّماح عواذرُ
ومنَّا أبو اليقظان منتاش خالد
ومنَّا أخوه الأُفعوان المساوِرُ
٩٩
شفي النَّفس يوم الخالدية بعدما
حلَلن بإحدى جانبيه البَواترُ
١٠٠
ومنا ابن قنَّاصِ الفوارسِ أحمد
غلامٌ كمثلِ السيفِ أبلجُ زاهرُ
فتًى حاز أسبابَ المكارم كلِّها
وما شَعرت منه الخُدود النواضرُ
١٠١
ومنَّا ابنُ عدنان العظيمُ بقومِه
ومنَّا قريعا العزِّ جَبرٌ وجابرُ
فهذا لذي التَّاجِ المعصَّب قاتلٌ
وهذا لذي البيتِ الممنَّع آسرُ
١٠٢
ومنَّا الأغرُّ ابنُ الأغرِّ مهلهلٌ
خليليَ إن دام الخليلُ المعاشرُ
فإن أدعُ في اللأواء فهو محاربٌ
وأن أسعَ في العلياء فهو مظاهرُ
ولما أظلَّ الخوفُ دارَ ربيعةٍ
ولم يبقَ إلا ما حمَته الحفائرُ
شفى داءَها يوم الشراةِ بوَقعةٍ
حدودُ بني شيبان فيها العواترُ
١٠٣
ومنا عليٌّ فارسُ الجيشِ صِنوُه
عليٌّ ابنُ نصر خَيرُ مَن زار زائرُ
ومنا حسينُ القَرمُ مُشبهُ جدِّه
حمَى نفسَه والجيشُ للجيشِ غامرُ
لنا في بني عمي وأحياء أخوتي
على حيث سار النيران سوائر
وأنهم الساداتُ والغُرَر التي
أطول على خَصمي بها وأكابرُ
ولولا اجتنابُ العتبِ في غيرِ مُنصفٍ
لما عزَّني قولٌ ولا خان خاطرُ
ولا أنا فيما قد تقدَّم طالبٌ
جزاءً ولا فيما تأخرَّ وازرُ
١٠٤
يسرُّ صديقي أنَّ أكثر واصِفي
عدوِّي وإن ساءَته تلك المفاخرُ
١٠٥
نطقتُ بفضلي وامتدحتُ عشيرتي
فما أنا مدَّاح ولا أنا شاعرُ
قال أبو فراس: ولما وصلتْ هذه القصيدةُ إلى أبي أحمد بن ورقا، ظنَّ
أني عرَّضتُ به في البيتين اللذَيْن ختمتُ بهما القصيدة وهما يسرُّ
صديقي … إلخ. فكتب إليَّ قصيدة تصرَّف فيها في التَّشبيب
ومطلعُها:
وكتب أبو فراس إلى أبي أحمدَ جعفر بن ورقاء، وجعله حَكَمًا بينه وبين
أحمدَ بن ورقاء فقالَ:
وقال قد كتبت بها إلى أبي أحمد بن ورقاء في العراق:
ولقد كثرتْ وقائعُ سيف الدولة أبي الحسن عليِّ بن حَمْدان بن الحارث
الثعلبي بالعرَب، فتجمَّعت نزار وعشائرُهم وتشاكَتْ ما لحِقَها
وتراسَلتْ واتفقت على الاجتماع بسلميةٍ لمقابَلتِه، وأوقعت بعامله
بقنِّسرين وهو الصباح عبد عمارة، فنهضَ سيف الدولة ومعه ابن عمه أبو
فراس، حتى أوقعَ بهم وعليهم يومئذ الندمي بن جعفر ومحمد بن يوشع
العُقيليَّان من آل المهنا، فهزَمهم وقتلَ وجوهَهم وسراتهم واتبعَ
فلَّهم، وقدم أبا فراس في قطعة من الجيش فلم يزل يتبعهم ويقتل ويأسِر،
حتى ألحقهم بالغور فلم ينج منهم إلا من سبق فرسه، واتبعهم سيف الدولة
حتى ألحقهم بتدمر، ثم انكفَّ سائرًا إلى بني نمير وهي بالجزيرة فوجدَها
قد أخذتِ المهل ولحقتْه خاضعة ذليلة تعطي الرضا وتنزل على الحكم، فصفح
عنهم وأحلَّهم بالجزيرة. فقال أبو فراس، يذكر الحال والمنازل ويصفُ
مواقفه فيها:
وقال أول ما أُسِر يسأل سيف الدولة المفاداة به:
دعوتُك للجفنِ القريح المسهَّدِ
لديَّ وللنوم القليل المشرَّدِ
وما ذاك بخلًا بالحياة وأنها
لِأولِ مبذولٍ لأول مُجتدي
١٨٢
وما زال عني أن شخصًا معرَّضًا
لنيلِ الرَّدى إن لم يُصبْ فكأنْ قدِ
١٨٣
ولكنني أختار موتَ بني أبي
على سرَواتِ الخيلِ غير موسَّدِ
وآبي وتأبَى أن أموتَ موسَّدًا
بأيدي النصارى موتَ أكمد أكبدِ
نضوت على الأيام ثوب جلادتي
ولكنني لم أنضُ ثوبَ التجلُّدِ
١٨٤
وما أنا إلا بينَ أمر وضدِّه
يجدِّد لي في كل يومٍ مجددِ
فمن حُسن صَبرٍ بالسلامة واعدٍ
ومن رَيب دهرٍ بالرَّدَى متوعدِ
ومثلك من يُدعَى لكلِّ عَظيمة
ومثلي من يُفدَى بكل مسودِ
١٨٥
أناديكَ لا أني أخافُ من الردَى
ولا أرتجي تأخيرَ يومٍ إلى غدِ
وقد حُطِّمَ الخطِّيُّ واختَرمَ العِدا
وفُلِّل حدُّ المشرفيِّ المهند
١٨٦
وآنف موتَ الذُّلِّ في دار غربةٍ
بأيدي النَّصارى الغُلف ميتةَ أكمدِ
١٨٧
فلا تقعدنْ عني وقد سِيمَ فديَتي
فلستَ عن الفعل الكريم بمُقعَدِ
فكم لكَ عندي من أياد وأنعُمٍ
رفعت بها قدري وأكثرت حُسَّدِي
تشبثْ بها أكرومةً فت فوتَها
وقمْ في خلاصي صادقَ الوعد واقعُد
١٨٨
فإذْ متُّ بعد اليوم عابَك مهلكي
معابَ الزرازيين مهلكَ معبَدِ
١٨٩
همُ عضَلوا عنه الفداءَ وأصبَحوا
يهدُّون أطرافَ القريضِ المقصَّدِ
ولم يك بدعًا هُلكُه غيرَ أنهم
يُعابون إذ سِيم الفداءُ وما فُدِي
فلا كان كلبُ الروم أرأفَ منكم
وأرغبَ في كسب الثناء المخلَّد
١٩٠
ولا بلَغ الأعداءُ أن يتناهضوا
وتقعُد عن هذا العلاء المشيَّدِ
أأضحوا على أسراهمُ لي عودًا
وأنتم على أسراكم غير عوَّد؟
١٩١
متى تخلف الأيام مثلي لكمْ فتى
شديدًا على البأساء غير ملهَّدِ
١٩٢
متى تُخلف الأيام مثلي لكم فتى
طويل نجاد السيف رحب المُقلَّد
١٩٣
فإن تفتدوني تفتدوا شرفَ العُلا
وأسرع عوادٍ إليهم معود
فإن تفتَدوني تفتدوا لعُلاكم
فتًى غير مردود اللسان ولا اليدِ
يطاعِنُ عن أحسابكم بلِسانه
ويضربُ عنكم بالحُسام المهنَّدِ
أقِلْني أقِلْني عثرة الدَّهر إنه
رماني بنصلٍ صائبِ النحر مُقصِد
١٩٤
ولو لم تنلْ نفسي ولاءَك لم أكُن
لأُوردها في نصرِه كل مَوردِ
ولا كنت ألقى الألفَ زُرقًا عيونُها
بسبعينَ فيها كل أشأم أنكدِ
١٩٥
فلا وأبي ما ساعدان كساعد
ولا وأبي ما سيِّدان كسيِّدِ
ولا وأبي ما يفتِق الدهر جانبًا
فترفعه الأيام رَقعًا بمِسرَدِ
١٩٦
وإنك للمولى الذي بكَ أقتدي
وإنك للنجم الذي بك أهتدِي
وأنت الذي عرَّفْتني طرُق العلا
وأنت الذي أهدَيتَني كل مقصدِ
وأنت الذي بلَّغْتَني كلَّ رُتبةٍ
مشيت إليها فوق أعناق حُسَّدي
فيا مُلبس النَّعْما التي جلَّ قدرُها
لقد أخلقتْ تلك الثيابُ فجدِّدِ
١٩٧
ألم تر أني فيكَ صافحتُ حدَّها
وفيكَ شربتُ الموتَ غيرَ مصرَّدِ
١٩٨
يقولون جانِبْ عادةً ما عرفتها
شديد على الإنسان ما لم يُعوَّد
١٩٩
فقلت: أما والله ما قال قائلٌ
شهدتُ له في الخيل ألأمَ مشهَدِ
ولكن سألقاها فإمَّا مَنيَّةٌ
هي الطعنُ أو بنيانُ غير مشيدِ
ولم أدر أنَّ الدهرَ من عدَّد العِدا
وأن المنايا السُّود يَرمين عن يدِ
بقيتَ على الأيام تحمي بنا الرَّدَى
ويَفديك منا سيِّدٌ بعد سيدِ
فلا يحرمنِّي اللهُ قربَك إنه
مرادي من الدنيا وحظِّي ومقصدِي
وقال وقد ثقُل من الجراح التي نالتْه، ويئِس من نفسه وكتبَ بها إلى
والدتِه يُعزِّيها:
وقال وقد كتب بها إلى سيف الدولة من الطريق، وقد اشتدت به
العلة:
وقال وقد كتَب بها إلى غُلامين له، يُقال لهما: ضاف ومنصور
يَستجْفيهما:
وقال وقد كتب بها إلى غلامِه منصور أيضًا:
وكتب إليه سيفُ الدولة يعتذر من تأخُّر أمره، وتسويفه له فكتبَ إليه
أبو فراس:
وقال أيضًا عقِبَ الافتداء الذي كان بسبَبه ما كان:
وقال وقد كتبَ بها من الأَسرِ إلى سيفِ الدولة:
وقال وقد سمع ورقاءَ تنوح على شجرة عالية:
وقال، وكتب بها إلى سيف الدولة من الأسر، وكان بلغ سيفَ الدولة أن
بعضَ الأسرى قال: إن ثقل على الأميرِ هذا المال كاتَبْنا صاحبَ خراسان،
فاتَّهمَ أبا فراس بهذا القول، وقال: «من أينَ يعرفه صاحب
خراسان؟»:
قال ابن خالويه: كان بين القاضي
أبي حصين بن عبد الملك وبين أبي فراس مودَّة أكيدة ومُكاتبات بالشِّعر،
وكان واسعَ العطاء والمروءة شديدَ التمكن من سيف الدولة مجاورًا عنده
في الأنس وفي الأهل والولد، فمن ظريف ما قال فيه:
قال أبو فراس: فما أمكنني أن آتى على وزن هذه القافية بشعرٍ أرضاه،
فأجبته على غيرها وكتبتُ إليه في غرَضٍ وقد عارضتُه إلى بالس؛ ليكون
الاجتماع بها:
وكتب إليه، وقد أُسر ابنه أبو القاسم وفدى ابنَه أبو محمد:
وكتب إلى أبي حصين من
الأسر:
كيف السبيلُ إلى طيفٍ تزاورُه
والنومُ في جملة الأحباب هاجرُه
٢٩٥
الحبُّ آمرُه والصونُ زاجرُه
والصبرُ أولُ ما يأتي وآخرُه
٢٩٦
أنا الفتى إن صبا أو شفَّه غزَلٌ
فللعَفاف وللتقوى مآزرُه
٢٩٧
ما بالُ ليليَ لا تسري كواكبُه
وطيفُ ميَّة لا يعتادُ زائرُه
من لا ينامُ فلا صبرٌ يؤازرُه
ولا خيال على شحطٍ يُزاورُه
٢٩٨
إنَّ الحبيبَ الذي هامَ الفؤادُ به
ينامُ عن طول ليلٍ أنت ساهرُه
ما أنسَ لا أنسَ يوم البينِ موقفَنا
والشوقُ ينهَى البُكا عني ويأمرُه
وقولُها ودموعُ العين واكفةٌ
هذا الفِراقُ الذي كنا نحاذِرُه
هل أنتَ يا رفقةَ العُشَّاق مُخبِرتي
عن الخليطِ الذي زُمَّت أباعرُه
٢٩٩
وهل رأيتَ أمام الحيِّ جاريةً
كالجُؤذر الفرد تقفُوه جآذرُه
٣٠٠
وأنت يا راكبًا يُزجي مطيَّتَه
يستطرقُ الحي ليلًا أو يباكرُه
٣٠١
إذا وصلتَ فعرِّضْ بي وقلْ لهُمُ
هل واعدَ الوعدَ يوم السَّير ذاكرُه
ما أعجبَ الحبَّ يمشي طوعَ جاريةٍ
في الحيِّ من عجزتْ عنه مَشاعرُه
٣٠٢
ويتَّقي الحي مفجاة وغايتُه
كيف الوصولُ إذا ما نام ساهرُه
٣٠٣
أبا حصين وخيرُ القول أصدقُه
أنت الصديق الذي طابتْ مخابرُه
أين الخليلُ الذي يُرضيك باطنُه
من الخليلِ الذي يُرضيك ظاهرُه
أما الكتابُ فإني لستُ أذكره
ألَا تبادر من عيني بوادِرُه
يجري الجُمان كما يجري الجُمان به
وينثر الدُّرَّ فوق الدُّرِّ ناثرُه
٣٠٤
والطرْف ينظُر فيما خطَّ كاتبُه
والسَّمعُ ينعَمُ فيما قال شاعرُه
وإن جلستَ أمام الحيِّ أقرؤُه
در الخرائد لا تفني جواهرُه
٣٠٥
من كان مثليَ فالدنيا له وطن
وكل قومٍ غدا فيه عشائرُه
وما تمدُّ إلى الإطناب في بلَدٍ
إلا تضعضع باديه وحاضرُه
وكيف ينتصفُ الأعداء من رجُلٍ
العزُّ أوَّله والمجد آخرُه
ومِن سعيد بن حمدانٍ ولادتُه
ومن عليِّ بن عبد الله سائرُه
لقد فقدتُ أبي طفلًا وكان أبي
من الرجال كريمُ العود ناضرُه
٣٠٦
هو ابن عميَ دينًا حين أنسبُه
لكنَّه ليَ مولًى لا أناكرُه
ما زال لي نجوةً مما أحاذرُه
لا زال في نَجوة مما يحاذرُه
٣٠٧
يا أيها العاذلُ المرجو إنابتُه
والحب قد نشِبت فيه أظافرُه
لا تشعلنَّ فما تدري بحرقتِه
أأنت عاذلُه أم أنت عاذرُه
وراحلٍ أوحشَ الدنيا برحلتِه
وإن غدا معه قلبي يُسايرُه
هل أنتَ مبلغهُ عني بأنَّ له
ودًّا تمكَّن في قلبي يجايرُه
وإنني مَن صفَتْ منه سرائرُه
وصحَّ باطنُه منه وظاهرُه
وما أخوك الذي يدنو به نسَبٌ
لكن أخوك الذي تصفو ضمائرُه
وإنني واصلٌ مَن أنت واصلُه
وإنني هاجرٌ مَن أنت هاجرُه
ولست واجدَ شيء أنت عادمُه
ولست غائبَ شيء أنت حاضرُه
٣٠٨
وافي كتابك مطويًّا على ثقة
يحار سامعه فيها وناطره
أنا الذي لا يصيب الدهر عزَّته
ولا يبيت على خوف مجاورُه
فمِن سعيدِ بن حمدان ولادتُه
ومِن علي بنِ عبد الله سائرُه
٣٠٩
القائل الفاعلُ المأمون نبْوَتُه
والسيدُ الذائدُ الميمونُ طائرُه
٣١٠
بنى لنا العزَّ مرفوعًا دعائمُه
وشيَّدَ المجد مشتدًا مرائرُه
٣١١
فما فضائلُنا إلا فضائِلُه
ولا مفاخرُنا إلا مفاخرُه
وإنما وقَّت الدنيا مواقتَها
منه وعمَّر في الإسلام عامرُه
هذا كتابُ مَشُوقِ القلب مكتئبٌ
لم يألُ ناظمه جهدًا وناثرُه
وقد سمحتُ غداةَ البين مبتدئًا
من الجواب بوعدٍ أنتَ ذاكرُه
بقيت ما غردت وُرق الحمام وما اسْـ
ـتَهلَّ من واكفِ الوَسميِّ باكرُه
٣١٢
حتى تُبلَّغَ أقصى ما تؤمِّلُه
من الأُمور وتُكفَي ما تحاذرُه
وأنشد القاضي أبو حصين أبا فراس شعرًا فاستحسنه، وأنشده أبو فراس
شعرًا فاستجاده، فقال أبو فراس:
فأخذ القاضي الجواب فكتب إليه أبو فراس:
وكتب إليه أبو فراس، وقد عزم على المسير إلى الرَّقَّة:
وأسَرَتْ بنو كلاب حسان بن حميد بن رافع بن علي بن راعي الإبل سيد
بني قطر، فخرج أبو فراس حتى انتزعه منهم فقال:
وقال، وقد وقعت عليه أخيار بني قشير، وهو في خمسة عشر فارسًا، وقد
كان أطمَعها ما جرى لها ومعها طرائد وقلائع قد أخذتها من شداد القشيري،
فشد عليهم فانتزع ما معهم فقال:
وأوقع أبو فراس ببني كلاب، فحاز الحريمَ واستباحَ الأموال
فقال:
وكتب إلى سيف الدولة، وقد سار عن حضرته إلى منزله:
فاستحسن سيف الدولة بلاغتَه في ذلك فكتب أبو فراس:
وخرج سيف الدولة يطلب بني كلاب ومَن انضم إليهم، فلحق حلة بني نمير
ورئيسها مماغث فاحتوى عليها، فخرجت إليه بنت مماغث وهي كالشمس الباهرة،
فصفح لها عن الحلة وأمر بردِّ ما أخذ، فكتب إليه أبو فراس يداعبه
بقوله:
وأتى رسول ملك الرُّوم يطلُب الهدنةَ، فأمر سيفُ الدولة بالركوب
بالسلاح، فركب من داره ألف غلام مملوك بألفِ جوشن مُذهَب على ألف فرس
عتيق، وألف بخِفاف، وهو بالكسر: آلةٌ للحرب يلبسه الفرس والإنسان؛
ليقيَه في الحرب، وركب الناس والقواد على طبقاتهم حتى الجيش، فقال أبو
فراس في ذلك:
وأساء بعض عمَّاله العشرةَ مع رفاقه، وتنكَّر عليهم ولم يقابلِ
النعمةَ بالشكر، فبطش به أحدهم وساعده اثنان فقَتلوه، فشق ذلك على سيف
الدولة وقتل قاتله، فكتب إليه:
ووجد سيف الدولة على بعض بني عمه، فاستعطَفه أبو فراس بقوله:
ووقع بين أبي فراس وبين بعض بني عمه، وهو صبيٌّ فخرج معه سيف الدولة
بالتعتب، فقال أبو فراس:
وقال وقد أتى عسكر ناصر الدولة، وفيه أخوته وبنو أخيه، وقد طال عهده
بلقائهم؛ لأنه كان خلفهم صبية فعرَفهم بالشبه:
وقال أيضًا في بعض أهله، وقد شيَّعها إلى الحج في يوم ثلج:
وقال وكتب بها إلى سيف الدولة، وقد بلغه عنه نزولُ العدو على الحدث
فسار مسرعًا حتى سبقه إليها، وقد كان بعيدًا عنها مُوغلًا في بلاد
الروم:
وقال وكتب بها إلى سيف الدولة، وقد ذكر مسيره إلى ديار بكر وتخليفَه
إيَّاه على الشام:
وقال وقد أصابتْ خدَّه طعنةٌ وبقيَ أثرها:
وقد وجد في نسخة أخرى الأبيات على التركيب الآتي:
قال أبو فراس: رجعتْ بنو كعب ومن ضافَهم من عشيرتهم المعروفين
بالقَرَامطة، فأكثروا الغارات على نمير وضيَّقوا عليهم، فأنهضني سيفُ
الدولة لمعاونتهم، فلما نزلتْ بينهم انكشفَتْ بنو كعب وتفسَّحت بنو
كلاب، فقلتُ في ذلك:
وعُرضت على سيف الدولة خيوله، وبنو أخيه حضورٌ فكل اختار منها، وطلب
حاجتَه، وأمسكَ أبو فراس فعتب عليه سيفُ الدولة، ووجد في ذلك، فقال أبو
فراس:
وكان سيفُ الدَّولةِ وعدَ أبا فراس بإحضار أبي عبد الله بنِ المنجَّم
بالاجتماع به ليلة، فكتبَ إليه أبو فراس: قد تقدم وعدُ سيدِنا سيفِ
الدولة بإحضار أبي عبد الله بنِ المنجِّم والغنا بحُضوره، وأنا سائلٌ
في ذلك؛ حتى أسمَع حسن العود:
فإن رأى سيفُ الدولة أن يتطولَ بإنجاز ما وعد، فعل إن شاء الله،
فأجابه سيف الدولة:
أنا مشغولٌ بقَرع الحوافرِ عن المزاهر، قال العلوي:
وإذا كنا لا نفعَلُ ما قالَه أُسودُ بني عبس:
فعلى كل حال يقَعُ الانتظارُ إن شاء الله تعالى. إلى هنا انتهى كلامُ
سيفِ الدولة لأبي فراس، فأجابه أبو فراس:
وقد أهدى الناسُ إلى سيف الدولة في بعض الأعياد، فأكثروا فاستشار أبا
فراس فيما يُهديه، فكلٌّ أشارَ بشيءٍ فخالفهم وكتب إليه:
وكتب أبو محمد بنُ أفلح إلى أبي فراس كتابًا، فاستحسن نظمَه ونثره،
فأجابه أبو فراس بقوله:
ولحقتْ بأبي فراسٍ علَّةٌ تخلف بها عن سيفِ الدولة، فكتب
إليه:
وكتب إلى أخيه أبي الهيجاءِ حرب بنِ أبي سعيد قوله:
وقال وقد بلغتْه علةُ والدتِه وتقييد البطارقة بميافارقين فقيد هو
بحرشنه:
وقال يفتخر وهذه القصيدة من غُرر قصائده المتداولة على ألسنة الناس،
وقد كسَاها من حلل البلاغة أبهى لِباس:
أراك عصيَّ الدمعِ شيمتُك الصبرُ
أما للهوى نهيٌ عليكَ ولا أمرُ
٤٦٣
نعم أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعةٌ
ولكنَّ مثلي لا يُذاع له سرُّ
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوَى
وأذللتُ دَمعًا من خلائقه الكِبرُ
٤٦٤
تكادُ تضيءُ النارُ بين جَوانحي
إذا هي أذكَتْها الصَّبابة والفِكرُ
معللتي بالوعد والموتُ دونَه
إذا متُّ ظمآنًا فلا نزلَ القطرُ
بدوت وأهلي حاضرونَ لأنني
أرى أن دارًا لست من أهلها قَفرُ
٤٦٥
وحاربتُ قومي في هواك وأنَّهم
وإيايَ لولا حبُّك الماء والخمرُ
٤٦٦
وإن كان ما قالَ الوشاةُ ولم يكن
فقد يهدِم الإيمانُ ما شيَّد الكفرُ
وفيتُ وفي بعضِ الوفاء مذلَّة
لآنسةٍ في الحي شيمتُها الغَدرُ
وَقورٌ وريعانُ الصبا يستفزُّها
فتأرَن أحيانًا كما يأرَن المهرُ
٤٦٧
تُسائلني من أنتَ وهي عليمةٌ
وهل بفتًى مثلي على حاله نُكرُ
فقلتُ كما شاءتْ وشاءَ لها الهوَى
قتيلُكِ. قالت: أيهُم؟ فهمُ كُثرُ
فقلتُ لها: لو شئتِ لم تتعنَّتي
ولم تسألي عَني وعندكَ بي خُبرُ
ولا كان للأحزان عنديَ مسلكٌ
إلى القلبِ لكنَّ الهوَى للبلا جِسرُ
فأيقنت أنْ لا عزَّ بعدِي لعاشقٍ
وأنَّ يدي مما علِقتُ به صفرُ
فقالت: لقد أزرَى بك الدهرُ بعدنا
فقلت: معاذَ الله، بل أنتِ لا الدهرُ
وقلَّبتُ أمري لا أرَى ليَ راحةً
إذا البينُ أنساني ألحَّ بي الهجرُ
فعدتُ إلى حُكمِ الزمان وحُكمِها
لها الذنبُ لا تُجزى به وليَ العذرُ
٤٦٨
كأني أنادي دَون ميثاء ظبيةً
على شرفٍ ظمياءَ حليتُها الذُّعرُ
٤٦٩
تجفَّلُ حَينًا ثم تَدنو كأنَّما
تنادي طلًا بالجَري أعجزَه الحصرُ
٤٧٠
وإني لنزَّالٌ بكل مَخوفةٍ
كثيرٍ إلى نُزَّالها النظرُ الشزرُ
وإني لجرَّارٌ لكلِّ كتيبةٍ
معوَّدةٍ أن لا يخلُّ بها النصرُ
٤٧١
فأصدى إلى أن ترتوي البيضُ والقَنا
وأسغبُ حتى يشبَعَ الذئبُ والنَّسرُ
٤٧٢
ولا أصبحُ الحي الغيور بغارة
أو الجيش ما لم تأته قبلي النُّذرُ
وياربَّ دارٍ لم تُخِفْني مَنيعةٍ
طلعتُ عليها بالرَّدَى أنا والفَجرُ
٤٧٣
وساحبةِ الأذيالِ نحوِي لقيتُها
فلم يقلها جافي اللقاء ولا وعرُ
٤٧٤
وهبتُ لها ما حازَه الجيشُ كله
ورحت ولم يُكشَفْ لأبياتها سِترُ
ولا راحَ يُطغيني بأثوابِه الغِنى
ولا بانَ يَثنيني عن الكرَمِ الفَقرُ
وما حاجتي في المال أَبغي وُفورَه
إذا لم أفِر عِرضي ولا وفَر الوَفرُ
أُسرت وما صَحبي بعُزلٍ لدى الوَغَى
ولا فَرَسي مُهرٌ ولا ربُّه غمرُ
٤٧٥
ولكن إذا حمَّ القضاءُ على امرئٍ
فليسَ له بَرٌّ يَقيه ولا بحرُ
وقال أُصَيحابي الفرارُ أو الرَّدَى
فقلتُ هما أَمران أحلاهما مُرُّ
ولكنَّني أمضِي لما لا يَعيبُني
وحسبُك من أمرين خيرُهما الأَسرُ
ولا خيرَ في دفعِ الرَّدَى بمذلَّةٍ
كما ردَّها يومًا بسوءَته عَمرو
٤٧٦
يمنُّون أن خلَّوا ثيابي وإنَّما
عليَّ ثيابٌ من دِمائهمُ حُمرُ
وقائمُ سيفٍ فيهمُ دونَ نصلِه
وأعقابُ رمحٍ فيهمُ حطِّم الصدرُ
سيذكرُني قومي إذا جدَّ جدُّهُم
وفي الليلةِ الظَّلماءِ يُفتقد البَدرُ
ولو سدَّ غَيري ما سدَدتُ اكتَفوا بِه
وما كان يغلو التبرُ لو نفَقَ الصُّفرُ
٤٧٧
ونحن أناسٌ لا توسُّطَ بيننا
لنا الصَّدرُ دون العالَمين أو القَبرُ
تَهونُ علينا في المَعالي نفوسُنا
ومن يخطبِ الحسناءَ لم يُغلِها المهرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلي ذوِي العُلا
وأكرمُ من فوق التُّرابِ ولا فَخرُ
وكتب إلى أَخيه أبي الهَيجاء حرب بن سعيد يعذله على ما لَحقه من
الجزع عند أسره، ويذكر قومًا عجَّزوا رأيَه أي ثبَّطُوه في
الثبات:
أتيتُك إني للصَّبابة صاحبُ
وللنَّومِ مذ زالَ الخليطُ مُجانبُ
وما أدَّعى أن الخطوبَ فجَأْنَني
لقد خبَّرتني بالفِراق النَّواعبُ
ولكنني ما زلتُ أرجو وأتَّقي
وجدَّ وشيكُ البَين والقلبُ لاعبُ
وما هذه في الحبِّ أولُ مرَّةٍ
أسأنَ إلى قلبي الظنونُ الكواذِبُ
عليَّ لربعِ العامريَّة وقفةٌ
يملِّي عليَّ الشوقُ والدمعُ كاتبُ
ولا وأبي العشاقِ ما أنا عاشِقُ
إذا هي لم تلعبْ بَصبري المَلاعبُ
٤٧٨
ومن مذهبي حبُّ الديارِ وأهلِها
وللناسِ فيما يَعشقون مذاهبُ
تكاثرَ لُوَّامي على ما أصابَني
كأن لم تَنُبْ إلا بأَمري النَّوائبُ
ألم يعلم الذِّلانُ أن بني الوَغَى
كذاك سليبٌ بالرِّماحِ وسالبُ
٤٧٩
وأن وراءَ الحربِ مني ودونَه
مواقفُ تُنسَى عندهنَّ التجاربُ
أرى ملءَ عينيَّ الرَّدَى وأخوضُه
إذا الموتُ قدَّامي وخَلفي النوادِبُ
٤٨٠
ومضطغنٍ لم يحمِل السرَّ قلبُه
تلفَّتَ ثم اغتابني وهو هائِبُ
تردَّى رداءَ الظلِّ لما لقيتُه
كما يتردَّى بالغُبار العناكبُ
ومن شرَفي أن لا يزالَ يَعيبني
حسودٌ على الأمر الذي هو عائبُ
رمتْني عيونُ الناس حتى أظنُّها
ستحسُدني في الحاسدين الكواكِبُ
٤٨١
ولست أرى إلا عدُوًّا محاربًا
وآخرَ خيرٌ منه عندي المحاربُ
٤٨٢
فهم يُطفئون المجدَ واللهُ واقدُ
وهم ينقصون الفضلَ والله واهبُ
ويرجون إدراكَ العُلا بنُفوسهم
ولم يعلَموا أنَّ المعالي مواهبُ
وهل يدفعُ الإنسانُ ما هو واقعٌ
وهل يعلم الإنسان ما هو كاسبُ
وهل لقضاءِ اللهِ في الناس غالبٌ
وهل من قضاءِ الله في الناس هاربُ
عليَّ طِلابُ العزِّ من مستقرِّه
ولا ذنبَ لي إن حارَبَتْني المطالبُ
وعنديَ صِدقُ الضَّربِ في كل مَعركٍ
وليس علينا إن نَبونَ المضاربُ
إذا الله لم يُحرزك مما تخافُه
فلا الدرعُ منَّاعٌ ولا السيفُ قاضبُ
ولا سابقٌ مما تجنَّبتُ سابقُ
ولا صاحبٌ مما تخيَّرت صاحبُ
عليَّ لسيفِ الدَّولة القَرم أنعمٌ
أوانس لا ينفرنَ عني ربائبُ
٤٨٣
أأجحدُه إحسانَه لي وإنني
لكافرُ نُعمى إن فعلت مواربُ
٤٨٤
لعلَّ القوافي عِفنَ عما أرَدْتُه
فلا القولُ مردودٌ ولا العذرُ ناصبُ
وما شكَّ قلبي ساعةً في وِداده
ولا شابَ ظني قطُّ فيه الشوائبُ
يؤرِّقُني ذِكري له وصبابةٌ
ويجذِبني شَوقي إليه المجاذبُ
ولي أدمعٌ طَوعِي إذا ما أمَرْتُها
وهنَّ عواصٍ في هواه غوالبُ
فلا تخشَ سيفَ الدولةِ القَرم إنني
سواك إلى خلقٍ من الناس راغبُ
٤٨٥
فما تُلبس النُّعمَى وغيرك منعمٌ
ولا تُقبَل الدنيا وغيرُك واهبٌ
ولا أنا من كلِّ المطاعم طاعمٌ
ولا أنا من كلِّ المشاربِ شاربُ
ولا أنا راضٍ إن كثرن مَكاسِبي
إذا لم تكنْ بالعزِّ تلك المكاسبُ
ولا السيِّد القمقامُ عندي بسيِّدٍ
إذا استنزلتْه عن عُلاه الرَّغائبُ
أيعلَم ما ألقَى نعَمْ يَعلمونه
على النأيِ أحبابٌ لنا وحبائبُ
٤٨٦
أأبقى أخي دمعًا أذاقَ أخي عزا
أآب أخي بعدي أم الصبرُ آيبُ
٤٨٧
بنفسي وإن لم أرض نفسيَ راكبُ
يُسائلُ عني كلَّما لاحَ راكبُ
قريحُ مجاري الدَّمعِ مستلب الكرَى
يُقَلْقلُه همٌّ من الشوق ناصبُ
٤٨٨
أخ لا يُذقْني اللهُ فقدانَ مثلِه
وأينَ له مثل وأين المقاربُ
تجاوَزتِ القُربى المودَّة بيننا
فأصبحَ أدنى ما يُعد المناسبُ
٤٨٩
ألا ليتَني حُمِّلت همِّي وهمَّه
وأن أخي ناءٍ عن الهم عازبُ
فمن لم يجُد بالنفس دون حَبيبِه
فما هو إلا ماذقُ الحبِّ كاذبُ
٤٩٠
أتاني مع الرُّكبان أنَّك جازعٌ
وغيرُك يخفَى عنه لله واجبُ
وما أنتَ ممن يُسخط اللهَ فعلُه
وإن أخذَتْ منه الخطوب السوالبُ
وإني لمجزاعٌ ولكنَّ همَّتي
تُدافع عني حسرة وتُغالبُ
ورقبةِ حسادٍ صبرتُ اتقاءَها
لها جانبٌ مني وللحزنِ جانبُ
٤٩١
وكم من حزينٍ فوق حُزني والهٌ
ولكنَّني وحدي الحزينُ المراقبُ
ولستُ ملومًا لو بكيتُك من دَمي
إذا فُقدَتْ مني الدُّموع السواكبُ
ألا ليتَ شِعري هل تبيتُ معدَّةً
تناقلُ بي يومًا إليك الركائبُ
فتعتذر الأيامُ من طُولِ ذنبِها
إليَّ ويأتي الدهرُ والدهر تائبُ
وكتبَ إلى سيفِ الدَّولة يعرِّفه خروجَ الدمستق إلى الشام في جموع
الروم، ويحثُّه على الاستعداد ويذكِّره أمرَه ويسألُه تقديمَ
فدائه:
أتعز أنت على رسوم معانِ
فأقيم للعبرات سُوق هوانِ
فرضٌ عليَّ لكل دارٍ وقفةٌ
تقضي حقوقَ الدَّارِ والأجفانِ
لولا تذكُّرُ من هويتُ بحاجرٍ
لم أبكِ فيه مواقدَ النيرانِ
٤٩٢
ولقد أراه قبل طارقةِ النَّوَى
مأوَى الحِسانِ ومنزلُ الضِّيفانِ
ومكانُ كلِّ مهنَّد ومجرُّ كـ
لِّ مُثقَّفٍ ومجالُ كل حصانِ
نشَرَ الزمانُ عليه بعد أنيسِه
حُللَ الفناءِ وكل شيء فانِ
وبما وقفت فسرَّني ما ساءَني
منه وأضحَكني الذي أبكَاني
ورأيتُ في عرَصاتِه مجموعةً
أسدَ الشَّرى ورباربَ الغِزلانِ
يا واقفين معي على الدار اطلُبا
غيري لها إن كنتما تقِفانِ
منعَ الوقوفَ على المنازل طارقٌ
أمرَ الدموعَ بمُقلتي ونَهاني
فله إذا ونَتِ المدامعُ أو جرَتْ
عصيانُ دَمعي فيه أو عِصياني
٤٩٣
أبكي الأحبةَ بالشآم وبينَنا
قلل الدروب وشاطئا جَيحانِ
وتحثُّ نفسي العاشقين لأنَّهم
مثلي على كنَف من الأَحزان
فضلت لديَّ مدامعٌ فبكيت لِلـْ
باكي بها ووَلهت للولهانِ
ما لي جَزِعْت من الخُطوب وإنَّما
أخذَ المُهيمن بعضَ ما أَعطاني
ولقد سُررت كما غَمَمتُ عَشائري
زمَنًا وهنَّأني الذي عزَّاني
وأُسرت في مَجرى خُيولي غازيًا
وحُبست فيما أشعلتْ نِيراني
٤٩٤
يَرمي بنا شطرَ البلاد مشيعٌ
صدق الكريهةِ فائض الإحسانِ
٤٩٥
وأنا الذي ملأَ البَسيطة كلِّها
ناري وطنَّب في السماء دُخاني
٤٩٦
إن لم تكن طالتْ سنيَّ فإنَّ لي
رأيَ الكُهولِ وغيرةَ الشبانِ
ممَّن بها ساء الأعاديَ موقفي
والدهرُ يبرُز لي مع الأقرانِ
يمضي الزمانُ وما عمَدت لصاحبٍ
إلا ظفِرتُ بصاحبٍ خوَّانِ
يا دهرُ خنتَ مع الأصادق خلَّتي
وغدرتَ بي في جملة الإخوانِ
لكنَّ سيف الدولة القَرم الذي
لم أنسَه وأراه لا يَنساني
٤٩٧
أيضيعني مَن لم يزل ليَ حافظًا
كرَمًا ويخفضني الذي أَعلاني
إِني أغارُ على مكانيَ أن أرى
فيه رجالًا لا تسدُّ مَكاني
أو أن تكون وقيعة أو غارة
إلا بها أثَري من الفتيانِ
سيف الهدى من حدِّ سيفِك يُرتجى
يومًا يذلُّ الكفرُ للإيمانِ
ولقد علمتُ وإن دعوتُك أنَّني
إن نمتُ عنك أنام عن يقظانِ
هذي الجيوشُ تجيشُ نحو بلادِكم
من كل أروعَ ضيغمٍ سِرحانِ
ليسوا يَنُون فلا تنوا وتيقظوا
لا ينهض الوَاني لغير الواني
٤٩٨
غضَبًا لدِين اللهِ ألا تَغضَبوا
لمْ يشتهرْ في نَصرِه سيفانِ
٤٩٩
حتى كأنَّ الوحي فيكم مُنْزلٌ
ولكم تخص فضائل القُرآنِ
٥٠٠
فبنو كلابٍ وهي قُلٌّ أُغضِبتْ
فدهت قبائل مشرفين قنانِ
٥٠١
وبنو عبادٍ حين أُخرج حارث
جرُّوا التحالفَ في بني شيبانِ
خلُّوا عديًّا وهو طالبُ ثأرِهمْ
كرَمًا ونالوا الثارَ بابنِ أبانِ
والمسلمونَ بشاطئِ اليرموكِ لـ
مَّا أخرجوا عطفوا على ماهانِ
وحماةُ هاشمَ حين أخرج صيدُها
جرُّوا البلاءَ على بني مروان
والتغلبيُّون احتَمَوا من مِثلها
فغدوا على العادِين بالسُّلَّانِ
٥٠٢
وبغى على عبسٍ حذيفةُ وانثَنت
منه صوارمُهم ومن ذبيانِ
وسراةُ بكرٍ بعد ضيقٍ كبَّروا
جمعَ الأعاجمِ من بني شَروان
أبقتْ لبَكر مفخرًا وَسما لها
من دون قومِهما يزيد وهاني
المانعين الغنقفير بطَعنِهم
والثائرين بمقتل النعمانِ
٥٠٣
إنا لنلقى الخطبَ منك وغيرُه
بموقَّف عندَ الحُروب معانِ
أصبحت ممتنعَ الحَراك وربَّما
أصبحت ممتنعًا على الأقرانِ
ولطالما حطَّمت صدرَ مثقِّفِي
ولربما أرعفتُ أنفَ سِناني
ولطالما قدتُ الجيادَ إلى العِدَى
قُبَّ البطون طويلةَ الأرسانِ
٥٠٤
أعزز عليَّ بأن يحلَّ بمَوقفي
ويخلَّ بين المسلمين مَكاني
ما زلت أكلأ كلَّ ثغر موحِش
أبدًا بمُقلة ساهر يقظانِ
شلالِ كلِّ عظيمة ذوَّادها
ضرَّابِ هاماتِ العِدى طعَّانِ
٥٠٥
إن يمنعِ الأعداءُ حدَّ صوارِمي
لا يمنع الأعداءُ حدَّ لِساني
يا راكبًا يرمِي الشآمَ بجَسرةٍ
موَّارةٍ شدَنيةٍ مِذعانِ
٥٠٦
اقرا السلام من الأسيرِ العانِي
اقرا السلامَ على بني همْدانِ
اقرا السلامَ على الذين بيوتُهم
مأوى الكرام ومنزلُ الضيفانِ
الصَّافحين عن المسيءِ تكرُّمًا
والمحسنين إلى ذوي الإحسانِ
وقال يذكر أسرَه، ومناظرة جرتْ بينه وبين الدمستق في الدين:
وكتبَ إليه أبو الحسن محمد بن الأسمر يُوصيه بالصَّبر والتجلُّد
فقال:
وقال وقد جرتْ بينه وبين الدمستق مناظرةٌ، وقال له الدمستق: ما لكم
وللحرب؛ إنما أنتم كتَّاب:
وكتب إلى أبي العشائر الحسينِ بن علي بن الحسين ابن حمدان، عند أسره
إلى بلد الروم:
وقال في أسر أبي العشائر يصِفُ الحال، وطلبه له ووصوله إلى مرعش في
أثَره:
فاتَّصل هذا البيت بأبي زهير المهلهل بن نصر بن حمدان، فكتب إليه
بأبيات أولها «يا ابنَ الكرام الصِّيد والسادةِ الغرِّ»، فأجابه أبو
فراس بقَوله:
وكتب إليه أبو فراس جوابًا قصيدة كتب إليه بها أولُها «بانَ صَبري من
بين ظبيٍ ربيبِ»، قال:
فأجابه أبو زهير بقصيدة أولها «هاجَ شوق المتيَّم المَهجور»، فأجابه
أبو فراس عنها بقوله:
فأجابه أبو زهير بقصيدة أولُها «كتابيَ عن شوقٍ إليك ووحشةٍ»، فأجابه
أبو فراس بقوله:
وبلغه عن قوم من أهله كراهية خلاصه فقال:
وجدت بخط أبي فراس هذه القصيدة، وكتب بها إلى أبي الفرج الخالع، وأبي
العباس أحمد بن عبيد التنوخي:
وقال عند وقوفه على قصيدة محمد بن سكرة الهاشمي التي يفتخر بها على
الطالبيِّين:
الدينُ مخترمٌ والحقُّ مهتَضمٌ
أضحَى بآلِ رسول الله مقتَسِمُ
٦٦٣
والناسُ عندكَ لا ناسٌ فيحفظهم
سوءُ الدعاء ولا شاءٌ ولا نعَمُ
إني أبيتُ قليلَ النومِ أرَّقني
قلبٌ تكاثَف فيه الهمُّ والهِممُ
وعزمُه لا ينامُ الدهرَ صاحبُها
إلا على ظفر في طيِّه لزَمُ
٦٦٤
يُصانُ مهري لأمرٍ لا أَبوحُ به
والدِّرعُ والرُّمحُ والصَّمصامةُ الخدمُ
٦٦٥
يا للرِّجالِ أمَا للهِ منتصرٌ
من الطُّغاةِ ولا للدِّين منتقِمُ
بنو عليٍّ رَعايا في ديارهمُ
والأمرُ تملكُه النسوانُ والخدَمُ
مبجَّلونَ فأصفى شربهم وشَلٌ
عند الوُرود وأوفَى وِردهمُ لحَمُ
٦٦٦
فالأرضُ إلا على سكَّانِها سَعَةٌ
والمالُ إلا على أربابه ديَمُ
٦٦٧
للمتَّقينِ من الدُّنيا عَواقبُها
وإن تعجَّلَ منها الظالمُ الأثِمُ
لا يطغينَّ بني العباس ملكَهمُ
بنو عليٍّ مواليهم وإن رغِمُوا
٦٦٨
أتفخَرُونَ عليهم لا أبا لكمُ
حتى كأنَّ رسولَ الله جدَّكمُ
٦٦٩
وما توازَنَ يومًا بينكُمْ شرَفٌ
ولا تساوَتْ بكُم في موطنٍ قدَمُ
ولا لجدِّكُمُ مسعاةُ جدِّهِمُ
ولا نُفَيْلتُكُم من أمِّهمْ أممُ
٦٧٠
ليسَ الرشيدُ كمُوسى في القياسِ ولا
مأمونُكم كالرِّضَي إن أنصفَ الحكَمُ
٦٧١
حتى إذا أصبَحتْ في غير صاحبِها
باتتْ تُنازعها الذُّوبانُ والرَّخَمُ
٦٧٢
وصيَّرتْ بينهم شُورى كأنهمُ
لا يعلمون ولاةَ الحقِّ أيُّهمُ
تالله ما جهِلَ الإنسانُ موضعَها
لكنَّهم سَتروا وجهَ الذي عَلِموا
ثم ادَّعاها بنو العبَّاسِ إرثَهمُ
وما لهم قدَمٌ فيها ولا قدَمُ
لا يُذكَرون إذا ما عُصبةٌ ذُكرتْ
ولا يُحكَّمُ في أمرٍ لهُم حكَمُ
ولا رآهم أبو بكرٍ وصاحبُه
أهلًا لما طلَبوا منهم وما زَعَمُوا
٦٧٣
فهل همُ يدَعُوها غيرَ واجبةٍ
أم هل أيِمَّتُهم في أَخذِها ظلَموا
أمَّا عليٌّ فقد أدْنَى قرابتَكم
عند الولاية إن لم تكفر النِّعمُ
٦٧٤
أينكرُ الحبرُ عبدُ الله نعمتَه
أبوكم وعُبيدُ الله أم قُثَمُ
٦٧٥
بئسَ الجزاءُ جَزيتم في بني حسَنٍ
أباهم العلَمَ الهادي وأمَّهُمُ
لا بيعة روَّعتْكمْ عن ديارهمُ
ولا يمينٌ ولا قُربى ولا ذِممُ
ألا صَفحْتُم عن الأسرى بلا سَببٍ
للصَّافحين ببدرٍ عن أَسيركمُ
ألا كَفَفْتمْ عن الدِّيباجِ ألسُنَكم
وعن بناتِ رسول الله شتْمَكُمُ
٦٧٦
ما نال منهم بنو حربٍ وإن عظُمتْ
تلك الجرائمُ إلا دونَ نيلِكُمُ
٦٧٧
يا جاهدًا في مَساوِيهم ليَستُرَها
غدر الرشيد بيَحيي كيفَ ينكتمُ
٦٧٨
ذاق الزُّبيريُّ عبءَ الحتفِ وانكشَفتْ
عن ابن فاطمةَ الأقوالُ والتُّهَمُ
كم غدرةٍ لكمُ في الدِّينِ واضحةٍ
وكم دمٍ لرَسولِ اللهِ عندَكُمُ
أأنتمُ آلُه فيما ترونَ وفي
أظفارِكُم من بَنيه الطَّاهرينَ دَمُ
هيهاتَ لا قرُبتْ قربى ولا رحمٌ
يومًا إذا قضَت الأخلاقُ والشِّيَمُ
كانت مودَّةُ سلمانٍ لهم رَحِمًا
ولم يكن بين نوحٍ وابنِه رَحِمُ
٦٧٩
باءُوا بقَتل الرضي من بعد بَيعتِه
وأبصَرُوا بعد يومٍ أمرهم غَممُ
٦٨٠
يا عصبةً شَقيتْ مِن بعد ما سَعِدتْ
ومعشرًا هلَكوا من بعد ما سَلِمُوا
لا عن أبي مسلمٍ في نُصحِه صَفَحوا
ولا الهبيريَّ نجَّا الحلفُ والقسَمُ
٦٨١
أبلغ لديك بني العباس مألُكةً
لا يدَّعوا مُلكها أملاكِها العجَمُ
أيُّ المفاخر أضحى في مَنابرِكُم
وغيركم آمرٌ فيهنَّ محتَكِمُ
٦٨٢
وهل يفيدِّكُمُ مِن مفخرٍ علَمٌ
وفي الخلاف عليكم يخفِقُ العلَمُ
خلُّوا الفخار لعلَّامينَ إن سُئلوا
عند السُّؤالِ وعمالين إن علِمُوا
لا يَغضَبُون لغيرِ اللهِ إن غَضِبوا
ولا يضيعون في حُكمٍ إذا حكَمُوا
تبدُو التلاوةُ من أبياتِهم أبَدًا
ومن بيوتِكمُ الأوتارُ والنغَمُ
إذا تلَوا آيةً عني أمامَكُم
قِفْ بالدِّيار التي لم يُعفِها قِدَمُ
منهم عليَّةُ أمْ منكمْ وهل لكمُ
شيخُ المغنِّينَ إبراهيم أو لهُمُ
٦٨٣
ما في بيوتهمُ للخَمر معتصَرٌ
ولا في بيوتهمُ للشرِّ مُعتصمُ
ولا تبيتُ لهم خُنثى تُناوِمُهم
ولا يُرى لهمُ فرد له حشَمُ
فالركنُ والبيتُ والأستارُ منزلُهم
وزمزمٌ والصَّفا والحِجرُ والحرَمُ
وليس من قَسَمٍ في الذِّكر نعرفُه
إلا وهُم غيرُ شكٍّ ذلك القسَمُ
وقال أيضًا وقد كتَب بها إلى سيف الدولة من الأسر، يُعزيه
بأختِه:
وقال يرثي أبا المرجان جابر بن ناصر الدولة وتُوفِّي بالرحبة:
وقال، وقد وقع ببني كلاب فخرج النساءُ إليه، فصفح عن الأموال
جميعًا:
وقال أيضًا عند اجتماعِ الأمراء بالرقة لما حاصر أبو تغلب أخاه حمدان
بها:
وكتب إلى سيفِ الدولةِ يذكر أَسرَه، ويعرض بذِكر تجافي الغُلام
له:
قال ابن خالويه: لما تُوفِّي سيفُ الدولة رحمه الله، عزم أبو فراس
على التغلُّب على حمصٍ فاتَّصل خبرُه بأبي المعالي ابن سيف الدولة
وغلام أبيه قرعويه، وكان صاحبَ حلب؛ فأرسلَ إليه بجَوشن وقد ضُرب
ضرباتٍ، فماتَ في الطريق، فقال قبلَ موته:
هذا آخر شعر قاله أبو فراس رحمه
الله تعالى، في رواية أبي عبد الله الحسين بن محمد بن خالويه رحمهم
الله:
وقد وجدت في نسخةٍ ثانية الأرجوزةَ الآتيةَ زائدةً عن النسخة التي
أخذت عنها، فآثرت إثباتها في آخر هذه النسخة إتمامًا للفائدة، وأرجح
أنها من كلامه والله أعلم.
ما العمر ما طالتْ به الدُّهورُ
العمر ما تمَّ به السرورُ
أيام عِزِّي ونفاذِ أَمري
هي التي أحسِبُها من عُمري
ما أجْورَ الدهر على بَنيه
وأغدَرَ الدهرَ بمن يُصفِيه
لو شئت مما قد قللْنَ جَدَّا
أعددتُ أيامَ السرور عدَّا
أنعتُ يومًا مرَّ لي بالشَّامِ
ألذُّ ما مرَّ من الأيامِ
دعوتُ بالعُقار ذاتَ يوم
عند انتِباهي سحَرًا من نَومِي
قلتُ له اختَرْ سبعةً كبارًا
كل نجيبٍ يرد الغُبَارا
يكونُ للأرنبِ منها اثنانِ
وخمسة تُفرد للغِزلان
واجعل كلابَ الصَّيدِ نَوبتين
تُرسل منها اثنين بعد اثنينِ
ولا تضيعُ أكلب العِراضِ
فهنَّ حتفٌ للظباءِ قاضِ
ثم تقدَّمتْ إلى الفهادِ
والبازيارين باستِعْدادِ
وقلتُ إن خمسة لتقنعُ
والزرقاف الفَرخ والملمَّعُ
وأنت يا طباخُ لا تباطَا
عجِّل لنا اللفات والأَوسَاطَا
ويا شرابيَ البلسقياتِ
تكون بالشَّراب مبشراتِ
بالله لا تستصحبوا ثقيلَا
واجتنبوا الكثرةَ والفُضُولَا
ردُّوا فلانًا وخذوا فلانا
وضمِّنوني صيدكُم ضَمانا
واخترتُ لما وقَفَا طويلا
عِشرين أو فُويقَها قليلا
عصابةٌ أكرِمْ بها عصابَهْ
شرطك بالفَضلِ وبالنَّجابَهْ
ثم قصَدْنا صيدَ عين باصرِ
مظنَّة الصيدِ لكل خابرِ
جئناه والشَّمسُ قبيلَ المغربِ
تختالُ في ثوبِ الأصيل المُذهَبِ
وأخذ الدراج في الصِّياحِ
مكتنفًا من سائر النواحِي
في غفلة عنَّا وفي ضَلال
ونحن قد زُرناه بالآجالِ
يطربُ للصُّبحِ وليس يدري
أنَّ المنايا في طُلوع الفجرِ
حتى إذا أحسَّ بالصِّياح
ناداهمُ حيَّ على الفلاحِ
نحن نصلِّي والبزاةُ تجرحُ
مجرَّدات والخيول تبرحُ
فقلت للعِهادِ امضِ وانفَردْ
وصِحْ بنا أنْ عنَّ ظبيٌ واجتهَدْ
فلم يزلْ غيرَ بعيدٍ عنَّا
إليه يَمضي ما يفرُّ منَّا
وسرت في صفٍّ من الرِّجالِ
كأنما نزحفُ للقتالِ
فما استوينا كلُّنا حتى وقَفْ
غليِّمٌ كان قريبًا من شرَفْ
ثم أتاني عجِلًا قال السبَقْ
فقلت إن كان العيانُ قد صدَقْ
سرتُ إليه فأراني جاشمهْ
حسبتُها يقظى وكانت نائمَهْ
ثم أخذتُ نبلةً كانتْ معي
ودُرت دَورين ولم أوسِّعِ
حتى تمكنت فلم أخطِ الطلَبْ
لكل حتف سببٌ من السَّببْ
وضجَّتِ الكلابُ في المقاوِدِ
تطلبها وهي بجُهد جاهدِ
وصحتُ بالأسود كالخطافِ
ليس بأبيضٍ ولا غطرافِ
ثم دعيت القومَ هذا بازِي
فإيَّاكُمْ ينشَطُ للبرازِ
فقال منهم أغيدٌ: أنا أنا
ولو درَى ما يبتدي لأذعَنا
فقلتُ قابِلْني وراءَ النهرِ
أنت لشَطرٍ وأنا لشَطرِ
طارتْ له درَّاجةً فأرسَلا
أحسنَ فيها بازه وأجمَلا
علَّقها فعَطْعطوا وصاحُوا
والصيدُ من آلتِه الصياحُ
فقلتُ ما هذا الصِّياحُ والقلَقْ
أكل هذا فرَحًا بذا الطلَقْ
فقلت إنَّ الكلبَ يَشوي البازا
قد حرز الكلب فجُزْ وجازَا
فلم يزلْ يزعقُ بي مَولاءي
وهو كمَثل النار في الحَلْفاءِ
طارت فأرسلت فكانتْ سلوَى
حلَّت بها قبلَ العلوِّ البلوَى
فما رفعت الباز حتى طارا
آخر عود يُحسن الفِرارا
أسوَدُ صيَّاحٌ كريمٌ كرزُ
مطردٌ محكَّك مُلزَّزُ
عليه ألوانٌ من الثِّيابِ
من حُلل الدِّيباج والعنَّابِ
فلم يزلْ يعلو وبازي يثقُلُ
يجرُّ فضل السَّبقِ ليس يغفلُ
يرقبُه من تحتِه بعَينه
وإنما يرقُبه لحَينِه
حتى إذا قرُب فيما يجِبُ
معلقة والموتُ منه يقربُ
أرخى له بنجبه رجليهِ
والموتُ قد سابقه إليهِ
صِحنا وصاح القومُ بالتكبيرِ
وغير ما يظهر في الصُّدورِ
ثم تسايرنا فطارَتْ واحدَهْ
شيطانةٌ من الطيور ماردَهْ
من قربٍ فأَرسَلوا إلَيها
ولم تزلْ أعينُهم علَيها
فلم يعلَّق بازه وأدَّى
من بعد ما قاربها وشدَّا
صِحتُ: أهذا الباز أم دجاجهْ
ليت جناحيه على دراجَهْ
واحمرتِ الأوجهُ والعيونُ
وقال هذا موضعٌ ملعونُ
إن لزَّها الباز أصابت بنجَا
أو سقطتْ لم يلقَ إلا مدرَجَا
أعدل بنا للمنبجِ الخفيفِ
والموضعِ المُنفردِ المَكشوفِ
فقلتُ هذي صحبةٌ ضعيفَهْ
وقُرة ظاهرة معروفهْ
نحن جميعًا في مكانٍ واحدِ
فلا تعللْ بالكلامِ الباردِ
قُصَّ جناحيه يكنْ في الدارِ
مع الدباشي ومعَ القماري
واعمِد إلى جلجلةِ البديعِ
فاجعَلْه في عنزٍ من القطيعِ
حتى إذا أبصرتَه وقد خجلْ
قلتُ أراه فارهًا على الحجَلْ
دَعْه وهذا البازَ فاطرُدهُ بهِ
تفاديًا من غَمِّه وعَتبِه
وقلتُ للخيلِ الذي حَولَينا
تشاهَدوا كلكمُ عَلينا
بأنها عاريةٌ مطمونَهْ
يقيم فيها جاهَه ودينَهْ
جئت بباز حسَنٍ وهرجِ
دون العُقاب وفويق الرمجِ
زينٌ لرائيه وفوق الزَّينِ
ينظُر من نارينِ في غارينِ
كأنَّ فوقَ صدرِه والهادِي
آثارُ متنِ الدارِ في الرمادِ
ذي منسر فحمٍ وعينٍ غائرَهْ
وأفخذٍ مثل الجبال وافرَهْ
ضخم قريب الدستبان جدَّا
يلقى الذي يحمل منه كدَّا
وراحة تحمل كفي بسطَهْ
زادت على قدر البزاة بسطَهْ
سرَّ وقال هات قلتُ مهلَا
أخلفْ على الردِّ فقال كلَّا
أمَّا يميني فهْي عندي غاليَهْ
وكلتي مثلُ يميني وافيَهْ
قلت فخذه هبةً بقُبلَهْ
فصدَّ عني وعلَتْه خَجلَهْ
فلم أزلْ أمسحُه حتى انبسَطْ
وهشَّ للصَّيدِ قليلًا ونشِطْ
صاحَ به اركبْ فاستقلَّ عن يَدِي
مبادرًا أسرعُ من قولِ قدِ
وضمَّ ساقيه وقال قَد حصَلْ
قلت له الغدرةُ من شرِّ العملْ
سرت وسارَ الغادرُ العيَّارُ
ليسَ لطيرٍ معنا مطارُ
ثم عدَلْنا نحو نهرِ الوادِي
والطيرُ فيه عددَ الجرادِ
أدرتُ شاهينَين في مكانِ
لكثرةِ الصيد وللإِمكانِ
توازنا واطَّرَدا اطِّرادا
كالفارسَينِ التَقيَا أو كادَا
نمتْ شذاها فأصابَا أربعا
ثلثةً خضرًا وطيرًا أبقَعا
ثم ذبحناها وحصَّلْناهُما
وأمكنَ الصيدُ فأرسلناهما
فجدلا أربعةً مثل الأُوَلْ
لكنها أكبر منهن ظللْ
ابعث منها وانيستان
وطائر يُعرَف بالخِصاني
خيلٌ تناجيهنَّ كيفَ شِينا
طيِّعة ولحمُها أيدِينا
وهي إذا ما استصعبَ القيادهْ
صَرَفها الجوعُ على الإرادَهْ
وكلَّما شدَّ عليها في طلَقْ
تساقطتْ ما بينَنا من الغرَقْ
حتى أخَذْنا ما أرَدْنا منْها
ثم انصرفنا راغبِين عَنْها
إلى كراكيٍّ بقُرب النَّهرِ
عشرًا أراها وفويق العَشرِ
لما رآها الباز من بعد لصِقْ
وحدد الطرق إليها وزرَقْ
فقلتُ صدناها وربِّ الكعبَهْ
وكنَّ في وادٍ بقرب جنبهْ
فدرت حتى أمكنتْ ثم نزَلْ
فاحتاطَ منها امسحا مثل الجمَلْ
ما انحطَّ إلا وإنا إليهِ
ممكنًا رجليَ من رِجلَيهِ
جلست كي أشبعه أذاهبَهْ
قد سقطتْها عن يمين الراتبَهْ
لم أجزِه بحسَن البلاءِ
أطعتُ حرصي وعصيتُ دائي
ولم أزلْ أختِلها وتنختِلْ
وإنما ختلتها إلى الأجَلْ
عمدت منها لكبير مُفردِ
يمضِي بعُنق كالرِّشاء المحسدِ
طار وما طارَ ليأتيه القدَرْ
وهل لما قد حانَ سمعٌ وبصَرْ
حتى إذا جدَّ له كالعَدْل
أيقنت أن العظمَ غيرُ الفضلِ
ذاك على ما نلت منه أمرُ
عثرتُ فيه وأقال الدهرُ
خيرٌ من النجاحِ للإنسانِ
إصابةُ الرأي مع الحِرمانِ
صحت إلى الطبَّاخ ماذا تنتظِرْ
انزل على النهر وهاتِ ما حضَرْ
جاء بأوشاطٍ وجردِ تاجِ
من حجَل الطير ومن دراجِ
فما تنازَلْنا عن الخُيولِ
يمنعنا الحرصُ عن النزولِ
ثم عدَلنا نطلُبُ الصحراءَ
نلتمسُ الوحوشَ والظِّباءَ
عنَّ لنا سِربٌ بجزعِ وادِ
يقدُمه أفرغُ عبلُ الهادِي
قد صدرَتْ عن مَنهلٍ رويِّ
من غبر الوسمي والوليِّ
ليسَ بمطرُوق ولا بكيِّ
ومرقع مقتبل جنيِّ
رعين فيه غيرَ مذعوراتِ
لعاع وادٍ واغلِ النباتِ
مرَّ عليَّ غدقُ السَّحابِ
بواكفٍ متصل الربابِ
لما رآنا مالَ بالأعناقِ
نظرة لا صبٍ ولا مشتاقِ
ما زالَ في خفضٍ وحسنِ حالِ
حتى أصابتْه بنا اللَّيالي
شرب حماه الدهرُ ما حماهُ
لما رآه ارتدَّ ما أعطاهُ
بادرت بالصقار والفِهادِ
حتى سَبقْناه إلى الميقادِ
فجدل الفهد الكبيرَ الأقرنا
شدَّ على مبطنه واستَبْطنا
وجدَّل الآخر عنزًا حائلا
رعَتْ حما الغَورين حولًا كاملا
ثم رمَيناهنَّ بالصُّقورِ
فانعربوا بالقَدَرِ المقدُورِ
فردن منها في القراج واحدَهْ
قد نغِلت بالحضر وهي جاهدَهْ
مرتْ بنا والصقرُ في قَذَالها
يُخبرها بسيءٍ عن حالِها
ثم تناهَى ونباها الكلبُ
هما عليها والزمانُ إِلْبُ
فلم تزيلْها بهِ وتصرعْ
حتى تبقى في العراج أربَعْ
ثم عدَلنا عدلةً إلى الجبَلْ
إلى الأراوَى والكِباش والحجَلْ
فلم نزلْ بالخيلِ والكلابِ
نحوزُها حوزًا إلى الغِيابِ
ثم انصرَفْنا والبغالُ مُوقَرَهْ
في ليلةٍ مثل الصباح مُسفِرَهْ
حتى أتينا رحلَنا بليلِ
وقد سبَقْنا بجيادِ الخيلِ
ثم نزلنا وطرَحْنا الصَّيْدَا
حتى عدَدنا مئةً وزَيْدَا
فلم نزل نُلقي ونَشوَي ونصُبْ
حتى طلبت صاحبًا فلم أصِبْ
شربًا كما عنَّ من الزُّقاقِ
بغير ترتيبٍ وغير ساقِ
فلم نزلْ سبعَ ليالٍ عَددَا
أسعدَ من راج وأحظَى من غَدَا
تم ديوانُ أبي فراسٍ، والحمدُ لله أوَّلًا وآخرًا.