الساعة التي دارت إلى الوراء
١
اصطفَّت مجموعة من أشجار حور لومباردي أمام منزل عمة أبي جيرترود، على ضفة نهر شيبسكوت. كانت عمتي تُشبه في المظهر، على نحوٍ مدهش، واحدة من تلك الأشجار؛ إذ كان لها مظهرُ الشخص المُصاب بفقر الدم، الذي يميِّزه عن أقرانه الذين تجري الدماء في عروقهم. كانت طويلة، ذات مظهر صارم، ونحيفة للغاية. كانت ملابسها مُلتصقة بها. وأثق أنه لو وجدت الآلهة فرصةً كي تفرضَ عليها مصير دافني (التي حوَّلتْها الآلهة إلى شجرة غار) لكانت عمتي اتخذت مكانها في يُسر وعلى نحوٍ طبيعي داخل الصف الكئيب، لا تختلف في المظهر المُقبض عن أي شجرة حور أخرى.
بعضٌ من ذكرياتي الأولى تخص هذه القريبة المُبجَّلة. ولقد لعبت، حية وميتة، دورًا مهمًّا في الأحداث التي أُوشك أن أرويها: أحداث أومن أنه لا نظير لها في خبرات البشر.
خلال زياراتنا الدورية للعمة جيرترود في ماين، التي كنا نقوم بها بدافع الواجب، كنتُ أنا وابن عمي هاري معتادَين على تخمين عمرها. هل كان عمرها ستين عامًا أم مائة وعشرين؟ لم تكن لدينا معلومة دقيقة، فربما كان عمرها هذا أو ذاك. كانت المرأة العجوز محاطة بأشياء عتيقة الطراز، وبدا أنها تعيش بالكامل في الماضي. وخلال الفترات التي كانت ترحب فيها بالتواصل، والتي لم تكن تتجاوز الفترة منها نصف ساعة، أثناء تناول قدح من الشاي أو وهي في الشرفة حيث تُرسل أشجار الحور ظلالها الرقيقة مباشرة نحو الشرق، اعتادت عمتي أن تخبرنا قصصًا عن أسلافها المزعومين. وأقول مزعومين لأننا لم نكن نُصدق بالكامل أن لها أسلافًا من الأساس.
إن سلاسل النسب شيء سخيف. وإليك السلسلة الخاصة بالعمة جيرترود، في أبسط صورها:
كانت جدة جدة جدتها (١٥٩٩–١٦٤٢) امرأة هولندية تزوَّجت لاجئًا بيوريتانيًّا، وأبحرت من لايدن إلى بلايموث في السفينة آن عام ١٦٣٢ ميلاديًّا. كان لهذه المرأة المهاجرة ابنة، وهي أم جدة العمة جيرترود (١٦٤٠–١٧١٨)، وقد جاءت إلى المقاطعة الشرقية لولاية ماساتشوستس في بدايات القرن الماضي، وأسَرَها الهنود في حروب بينوبسكوت. عاشت ابنتها (١٦٨٠–١٧٧٦) كي ترى هذه المستعمرات حرة ومستقلة، وأسهمت في التعداد السكاني للجمهورية القادمة بما لا يقل عن تسعة عشر ابنًا قويًّا وفتاةً جميلة. واحدة من تلك الفتيات (١٧٣٥–١٨٠٢) تزوَّجت ربان سفينة من ويسكاسيت شارك في التجارة مع جزر الهند الغربية، التي أبحرت إليها. تحطمت بها السفينة مرتين في البحر، مرة فيما يُعرَف الآن بجزيرة سيجوين، والثانية في سان سلفادور. وفي سان سلفادور وُلدت العمة جيرترود.
كم سئمنا من سماع تاريخ هذه العائلة. ربما كان التكرار المتواصل والإلحاح القاسي الذي تُلقى به التواريخ السابقة على آذاننا الصغيرة هو ما جعلنا متشككين. وكما قلت، لم نكترث كثيرًا لأمر أسلاف العمة جيرترود؛ إذ بدا وجودهم غير مرجَّح بشدة. وفي قرارة أنفسنا كانت الجدَّات وجدات الجدات محض خرافات، وكانت العمة جيرترود نفسها هي الفاعل الرئيسي في كل المغامرات المنسوبة إليهن؛ إذ عمَّرت قرنًا بعد قرن بينما حصد الموت أجيالًا من معاصريها.
عند المنبسَط الأول للدَّرَج القائم الزوايا داخل المنزل كانت تنتصب ساعة هولندية طويلة. كان ارتفاع صندوق الساعة يزيد عن ثمانية أقدام، وكان مصنوعًا من خشب أحمر داكن، وليس من خشب الماهوجني، وكان مُطعَّمًا على نحو غريب بالفضة. لم تكن تلك بقطعة أثاث عادية على الإطلاق. منذ نحو مائة عام ازدهر عمل ساعاتي يُدعى كاري في بلدة برونزويك، وكان حِرَفيًّا ماهرًا مُجِدًّا. كان من النادر ألَّا يضم أحدُ المنازل الفاخرة الواقعة في ذلك الجزء من الساحل إحدى ساعات كاري. غير أن ساعة العمة جيرترود أخذت تسجل انقضاء الساعات والدقائق لقرنين كاملين قبل مولد فنان برونزويك. لقد كانت تعمل حين اخترق ويليام الصامت السور كي يفك حصار لايدن. وكان اسم صانعها «يان ليبردام» وتاريخ الصنع «١٥٧٢» لا يزال من الممكن تبيُّنهما مكتوبَين بحروفٍ وأرقامٍ سوداء عريضة تمتد بعرض قرص الساعة. كانت تُحَف كاري عادية وحديثة إلى جوار هذه القطعة الأرستقراطية القديمة. كان مرسومًا عليها في براعةٍ القمر الهولندي الضاحك، وكانت أطواره تظهر عبر مشهد طبيعي من طواحين الهواء والأراضي المنخفضة المُستصلَحة. كما حفرت يد ماهرة الحلية المُقبِضة الموضوعة أعلى الساعة، رأس الموت المثبتة بسيف مزدوج الشفرة. وشأن كل ساعات القرن السادس عشر لم يكن بهذه الساعة بندول، بل كان بها ميزان بسيط من طراز فان ويك يحكم هبوط الأثقال إلى أسفل الصندوق الطويل.
غير أن هذه الأثقال لم تكن تتحرك مطلقًا. وعامًا بعد عام، حين كنت أعود أنا وهاري إلى ماين، كنا نجد عقربَي الساعة القديمة يُشيران إلى الثالثة إلَّا رُبعًا، كما كانا يُشيران في أول مرة رأيتهما فيها. كان البدر المكتمل مُعلقًا على الدوام في طور الأحدب المتزايد، دون حراك شأنه شأن رأس الموت المعلق أعلى الساعة. كان ثمة لغز يكتنف توقُّف الحركة وشلل العقربَين. أخبرتنا العمة جيرترود أن ماكينة الساعة لم تعمل قط منذ أن ضرب البرق الساعة، وأرتنا فتحة سوداء في جانب صندوق الساعة بالقرب من أعلاها، مع شِق مائل يمتد إلى الأسفل لعدة أقدام. لم يكن هذا التفسير يُرضينا؛ إذ لم يفسر حدَّة رفضها حين اقترحنا عليها إحضار الساعاتي من القرية، أو ثورتها الاستثنائية حين وجدت هاري يقف على سُلَّم نَقَّال، ويُمسك في يده مفتاحًا مستعارًا، ويوشك على أن يختبر بنفسه الحركة المتوقفة للساعة.
في إحدى ليالي شهر أغسطس، وبعد أن اجتزنا مرحلة الصبا، أيقظني صوت ضوضاء في الرَّدهة. هززتُ ابن عمي وهمست قائلًا: «ثمة شخص ما في المنزل.»
خرجنا في هدوء من الغرفة ثم إلى الدرج، وقد تسلل ضوء شاحب من الأسفل. حبسنا أنفاسَنا ونزلنا دون ضوضاء حتى المنبسط الثاني. تعلَّق هاري بذراعي، وأشار إلى الدرابزين، وفي الوقت نفسه سحبني نحو الظل.
شاهدنا أمرًا عجيبًا.
كانت العمة جيرترود واقفة على كرسي أمام الساعة القديمة، وقد بدت ذات مظهر شبحي في منامتها البيضاء وقلنسوة النوم البيضاء، مثلها مثل أشجار الحور المُغطاة بالثلج. تصادف أن أصدرت الأرضية صريرًا خفيفًا تحت أرجلنا، فالتفتت العمة جيرترود في حركة مفاجئة وهي تنظر بحدة نحو الظلام، وتمد شمعة عاليًا نحونا، بحيث صار الضوء يسقط على وجهها الشاحب. بدت أكبر عمرًا بسنوات مما تركتها عليه حين ألقيت عليها تحية المساء. ولبضع دقائق ظلَّت دون حراك، ما عدا ارتجافة ذراعها التي كانت تمسك الشمعة عاليًا. بعد ذلك، وضعت الشمعة، وقد اطمأن قلبها، على أحد الأرفف وولَّت وجهها مجددًا شطر الساعة.
رأينا السيدة العجوز وهي تُخرج مفتاحًا من وراء الواجهة وتقوم بتعبئة الساعة، وكان بوسعنا سماع أنفاسها السريعة القصيرة. وضعت يديها على جانبَي الصندوق وقرَّبَت وجهها من قرص الساعة، كما لو كانت تتفحصه عن كثب، وظلت على هذا الحال لوقت طويل. سمعناها تُصدر تنهيدة ارتياح ثم التفتت نحونا نصف التفاتة. لن أنسى مطلقًا تعبير السعادة الجامحة الذي اعتلى ملامحها وقتها.
كان عقربا الساعة يتحرَّكان، وكانا يتحركان إلى الوراء.
أحاطت العمة جيرترود الساعة بذراعيها وضغطت وجنتها الذابلة عليها. قبَّلت الساعة مرارًا، وربتت عليها بمئات الطرق كما لو كانت كائنًا حيًّا أثيرًا. أخذت تُمسِّدها وتتحدَّث إليها، مستخدمةً كلمات أمكننا سماعها لكن لم نفهمها. واصَل العقربان حركتهما إلى الوراء.
بعد ذلك أطلقت العمة صرخة مفاجئة؛ إذ توقفت الساعة عن الحركة. رأينا جسدها الطويل يتمايل للحظة على الكرسي، ومدَّت ذراعيها في حركة متشنجة تشي بالرعب والقنوط، ولوت عقرب الدقائق حتى عاد إلى موضعه القديم عند الرقم تسعة، وسقطت بقوة على الأرضية.
٢
حسب وصية العمة جيرترود حصلتُ أنا على أسهمها المصرفية وأسهم شركة الغاز، وعلى السندات العقارية وسندات السكك الحديدية وسندات البلدية التي تمنح فائدة ٧ بالمائة، وحصل هاري على الساعة. ظننا وقتها أن هذه قسمة جائرة، وما زاد من دهشتنا أن ابن عمي كان على الدوام هو الأثير لديها. وقد تفحَّصنا، في محاولة شبه جادة، الساعة العتيقة، وطرقنا على صندوقها الخشبي بحثًا عن أدراج خفية، بل ومددنا إبرة تريكو داخل ماكينتها غير المعقَّدة كي نتأكد مما إذا كانت قريبتنا الغريبة الأطوار قد وضعت هناك ملحقًا للوصية أو وثيقةً ما تُغيِّر بنودها. لكننا لم نكتشف أيَّ شيء.
كانت الوصية تشترط أن نُكمل تعليمنا في جامعة لايدن؛ ومِن ثَمَّ فقد تركنا الدراسة في الكلية العسكرية التي تعلمنا فيها القليل عن نظريات الحرب والكثير عن فن الوقوف وأنوفنا بمحاذاة كعوبنا، وركبنا السفينة من دون تأخير. أخذنا الساعة معنا، وقبل أن تمضيَ أشهر كثيرة كانت قد اتخذت مكانها في أحد أركان غرفتنا في شارع بريده.
ظلَّت الساعة صنيعة عبقرية يان ليبردام، وقد عادت إلى موطنها الأصلي، متوقفة وتُشير إلى الثالثة إلَّا الربع. كان صانع الساعة قد وُوري الثرى منذ نحو ثلاثمائة عام، ولم تستطع المهارات المجتمعة لخلفائه في المهنة في لايدن أن تجعلها تتحرك لا إلى الأمام ولا إلى الوراء.
سريعًا ما تعلَّمنا ما يكفي من اللغة الهولندية بحيث نتمكن من التفاهم مع من نتعامل معهم من أبناء البلدة، والأساتذة، وعدد من زملاء الدراسة الذين يزيد عددهم عن الثمانمائة. إن هذه اللغة، التي تبدو صعبة في البداية، ما هي إلَّا نوع من الإنجليزية السيئة التوزيع. وإذا أمعنت التفكير فيها قليلًا فستتفهمها مثلما تفهم واحدة من تلك الرسائل المُشفرة التي تُصنَع عن طريق كتابة كل كلمات الجملة ثم توزيعها على الأماكن الخطأ.
تبدد شعور الجِدة الناجم عن تعلُّم اللغة المكتسبة حديثًا وعن المعيشة في البيئة الجديدة، وطفقنا نباشر مساعينا العادية. كرَّس هاري نفسه بقدر من الجدية لدراسة علم الاجتماع، مع إيلاء قدر من الاهتمام الخاص إلى فتيات لايدن اللطيفات ذوات الأوجه المستديرة. بينما أجريتُ دراساتي العليا في الميتافيزيقا.
خارج نطاق دراستينا، كنا نمتلك أرضية من الاهتمامات المشتركة. ولدهشتنا، وجدنا أنه لم يكن أحد تقريبًا من زملاء الدراسة أو الأساتذة يعلم شيئًا عن التاريخ المجيد للمدينة أو يهتم به، أو عن الظروف التي تأسست فيها الجامعة نفسها على يد أمير أورانيا. وعلى النقيض التام من شعور عدم الاكتراث العام هذا، كان البروفيسور فان ستوب، الذي اخترته كي يُرشدني عبر مجاهل الفلسفة التأملية، يُظهر حماسًا كبيرًا.
كان هذا البروفيسور المتميز والمتخصص في الفلسفة الهيجلية رجلًا نحيلًا ضئيل الحجم، وكانت ملامحه تذكِّرني على نحو عجيب بالعمة جيرترود. ولو كان شقيقَ عمتي لما كان التشابه في ملامح الوجه أقرب من ذلك. أخبرته بهذا ذات مرة، حين كنا معًا في مبنى البلدية ننظر إلى صورة بطل الحصار، العُمدة فان دير فيرف. ضحك البروفيسور وقال: «سأُريك مصادفة أعجب من هذه.» ثم تقدَّمني عبر الرَّدهة وصولًا إلى اللوحة العظيمة التي تُجسِّد الحصار، والتي رسمها فارمرز، وأشار إلى صورة أحد المواطنين المشاركين في الدفاع. كان الأمر صحيحًا. كان من الممكن أن يكون فان ستوب هو ابن ذلك المواطن، وكان من الممكن أن يكون ذلك المواطن والد العمة جيرترود.
بدا البروفيسور مغرمًا بنا. وكثيرًا ما ذهبنا إلى غرفته في منزل قديم في شارع رابنبرج، وهو أحد المنازل القليلة التي بُنيت قبل عام ١٥٧٤. كان يسير معنا عبر ضواحي المدينة الجميلة، وعبر طرقات مستقيمة تحفُّها أشجار الحور، التي أعادت إلى أذهاننا ذكرى ضفة شيبسكوت. اصطحبنا إلى قمة البرج الروماني المتهدم في قلب المدينة، ومن الشرفات عينها التي راقبتْ منها الأعين الوَجِلة منذ ثلاثة قرون الاقتراب البطيء لأسطول الأدميرال بويسوت عبر الأراضي المنخفضة المغمورة بالماء، أشار إلى خندق لاندشيدينج العظيم الذي قُطع حتى تُجبَر قوات بويسوت الزيلاندية على وقف الحصار وإطعام الجوعى. كما أرانا مقر عائلة فالديز الإسبانية في لايدردروب، وأخبرنا كيف أن السماء أرسلت رياحًا شمالية غربية عنيفة في ليلة الأول من أكتوبر، التي جعلت المياه عميقة في المواضع الضحلة، ودفعت الأسطول بين زويترفوده وسفايتن نحو جدران قلعة لامين، آخر معاقل المحاصِرين والعقبة الأخيرة في طريق إسعاف السُّكَّان الجوعى. وبعد ذلك أرانا الموضع الذي فُتحَت فيه ثغرة ضخمة، في الليلة السابقة مباشرة لانسحاب الجيش المحاصِر، في سور لايدن، بالقرب من بوابة كاو جيت، على يد الوالونيين الآتين من لامين.
«عجبًا!» هكذا صاح هاري وقد اشتعلت حماسته بفضل فصاحة سرد البروفيسور، وأضاف: «كانت تلك لحظة فارقة في الحصار.»
لم يقل البروفيسور شيئًا، بل وقف ويداه معقودتان أمام صدره، ينظر في اهتمام في عينَي ابن عمي.
واصل هاري حديثه قائلًا: «لأنه لو لم تكن هذه النقطة مُراقَبة، أو لو كان الدفاع قد فشل وجرى اختراق الثغرة نتيجة الهجوم الليلي الآتي من لامين، لكانت البلدة قد أُحرقَت ولقُتل الناس بالآلاف تحت عينَي الأدميرال بويسوت وأسطول الإنقاذ. من الذي دافع عن الثغرة؟»
ردَّ فان ستوب ببطء، كما لو كان يزن كل كلمة بحرص:
«إن التاريخ يُسجل وقوع انفجار تحت سور المدينة في الليلة الأخيرة للحصار، لكنه لا يخبرنا بقصة الدفاع عنها أو يذكر اسم المُدافِع. ومع هذا فلم تُلقَ على أيِّ شخصٍ قط مسئولية أعظم من تلك التي ألقاها القدَر على ذلك البطل المجهول. أهي الصدفة التي قادته إلى مواجهة هذا الخطر غير المتوقع؟ تَدبَّر بعض العواقب لو كان قد فشل. كان من شأن سقوط لايدن أن يدمر آخر آمال أمير أورانيا والدول الحرة. كان طغيان فيليب سيترسخ، وكان مولد الحرية الدينية والحُكم الذاتي للشعب سيتأجَّلان لعددٍ غير معروف من القرون. ومن يدري إن كانت ستوجد جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية أم لا لو لم تظهر الجمهورية الهولندية إلى النور. إن جامعتنا، التي أخرجت للعالم كلًّا من جروتيوس واسكاليجيه وأرمينيوس وديكارت، تأسَّست بفضل دفاع ذلك البطل الناجح عن الثغرة. ونحن نَدين له بوجودنا هنا اليوم. كلا، بل أنتما تَدينان له بوجودكما من الأساس؛ فقد كان أسلافكما من لايدن، وقد كان هذا المُدافِع هو ما منع الجزارين المتأهبين خلف السور من حصد حياتهم.»
فَرَدَ البروفيسور الضئيل الحجم قامتَه أمامنا، وكان يشع حماسًا ووطنية. التمعت عينا هاري واحمرَّت وجنتاه.
قال فان ستوب: «اذهبا إلى المنزل أيها الشابان، واشكرا الله على أنه بينما كان سُكَّان لايدن يُولُّون أنظارهم شطر زويترفوده والأسطول، كان هناك زوج من الأعين اليقظة، وقلب جسور عند سور المدينة خلف بوابة كاو جيت مباشرة!»
٣
كان رذاذ المطر يرتطم بالنوافذ ذاتَ ليلة خريفية في عامنا الثالث في لايدن، حين شرفنا البروفيسور فان ستوب بزيارة في شارع بريده. لم يسبق لي أن رأيت الرجل العجوز في هذه الروح المعنوية. كان يتحدَّث بلا توقف، وكانت موضوعات النميمة في المدينة، والأخبار الآتية من أوروبا، والعلم والشعر والفلسفة، كلها يجري الخوض فيها وتناولها بنفس الروح النشطة المرحة. حاولت اجتذابه إلى الحديث عن هيجل، الذي كنت أجد صعوبة في استيعاب الفصل الذي كتبه عن تعقيد الاعتماد المتبادل بين الأشياء.
قال وهو يبتسم: «أنت لا تفهم عودة الذات إلى ذاتها عن طريق الذوات الأخرى؟ حسنًا، ستفهم ذلك يومًا ما.»
كان هاري صامتًا ومنشغلًا. وتدريجيًّا أثَّر سكوته على البروفيسور ذاته. فترَتِ المحادثة وجلسنا معًا دون أن ننبس ببنت شفة. ومن حين إلى آخر كانت تظهر ومضة برق متبوعة بدويِّ رعدٍ بعيد.
فجأة قال البروفيسور: «إن ساعتكما لا تتحرك. هل تتحرك على الإطلاق؟»
رددتُ قائلًا: «على حسب ما أذكر لم يحدث هذا؛ أعني أنها تحرَّكت مرة واحدة، وكانت تدور إلى الوراء. هذا حين كانت العمة جيرترود …»
حينها لمحتُ نظرة تحذير صادرة عن هاري؛ فضحكتُ وقلت متلعثمًا: «الساعة قديمة وعديمة النفع. لا يمكن حملها على التحرك.»
قال البروفيسور بهدوء، وقد بدا عليه أنه لم يلحظ إحراجي: «فقط إلى الوراء؟ حسنًا، وما الذي يمنع الساعة من أن تسير إلى الوراء؟ ما الذي يمنع الزمن نفسه من التحول والنكوص على عقبيه؟»
بدا وكأنه ينتظر جوابًا، لكن لم يكن لديَّ أي جواب.
واصل قائلًا: «كنت أظن أنك هِيجِلي بما يكفي بحيث تُقِر بأن كل حالة تتضمن نقيضها. الزمن حالة، وليس شيئًا جوهريًّا. وإذا نظرنا إليه من منظور مُطلَق، فسنجد أن التتابع الذي وَفْقَه يأتي المستقبل بعد الحاضر، والحاضر بعد الماضي، ما هو إلا أمر اعتباطي محض. أمس، واليوم، والغد، لا يوجد سبب في طبيعة الأشياء تمنع الترتيب من أن يكون الغد ثم اليوم ثم أمس.»
دوَّت قصفة رعد حادة قاطعت تأملات البروفيسور.
«إن اليوم يتشكل بفعل دوران الكوكب حول محوره من الغرب إلى الشرق. وأتصور أن بإمكانك تصور حالات يمكن في ضوئها أن يدور الكوكب من الشرق إلى الغرب، بحيث يكشف لنا، بفعل هذا، الدورات التي قطعها في العصور السابقة. فهل من الأصعب كثيرًا تصور رجوع الزمن إلى الوراء، بحيث يتراجع الزمن بدلًا من أن يتقدم إلى الأمام، ويتكشَّف الماضي بينما يتباعد المستقبل، وتتراجع القرون، ويتحرك مسار الأحداث نحو البداية وليس، كما هو الحال الآن، نحو النهاية؟»
اعترضتُ قائلًا: «لكن، نحن نعلم أنه فيما يخص اﻟ …»
قاطعني فان ستوب في ازدراءٍ متزايدٍ قائلًا: «نحن نعلم! إنَّ ذكاءك ليس له أجنحة. أنت تتحدَّث بيقين مذهل عن موضعك داخل الكون، ويبدو أنك تعتقد أن فرديتك الضئيلة البائسة لها موطئ قدم راسخ فيما هو مُطلَق. ومع هذا فأنت ستذهب إلى الفراش الليلة وتحلم بوجود رجال ونساء وأطفال ووحوش من الماضي والمستقبل. كيف لك أن تعلم أنك في هذه اللحظة، بكل خيلاء أفكار القرن التاسع عشر، لست أكثر من صنيعة حُلمٍ مستقبلي، حَلَم به، مثلًا، فيلسوفٌ ما من القرن السادس عشر؟ كيف لك أن تعلم أنك لست أكثر من صنيعة حُلمٍ عن الماضي، يَحلُم به معتنِقٌ ما للفكر الهيجلي في القرن السادس والعشرين؟ كيف لك أن تعلم، يا فتى، أنك لن تتلاشى في القرن السادس عشر أو في عام ٢٠٦٠ في اللحظة التي يستيقظ فيها الشخص الحالم؟»
لم يكن ثمة ردٌّ على هذه الأفكار؛ لأنها بَدَت مغرقة في الميتافيزيقا. تثاءب هاري، ونهضتُ وذهبت إلى النافذة، بينما اقترب البروفيسور فان ستوب من الساعة.
وقال: «آهٍ يا طفليَّ، لا يوجد تقدم ثابت للأحداث البشرية. الماضي، الحاضر، المستقبل، كلها منسوجة معًا في شبكة واحدة معقدة. من سيقول إن هذه الساعة القديمة ليست مُحقَّة في سيرها إلى الوراء؟»
هزت قصفة رعدٍ المنزل؛ إذ كانت العاصفة فوق رءوسنا تمامًا.
وحين انقضى الوهج المبهر، كان البروفيسور فان ستوب واقفًا على كرسي أمام الساعة العالية. كان وجهه يبدو شبيهًا بوجه العمة جيرترود أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وقد وقف في المكان الذي وقفتْ فيه في ربع الساعة الأخير ذلك الذي رأيناها فيه تدير ماكينة الساعة.
خطرت الفكرة عينُها لي ولهاري.
صحنا: «توقف!» بينما بدأ يُدير ماكينة الساعة، وأردفنا: «ربما تموت لو …»
أشرقت ملامح البروفيسور الشاحبة بذلك الحماس العجيب الذي كسا وجه العمة جيرترود.
قال: «هذا صحيح، ربما أموت، لكن ربما أستيقظ. الماضي، الحاضر، المستقبل، كلها منسوجة معًا! يمضي مكوك الحياكة إلى الأمام والخلف، الأمام والخلف …»
كان قد أدار ماكينة الساعة، فأخذ العقربان يَدوران حول القرص من اليمين إلى اليسار بسرعة لا تُصدَّق. وخلال هذا الدوران السريع وجدنا أنفسنا وكأننا مشمولين بهذه الحركة. بدا أن أزمنة أبدية قد انكمشت إلى دقائق، بينما انقضت أعمار مع كل دَقة. كان فان ستوب، الذي كان يمد ذراعيه كلتيهما، يترنح على كرسيه. اهتزَّ صندوق الساعة مجددًا بفعل قصفة رعد مريعة، وفي اللحظة عينها مرَّت كرةٌ ناريةٌ من فوق رءوسنا وضربت الساعة بقوة، وخلَّفَت سحابة من بخار الكبريت وملأت الغرفة بضوءٍ مبهر. سقط فان ستوب أرضًا، وكفَّ العقربان عن الدوران.
٤
بدا هزيم الرعد كقصف المدفعية الثقيل. وبدا ضوء البرق الساطع وكأنه ضوء ثابت لحريق هائل. وضَعنا، أنا وهاري، أيدينا على أعيننا وهُرعنا إلى الخارج نحو الضوء.
تحت سماء حمراء كان الناس يُهرَعون نحو مبنى البلدية. أنبأتْنا ألسنة اللهب المُنبعِثة في اتجاه البرج الروماني بأن قلب المدينة كان يحترق. كانت وجوه أولئك الذين رأيناهم نحيلة ضاوية، ومن كلِّ ركن تناهى إلى مسامعنا عبارات الشكوى والقنوط. قال أحدهم: «لحم خيول بعشرة شلنات للرطل، والخبز بستة عشر شلنًا خبز حقيقي!» وردَّت امرأة عجوز قائلة: «لقد مرَّت ثمانية أسابيع منذ أن رأيت كسرة خبز، حفيدي الصغير، الضعيف، مات بالأمس، هل … تعلم ما فعلته جيكي بيتيا، غاسلة الملابس؟ كانت تتضور جوعًا. وحين مات رضيعها أقدمت هي وزوجها على …»
قطع دَويُّ مدفعٍ عبارتها. ذهبنا في سبيلنا نحو قلعة المدينة، مارِّين ببضعة جنود هنا وهناك وبالكثير من أهل المدينة الذين تظهر وجوههم المُكفهرَّة من تحت القبعات العريضة المصنوعة من اللباد.
«ثمة وفرةٌ من الخبز حيث يوجد البارود، وعفوٌ عام أيضًا. لقد علَّق فالديز عفوًا جديدًا على الأسوار هذا الصباح.»
أحاط حشدٌ مُتلهف على الفور بالمتحدث، وصاحوا: «لكن الأسطول!»
«إن الأسطول عالق في مياه جرينواي الضحلة. ربما يظل بويسوت واضعًا عينه الوحيدة على البحر أملًا في هبوب الرياح إلى أن تقضي المجاعة والطاعون على أبنائكم جميعًا، ولن تكون سفينته أقرب وقتها منكم ولو بطول حبل. الموت بالطاعون، الموت بالمجاعة، الموت بنيران البنادق، هذا ما يُقدِّمه عمدة المدينة كي يحظى بالمجد لنفسه ولمملكة أورانيا.»
أجاب مواطن قوي الشكيمة: «إنه يطلب منا التَّماسك أربعًا وعشرين ساعة وحسب، وأن نُصلِّي في الوقت ذاته كي تهب رياح المحيط.»
أجابه المُتحدِّث الأول ساخرًا: «حقًّا؟! فلتُصلُّوا كما تشاءون. ثمة وفرة من الخبز في قبو بيتر أدريانزون فان دير فيرف. وأؤكد لكم أن هذا هو ما يمنحه تلك الطاقة الرائعة لمقاومة أكبر الملوك الكاثوليكيين.»
شقَّتْ فتاةٌ شابة، ذاتُ شعر ذهبي مُضَفَّر، طريقها بصعوبة بين الحشد وواجهت ذلك الشخص الناقم قائلة: «أيها الناس الطيبون، لا تستمعوا إليه، إنه خائن وقلبه مع الإسبان. أنا ابنة بيتر، وليس لدينا أي خبز. لقد أكلنا فطائر الشعير وجذور اللفت كبقيتكم إلى أن نفدت تمامًا. بعد ذلك جرَّدنا أشجار الليمون والصفصاف الموجودة في حديقتنا من أوراقها وأكلناها، بل إننا أكلنا الأشواك والأعشاب الضارة التي تنمو بين الأحجار عند القناة. هذا الجبان يكذب.»
ورغم هذا فقد فعل الإيعاز مفعوله، واندفع الجمهور، الذي صار الآن حشدًا عنيفًا، في اتجاه منزل العمدة. رفع أحد السُّوقة يده كي يضربَ الفتاة ويزيحَها عن الطريق، وفي غمضة عينٍ كان ذلك الجبان أسفل أقدام رفاقه، ووقف هاري، وهو يلهث ووجهه مُتَّقد، إلى جانب الفتاة يصيح دفاعًا عنها بإنجليزية سليمة موجهًا حديثه إلى ظهور الحشد المُتراجع بسرعة.
أحاطت ذراعا الفتاة بعنق هاري بكلِّ عرفان وقَبَّلَته.
قالت: «شكرًا لك، أنت شاب شجاع، اسمي جيرترود فان دير فيرف.»
كان هاري يجاهد كي يتذكر المفردات الهولندية المناسبة، غير أن الفتاة لم تنتظر سماع إطراءاته وقالت: «إنهم ينوون سوءًا بأبي.» ثم قادتنا بسرعة عبر عدة شوارع شديدة الضيق نحو سوق ذي ثلاثة أركان تُحيط به كنيسة لها برجان. ثم قالت: «ها نحن أولاء، على درجات كنيسة سانت بانكراس.»
ساد الهرج والمرج ساحة السوق، وتجمهر الحشد خلف الكنيسة وكانت أصوات المدافع الإسبانية والوالونية الآتية من وراء الأسوار أقل غضبًا من زئير حشد الرجال القانطين، الذين يُطالبون في صخبٍ بالخبز الذي يمكن لكلمة واحدة من قائدهم أن تأتي به. صاحوا: «استسلم للملك! وإلَّا فسنرسل جثمانك إلى لامين كعلامة على استسلام لايدن.»
استمع رجل طويل القامة، أطول بمسافة نصف رأس تقريبًا من أيٍّ من المواطنين الواقفين أمامه، وداكن البشرة بشدة لدرجة أننا تعجَّبنا كيف له أن يكون والد جيرترود، إلى التهديد في صمت. وحين تحدَّث العمدة، صمت الحشد رُغمًا عنهم.
«ما الذي تطلبونه يا أصدقائي؟ أن نخالف العهد ونُسلِّم لايدن إلى الإسبان؟ هذا يعني تسليم أنفسنا إلى مصير أبشع من المجاعة. يجب أن أصون العهد! اقتلوني إن تَعَيَّن عليكم فعل هذا؛ فلن أموت إلَّا مرة واحدة، سواءٌ على أيديكم أو على أيدي العدو، أو بيد الرب. دعونا نَجُع، لو اضطُررنا، ونرحب بالمجاعة لأنها أخف وطأةً من الخزي. إن تهديدكم لا يُخيفني، وحياتي رهن أيديكم. هيا، خذوا سيفي وأغمدوه في جسدي، وقسِّموا لحمي بينكم كي يسدَّ جوعكم. لكن لا تتوقعوا مني الاستسلام مطلقًا ما دمتُ حيًّا.»
ساد الصمت مجددًا بينما صار المحتشدون مترددين. بعد ذلك دوَّت همهمات حولنا، وفوقها علا صوت الفتاة التي كان هاري لا يزال مُمسكًا بيدها، دون ضرورة كما بدا لي.
«ألا تشعرون برياح البحر؟ لقد جاءت أخيرًا. إلى البرج! إن أول رجل يصل إلى هناك سيرى في ضوء القمر الأشرعة البيضاء المُشْهَرة لسفن الأمير.»
أخذتُ أجوب شوارع المدينة لساعات عدة، أبحث عن ابن عمي ورفيقته بعد أن فرَّقتنا الحركة السريعة للحشد نحو البرج الروماني. وفي كلِّ ركنٍ من أركان المدينة رأيت أدلة على الحصار الشنيع الذي دفع هؤلاء الأشخاص الجسورين إلى شفير القنوط. أخذ رجلٌ ذو عينين جائعتين يُطارد فأرًا نحيلًا على امتداد ضفة القناة، بينما جلست أمٌّ، تحمل طفلين ميتين على ذراعيها، في مدخل المنزل الذي حملوا إليه جثمانَي زوجها ووالدها اللذين قُتلا للتوِّ عند السور. وفي منتصف شارع مهجور مررتُ بكومة من الجثث غير المدفونة يزيد ارتفاعها عن طولي مرتين. لقد كان الطاعون أرحم من الإسبان؛ لأنه لم يُقدِّم أيَّ وعودٍ غادرة بينما كان يُوجِّه ضرباته.
قبل إشراقة الصباح كانت حدة الرياح قد زادت وتحوَّلت إلى عاصفة. لم ينَم أحدٌ في لايدن، كما لم يَعُد يدور أيُّ حديثٍ عن الاستسلام، ولم يَعُد أحد يُفكر في الدفاع عن سورها أو يهتم به. وعلى لسان كل شخص كنت أقابله كانت الكلمات نفسها تترَدَّد: «سيأتي ضوء النهار بالأسطول!»
هل جاء ضوء النهار بالأسطول؟ التاريخ يقول لا، لكنني لم أكن شاهدًا على ذلك. أعلم فقط أنه قبل الفجر تحوَّلت الرياح الشديدة إلى عاصفة رعدية، وأنه في الوقت عينه هزَّ انفجار مكتوم، أعنف من دَويِّ الرعد، المدينة هزًّا. كنت ضمن الحشد الذي أخذ يترقب من المتراس الروماني أولى علامات الإغاثة القادمة. غير أن الهزة الناجمة عن الانفجار أزالت الأمل من كلِّ الوجوه. «لقد وصل النفق الذي يحفره العدو إلى السور!» لكن أين؟ شققت طريقي بصعوبة إلى أن وجدت العمدة، الذي كان واقفًا بين الباقين. همست قائلًا: «أسرع! إنه خلف بوابة كاو جيت وهذا الجانب من برج برجاندي.» رمقني بنظرة متفحصة، ثم تحرَّك من دون أن يحاول تهدئة الفزع العام. تبعته عن كثب.
كانت مسافة نصف ميل فقط تفصلنا عن المتراس المعني، وحين وصلنا إلى بوابة كاو جيت كان المشهد كما يلي:
كانت ثمة فتحة كبيرة، في السور، تطل على مستنقعات، وفي الخندق، بالخارج وبالأسفل، كان هناك حشد من الوجوه الشاخصة، لرجال كانوا يجاهدون كالشياطين من أجل إحداث الثغرة في السور، وقد تقدَّموا الآن بضع أقدام ثم دُفعوا إلى الوراء، وعلى المتراس المُتهدِّم شكَّلَت حفنة من الجنود والمواطنين سورًا حيًّا في الموضع الذي تهدَّم فيه البناء، وكانت حفنة أكبر عددًا من النساء والفتيات يُناولن الأحجار للمدافعين ويغلون الماء في دلاء، علاوة على الزيت والقار والجير الحي، وأخذ بعضُهُنَّ يصبُّ القار المغلي والأطواق المشتعلة على أعناق الإسبان الموجودين في الخندق، وكان ابن عمي هاري يقود الرجال ويوجههم، بينما كانت جيرترود ابنة العمدة تُشجِّع النساء وتُحمسهن.
غير أن ما لفت انتباهي أكثر مما سواه كان ذلك النشاط المحموم الصادر عن شخص ضئيل الحجم يرتدي زيًّا أسود، وكان يَصبُّ الرصاص المصهور، بمغرفة ضخمة الحجم، على رءوس المُقتحمين. وحين استدار نحو النار والغلاية اللتين توفران له الذخيرة، سقط الضوء على ملامحه. صدرت عني صيحة دهشة؛ إذ كان البروفيسور فان ستوب نفسه هو مَن يحمل مغرفة الرصاص المصهور.
استدار العمدة فان دير فيرف عند سماع صيحتي، سألته: «من هذا؟ من هذا الرجل الواقف إلى جوار الغلاية؟»
ردَّ فان دير فيرف: «إنه شقيق زوجتي، الساعاتي يان ليبردام.»
انتهى أمر الثغرة قبل أنْ يُتاحَ لنا الوقت كي نستوعب الموقف؛ فقد وجد الإسبان، الذين هدموا السور المصنوع من الحجارة والقرميد، أنَّ اختراقَ السور البشري أمرٌ مستحيل، بل إنهم عجزوا عن الحفاظ على موقعهم في الخندق، وصُدُّوا وتشتتوا في الظلام. حينها شعرت بألمٍ حادٍّ في ذراعي اليسرى؛ لا بدَّ أن طلقة شاردة قد أصابتني بينما كنت أشاهد القتال.
قال العمدة بلهجة آمرة: «مَن فعل هذا؟ مَن الذي حمى حاضرنا بينما كان بقيتنا يَمُدون أعينهم في حماقة إلى المستقبل؟»
تقدمت جيرترود فان دير فيرف في فخر، وهي تُمسِك يد ابن عمي وقالت: «أبي، لقد أنقذ حياتي.»
قال العمدة: «هذا يعني الكثير لي، لكن ليس هذا كل شيء؛ فقد أنقذ لايدن وأنقذ هولندا كلها.»
شعرت بالدوار، وبدت الوجوه المحيطة بي غير حقيقية. لماذا كنا هنا مع هؤلاء الناس؟ لماذا استمرَّ الرعد والبرق على الدوام؟ لماذا يتحوَّل وجه الساعاتي، يان ليبردام، إلى وجه البروفيسور فان ستوب كلَّما أنظر إليه؟ صحتُ قائلًا: «هاري! فلنَعُد إلى غرفتنا.»
لكن رغم أنه أمسك يدي في دفء، فإن يده الأخرى كانت لا تزال ممسكةً بالفتاة، ولم يتحرَّك. بعد ذلك غلبني الدوار، ودار رأسي، واختفت الثغرة والمدافعون عن نظري.
٥
بعدها بثلاثة أيام كنت أجلس في مقعدي المعتاد في غرفة محاضرات فان ستوب، وإحدى ذراعيَّ مربوطة. وكان المقعد المجاور لي شاغرًا.
قال البروفيسور المُتخصص في الفلسفة الهيجلية بنبرته الجافة المتعجلة المعتادة وهو يقرأ من مفكرة: «نحن نسمع كثيرًا عن تأثير القرن السادس عشر على القرن التاسع عشر. لكن لم يدرس أي فيلسوف، على حدِّ علمي، تأثير القرن التاسع عشر على القرن السادس عشر. لو كان السبب يؤدي إلى النتيجة، فهل النتيجة تستحث السبب؟ هل قانون الوراثة، خلافًا لكلِّ قوانين العقل والمادة الأخرى في هذا الكون، يعمل في اتجاه واحد فقط؟ هل يدين الأحفاد بكلِّ شيءٍ للأسلاف، دون أن يدين الأسلاف بشيء للأحفاد؟ هل يحملنا القدر، الذي يُهيمن على وجودنا، إلى المستقبل تحقيقًا لأغراضه الخاصة، ولا يحملنا إلى الماضي مطلقًا؟»
رجعتُ إلى غرفتي في شارع بريده، حيث كانت رفقتي الوحيدة هي الساعة الصامتة.