سياق الانتخابات والأحزاب السياسية الأمريكية
يفخر الأمريكيون — ولهم كل الحق — بنظامهم الانتخابي الديمقراطي لعراقته. ومع ذلك — والحق يقال — فإن عددًا قليلًا من الأمريكيين، بل وعدد أقل من المراقبين من بني الأمم الأخرى، يفهمون العملية الانتخابية الأمريكية. يقيِّم معظم مواطني الأنظمة الديمقراطية الديمقراطياتِ الأخرى وفقًا للمعيار الذي ترسيه ديمقراطيتهم التي ينتمون إليها، لكن الديمقراطيات النيابية أصنافها متعددة، والشيء المشترك عبر الأنظمة الديمقراطية أن المواطنين يصوِّتون لاختيار مَن يحكمونهم، فيختارون في بعض الحالات مديرين ومشرِّعين وقضاة، وفي حالات أخرى، لا يختارون إلا بعضًا من هؤلاء. وفي بعض الأمم، يختار الناخبون متقلدي المناصب على المستويات الوطني والإقليمي والمحلي، وفي بعضها الآخر لا يختارون إلا بعضًا من هؤلاء. الشيء بالغ الأهمية هنا هو قدرة المواطنين على تقييم أداء مَن يتخذون القرارات التي تؤثر تأثيرًا مباشرًا في حياتهم.
يُحكَم على ديمقراطيات العالم من حيث فاعليتها استنادًا إلى عدد من العوامل، منها: هل العملية الديمقراطية مفتوحة؟ وهل يملك مَن ليسوا في السلطة فرصة للتنافس على المنصب بنجاح؟ ففي كندا تناوبت الأحزاب الهيمنة على الحكومة بشيء من التكرار، أما في الاتحاد السوفييتي فلم يكن تناوب السلطة أمرًا متصورًا.
هل يشارك المواطنون بسهولة وحرية في العملية السياسية؟ ففي الدانمرك وألمانيا يبلغ متوسط الإقبال في الانتخابات التشريعية العادية نحو ٩٠ في المائة، وفي بولندا وسويسرا تقترب النسبة من ٥٠ في المائة، وفي الانتخابات الأمريكية الأخيرة أدلى نحو ٣٣ في المائة بأصواتهم في انتخابات التجديد النصفي، ونحو ٥٠ في المائة في الانتخابات الرئاسية.
ما مقدار المعلومات التي يتاح للمواطنين الاطلاع عليها قبل اتخاذ قراراتهم بالتصويت؟ وإلى أي مدى يكون المتسابقون والأحزاب أحرارًا في التعبير عن آرائهم في قضايا الساعة؟ تغطي الأنظمة الديمقراطية طيفًا واسعًا من حيث مدى حرية توجيه النقد — سواء من قِبل الصحافة أو المعارضة — لِمن هم في السُّلطة بشأن قضايا من قبيل انفتاح العملية الديمقراطية، وقدرة مَن هم خارج السلطة على المنافسة على المنصب بنجاح، ومستوى المشاركة بين المواطنين، ومقدار المعلومات التي يملك المواطنون إمكانية الاطلاع عليها قبل اتخاذ قراراتهم، والحرية التي يملكها المتسابقون للتعبير عن آرائهم والمواطنون للتصويت.
تحرز الديمقراطية في الولايات المتحدة نقاطًا مرتفعة جدًّا حسب كل تلك المعايير؛ فمن ناحية الحقوق والإجراءات، تُعدُّ الديمقراطية الأمريكية نموذجًا يُحتذى، بيد أن ثمة حاجة إلى معايير أرفع. فلا بد أن يتمكن الناخبون والمتسابقون من الاستفادة من هذه الإجراءات، ومن ثمَّ مباشرة حقوقهم على نحو يؤثر على السياسات الحكومية كي تتفق مع التفضيلات التي يعبر عنها المواطنون.
في هذا الكتاب نبحث سبل تيسير المؤسسات الانتخابية في الولايات المتحدة — غالبًا من خلال التصويت — على المحكومين إبداء قبولهم للحكام، ونتناول أيضًا «الأوقات» التي تنهار فيها عملية استدرار دعم المواطنين لسياسة الحكومة (ومن ثم استدرار ذلك القبول). إن كثيرًا من المواطنين الذين يبدون حماسًا في اهتمامهم بالسياسات (بقضايا الحرب والسلام؛ والازدهار الاقتصادي؛ ورعاية الفقراء والمرضى والمسنين؛ وبالمساواة في المعاملة دون اعتبار للدين أو للعرق أو لنوع الجنس أو للميل الجنسي أو للإعاقة البدنية؛ وبقضايا حماية البيئة، وغيرها الكثير) تضجرهم آليات العملية الانتخابية. لكن هذه القضايا هي التي تستهويني. فالقواعد التي تدار بها الانتخابات تقرر في أغلب الأحيان من سيفوز، ومِن ثم، تحدد الذين ستُلبى تفضيلاتهم السياسية. وهكذا فإن فهم ما قد يبدو فروقًا إجرائية دقيقة ضروري لفهم نتائج الانتخابات والسياسات على حد سواء.
سنبدأ رحلة تمحيصنا للديمقراطية الأمريكية بمناقشة جوانب الإطار الدستوري الأمريكي وثيقة الاتصال لا بالعملية الانتخابية فحسب، بل بأهم جوانب هذه العملية أيضًا؛ فننظر إلى كيفية مساهمة كل جانب من هذه الجوانب الأساسية للحكم الأمريكي في قدرة المواطنين على إبداء قبولهم السياسات التي تفرضها حكومتهم أو انتقاصه من هذه القدرة. وتساعد المفاهيم المألوفة، من قبيل الفصل بين السلطات والنظام الفيدرالي، على تفسير كيف تحل أمريكا بأسلوب فريد مشكلة القبول الديمقراطي، ومن ثم فإن لها آثارًا مهمة تستحق المناقشة مجددًا.
(١) جمهورية فيدرالية قائمة على الفصل بين السلطات
السمتان المحدِّدتان للديمقراطية الأمريكية هما الفصل بين السلطات (في ظل ضوابط وتوازنات مكفولة دستوريًّا) والفيدرالية. وعلى الرغم من اشتراك أمم أخرى في إحدى هاتين السمتين، أو كلتيهما، فإن طرق عملهما في ظل الدستور الأمريكي فريدة من نوعها، ولا يمكن للمرء أن يفهم النظام الأمريكي دون استجلاء تبعاتهما على كلٍّ من السياسة والحكم.
يعني الفصل بين السلطات إناطة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بمؤسسات منفصلة، فلا يجوز للشخص الذي يتولى منصبًا تنفيذيًّا أن يتولى منصبًا تشريعيًّا ولا قضائيًّا. ولهذه القاعدة استثناءان طفيفان على مستوى الحكومة الوطنية؛ إذ يتولى نائب رئيس الولايات المتحدة — وهو مسئول تنفيذي منتخب — رئاسة مجلس الشيوخ، ووظيفتاه الوحيدتان ترؤُّس مجلس الشيوخ والإدلاء بصوته في حالة تعادل الأصوات، كما يترأس رئيس المحكمة العليا للولايات المتحدة مجلس الشيوخ في ذلك الظرف الاستثنائي عندما يعقد مجلس الشيوخ محاكمة لرئيس الجمهورية، وهو ما لم يحدث في تاريخ الأمة إلا مرتين.
في الحكومات التي تتسم بالفصل بين السلطات، يُنتخب رئيس السلطة التنفيذية على نحو منفصل عن المشرِّعين، وفي الولايات المتحدة لا يُختار هؤلاء المسئولون في انتخابات منفصلة فحسب، بل إن مدد توليهم مناصبهم على النحو المعيَّن في الدستور — أربع سنوات لرئيس الجمهورية، وسنتان لمجلس النواب، وست سنوات لمجلس الشيوخ — تضمن أيضًا انتخابهم من قِبل جماهير ناخبين مختلفة. ويختلف النظام القائم على الفصل بين السلطات عن النظام البرلماني، كنظام المملكة المتحدة، الذي يكون فيه رئيس الوزراء عضوًا منتخبًا بالبرلمان يختاره زملاؤه المشرِّعون زعيمًا.
الولايات المتحدة جمهورية فيدرالية؛ إذ تتألف من وحدات جغرافية فرعية منفصلة تملك بعض الصلاحيات. وصلاحيات الحكومة الأمريكية معينة ومحددة في الدستور، الذي ينص تعديله العاشر على «احتفاظ الولايات — كل على حدة — أو الشعب بالصلاحيات التي لا يوكلها الدستور إلى الولايات المتحدة ولا يحظرها على الولايات». ولكلٍّ من هذه الولايات حكومتها المنتخبة، التي تتميز أيضًا بالفصل بين السلطات، وهي تختلف بعضها عن بعض في مناحٍ يحددها دستور كل ولاية على حدة.
يعني النظام الفيدرالي القائم على الفصل بين سلطات الحكم أن قدرة المواطنين على التعبير عن آرائهم من خلال الانتخابات وتفسير الانتخابات كلاهما أمر صعب. فهل ينبغي على المواطنين أن يصوتوا لإعادة انتخاب نائب في الكونجرس وهم راضون عن أدائه، بينما هم يرون أن الكونجرس بأكمله لا يؤدي وظائفه كما ينبغي؟ وإذا أحس مواطن أن السياسات الحكومية تقود البلد في الاتجاه الخاطئ، لكن رئيس الجمهورية والكونجرس لا يتفقان بشأن ما ينبغي أن تكون عليه هذه السياسات، فكيف يمكن للمواطنين التصويت بفعالية بحيث يعبِّرون عن عدم دعمهم للسياسات المستقبلية؟ وعلى مَن يعترضون وقتئذٍ؟ على الرئيس؟ أم على الكونجرس؟ أم على فشل الاثنين في التوافق؟
في معظم الانتخابات التي تُجرى في النظام الفيدرالي الأمريكي، يصوِّت المواطنون لمسئولي الولايات والمسئولين الفيدراليين في الوقت نفسه، فكيف يعبِّر المواطنون عن آرائهم إذا رأوا أن حكومة الولاية لا تلبي توقعاتهم بسبب أفعال تجري على المستوى الفيدرالي؟ فنظرًا لتقاسم السلطة بين حكومة الولاية والحكومة الفيدرالية، وعدم إمكانية فرض أحد فروع أي من الحكومتين إرادته على الفروع الأخرى، تصعب ترجمة تفضيلات المواطنين، حتى المفهوم بوضوح منها، إلى سياسات لاحقة، كما يصعب أيضًا على المواطنين توجيه اللوم عندما لا تكون هناك طائفة واحدة من المسئولين مسئولة مسئولية تامة عن محصلات السياسات.
(١-١) بطاقة اقتراع طويلة
بادئ ذي بدء، ينتخب الأمريكيون أكثر من ٥٠٠ ألف مسئول عمومي؛ أي أكثر ممن يُنتخبون في أي ديمقراطية أخرى. فالأمريكان ينتخبون — على نحو منفصل — التنفيذيين والمشرِّعين، وفي بعض الحالات القضاة (يتباين هذا من ولاية إلى أخرى) على المستوى الفيدرالي ومستوى الولاية والمستوى المحلي، ويُنتخب كثير من هؤلاء في وقت واحد. فعلى سبيل المثال، أدلى مواطنو مدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا بأصواتهم يوم ٧ نوفمبر لانتخاب رئيس الجمهورية ونائب الرئيس، ولانتخاب عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي، وعضو بمجلس النواب الأمريكي، ولانتخاب حاكم الولاية ونائب الحاكم وسبعة مسئولين آخرين بالفرع التنفيذي على مستوى الولاية وخمسة قضاة على مستوى الولاية وعدد من القضاة المحليين، ولانتخاب عضو بمجلس الشيوخ بالولاية، وعضو بمجلس النواب بالولاية، ولانتخاب متسابقين على مجموعة متنوعة من المناصب بالمقاطعات أو المحليات. وتطورت ما تسمى بطاقة الاقتراع الطويلة في القرن التاسع عشر كطريقة لتوسيع الديمقراطية، لكن البعض يزعم أن نظامنا ربما أسرف فيها، مع حُسنها.
نظرًا لأن رئاسة الجمهورية هي الأعلى شأنًا في هذا النظام، تطغى انتخابات الرئيس الأمريكي التي تُجرى كل أربع سنوات على الانتخابات الأخرى كافة، ولذلك يركز المواطنون على الانتخابات الرئاسية ويعيرون الانتخابات الأخرى للمناصب «أدنى بطاقة الاقتراع» اهتمامًا أقل، ولا يصوت بعض المواطنين إلا في انتخابات شغل المناصب العليا فيتركون الاختيارات الأخرى فارغة، ويمكن أن يصل حجم هذه الظاهرة إلى أكثر من ٢٥ في المائة في حالة بطاقات الاقتراع الطويلة للغاية.
يكافح المتسابقون على المناصب الأقل أهمية لكسب الاهتمام، ومن الأساليب المتبعة في الحملات الانتخابية استغلال شهرة مَن يتصدرون بطاقة الاقتراع على أمل اقتناص المنصب بفضل نجاحهم. ففي ٢٠٠٤، حث كثيرون من المتسابقين الجمهوريين، مستشعرين شعبية الرئيس بوش بين جماهير ناخبيهم، الرئيس على زيارة دوائرهم حتى يراهم ناخبوهم ضمن حاشيته. وكنتيجة منطقية لبطاقة الاقتراع الطويلة، يصعب إيجاد الصلة بين الأصوات المدلى بها ورضا المواطنين عن سياسات الحكم التي يتبعها أولئك المسئولون، ونادرًا ما تتقرر نتائج الانتخابات للمناصب الموجودة قرب ذيل بطاقات الاقتراع الطويلة بفعل آراء المتسابقين وسجلات أدائهم، وغالبًا ما تكون العوامل التي ينبغي أن تكون أقل أهمية وفقًا للنظرية الديمقراطية — كالشهرة والعرق وقرب موطن المتسابق جغرافيًّا من موطن الناخب وربما الانتماء الحزبي — هي الحاسمة.
(١-٢) … أو ليست بالطول الكافي
أما النتيجة الثانية المترتبة على النظام الفيدرالي الذي يفصل بين السلطات فهي عدم تساوي بطاقات الاقتراع كافةً في الطول، بل قد يكون بعضها قصيرًا جدًّا في الحقيقة. ونظرًا لاختلاف أطوال مدد مناصب المشرِّعين الفيدراليين عن مدة الرئيس، يُنتخب بعض المشرِّعين وقت انتخاب الرئيس دون بعضهم الآخر، ونظرًا لأن لكل واحدة من الولايات الخمسين هيكل حكم مختلف وكلًّا منها تضع قواعدها الخاصة، تنتخب بعض الولايات حكامها وهيئاتها التشريعية وقت انتخاب الرئيس دون بعضها الآخر، ويُنتخب بعض هؤلاء مع انتخابات الكونجرس في السنوات غير الانتخابية، ويُنتخب بعضهم بشكل منفصل.
ثمة نتائج مهمة تترتب على ماهية المناصب التي يُتنافس عليها بالتزامن مع مناصب أخرى، حيث غيَّرت ولايات كثيرة قوانينها في السنوات الأخيرة بحيث لا يُقترع لاختيار من يشغلون المناصب على مستوى الولاية في سنوات الانتخابات الرئاسية، ويأمل المرء أن تسهِّل إجراءات كهذه على المواطنين التعبير عن آرائهم في أعمال من يصوتون لهم؛ إذ إن قضايا الولاية، لا القضايا الفيدرالية، هي التي ينبغي أن تهيمن على النقاش السياسي. لكن فيما عدا الولايات الخمس التي تُجرِي انتخابات في السنوات الفردية، ينتخب المواطنون المشرعين الفيدراليين ومسئولي الولاية في انتخاب واحد، حتى في هذه الانتخابات.
٢٠٠٤ | ٢٠٠٥ | ٢٠٠٦ | ٢٠٠٧ | |
---|---|---|---|---|
الرئيس/الحاكم/سناتور/نائب | ٨ نيوهامشير | |||
الرئيس/الحاكم/نائب | ٣ وست فيرجينيا | |||
الرئيس/الحاكم/نائب | ٢٦ ألاباما | |||
الرئيس/نائب | ١٣ مين | |||
الحاكم/سناتور/نائب | ٢٢ نيويورك | |||
الحاكم/نائب | ١٦ ماساتشوستس | |||
الحاكم/مناصب ولاياتية | ٢ نيوجيرسي | ٣ كنتاكي | ||
سناتور/نائب | ٩ يوتا | |||
نائب | ٣ لويزيانا |
للمواطنين الحق في التعبير عن آرائهم، لكن كثيرين منهم يؤْثِرون عدم مباشرة حق الانتخاب نظرًا لكثرة ما يُدعون إلى مباشرته، وهكذا لا تترجَم الانتخابات المتكررة بالضرورة إلى تعبير المواطنين عن قبولهم فعليًّا.
بالإضافة إلى ذلك، يفكر الساسة الدهاة بإمعان في الآثار المترتبة على ماهية المناصب التي سيُقترع عليها في انتخاب معين قبل أن يقرروا خوضها من عدمه؛ إذ يكون جمع التبرعات مثلًا أسهل وأنت تتسابق على عضوية مجلس الشيوخ الأمريكي إذا لم تكن ولايتك ستنتخب حاكمها في السنة نفسها؛ لأن المتسابقين على منصب الحاكم سيستحوذون على جزء من الأموال التي كانت ستتاح للتبرعات، ومثل هذه القرارات لا ترتبط إلا قليلًا بالديمقراطية الفعالة.
(١-٣) مدد محددة وانتخابات منتظمة
ثمة نتيجة إضافية مترتبة على الأحكام الدستورية التي تنظم الانتخابات الأمريكية، والتي تميز النظام الأمريكي عن أنظمة أخرى كثيرة، وهي أن مدد المناصب كافة في الولايات المتحدة محددة وثابتة، وهكذا لا تسقط حكومة أمريكية نتيجة فشلها في الاستجابة لأزمة معينة، ولا يملك جمهور الناخبين الفرصة للتعبير عن آرائهم ريثما تنتهي المدة المحددة. وإذا استخدمنا المناصب الفيدرالية كمثال، نجد الانتخابات تجرى يوم الثلاثاء الأول الذي يلي أول يوم اثنين من شهر نوفمبر في السنوات الزوجية بغض النظر عما يجري في العالم، ومدة ولاية الرئيس أربع سنوات، فإذا مات رئيس أثناء ولايته (أو استقال كما في حالة الرئيس نيكسون)، يخلفه نائب الرئيس طوال المدة المتبقية من ولايته، لكن لا يُجرى انتخاب جديد حتى التاريخ التالي المقرر دوريًّا.
أعيد انتخاب الرئيس فرانكلين دي روزفلت سنة ١٩٤٤، ودُشنت حملة انتخابية في خضم الحرب العالمية الثانية، وعندما مات في أبريل ١٩٤٥، خلفه نائبه هاري إس ترومان ولم يكن معروفًا إلا قليلًا، فقاد الأمة في المجهود الحربي وفترة ما بعد الحرب دون مواجهة جمهور الناخبين حتى نوفمبر ١٩٤٨. ويشغل أعضاء مجلس النواب مناصبهم مددًا ثابتة قوامها سنتان، ويشغل أعضاء مجلس الشيوخ مناصبهم مددًا ثابتة قوامها ست سنوات، فإذا مات أحدهم أو استقال، خلفه آخر لما تبقى من تلك المدة، لكن الدورة المنتظمة تستمر. ولا تسقط الحكومات الأمريكية من خلال تصويت بحجب الثقة، ولا يمكن ضبط توقيت إجراء الانتخابات لتتزامن مع أحداث الرأي العام أو الأحداث العالمية.
للنظام الانتخابي في الولايات المتحدة عدد من الجوانب الأخرى التي لا يعيرها المواطنون الأمريكيون بالًا لكن لها آثارًا مهمة بالنسبة لترجمة الإرادة الشعبية إلى سياسة حكومية، من بينها انتخاب الرئيس من خلال المجمع الانتخابي، واختيار النواب في دوائر أحادية العضوية تُحدَّد جغرافيًّا، وإعلان فوز الحاصلين على أكثرية الأصوات بالانتخاب دون اشتراط حصولهم على دعم الأغلبية. وربما يبدو تغيير أي من هذه الجوانب أمرًا غير ديمقراطي لكثير من المواطنين، لكن الحقيقة أن كلًّا منها مجرد وسيلة لتحقيق غاية التمثيل الفعال، وكلًّا منها وسيلة لها من الآثار على الديمقراطية ما لا يأخذه بعين الاعتبار إلا قليلون.
(٢) نظام المَجْمع الانتخابي
صار الأمريكيون، والعالم معهم، على بصيرة واضحة بنظام المجمع الانتخابي المستخدَم لانتخاب رئيس الولايات المتحدة ونائبه في نوفمبر ٢٠٠٠، حيث تداولت المحاكم — على مدى شهور في أعقاب التصويت في انتخابات بدا أنها لن تنتهي — أحقية جورج دبليو بوش أو ألبرت جور في الفوز بأصوات مندوبي ولاية فلوريدا الخمسة والعشرين؛ إذْ إن أيًّا من المتسابقَين لم يفز بأصوات كافية في المجمع الانتخابي لتحقيق الأغلبية المطلوبة دون أصوات فلوريدا الخمسة والعشرين على الرغم من إحراز نائب الرئيس جور أصواتًا شعبية أكثر مما أحرزه الحاكم آنذاك بوش. ولم تُحسم الانتخابات حتى قضت المحكمة العليا الأمريكية بوقف إعادة فرز الأصوات ومنح جورج بوش أصوات فلوريدا، مُقررةً بذلك أنه سيكون الرئيس الثالث والأربعين.
إذا كان المراقبون السياسيون صاروا على وعي بنظام المجمع الانتخابي، فهم يقينًا أقل دراية بدواعي وجوده وكيفية عمله، والأهم من ذلك كله الآثار السياسية المترتبة عليه، وهذا هو المهم حقًّا. غير أن طريقة انتخاب الرئيس هي التي تميِّز الديمقراطية الأمريكية في أغلب الأحوال، وبفضلها تؤيَّد هذه الديمقراطية أو تُنتقد، ومن الضروري أن نفهم المجمع الانتخابي كي نقيِّم الديمقراطية الأمريكية؛ لأن هذا الملمح من ملامح السياق الانتخابي يقرر كيف يدير الناخبون حملاتهم، وإلى أي من الناخبين يتوددون، وفي النهاية إلى أي مدى تنعكس وجهات نظر المواطنين بدقة في نتيجة الانتخاب.
(٢-١) لماذا مَجْمع انتخابي؟
ببساطة شديدة، اخترع مؤسسو الأمة المجمع الانتخابي لحل المشكلات السياسية التي واجهوها. فكتابة الدستور عملية معقدة، وكانت أهم تسوية في صياغة دستور ١٧٨٧ ما تسمى «تسوية كونكتيكت» التي دعت إلى إنشاء مجلس نواب موزع حسب عدد السكان ومجلس شيوخ تُمثَّل فيه كل ولاية بعضوين، فحلت الصراع بين الولايات الكبيرة والصغيرة من حيث عدد السكان. وتَقرر اختيار أعضاء مجلس النواب بالانتخاب الشعبي، وتُرك للولايات تقرير كيفية اختيار ممثليها في مجلس الشيوخ، وكانت القاعدة وقت إقرار الدستور هي انتخاب الشيوخ من قِبل الهيئات التشريعية للولايات.
لكن كيف يُختار رئيس الجمهورية؟ أمِن قِبل الولايات؟ كلا، إذ كان هذا ليحرم الولايات الكبيرة من حيث عدد السكان من ثقلها الذي تستحقه. أبالتصويت الشعبي؟ لم يكن «الديمقراطيون» الذين كتبوا الدستور ديمقراطيين إلى هذه الدرجة، وقليل هم مَن كانوا على استعداد لأن يعهدوا بمثل هذا القرار المهم إلى عامة الجماهير. وحتى إذا أرادوا أن يفعلوا ذلك، فماذا عن الرقيق؟ كانت ولايات الرقيق تريد احتساب عبيدها لأغراض سكانية، وحُلت هذه المشكلة من خلال تسوية الثلاثة أخماس الشائنة التي تمخضت عن احتساب العبد بثلاثة أخماس الفرد لأغراض التمثيل، لكن على الرغم من احتساب الرقيق لزيادة تمثيل ولايات الرقيق في مجلس النواب، فما كان ليُسمح لهؤلاء الرقيق بالتصويت، وكان ذلك أبعد شيء عن بال المؤسسين الذين ينتمون إلى تلك الولايات.
كان المجمع الانتخابي — وهو انحرافٌ عن الديمقراطية المحضة — هو التسوية التي نتجت عن ذلك، حيث تَقرر أن تختار كل ولاية عددًا من المندوبين في المجمع الانتخابي يماثل عدد نوابها وعدد شيوخها (دائمًا اثنان) مجتمعين، وكانت هذه الصيغة تسوية بين الولايات الكبيرة والصغيرة، وصار لكل ولاية الحق في أن تقرر لنفسها كيف سيُختار أولئك المندوبون، مما يمثل اعترافًا بحقوق الولايات ووسيلة واضحة لتفادي ضرورة الإجابة عن السؤال المتعلق بالعبيد. ولا يجوز لأي مندوب أن يشغل أي منصب آخر في الحكومة الفيدرالية، سواء بالتعيين أو بالانتخاب، وهكذا يتسنى اختيار أشخاص مؤهلين لا يشوبهم تضارب المصالح، ويدلي كل مندوب بصوتين، أحدهما لفرد ليس من ولايته، في محاولة لتفادي قصر الخيار على أبناء الولاية؛ إذ كان الافتراض القائم أن أبناء الولاية المفضلين هم وحدهم الذين سيحصلون على الأصوات لو لم يُضَف هذا البند. ولا بد من انتخاب رئيس البلاد بالأغلبية، وبهذا يُحال دون هيمنة ولاية أو ولايتين، وإذا لم يحصل أحد المرشحين على أغلبية، يختار مجلس النواب الرئيس من بين الثلاثة الحاصلين على أعلى الأصوات، لكن لن يكون لكل ولاية إلا صوت واحد في هذا الانتخاب، وهذه — من جديد — تسوية بين مصالح الولايات الصغيرة والكبيرة، ويصبح صاحب المركز الثاني نائب الرئيس، مما يضمن وجود رجل محترم يتولى الرئاسة إذا حدث للرئيس حادث.
عند النظر إلى المجمع الانتخابي من منظور الجيل المؤسس والمشكلات السياسية التي واجهوها، يمكن رؤيته كاختراع مذهل النجاح، اختراع ضَمن انتخاب زعيم محترم دون انتهاك أي من التسويات الصعبة التي نوضل من أجل التوصل إليها أثناء كتابة الدستور. وما ساهم بوضوح في تبني الإجراء الذي يظل — إلى حد بعيد — معمولًا به إلى اليوم أن كل من شارك في العملية كان يعرف أن جورج واشنطن سيُختار في ظل هذا الإجراء، وتلك كانت النتيجة المنشودة. لكن من الصعب أن يذهب المرء إلى أن المجمع الانتخابي عزز الديمقراطية، فقد كان تسوية صاغتها نخبة سياسية لضمان نتيجة منشودة.
(٢-٢) المَجْمع الانتخابي في السياق المعاصر
لا أعرف أحدًا في يومنا هذا يدافع عن المجمع الانتخابي بوصفه الطريقة المثلى لاختيار الرئيس، لكن كثيرًا ما تثار الاعتراضات ضد محاولات إجراء تغييرات معينة على هذا النظام — والحقيقة أن الحجج المعارضة لإلغاء هذا النظام كانت لها اليد العليا في كل المحاولات الأخيرة التي بُذلت لإلغائه — ومع هذا فنحن لا نسمع أحدًا يقول: «نحمد الله أن أعطانا المؤسسون المجمع الانتخابي؛ فهو أفضل نظام يمكن التوصل إليه!» ومجرد قول هذا بصوت عالٍ يبين مدى سخفه.
لكن قليلين أيضًا على دراية بكيفية عمل المجمع الانتخابي فعلًا، ومن ثم بماهية التغييرات التي يمكن إدخالها. فقد تطور عمل المجمع منذ التصديق على الدستور، وكان أهم تغيير جذري طرأ عليه ذلك الذي تلا تطور الأحزاب كتنظيمات للحملات الانتخابية (انظر الفصل الثاني)، ونتيجة لذلك كان المتسابقون الأوائل يخوضون الانتخابات كقوائم مثنى مثنى، فيكون أحدهما هو المتسابق الرئاسي والآخر المتسابق على منصب نائب الرئيس. لكن نظام المجمع الانتخابي لم يسمح بمثل هذه الثنائيات، وأسفر عن عدم حصول أي متسابق على أغلبية في سنة ١٨٠٠، ولحل هذه المشكلة، نص التعديل الثاني عشر للدستور الذي أُقر في ١٨٠٤ على أن يصوت أعضاء المجمع الانتخابي للرئيس ونائب الرئيس على نحو منفصل.
تَمثَّل ثاني تغيير كبير في اتباع الولايات طريقة «الفائز يحصل على كل شيء» في تخصيص مندوبي المجمع الانتخابي المختارين في تلك الولاية. يترك الدستور للولايات طريقة اختيار المندوبين. وبحلول سنة ١٨٣٦، وعلى نحو يعكس الإصلاحات الديمقراطية، كانت الولايات كافة تُجري انتخابات شعبية للمندوبين في اقتراع على مستوى الولاية لا حسب الدائرة الانتخابية. ونظرًا لقوة الأحزاب السياسية، أفضى هذا النظام بشكل طبيعي تمامًا إلى انتخابات بنظام «الفائز يحصل على كل شيء» لدواعٍ نفعية. فلو ضمن حزب ما الفوز بأصوات إحدى الولايات، سيحرص هذا الحزب الأقوى على أن تُتبع طريقة «الفائز يحصل على كل شيء»، ومن ثم فإن المتسابق الذي سيفوز بأصوات الولاية بنسبة بسيطة سيضمن الفوز بكل أصواتها في المجمع الانتخابي. وما إن تبنَّى أنصار أحد الحزبين هذا النظام في ولاياتهم، اضطُر أنصار الحزب الآخر إلى السير على خطاهم في الولايات التي يسيطرون عليها وإلا خسروا بعض الأصوات نتيجة لذلك. وقد طرحت الأحزاب في الولايات قوائم بالمتسابقين يتساوى فيها عدد المرشحين مع عدد المندوبين المخصصين للولاية، وكان أنصار الحزب عادة ما يصوتون للقائمة بأكملها، مما يضمن الفوز وفق طريقة «الفائز يحصل على كل شيء» المنشودة.
على نحو موازٍ، أدرك المشرعون الولاياتيون في الولايات شديدة الانقسام أنه إذا زِيد حجم الجائزة — بمعنى أصوات مندوبي الولاية كلها في مقابل الفارق بين الأصوات المخصصة للفائز والأصوات المخصصة للخاسر في ظل نظام آخر — فسيركز المتسابقون بدرجة أكبر على تلك الولاية. ومن جديد، مع تحول إحدى هذه الولايات إلى نظام «الفائز يحصل على كل شيء»، كانت الولايات الأخرى تقع تحت ضغط لتحذو حذوها.
واليوم، تُستخدم هذه الخصيصة («الفائز يحصل على كل شيء») الأكثر جدلًا من خصائص نظام المجمع الانتخابي في ثمانٍ وأربعين من الولايات الخمسين وفي مقاطعة كولومبيا، وما زال مخصصًا لكل ولاية عدد من المندوبين يماثل عدد ممثليها في مجلسي النواب والشيوخ. وقد مُنح مواطنو مقاطعة كولومبيا حق التصويت لاختيار الرئيس بموجب التعديل الثالث والعشرين للدستور الذي أُقر في ١٩٦١، ونص على أن يكون لمقاطعة كولومبيا عدد من المندوبين يماثل ما للولاية الأقل من حيث عدد السكان من مندوبين؛ أي ثلاثة. ويترتب على هذا التخصيص للمندوبين أن يحظى المواطنون في الولايات الأقل عددًا بتمثيل زائد قليلًا في المجمع الانتخابي، حتى وإن كان العدد المطلق لمندوبيهم منخفضًا.
في جميع الولايات عدا مين ونبراسكا، يحصل الفائز بأكثرية الأصوات الشعبية من بين قوائم المندوبين الملزَمين بالتصويت لمختلف المتسابقين على كافة أصوات مندوبي الولاية في المجمع الانتخابي، أما في هاتين الولايتين، فيحصل الفائز بالأكثرية في كل دائرة نيابية على صوت واحد، ويحصل الفائز بالولاية بأكملها على الصوتين الآخرين. ومنذ أَقرَّت الهيئتان التشريعيتان بالولايتين هذين النظامين، يفوز دائمًا متسابق واحد بكل الدوائر، ونتيجة لذلك لم تُسفر هذه الصورة المختلفة عن التصويت المعتاد عن أثر عملي.
يُشترط الفوز بأغلبية أصوات المندوبين بالمجمع الانتخابي لانتخاب الرئيس ونائب الرئيس، فإذا لم تتمخض النتيجة عن أغلبية، يُناط بمجلس النواب انتخاب الرئيس من بين المتسابقين الثلاثة الأعلى أصواتًا، على أن يكون لكل ولاية صوت واحد وبشرط الحصول على أغلبية أصوات الولايات للفوز، وفي هذه الحالة يُعهد إلى مجلس الشيوخ انتخاب نائب الرئيس.
(٢-٣) دلالات نظام المَجْمع الانتخابي
-
نتيجة الصوتين الممنوحين لكل ولاية في المجمع الانتخابي بالإضافة إلى الأصوات التي تعبر عن سكانها، فإن أصوات المواطنين لا تتساوى في ثقلها في التصويت الرئاسي.
في سنة ٢٠٠٤، كان لكل ٦٦٤٧٠٠ ناخب من سكان كاليفورنيا صوت واحد في المجمع الانتخابي، ولكل ٣٢٩٣٠٠ ناخب من سكان مين صوت واحد، وكان إجمالي أصوات كاليفورنيا في المجمع الانتخابي ٥٤ صوتًا، ومين ٤ أصوات.
-
بسبب طبيعة تصويت المجمع الانتخابي وحصول الفائز بأصوات الولاية بأكثرية بسيطة على كل أصواتها في المجمع الانتخابي، كثيرًا ما لا يدير المتسابقون حملات انتخابية في الولايات التي يضمنون فيها الفوز أو الهزيمة، ولذلك تشهد بعض الولايات ومواطنوها حملات رئاسية نشطة، بينما تكاد ولايات أخرى، من ضمنها كبرى الولايات، لا تشهد شيئًا هكذا.
في سنة ٢٠٠٤، فاقت إعلانات حملة بوش في أيوا المتوسط الوطني على أساس نصيب الفرد بنسبة ٥٠ في المائة، وفاقته حملة كيري بنسبة ٣٥ في المائة، وبلغت الأرقام المقابلة في ويسكونسن ٣٩ في المائة فوق المتوسط لحملة بوش و٤٦ في المائة فوق المتوسط لحملة كيري، وعلى نقيض ذلك، كانت الإعلانات في كاليفورنيا وتكساس ونيويورك كلها أقل كثيرًا من المتوسط الوطني.
-
نظرًا لأن المندوبين يدلون بأصواتهم في كل ولاية على حدة لا على المستوى الوطني، فقد يحصل متسابقان على عددين إجماليين متساويين من الأصوات الشعبية ثم يحصلان على عددين مختلفين اختلافًا كبيرًا من أصوات المجمع الانتخابي، ويفيد هذا النظام المتسابقين الأقوياء في ولاية أو منطقة معينة على الرغم من ضعفهم وطنيًّا في مقابل من يملكون القوة ذاتها على المستوى الوطني لكنها موزعة بالتساوي بين الولايات.
في سنة ١٩٤٨، حصل اثنان من مرشحي الأحزاب الصغيرة (ستروم ثيرموند مرشح حزب حقوق الولايات، وهنري والاس مرشح الحزب التقدمي) على نحو ٢٫٤٪ من إجمالي الأصوات، وكان من نصيب ثيرموند ٣٩ صوتًا في المجمع الانتخابي؛ لأن أصواته تركزت في الولايات الجنوبية، أما والاس فلم يحصل على شيء؛ لأن أصواته كانت موزعة في عموم الأمة.
-
نظرًا لأن فارق الأصوات الذي يفوز به المتسابق في ولاية ما لا يغير من جائزتها شيئًا، بمعنى أنه يحصل على كل أصواتها في المجمع الانتخابي مهما كان الفارق الذي فاز به، فمن الممكن ألا يفوز بالانتخاب المتسابق الرئاسي الذي يحصل على أكثر الأصوات الشعبية، كما حدث مع آل جور سنة ٢٠٠٠.
بالإضافة إلى جورج بوش، انتُخب رذرفورد بي هايز (١٨٧٦) وبنجامين هاريسون (١٨٨٨) للرئاسة على الرغم من حصولهما على أصوات أقل من منافسيهما.
تعرَّض النظام لقدر كبير من النقد عام ٢٠٠٠ بسبب تقارب النتيجة وحقيقة فوز جورج بوش بأقلية الأصوات، لكننا لم نرَ على الرغم من هذا النقد زخمًا للتحول إلى أي نظام آخر، كنظام الدوائر الانتخابية المستخدم في مين ونبراسكا، أو نظامٍ تُمنح بموجبه أصوات الولاية في المجمع الانتخابي بما يتناسب مع الأصوات الحاصل عليها المتسابق، أو الانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية، وهو التغيير الأكثر جِذرية. ونتيجة لذلك لا يزال لنظام المجمع الانتخابي مدلولات استراتيجية بالنسبة لإدارة الحملات الرئاسية (انظر الفصل الخامس). وبالطبع، لو أنك مؤمن بأن مَن يحصل على أكثر الأصوات هو الذي ينبغي أن يفوز، تكون تبعات هذا النظام على الديمقراطية واضحة لا خفاء فيها.
(٣) دوائر أحادية العضوية محددة جغرافيًّا وانتخابات بنظام الفائز بالأكثرية
عندما انتقلت هيلاري رودام كلينتون إلى ولاية نيويورك لخوض سباق عضوية مجلس الشيوخ الأمريكي سنة ٢٠٠٠، اتُّهمت بالاستغلال السياسي لعدم نيتها المكوث هناك. فإذا كانت كلينتون تريد عضوية مجلس الشيوخ، فلا بد أن تقيم في الولاية التي تخوض فيها السباق.
يجب أن يقيم النواب والشيوخ الأمريكيون في الولاية التي يمثلونها في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، لكن هذا هو المتطلب الدستوري الوحيد فيما يتعلق بالإقامة. فلا شيء يحتم على المشرعين العيش في الدوائر التي يمثلونها، ولا أن تُمثَّل الدائرة الواحدة بنائب واحد، ولا أن يكون الفوز بأكثرية الأصوات؛ أي بزيادة صوت واحد عن المتسابق التالي الأعلى حصولًا على الأصوات، كافيًا للفوز بالانتخاب. لكن لهذه الأعراف آثارًا مهمة على السياسة الأمريكية لأنها تحدد في حقيقة الأمر من يمكنه خوض السباق على مقعد في الهيئة التشريعية ومن يفوز. ويمكن أن يجادل البعض بأن العملية الانتخابية — دون هذه القيود — يمكنها أن تُفرز انعكاسات دقيقة لتفضيلات المواطنين، على مستوى وطني على الأقل.
(٣-١) دوائر أحادية العضوية محددة جغرافيًّا
يفترض الأمريكيون أنه سيكون لهم ممثلهم «الخاص» في الهيئة التشريعية، بمعنى أن يُنتخب عضو واحد من دائرتهم لتمثيلهم، وعلى الرغم من اشتراط القانون الفيدرالي مثل هذا النظام فيما يتعلق بمجلس النواب، توجد دوائر متعددة الأعضاء في بعض الولايات وفي كثير من المجتمعات المحلية، فلماذا يُنظر إلى أحد النظامين بوصفه أفضل من الآخر؟ وهل يُفضي أحدهما إلى تمثيل أفضل؟
تاريخ الدوائر أحادية العضوية في الولايات المتحدة تاريخ كاشف، حيث نوقشت الدوائر أحادية العضوية في المؤتمر الدستوري الأمريكي المنعقد في ١٧٨٧، وذهب جيمس ماديسون، في مقال له نُشر تحت عنوان الورقة الفيدرالية رقم ٥٦ ذكر فيه مسوغات التصديق على الدستور الجديد، إلى أن الدوائر أحادية العضوية سوف «تقسَّم أكبر ولاية إلى عشر دوائر أو اثنتي عشرة دائرة، وسيتبين أنه لا توجد مصالح محلية فريدة … لا يعرفها ممثل الدائرة». وفي الأساس، من شأن الممثلين المحليين أن يتفهموا المصالح المحلية ومن ثم يدافعون عنها.
بحلول الوقت الذي دخل فيه النظام الحزبي حيز التنفيذ، صار جليًّا أن الدوائر أحادية العضوية ستتيح تمثيلًا أفضل للمصالح الحزبية، فبينما قد يهيمن حزب على السياسة في إحدى الولايات، ربما يكون الحزب الآخر قويًّا في مناطق جغرافية معينة. على الرغم من هذه الحجج، كانت ست ولايات من الولايات الثمانية والعشرين التي لها أكثر من ممثل واحد في مجلس النواب لا تزال تستخدم النظام الكُتلوي في الانتخابات عندما سنَّ الكونجرس قانون إعادة التقسيم لسنة ١٨٤٢، الذي نص على الدوائر أحادية العضوية، وتجاهلت أربع من تلك الولايات هذا القانون — الذي رأى البعض أنه انتهاك غير دستوري لحقوق الولايات — في الانتخاب التالي دون أن تتعرض لأي جزاءات.
واصل الكونجرس سنَّ قوانين لإعادة التقسيم كل عشر سنوات، نص معظمها على إنشاء الدوائر أحادية العضوية. وفي سنة ١٩٢٩ سنَّ الكونجرس قانونًا حدد وسائل دائمة لإعادة التقسيم، لكن المحكمة العليا حكمت بعدها بثلاث سنوات، في قضية وود ضد بروم لسنة ١٩٣٢، بعدم سريان أي قانون لإعادة التقسيم إلا فيما يخص إعادة التقسيم العُشرية التي سُنَّ لها، فواصلت معظم الولايات استخدام الدوائر أحادية العضوية، لكن حتى فترة كينيدي الرئاسية ظل أكثر من عشرين عضوًا بالكونجرس منتخبين من دوائر متعددة الأعضاء.
سنَّ الكونجرس سنة ١٩٦٧ قانونًا جديدًا وقَّع عليه الرئيس ليندون جونسون يحظر على الولايات انتخاب نواب في الدوائر متعددة الأعضاء، وهي ممارسة كانت متفشية من قبل لكنها لم تكن تستخدم وقت صدور هذا القانون إلا في ولايتي هاواي ونيومكسيكو.
كان الدافع وراء القانون الجديد هو تمرير قانون حقوق التصويت لسنة ١٩٦٥ — الذي توسع في حق الانتخاب ليشمل المزيد من المواطنين الأمريكيين، ولا سيما في الجنوب — والخوف من ردَّة الهيئات التشريعية بالولايات الجنوبية إلى الدوائر متعددة الأعضاء كوسيلة لإضعاف قوة السُّود التصويتية. بالإضافة إلى ذلك، كان بعض الأعضاء يخشون أن يأمر القضاء بإجراء انتخابات بالنظام الكُتلوي عندما تواجه الهيئات التشريعية الولاياتية صعوبة في إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية، وأن تعرِّض مثل هذه الانتخابات مقاعدهم في الكونجرس للخطر. وما زال قانون ١٩٦٧ ساريًا حتى اليوم.
وهكذا نُفِّذت قوانين إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية كوسيلة لتحسين التمثيل، من خلال السماح للنواب بمعرفة ناخبيهم في الأيام الأولى، والسماح لأعضاء الأحزاب — الذين كانوا أقلية على مستوى الولاية لكنهم يهيمنون على بعض المناطق — بانتخاب النواب، وضمان تأثير الناخبين السود الذين مُنحوا حق التصويت مؤخرًا، فهل يتصل أي من هذه الأسباب بواقعنا اليوم؟
يبلغ متوسط سكان الدوائر النيابية في القرن الحادي والعشرين نحو ٧٠٠ ألف مواطن، وبينما تمثلت رؤية المؤسسين في دوائر صغيرة نسبيًّا يمثلها شخص واحد منها يعرف مصالحها، تضم دوائر كثيرة في يومنا هذا شرائح سكانية بالغة التنوع من النواحي العرقية والعنصرية والاجتماعية-الاقتصادية والدينية، وتشتمل على آراء متباينة تجاه قضايا الساعة. ففي الأيام الأولى من عمر الجمهورية، كانت المقاطعات الجغرافية أمرًا يحتِّمه بُعد الشُّقَّة، أما اليوم مع وجود السفر جوًّا والاتصالات الإلكترونية، فلا يتطلب الاتصال بالجماهير قربًا ماديًّا شديدًا.
على الرغم من تصميم الدوائر أحادية العضوية لتعزيز تمثيل المصالح الحزبية تمثيلًا فعالًا وعادلًا، فإن من يرسمون حدود الدوائر في يومنا يرسمونها غالبًا وأعينهم صراحةً على تقييد المنافسة وضمان النتيجة الحزبية المنشودة. وقد طُعن في التقسيم الانحيازي للدوائر (ترسيم الحدود بغرض تحقيق ميزة حزبية صريحة) في دعاوى قضائية أقيمت أمام المحكمة العليا ادعى فيها رافعوها انتهاك حقوقهم في التمثيل المتساوي، لكن المحكمة لم تحظر هذا التقسيم الانحيازي للدوائر الذي يتهمه كثيرون بالتسبب في غياب المنافسة عن الانتخابات التشريعية، أو على الأقل في بعض الولايات الأكثر كثافة بالسكان.
كما تُثار اليوم أيضًا شكوك حول استخدام الدوائر أحادية العضوية لزيادة تأثير الناخبين السود، وهو ما عُدَّ هدفًا مهمًّا بعد تمرير قانون حقوق التصويت منذ أربعة عقود مضت. إن ازدياد التنوع العرقي في معظم الدوائر، وقدرة سكاننا على التنقل على نحو يعوق التنبؤ بالخصائص السكانية للدوائر، كلاهما يطرح احتمال كون هذه الوسيلة لم تَعُد مسارًا فعالًا لتحقيق الغاية المرجوة.
ومع ذلك يستمر العمل بهذه القاعدة، وحتى المواطنون الذين يُنتخب ممثلوهم الولاياتيون أو المحليون في دوائر متعددة الأعضاء يتشبثون بضرورة أن يمثل نوابهم في الكونجرس الأمريكي وحدتهم الجغرافية المحلية وأن يحموا مصالحهم، فهل ينبغي إعادة النظر في مفهوم الدوائر أحادية العضوية المحددة جغرافيًّا؟ تلقى الادعاءات والشواهد التي تقول إن هذه «الركيزة» من ركائز الديمقراطية الأمريكية ربما تعوق في واقع الأمر تحقيق التمثيل العادل والانتخابات التنافسية وفي النهاية الديمقراطية المحسَّنة، مقاومةً شديدةً من المواطنين الذين يرون أن هذا النص القانوني المفروض حديثًا نسبيًّا من نصوص قانون الانتخاب لهو مطلب جوهري للديمقراطية الأمريكية.
(٣-٢) الفائزون بالأكثرية في الانتخابات
يؤمن الأمريكيون بحكم الأغلبية، إلا أن أكثرية الناخبين — لا أغلبيتهم — هي التي تحدد الفائزين بالانتخاب في معظم الأحوال. ولو كان حكم الأغلبية الحقيقية هو القاعدة، لربما تغيرت نتائج انتخابات كثيرة، ويجدر بنا أن نتساءل ما لو كان ذلك سيتمخض عن تمثيل أكثر فعالية.
نوَّهنا من قبل إلى انتخاب جورج بوش بأصوات أقل من منافسه آل جور على الرغم من شرط الأغلبية المنصوص عليه في نظام المجمع الانتخابي. ويشيع في الانتخابات الأمريكية من يفوزون بلا أغلبية، لكن يندر من يخسرون من بين الفائزين بأكثرية دون مواجهة جولة إعادة. وعلى الرغم من هيمنة حزبين على النظام الأمريكي، ففي كل سنة انتخابية يحصد عدد من الفائزين أقل من نصف الأصوات، ويحرز متسابقو الأحزاب الصغيرة أو المستقلون أصواتًا كافية لإمالة ميزان القوة ناحية أحد هذين الحزبين. وتَصْدق هذه النتيجة بوجه خاص في الانتخابات التمهيدية — الانتخابات التي تُجرى لتحديد مرشحي حزب معين — التي يتنافس فيها أكثر من متسابق على ترشيح الحزب.
انظر حالة المتسابق الجمهوري دينو روسي الذي خسر انتخابات الحاكم سنة ٢٠٠٤ في ولاية واشنطن أمام الديمقراطية كريستين جريجوار بفارق يزيد قليلًا عن المائة صوت من أصل ٢٫٨ مليون صوت. لم يحرز أي من المتسابقين أغلبية، وحصدت المتسابقة التحررية روث بينيت — التي يمكن افتراض أن أنصارها كانوا سيحابوا روسي على جريجوار — ما يزيد على ٦٣ ألف صوت؛ أي ٢٫٣ في المائة فقط، لكنها كانت نسبة كافية للتأثير على النتيجة. ولو كان الحصول على الأغلبية شرطًا، لصبت جولة الإعادة في صالح روسي بكل معنى الكلمة.
من جديد، يثير التحوُّل عن نظام «الفائز بالأكثرية» الحالي (بمعنى فوز الشخص الذي يحصل على أكثر الأصوات، أغلبية كانت أم لا) استغراب أمريكيين كثيرين على الرغم من آثاره غير الديمقراطية الواضحة. وهناك نظامان بديلان (فيهما بعض الاختلافات) يُطرحان غالبًا كطريقتين لتغيير الممارسة الحالية.
في ولايات جنوبية كثيرة، وفي مواضع متفرقة في سائر الأمة، تُجرى انتخابات إعادة إذا لم يحصل أحد المتسابقين على أغلبية (وفي بعض مناطق الأمة، تعقد انتخابات الإعادة إذا لم يحصل أحد المتسابقين على أكثرية كبيرة، كما لو لم يحرز الفائز ٤٠ في المائة على الأقل من الأصوات في الجولة الأولى). هذه الممارسة أكثر شيوعًا في الانتخابات التمهيدية منها في الانتخابات العامة، ويرجع سبب العمل بها — في جزء منه — إلى أن الانتخاب التمهيدي كان هو المرادف الوظيفي للانتخاب العام في الجنوب لسنوات طويلة، عندما كان الديمقراطيون يهيمنون على السياسة الجنوبية. لكن جولات الإعادة لا تخلو من مشكلات؛ إذ يقل في العادة الإقبال على التصويت في انتخابات الإعادة كثيرًا عنه في انتخاب الجولة الأولى، وتميل الجماعات الأيديولوجية القوية إلى الهيمنة؛ لأنها تكون أقدر على حشد نصيبها من جمهور الناخبين. كما أظهرت التجربة أيضًا أن الأقليات يكون أداؤها سيئًا في انتخابات الإعادة، وزد على ذلك طبعًا أن جولات الإعادة مكلفة في خوضها بالنسبة للمتسابقين وفي إدارتها بالنسبة لمناطق معنية.
نادى المصلحون في الآونة الأخيرة بتصويت الإعادة الفورية. اقتُرحت مجموعة منوعة من السبل البديلة لتنفيذ هذا النظام، لكن الفكرة الأساسية هي أن يدلي المواطنون في السباقات التي تضم أكثر من متسابق واحد بأصوات يعبرون فيها عمَّن يفضلونه كاختيار أول واختيار ثانٍ وهلم جرًّا. وبعد التصويت، وإذا لم يحرز أحد المتسابقين أغلبية، يُستبعد المتسابق صاحب أقل الأصوات، ويعاد توزيع أصواته على المتسابقين التالين له في قائمة الاختيار، ويعاد حساب الإجمالي الحاصل عليه كل متسابق، ويُكرَّر هذا الإجراء في السباقات متعددة المتسابقين حتى يعلَن عن فائز بالأغلبية.
لتصويت الإعادة الفورية بعض المزايا الديمقراطية الواضحة؛ إذ يحول دون تأثير تفتيت الأصوات على النتيجة كما يحدث في الانتخابات التي تجرى بنظام الأكثرية، كما يستطيع الناخبون في الوقت نفسه إبداء تفضيلاتهم تجاه متسابقي الأحزاب الصغيرة أو المستقلين دون خشية أن تصب أصواتهم هذه في صالح من لا يفضِّلون من المتسابقين. ولا يُضطر المتسابقون إلى جمع أموال طائلة في فترات زمنية قصيرة لخوض جولة الإعادة، والأهم من ذلك كله أن تكون السيادة للأغلبية. لكن ثمة عيوب يشير إليها آخرون، وأبرزها أن النظام يبدو معقدًا، وبالأخص بالنسبة لجمهور ناخبين ليس جيد الاطلاع بالفعل.
يُستخدم تصويت الإعادة الفورية في أيرلندا وعدد من الديمقراطيات الأخرى، كما استُخدم مؤخرًا في مدينة سان فرانسيسكو وكانت النتائج طيبة. وقد منح عددٌ من الولايات البلديات صلاحية تنفيذ هذا النظام إذا شاءت. لكن بالنسبة لعامة الجمهور، ما زال تصويت الإعادة الفورية يبدو غريبًا، وسيمضي وقت طويل قبل أن يُستبدل بهذا «المبدأ الأساسي» من مبادئ الديمقراطية الأمريكية؛ مبدأ الفائزين بالأكثرية، نظامٌ يحقق بدرجة أكبر الهدف الديمقراطي المتمثل في حكم الأغلبية الذي يعلن معظم الأمريكيين إيمانهم به.
(٤) نظام الحزبين
بدأ بعض الأمريكيين يشككون في فعالية نظام المجمع الانتخابي بعد انتخابات سنة ٢٠٠٠، وشكك البعض في الاختيار الذي وُضع أمامهم في ذلك الانتخاب. لكن قليلين شككوا في جوانب العملية الانتخابية التي سبق بيانها، بل أقل منهم شككوا في النظام الذي سمح للديمقراطيين والجمهوريين بالهيمنة على السياسة لنحو ١٥٠ سنة. لكن حقيقة أن حزبين، وحزبين فقط، يمكنهما المنافسة عمليًّا على السلطة في الولايات المتحدة لها آثار واضحة على الربط بين المواطنين وحكومتهم.
كثيرًا ما يوصف النظام الانتخابي الأمريكي بأنه نظام ثنائي الحزبية. لكن الأحزاب السياسية غير مذكورة بالكلية في الدستور، ولا توجد قوانين تفرض التنافس في الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين، كما يخوض متسابقو الأحزاب الصغيرة أو المستقلون الانتخابات على مناصب كثيرة في كل دورة انتخابية، بل وبعضهم يفوز، وكثير منهم يكون له أثر على محصلة الانتخابات. لكن هناك حزبين يهيمنان فعلًا على السياسة الأمريكية، ففي سنة ٢٠٠٦ لم يكن في الكونجرس بمشرِّعيه الخمسمائة والخمس والثلاثين سوى عضوين من غير الديمقراطيين أو الجمهوريين (النائب بيرني ساندرز والسناتور جيم جيفوردز، وكلاهما من فيرمونت)، كما خاض حكام الولايات الخمسين كلها الانتخابات تحت راية أحد الحزبين، وأكثر من ٧٣٥٠ مشرِّعًا من نحو ٧٤٠٠ مشرع ولاياتي في الولايات التسع والأربعين التي تُجري انتخابات حزبية لشغل هذا المنصب إما ديمقراطيون وإما جمهوريون (الهيئة التشريعية في نبراسكا فريدة من نوعها من ناحيتين: أولاهما أنها لا تتكون إلا من غرفة واحدة وكل ما عداها يتكون من غرفتين، والأخرى أن الانتخابات غير الحزبية أكثر شيوعًا بكثير على المستوى البلدي عملًا بالمقولة القديمة: «لا توجد طريقة ديمقراطية ولا جمهورية لتنظيف الشوارع»).
تكشف مناقشة السياق الانتخابي السابقة عن الكثير حول أسباب تطور النظام ثنائي الحزبية في الولايات المتحدة. أولًا: الرئاسة هي الجائزة الكبرى في الولايات المتحدة، وإما يربحها الحزب أو يخسرها. وتتسبب طريقة «الفائز يحصل على كل شيء» التي يتم وفقها اختيار مندوبي المجمع الانتخابي في مفاقمة الأمر. والنظام الذي يتسم بالفصل بين السلطات، والذي يُختار فيه رئيس الجمهورية عبر سلسلة من انتخابات الفائز بالأكثرية، لا يسمح بالحكومات الائتلافية ولا عقد الصفات الانتخابية، بحيث تُشكَّل الائتلافات قبل الإدلاء بالأصوات لحصد أغلبية والفوز بالرئاسة.
ثانيًا: للدوائر أحادية العضوية التي يفوز الفائزون فيها بالمقاعد التشريعية بالأكثرية الأثر ذاته إلى حد بعيد. وها هنا مجددًا، لا تتمخض النتيجة إلا عن فائز واحد، وتعتبر الأصوات الممنوحة لمتسابقي الأحزاب الصغيرة أصواتًا مهدرة، بل أصواتًا ذات نتائج عكسية إذا فاز المتسابق الأقل تفضيلًا نتيجة الأصوات التي أُدلِي بها لشخص لا حظَّ له في النجاح الانتخابي. ومن شأن انتهاج نظام الدوائر متعددة الأعضاء ذات التمثيل النسبي أن يشجع المزيد من الأحزاب؛ لأنها قد تحقق مستوى ما من النجاح الانتخابي، وربما تتمكن من تشكيل ائتلافات مع الأحزاب ذات الأفكار المتشابهة في الهيئة التشريعية، لكن نظامًا كهذا لم يوجَد أبدًا في هذا البلد.
سنَّ الحزبان وهما في السلطة تدابير إضافية تنجح كثيرًا في ضمان استمرار هيمنتهما، وأبرزها نظام تمويل الحملات الانتخابية الذي يضع الأحزاب الصغيرة ومتسابقيها في وضع غير مواتٍ بدرجة كبيرة (انظر الفصل السابع). بالإضافة إلى أن المناظرات التي تُجرى أثناء الحملات الرئاسية الحديثة تدار بمعرفة لجنة من الحزبين لا لجنة غير حزبية، وقد تبنَّت هذه اللجنة التي يشترك في رئاستها زعيمان سابقان للحزبين الكبيرين سلسلة من القواعد بخصوص مشاركة متسابقي الأحزاب الصغيرة، اعتبرها متسابقون — ومنهم حامل لواء حزب الخضر رالف نادر — غير عادلة قطعًا، وشبَّه البعض — ولا سيما المتلهفين لحصول الأحزاب الصغيرة على دور أكبر في السياسة الأمريكية — هذا الموقف بالمثل القائل: «أوكلنا للثعلب حراسة حظيرة الدجاج.»
إن كون النظام يحابي حزبين لا يعني أن الأمريكيين كلهم راضون عن النتيجة، حيث أعرب مواطنون كثيرون في عدد من الانتخابات الرئاسية الحديثة (انتخابات ١٩٩٢ و٢٠٠٠ على وجه التحديد) وفي بعض الانتخابات على مستوى الولايات (كانتخاب حاكم الولاية في مين سنة ١٩٩٤ الذي تغلب فيه المستقل أنجوس كينج فعلًا على ديمقراطي بارز وجمهوري واعد) عن عدم رضاهم عن الاختيارات المطروحة من الحزبين الكبيرين، لكنَّ قولنا إن هناك عدم رضا يختلف عن قولنا إن النظام سيتغير على الأرجح. ومن الصعب أن يعارض المرء، سواء أكان يؤيد نظامًا ثنائي الحزبية أم نظامًا متعدد الأحزاب، الطرح القائل إن السياق المؤسسي الحالي يُفضي بشكل شبه حتمي إلى الهيمنة من جانب الحزبين، ويختلف هذا على الأقل عن مناقشة آثار نظام الحزبين على التمثيل النيابي.
لكن في الوقت نفسه، لا يعني استمرار وجود نظام الحزبين ضمنًا أن النظام الانتخابي، وبالأخص على مستوى الولايات، يظل راكدًا؛ فالنظام الحزبي الأمريكي نظام تنافسي ثنائي الحزبية على الصعيد الوطني، بمعنى أن الجمهوريين والديمقراطيين هما الحزبان المتنافسان الوحيدان اللذان يحتمل فوزهما بالانتخابات، لكن محصلة الانتخابات بين هذين الحزبين غير مؤكدة.
إلا أن طبيعة المنافسة بين الحزبين تغيرت. فطوال معظم سنوات القرن العشرين، على سبيل المثال، ظل الجنوب ديمقراطيًّا بشكل راسخ، وظلت بقية باقية من الجمهوريين يُنظر إليها باعتبارها حزب لنكولن الذي أعلن الحرب الأهلية وحرر العبيد، بل إن الحزب الجمهوري لم يكن موجودًا في معظم ولايات الجنوب حتى ما بعد انتخابات ١٩٦٤. أما اليوم، فالحزب الجمهوري يهيمن على الجنوب، بينما يجد الديمقراطيون مواطن قوتهم في المراكز الحضرية، وبالأخص على الساحلين وفي منطقة الغرب الأوسط الصناعية.
بعد انتخابات سنة ١٩٦٠، كان أعضاء مجلس الشيوخ الاثنان وعشرون، و٩٩ من اﻟ ١٠٦ أعضاء بمجلس النواب عن هذه الولايات من الديمقراطيين، وبعد انتخابات سنة ٢٠٠٠، كان ١٣ من أعضاء مجلس الشيوخ اﻟ ٢٢، و٧١ من أعضاء مجلس النواب اﻟ ١٢٥ (زاد العدد نتيجة انتقال السكان إلى المنطقة) من الجمهوريين.
على الرغم من تنافس الحزبين الكبيرين على المناصب في الولايات كافة، يوجد اختلاف هائل، سواء فيما بين الولايات بعضها وبعض أو بين المناطق داخل الولاية عينها. مثلًا، تتسم إلينوي بالتنافسية في عموم أرجائها، لكن شيكاجو تخضع لهيمنة الديمقراطيين، أما أجزاؤها الجنوبية فيهيمن عليها الجمهوريون. أما نيويورك فمضمونة إلى حدٍّ بعيد لمصلحة الديمقراطيين، وهذا في الظروف العادية، لكن تسود انتخابات تنافسية كثيرًا من مناطقها الريفية. وقد شهدت هذه الأنماط تغيُّرًا واضحًا على مر الوقت، وهي تتأثر بالقضايا السياسية المطروحة وبتنقُّل السكان. إن الفوارق الدقيقة كثيرًا ما تُهمل عند المبالغة في التعميم بشأن أي جانب من جوانب السياسة الأمريكية.
(٥) ملخص
لفهم آثار الإطار والقواعد التي تدار في ظلها الانتخابات أهمية بالغة في إدراك إلى أي مدى يحقق النظام الانتخابي الهدف الديمقراطي النهائي؛ وهو السماح بتعبير المواطنين عن قبولهم للمسئولين الذين يحكمونهم، وقبولهم ضمنًا بالسياسات التي ينفذها هؤلاء المسئولون. يحدد إعلان الاستقلال أسس العقيدة الأمريكية، حيث يورد مبادئ الديمقراطية الأساسية أو «الحقائق البديهية» التي تنبني عليها الديمقراطية في الولايات المتحدة، والتي أُكِّدت باستمرار منذ تأسيس الدولة، وأولاها أن «الناس كافة خُلقوا سواسية» وأن «خالقهم وهبهم حقوقًا معينة لا يجوز انتزاعها منهم». والغرض من الحكومة هو ضمان هذه الحقوق، وتعتمد سلطة الحكومة على قبول الشعب.
أما كيفية تعبير الشعب عن هذا القبول فتتقرر بواسطة العملية الانتخابية. وتتحدد كيفية سير العملية الانتخابية ومدى فعاليتها في أن تيسِّر على الناس التعبير عن قبولهم لمن يحكمونهم من خلال الإطار المؤسسي المقرر في الدستور. وأهم ما يميز هذا الإطار المؤسسي مبدأ الفصل بين السلطات، مع وجود سلطة تنفيذية واحدة منفصلة عن السلطة التشريعية ومنتخبة بمعزل عنها، والنظامُ الفيدرالي الذي يترك بعض الصلاحيات للولايات. وقد انبثقت الوسائل الأولية لاختيار الزعماء عن هذه العناصر التي كانت من ركائز الدستور. وقد تطور النظام السياسي الحالي، والدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية فيه، من تلك القرارات الأصلية. ولكي نفهم النظام الحالي ونقيِّم الديمقراطية الأمريكية في عالمنا اليوم، لا بدَّ أن نُلقي أولًا نظرة على ذلك التطور.