الانتخابات الرئاسية: حملات الترشيح والانتخابات العامة
في نوفمبر وديسمبر ٢٠٠٠، حين انتظر مواطنو دول العالم أسابيع لمعرفة ما إذا كان جورج دبليو بوش أو آل جور هو الذي فاز بانتخاب الرئاسة الأمريكية، اتفق المحللون والمواطنون على ملاحظتين. أولًا: أن النظام معيبًا بشدة. فبلد يعتبر نفسه منارة للديمقراطية، ونموذجًا للديمقراطيات الناشئة، لا يسعه أن يفخر بنظام انتخابي ترك النتيجة غير محسومة لأسابيع مع ما لذلك من دلالة واضحة على أن الفائز سيتحدد بناء على تفسيرات قضائية لبطاقات اقتراع مختلف عليها.
ثانيًا: قلة من الناس كانوا يفهمون النظام، فلم يُصِب الذهول الأمريكيين فحسب، بل أصاب أيضًا الناس حول العالم ممن يشيرون إلى المبادئ الديمقراطية للولايات المتحدة كَمُثل عليا تُحتذى لما عرفوا أن جورج دبليو بوش قد يُنتخب بغضِّ النظر عن حصول آل جور على أصوات أكثر منه. كان معلمو التربية المدنية في كل أرجاء الولايات المتحدة يحدِّثون طلابهم عن المجمع الانتخابي، وكان أولئك الطلاب يذهبون إلى بيوتهم ليشرحوه لآبائهم وأمهاتهم، وكثيرا ما تلعثم الصحفيون التليفزيونيون الذي يفهمون النظام وهم يحاولون شرحه لجماهيرهم.
إذا كانت الوسيلة التي يختار بها مواطنو الولايات المتحدة رئيسهم معقدة ومعيبة وغير مفهومة، فالطريقة التي يختار من خلالها الحزبان الكبيران مرشحيهما كذلك بل وأكثر. يعرف المواطنون أن المرشحين يُختاران في مؤتمري الحزبين، لكنهم يعرفون أيضًا أن هوية المرشح تكون معروفة مقدمًا قبل ذلكما الاجتماعين بكثير. فكيف؟ وأيُّ الولايات يُجري انتخابات تمهيدية وأيها يعقد مؤتمرات انتخابية وما الفرق؟ وكيف يسير كلاهما؟ ومَن المندوبون الموفدون إلى المؤتمرات؟ وكيف يُختارون؟ وماذا يفعلون؟
لا تشغل عملية الترشيح سوى أشد المهووسين بالسياسة. وتحدد طريقة سيرها أيَّ المتسابقين سيكون قادرًا على النجاح وأيهم لا فرصة أمامه، وتغربل العدد الكبير من الرؤساء المحتملين حتى لا يتبقى إلا اثنان، وهما مرشحا الحزبين الكبيرين. ولا يمكن أن يفهم المرء نتائج الانتخابات الأمريكية ما لم يفهم كيف يُختار المتسابقون.
كذلك فإن قواعد الانتخاب العام ليست محايدة؛ إذ يحابي نظام المجمع الانتخابي بعض المتسابقين ويجور على آخرين، ويعود الفضل في انتخاب جورج بوش إلى كيفية سير هذا النظام، وربما لم يكن ليُنتخب لو كان المعمول به نظامًا بديلًا. ولو اختلفت القواعد لتغيرت استراتيجيات المتسابقين، ويلعب الدعم المالي دورًا هائلًا في الترشيحات والانتخابات الرئاسية، وتخضع المساهمات في الحملات الانتخابية للرقابة القانونية، وتساهم قوة هذه الرقابة أو ضعفها أيضًا في تقرير من سيفوز ومن سيخسر، ولا يستطيع المرء أن ينتقد النظام من منظور القيم الديمقراطية إلا إذا كان يفهم الطرق التي يعمل بها والعواقب المحتملة لبدائله.
(١) عملية الترشيح
حظي جورج دبليو بوش بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة مرتين، أولاهما في سنة ٢٠٠٠ عندما كان الرئيس بيل كلينتون يوشك على مغادرة البيت الأبيض، والثانية في ٢٠٠٤ عندما كان بوش يسعى لإعادة انتخابه. وينهض هذان الترشيحان كمثالين لاثنين من الأنواع المحتملة للترشيحات الحزبية لمنصب الرئيس، أما ترشيح جون إف كيري في ٢٠٠٤ لمنافسة رئيس جمهوري حالي فيمثل نوعًا ثالثًا.
ويمكن التوصل إلى عدد من الاستنتاجات من هذا الجدول بشأن المنافسة داخل الحزب. أولًا: باستثناء ترشيحات إعادة الانتخاب، قلة من الترشيحات كانت من نصيب متسابقين كانوا مرشحين افتراضيين في مستهل موسم الحملة الانتخابية. وهذه الحالات الأربعة تستحق الاهتمام، إذْ كان على اثنين منهما أن يخوضا السباق ضد رئيسين حاليين يُعتقد أنهما لا يُغلبان، بمعنى أنه لم يكن يُنظر إلى الترشيحين باعتبارهما ذوَي قيمة كبيرة. كان والتر مونديل في ١٩٨٤ وبوب دول في ١٩٩٦ كلاهما قيادة حزبية محترمة وتستحق الترشيح إلى حد ما، لكن الأرجح أنهما كانا سيواجهان تحديًا أقوى داخل حزبيهما لو ظن مرشحون محتملون آخرون أن الرئيس الحالي الذي ينشد إعادة انتخابه ربما يخسر. وفي ٢٠٠٠، كان آل جور يشغل منصب نائب الرئيس ووريثًا متوقعًا؛ إذْ كان منتظرًا منه مواصلة مشوار فريق كلينتون-آل جور.
حزب المرشح | ||||
---|---|---|---|---|
حزب الرئيس الحالي | الحزب الآخر | |||
الحالة الرئاسية | مرشح افتراضي | مرشح غير افتراضي | مرشح افتراضي | مرشح غير افتراضي |
ينشد إعادة انتخابه | نيكسون ١٩٧٢ | فورد ١٩٧٦ (٢) | مونديل ١٩٨٤ (٦) | ماكجوفرن ١٩٧٢ (٨) |
ريجان ١٩٨٤ | كارتر ١٩٨٠ (٢) | دُول ١٩٩٦ (٥) | كارتر ١٩٧٦ (١٠) | |
كلينتون ١٩٩٦ | بوش ١٩٩٢ (٢) | ريجان ١٩٨٠ (٧) | ||
بوش ٢٠٠٤ | كلينتون ١٩٩٢ (٧) | |||
كيري ٢٠٠٤ (٦) | ||||
لا ينشد إعادة انتخابه | جور ٢٠٠٠ (٢) | بوش ١٩٨٨ (٦) | بوش ٢٠٠٠ (٦) | دوكاكيس ١٩٨٨ (٧) |
من المهم أن ننظر إلى استراتيجيات المتسابقين الذين يخوضون السباق في السياقات المختلفة، لكن قبل أن نتمكن من فهم هذه الاستراتيجيات، من الضروري أن نفهم القواعد التي تدار بها هذه الحملات الانتخابية.
(١-١) قواعد اللعبة
النتيجة النهائية بسيطة، وهي أن المرشح الرئاسي عن حزب ما هو المتسابق الذي يحصل على أغلبية الأصوات التي يُدلَى بها في مؤتمر الترشيح الذي يعقده حزبه، وأن المرشح لمنصب نائب الرئيس هو المتسابق الذي يحصل على أغلبية الأصوات التي يُدلَى بها لمنصب نائب الرئيس في مؤتمر الترشيح، فأي شيء أبسط من هذا؟
تُستخدم وسيلتان رئيسيتان لاختيار المندوبين، وهما الانتخابات التمهيدية والمؤتمرات الانتخابية التفضيلية الرئاسية. ففي الانتخاب التمهيدي التفضيلي الرئاسي، تَرِد أسماء المتسابقين على ترشيح الحزب على بطاقة الاقتراع، ويدلي المواطنون بأصواتهم لمصلحة أحد المتسابقين، وتُستخدم النتيجة لاختيار المندوبين الفعليين الذين يحضرون المؤتمر الوطني. من جديد يبدو الأمر بسيطًا، لكن الاختلافات في الأنظمة تكشف مدى تعقيده.
أولًا: مَن المواطنون الذين يصوتون؟ وهل كل ناخب مسجل مؤهل للتصويت أم أعضاء الحزب فقط المؤهلون؟ وماذا يعني قولنا «أعضاء الحزب» في تنظيم لا يضم أعضاء رسميين؟ بعض الولايات، ومنها ويسكونسن مثلًا، تُجري ما يسمى الانتخابات التمهيدية المفتوحة، وهي انتخابات تمهيدية يجوز لأي ناخب مسجل المشاركة فيها. وهناك ولايات أخرى مثل نيوهامشير تجيز للمستقلين غير المسجلين في أي من الحزبين التصويت في الانتخابات التمهيدية لأي من الحزبين، لكن الديمقراطيين لا يجوز لهم التصويت في الانتخابات التمهيدية الجمهورية، والجمهوريين لا يجوز لهم التصويت في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية. وهناك صِنف ثالث من الولايات، مثل ماريلاند أو نيويورك، تجري انتخابات تمهيدية مغلقة، وهي انتخابات تمهيدية لا يجوز أن يصوت فيها إلا المسجلون في أحد الحزبين الكبيرين، مما يستبعد فعليًّا المستقلين من المشاركة. وتتباين الولايات من نواحٍ كثيرة بحيث تتدرج بين الأنظمة المفتوحة والمغلقة، في ظل إجراء ولايات قليلة لانتخابات تمهيدية خالصة من أي من النوعين.
مَن يؤمنون بالديمقراطية، بمعنى حكم الشعب، في أنقى صورها ينبغي أن يؤيدوا الأنظمة الأكثر انفتاحًا، صحيح؟ ليس تمامًا. ففي نظام مفتوح، قد يقرر الديمقراطيون من ينبغي أن يكون مرشح الحزب الجمهوري. أليس ذلك قرارًا ينبغي أن يتخذه الجمهوريون؟ وإذا كان الانتماء للحزب يعني أي شيء، ألا يبدو صحيحًا أن من يتمسكون بمبادئ الحزب ينبغي أن يختاروا متسابقيه؟ هذا المنطق يعضد اتباع نظام أكثر انغلاقًا.
المنطق نفسه يقترح أن اتباع نظام أكثر انفتاحًا يَعبر فيها المواطنون الخطوط الحزبية للتصويت في الانتخابات التمهيدية ينبغي أن يتمخض عن متسابقين أكثر وسطية، إذ سيُضطر المتسابقون في الانتخابات التمهيدية إلى اجتذاب المواطنين من الحزبين، بينما سيتمخض اتباع نظام أكثر انغلاقًا عن متسابقين متباعدين في أفكارهم؛ أي أسهل في تمييزها على الناخبين في الانتخاب العام، لكن قد يقول البعض أيضًا إنها أكثر تطرفًا. وتُفضي الاختيارات في القواعد إلى اختلافات في النتائج.
المؤتمرات الانتخابية في جوهرها اجتماعات لأعضاء الحزب؛ أي الأشخاص المسجلين في أحد الحزبين. ففي الولايات التي تتبع نظام المؤتمرات الانتخابية، يجتمع أعضاء الحزب في عموم الولاية في مناطقهم المحلية في يوم واحد، حيث يقدِّم ممثلو مختلف المتسابقين في هذه المؤتمرات الانتخابية المحلية أقوى ما لديهم من حجج مؤيدة لمتسابقهم، ثم يناقش المجتمعون الحملة الانتخابية ومواطن قوة المتسابقين ومواطن ضعفهم، ويصوتون علنًا لمن يختارونه. ومحصلة المؤتمر الانتخابي المحلي هي انتخاب مندوبين يوفَدون إلى مؤتمر المقاطعة أو الولاية مع إلزامهم بالتصويت لمختلف المتسابقين بما يتناسب مع ما حصلوا عليه من تأييد في المؤتمر الانتخابي المحلي. وتقلُّ نسبة حضور المؤتمر الانتخابي عمومًا عن الإقبال على الانتخابات التمهيدية بكثير، لكن مؤيدي المؤتمرات الانتخابية يذهبون إلى أن مستوى الالتزام تجاه العملية الذي يتبين من حضور اجتماع قد يدوم ساعات عدَّة ومناقشة الحملة الانتخابية يؤيد أفضلية نظام اختيار المتسابقين هذا.
(١-٢) اعتبارات استراتيجية
تحديد الولايات — كل على حدة — تواريخ انتخاباتها التمهيدية ممارسة راسخة، لكن للنتائج تبعات خطيرة على المتسابقين. ففي أوائل ٢٠٠٤، ومع سير ترشُّح هوارد دين قُدمًا، اضطر المتسابقون الآخرون إلى اتخاذ بعض القرارات. فهل واجهوه في مؤتمرات أيوا الانتخابية؟ أم في انتخاب نيوهامشير التمهيدي؟ أم في كليهما؟ أم أنهم انتظروا حتى تصدى له آخرون على أمل أن يفوزا بالانتخابات التمهيدية لاحقًا؟ ويواجه المتنافسون على ترشيح الحزب قرارات استراتيجية كهذه طول حملات الترشيح.
أولًا: يجب أن يحكم المتسابقون على الحد الأدنى لنجاحهم في اقتناص ترشيح الحزب. فهل يحظون بشهرة كافية؟ وهل يمكنهم بناء تنظيم قوي بدرجة كافية؟ وهل سيكون بمقدورهم جمع تبرعات كافية لمواصلة حملاتهم طوال موسم الانتخابات التمهيدية؟ فقد صار للقدرة على جمع التبرعات — بل وجمعها في وقت مبكر من العملية — أهمية متزايدة، وإن ظل الهدف المالي ووسيلة تحقيقه يتغيران.
لكن الاستراتيجيات تغيرت سنة ٢٠٠٠، حيث انتهج حاكم تكساس آنذاك جورج دبليو بوش نهجًا استباقيًّا، مستخدِمًا السبل الأخرى لتمويل الحملات التمهيدية؛ أي بجمع التبرعات بصورة شخصية دون قيود على ما يتلو ذلك من إنفاق. فجمع بوش بتكوينه ائتلافًا من القيادات الحزبية ضم مسئولين منتخبين، ولا سيما رفاقه الحكام الجمهوريون، وأنصارًا من حملتي أبيه، وسكان تكساس الأثرياء، أموالًا أكثر مما كان يُعتقد أن جمعه ممكن قبل ذلك الحين؛ إذ جمع ٧٠ مليون دولار قبل أن يُدلي أول مواطن بصوته في الانتخابات التمهيدية، فانسحب عدد من الجمهوريين البارزين الذين فكروا في خوض سباق الترشح، كحاكم تينيسي السابق لامار ألكسندر والوزيرة السابقة إليزابيث دول، قبل انطلاق مؤتمرات أيوا الانتخابية وانتخاب نيوهامشير التمهيدي إدراكًا لعدم قدرتهم على مباراة حاكم تكساس في الموارد. وأحس المراقبون بالقلق من تقويض فعالية قانون الحملات الانتخابية الفيدرالية ومن معاودة هيمنة الثروات الطائلة على السياسة الرئاسية من جديد.
كانوا محقين إلى حدٍّ ما، لكن براعة جامعي التبرعات من أجل المتسابقين على الترشيح للانتخابات الرئاسية تكيَّفت مع الأوضاع إلى حدٍّ ما كذلك. وهم أيضًا محقون في قولهم إن المال كمورد أصبح عنصرًا أساسيًّا في سباقات الترشح للرئاسة على نحو يختلف كثيرًا عما كان عليه الحال بين عامي ١٩٧٦ و٢٠٠٠. ففي الفترة الأولى، استخدم الساعون إلى ترشيح الحزب تأهلهم للحصول على أموال فيدرالية مماثلة لما جمعوه من تبرعات كوسيلة لإثبات إمكانية نجاحهم في سباق الترشح. أما اليوم فيجب على المتسابقين اتخاذ قرار بشأن ما إذا كانوا سيسيرون في مسار مماثلة الأموال أم سيجمعون المزيد من الأموال من تلقاء أنفسهم، عارفين تمامًا أن بعض المتسابقين على الأقل سيجمعون أموالًا من القطاع الخاص، ومن ثم سيُسمح لهم بإنفاق أكثر مما ينفقه مَن يديرون حملات ممولة فيدراليًّا. ويجمع هذا القرار بين كونه عمليًّا واستراتيجيًّا. فمن منظور عملي، هل يمكنهم جمع أكثر مما سيمنحهم إياه المبلغ الفيدرالي المماثل بكثير؟ ومن منظور استراتيجي، هل يريدون أن يبدوا كأشخاص يجمعون أموالًا طائلة وينفقونها؟ وهل يتعين لكي ينجحوا أن تنفق حملاتهم أموالًا بأساليب محظورة على المتسابقين الممولين فيدراليًّا، متجاوزين مثلًا الحد المفروض في بعض الولايات؟
لكن من أبدوا قلقهم من كون التحول إلى التمويل الخاص يعني بالضرورة خضوع الحملات لهيمنة من يقدرون على جمع التبرعات من مانحين يملكون ثروات طائلة كانوا مخطئين. فالاعتماد على الثروة الخاصة مثلما فعل فوربز في ١٩٩٦ و٢٠٠٠، أو الاعتماد على المساهمات المقدمة من أفراد أثرياء مثلما فعل بوش في ٢٠٠٠، كانا الوسيلتين المعروفتين لجمع مبالغ مالية ضخمة، وفي مقابل ذلك، أثبت في البداية جون ماكين في انتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية سنة ٢٠٠٠، ثم هوارد دين ومن بعده جون كيري في الفترة السابقة على ترشيح الحزب الديمقراطي سنة ٢٠٠٤، إمكانية استخدام الإنترنت لجمع مبالغ مالية كبيرة على هيئة تبرعات صغيرة نسبيًّا من مئات الآلاف من المواطنين. ويتعيَّن على المتسابقين الآن اتخاذ قرارات بخصوص ما إذا كان خوضهم السباق من النوع الذي سيستهوي جمهور ناخبين يُحتمل أن يساندهم على هذا النحو أم لا.
من أهم القرارات الاستراتيجية التي يتخذها المتسابقون على الترشيح الرئاسي ومسئولو حملاتهم، بالإضافة إلى القرارات الخاصة بكيفية تمويل حملاتهم، أين تُدار الحملة، وكم من الجهد يكرسون، ولأي ولاية، وهي قرارات تخضع للموارد المتاحة، والقواعد المعمول بها في كل ولاية، وأيديولوجية المتسابق والناخبين في كل ولاية، وجدول مواعيد الأحداث.
يستطيع المتسابقون الذين يملكون أموالًا كثيرة إدارة حملاتهم الانتخابية في عدد كبير من الولايات، أما المتسابقون أصحاب الموارد المحدودة (سواء المالية أو من حيث أفراد الحملة والتنظيم، وكلاهما يتوقفان على المال في أغلب الأحوال) فيجب أن يقرروا تركيز جهودهم على بعض الولايات والتخلي عن بعضها الآخر. ويركِّز المتسابقون الذين يتمتعون بجاذبية أوسع، وبالأخص لدى المستقلين، جهودهم في الولايات التي تجري انتخابات تمهيدية مفتوحة، وكانت تلك استراتيجية جون ماكين في السباق الجمهوري سنة ٢٠٠٠. وأما المتسابقون أصحاب الجاذبية الحزبية التقليدية فيركزون على الولايات التي تعقد مؤتمرات انتخابية، والتي تجري انتخابات تمهيدية مغلقة، وكانت تلك الاستراتيجية التي اتبعها آل جور في التغلب على بيل برادلي في الحزب الديمقراطي في السنة ذاتها. وكثيرًا ما يركز المتسابقون المعروفون بأيديولوجية واضحة على الولايات التي يشعرون أن أفكارهم ستلقى ترحيبًا فيها ويَبعدون عن الولايات الأخرى. ويستطيع المتسابقون الوسطيون اجتذاب قطاع أوسع من الناخبين لكنهم يواجهون خطر الخسارة أمام المتسابقين المحافظين في بعض الولايات وأمام الليبراليين في بعضها الآخر. وأخيرًا، ونظرًا لأن الزخم شديد الأهمية، ولأن جدول المواعيد السياسي مزدحمٌ في الأشهر الأولى من العملية، ولأن استمرار التمويل بالنسبة لمن يحصلون على تمويل عام يتوقف على النتائج المحققة في كل مجموعة من الانتخابات التمهيدية، يجب أن يجد المتسابقون أماكن يمكنهم النجاح فيها بين الولايات التي تُجري انتخابات تمهيدية وتعقد مؤتمرات انتخابية مبكرًا.
(١-٣) نقد عملية الترشيح
يندهش المرء، عند النظر إلى هذه المفاهيم الاستراتيجية، لغياب الصلة بين المتغيرات الفاعلة هنا والمتغيرات التي تصنع رئيسًا جيدًا أو تصنع متسابقًا جيدًا للانتخاب العام — ربما باستثناء الجاذبية بين المستقلين — وها هنا تكمن المشكلة في عملية الترشيح وسبب توجيه النقد.
لو كان للمرء أن يصمم عملية ترشيح من الصفر، فسيسعى إلى نظام يُسفر عن اختيار متسابقَيْن اثنين أثبتا قدرتيهما على قيادة الأمة وأبدَيا جاذبية واسعة، داخل الحزب وبين جمهور واسع على السواء. والنظام الحالي لا يفعل إلا قليلًا لاختبار قدرة المرشحين أو حتى خبرتهم، وهو مائل لمصلحة من يحققون أداءً جيدًا في أيوا ونيوهامشير، وكلتاهما ولايتان لا تمثلان الأمة من منظور سكاني ولا من منظور القضايا الأعظم أهمية، ولا تمثلان أيًّا من الحزبين، لا من حيث الأيديولوجية ولا من حيث ناخبيهم الحزبيِّين. ويُختار المرشحون من قِبل ناخبين قليلين نسبيًّا (معدلات الإقبال في الانتخابات التمهيدية الرئاسية، حتى معظم ما يُجرى منها مبكرًا، منخفضة نوعًا ما، بل وأقل منها في المؤتمرات الانتخابية)، مع وجود ناخبين في ولايات كثيرة (الولايات التي تختار المندوبين الذين سيشاركون في المؤتمر الوطني في وقت متأخر من تلك العملية) لا تأثير لهم على الإطلاق. وأخيرًا، نظرًا لأن العملية مكثفة بشدة ولأن المتسابقين لا يُختبرون على مدى فترة زمنية ممتدة في طائفة من القضايا، ولأن معظم هذا يحدث قبل الوقت الذين يكون فيه المواطن العادي منخرطًا في التفكير في السياسة الرئاسية، كثيرًا ما يكون المواطنون مستائين من مرشحي أحد الحزبين الكبيرين أو كليهما بحلول الوقت الذي تنطلق فيه حملة الانتخاب الرئاسي العام في الخريف.
لاحظ الحزبان ووسائل الإعلام هذه المشكلة، لكن العثور لها على حلول أمر صعب. غيَّر الديمقراطيون في مستهل عملية الترشيح سنة ٢٠٠٨ جدول المواعيد نوعًا ما، فأضافوا المزيد من الولايات التي تعقد مؤتمرات انتخابية مبكرًا لإضعاف تأثير أيوا ونيوهامشير، لكن لا أحد يرى أن هذا التغيير أكثر من مجرد تسوية ضعيفة بين من يحبذون الوضع الراهن ومن يسعون إلى تغيير جوهري في العملية. ومع ترحيل المزيد من الولايات الكبيرة انتخاباتها التمهيدية إلى مطلع شهر فبراير، ليس واضحًا ما إذا كانت التغييرات التي يفرضها الحزب على المستوى القومي سيكون لها أي أثر إيجابي على الإطلاق.
(١-٤) الترشيحان الرئاسيان لسنة ٢٠٠٨
وبالنسبة للديمقراطيين كانت الساحة أكثر تشتتًا. فالمتسابقون الذين كانوا يُعتقد أنهم متسابقون متصدرون، كحاكم نيويورك ماريو كومو، قرروا عدم خوض السباق بالكلية. ومن بين من خاضوا الانتخابات التمهيدية حاكم أريزونا بروس بابيت، وحاكم ماساتشوستس مايك دوكاكيس، وزعيم الأغلبية بمجلس النواب والنائب عن ولاية ميزوري ديك جيفارت، والسناتور عن ولاية تينيسي آل جور، والسناتور السابق عن ولاية كولورادو جاري دبليو هارت الذي خاض سباق الترشح سنة ١٩٨٤، وزعيم الحقوق المدنية جيسي جاكسون، والنائب عن ولاية أوهايو جيم ترافيكانت، وهي المجموعة التي كانت الصحافة تتهكم منها بوصفها بالأقزام السبعة.
لم يُحسم الترشيحان حتى غُربل المتسابقون وصولًا إلى عدد أقل من المتنافسين الحقيقيين، وكان الموقف في ٢٠٠٨ مماثلًا في أغلب الاحتمالات، حيث رأينا أعدادًا كبيرة من المتسابقين على الترشيح في البداية ثم عملية غربلة قبل أن يُحسم الترشيحان، لكن ما هو ليس بواضح بالكلية كيف ستحدث عملية الغربلة وماذا ستكون العوامل الأساسية، بمعنى المال أو الدعم التنظيمي أو بيانات استطلاعات الرأي أو نتائج الانتخابات التمهيدية والمؤتمرات الانتخابية، ولا سيما في وضع تُجرى فيه السباقات المبكرة بشكل متقارب جدًّا واحدًا تلو الآخر.
في الحزب الديمقراطي مثلًا، هل سيتمكن أي متسابق من مجاراة السناتور عن ولاية نيويورك هيلاري كلينتون في التنظيم (وجزء كبير منه موروث عن حملة زوجها) أو في الأموال التي يمكن أن تجمعها؟ وهل سيساند ذيوع صيت السناتور باراك أوباما تنافسه على ترشيح الحزب خلال الفترة السابقة للإدلاء بالأصوات الأولى؟ وهل سيتمكن أحد المتسابقين الآخرين من التميز عن بقية المتسابقين الذين يسعون إلى تعطيل الزخم الذي راكمته كلينتون وأوباما قبل المؤتمرات الانتخابية والانتخابات التمهيدية الأولى بعام كامل؟ وفي الحزب الجمهوري، هل ستفيد الانقسامات الأيديولوجية في تمييز المتسابقين المهمين عن المتسابقين أصحاب الفرص الضعيفة؟ وهل سيتمكن جون ماكين وعمدة نيويورك السابق رودولف جولياني من التخلص من صورتيهما كمتمردين حزبيين واجتذاب صناديد الحزب، أم هل سيبرز أحد المتسابقين الجمهوريين التقليديين كبديل لهما؟
(٢) حملة الانتخاب العام
كان القلق الذي أُعرب عنه في أواخر خريف ٢٠٠٠، حين كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية ما زالت في علم الغيب، متعدد الأوجه؛ فلا شك أن المواطنين الأمريكيين ومن يراقبون العملية في كل أنحاء العالم كانوا منشغلين لأن النتيجة لم تُحسم، ولم يكن الأمريكيون يعرفون من سيكون زعيم أقوى أمة على الأرض، ولعل ما فاقم هذا الوضع إلى حدٍّ ما أن أيًّا من المتسابقين لم يُثِر حماسًا كبيرًا بين الناخبين، وكان العالم ينتظر بلهفة لمعرفة أي منهما سيصبح الرئيس.
(٢-١) المَجْمع الانتخابي
غير أن أغلب القلق تمحور حول العملية ذاتها؛ حول مؤسسة المجمع الانتخابي الفريدة من نوعها التي قلَّما يفهمها أحد. فالأمريكي العادي يعرف أن نظام المجمع الانتخابي موجود، لكنه لا يعرف كيف يعمل، ويعتقد الأمريكيون أن حكم الأغلبية شيء طيب، وقليل مَن يدركون أن الرئيس ربما لا تنتخبه أغلبية (ولا حتى أكثرية).
(٢-٢) بدائل نظام المَجْمع الانتخابي
اقتُرح عدد من البدائل لنظام المجمع الانتخابي، أبرزها التحول إلى نظام الانتخاب المباشر للرئيس بمجرد عدِّ الأصوات التي أُدلي بها على مستوى الأمة. ويدعي آخرون أن أفضل نظام هو الذي يحتفظ بالميزة الطفيفة المعطاة إياها الولايات الصغيرة بمنحها عضوين بالمجمع الانتخابي مقابل عضويها في مجلس الشيوخ، لكن مع ضرورة منح أصوات المجمع الانتخابي بالنسبة والتناسب على نحو يعكس الأصوات الشعبية في الولاية. وهناك صِنف ثالث يرى أن النظام المعمول به في مين ونبراسكا، نظام الدوائر الانتخابية، ينبغي أن يُنفَّذ على الصعيد الوطني. ويزعم البعض أن النظام ينبغي أن يبقى لكن مع ضرورة إدلاء المندوبين بأصواتهم تلقائيًّا مما يخلِّص النظام من مشكلة المندوبين الخائنين.
المندوبون الخائنون
أدلى تسعة مندوبين بأصواتهم لمرشحين رئاسيين خلاف الشخص الذي أُلزموا بالتصويت له منذ ١٩٤٨، ويبدو أن بعض هؤلاء التسعة صوَّت بالخطأ، كما في حالة المندوب المجهول عن ولاية مينيسوتا الملزَم بالتصويت لجون كيري، الذي صوت لرفيق كيري في السباق جون إدواردز بدلًا من كيري بعد أن اختلط عليه الأمر؛ نظرًا لتشارك الاثنين في الاسم الأول «جون». وهناك آخرون كمندوبة جور عن إقليم كولومبيا التي تركت بطاقة اقتراعها بيضاء، ومن ثم أخلفت وعدها الناخبين، احتجاجًا على الوضع «الاستعماري» لمقاطعة كولومبيا، بمعنى حرمانها من التمثيل في الكونجرس.
اقتُرحت صيغ عديدة معدلة من هذه البدائل، وكلها تعكس استياءً من النظام الراهن كما تعكس في أغلب الأحوال شكلًا مخففًا للإصلاح الأشد جذرية الذي يمكن اعتماده. فالانتخاب المباشر للرئيس يشبه المثل الأعلى الديمقراطي كأدق ما يكون الشبه، وأيُّما امرئ يحصل على أغلب الأصوات يفز بالانتخابات مثلما هو الحال تمامًا في معظم الانتخابات الأخرى في هذا البلد، وهذا يبدو بسيطًا بما فيه الكفاية.
لكن ماذا لو كان هناك ثلاثة متسابقين كبار أو أربعة يخوضون الانتخابات الرئاسية؟ يزعم البعض أن نظام المجمع الانتخابي بما يتسم به من خاصية الفائز يحصل على كل شيء، ولا سيما عند اقترانه بالفائزين بالأكثرية في الدوائر أحادية العضوية في معظم المقاعد التشريعية في البلد، يعوق قيام أي حزب ثالث ذي قيمة. ويجادل هؤلاء المحللون بأنه إذا أُلغي نظام المجمع الانتخابي، فربما تقوم أحزاب إضافية، وربما تتفرق الأصوات إلى حد ما بالتساوي بين عدد من المتسابقين. فهل ينبغي أن يُنتخب شخص رئيسًا بنسبة ٣٠ أو ٣٥ في المائة فقط من الأصوات؟ وهل سيكون من الحكمة استعمال نظام يُنتخب فيه الرئيس بأصوات تقل كثيرًا عن أغلبية صوتت ضده؟ إن انتخاب مشرِّع، وما هو سوى عضو واحد في هيئة مكونة من ١٠٠ عضو (في حالة مجلس الشيوخ) أو ٤٣٥ عضوًا (في حالة مجلس النواب)، بأكثرية الأصوات فحسب شيءٌ، أما اختيار زعيم أقوى أمة في العالم بتلك الطريقة فشيءٌ مختلفٌ تمامًا.
ليس حل هذه المسائل الفلسفية بالأمر اليسير، لكن حتى لو أمكن التوصل إلى توافق في الآراء، فالواقع السياسي لا يؤيد تحولًا إلى الانتخاب المباشر. أولًا: على مستوى عمليٍّ جدًّا، نجد أن قضايا عدِّ بطاقات الاقتراع التي ظهرت في ٢٠٠٠ تخيف كثيرًا من الساسة، الذين هم ببساطة شديدة لا يثقون في أتباع الحزب الآخر في المناطق التي يهيمن عليها خصومهم، حيث تكثر القصص عن محاولات تزييف الانتخابات، وما زال كثيرون يزعمون أن السبب الوحيد وراء عدم طعن ريتشارد نيكسون في نتائج إلينوي في السباق الانتخابي المتقارب جدًّا سنة ١٩٦٠ هو أن الجمهوريين زوروا أصواتًا في جنوبي إلينوي بقدر ما زور الديمقراطيون من أصوات في منطقة شيكاجو. وربما تكون هذه الحكايات مختلقة، لكنها موضع تصديق لدى عدد كافٍ من الساسة للتردد في التحول إلى الانتخاب المباشر؛ إذْ يرى مسئولو كل ولاية أن بمقدورهم رصد ما يجري في منطقتهم، لكنهم يشعرون بالقلق من احتمال التزوير مع اتساع جمهور الناخبين.
يعارض الناخبون من الأقليات إصلاح نظام المجمع الانتخابي بشدة. فالأمريكيون من أصل أفريقي والهسبان يشكل كل منهما نحو ١٠ في المائة من الناخبين الأمريكيين، لكنهم ليسوا موزعين بالتساوي في عموم الأمة، وفي حين أن كتلة تصويتية نسبتها ١٠ في المائة ربما لا تحظى بكثير من الاهتمام في انتخاب وطني، فإن تأثيرها سيَعْظُم إذا كانت مركَّزة في أماكن مهمة معينة تمكِّنها من إحداث فارق بين الفوز بأصوات مندوبي الولاية وخسارتها.
أخيرًا، ستقاوم بعض الولايات الصغيرة التغيير. فمن ناحية، يمكن أن يجادل المرء بأن الولايات الصغيرة تملك أصواتًا قليلة جدًّا بالمجمع الانتخابي على نحو يجعل أحدًا لا يبالي بها، ولا ننسَ أن وايومنج والولايات الأصغر حجمًا الأخرى لا تملك إلا ثلاثة مندوبين، وحتى الولايات متوسطة الحجم مثل كونكتيكت أو أيوا أو أوكلاهوما أو أوريجون لا تملك إلا سبعة، ويتضاءل تأثيرها العددي مقارنة بكاليفورنيا بمندوبيها الخمسة والخمسين، أو نيويورك بمندوبيها الأربعة والثلاثين، أو تكساس بمندوبيها الواحد والثلاثين. وما الفارق الذي سيُحدثه صوتا المجمع الانتخابي الإضافيان اللذان ستحصل عليهما كل ولاية تلقائيًّا مع استمرار الفجوة الكبيرة جدًّا؟ لكن من ناحية أخرى، تنال الولايات الصغيرة التي تشهد منافسة حامية في الانتخابات متقاربة النتائج اهتمامًا أكبر بكثير مما كانت ستناله بخلاف ذلك، ويريد نواب هذه الولايات الاحتفاظ بالميزة الضئيلة التي يملكونها.
(٢-٣) اعتبارات استراتيجية ناتجة عن نظام المَجْمع الانتخابي
إذا لم يكن المواطن العادي على وعي بتبعات نظام المجمع الانتخابي، فكل خبراء الحملات الاستراتيجيين على وعي بها يقينًا؛ إذ لا تبحث الحملات الانتخابية الرئاسية عن كل صوت شعبي، بل تبحث عن العدد السحري من أصوات المندوبين وهو ٢٧٠. وفي ليلة الانتخاب سنة ٢٠٠٠، وفيما اعتُقد بدايةً أن أصوات مندوبي فلوريدا من نصيب جور، ثم من نصيب بوش، ثم في علم الغيب، رأى مشاهدو التليفزيون كيف يفكر خبراء الحملات الانتخابية الاستراتيجيون، حيث اختط المحللون أمثال رئيس مكتب إن بي سي نيوز في واشنطن تيم روسيرت مسار الانتخاب قائلًا: «إذا لم يفز نائب الرئيس جور بفلوريدا، فلا بد من حصوله على [توليفات متنوعة من الولايات التي ما زال من المستحيل التنبؤ بنتائجها مقدمًا] لبلوغ الرقم السحري ٢٧٠.» تلك هي الحسابات التي يحسبها مديرو الحملات الانتخابية.
إنهم يبدءون بقاعدتهم؛ أي الولايات التي يعرفون جيدًا أنهم سيفوزون بها أو على الأقل لا يمكنهم تحمل خسارتها إذا كان لهم الفوز بالانتخاب، وهي ولايات نيو إنجلاند ونيويورك وكاليفورنيا بالنسبة للديمقراطيين، وولايات الوسط وحزام الكتاب المقدس ومعظم الجنوب بالنسبة للجمهوريين، ويعرفون أن تأمين قاعدتهم لا يتطلب إلا أقل قدر من الجهد، وأن أي جهد مهما كان مستبسلًا لن يحرز تقدمًا ذا معنى في قاعدة الحزب الآخر، وهو ما تترتب عليه طبيعيًّا الاستراتيجيةُ المتبعة: لا تستثمر أي موارد في أي من هذه المجموعات من الولايات؛ فالنتيجة في الأساس مقررة سلفًا.
ثم يبدأ النشاط الحقيقي. أيُّ الولايات «موضع منافسة» بحق؟ وأيُّ الولايات قد تفوز بها ببذل غاية الجهد؟ وما عدد مندوبي هذه الولايات؟ وكم من هذه الولايات يجب الفوز به لبلوغ الرقم السحري ٢٧٠، أو أغلبية أصوات المجمع الانتخابي؟ لا ريب أن الحملتين تسيران على قضيبين متوازيين. فإذا لاحق الديمقراطيون نيوهامشير، فلا بد أن يتخذ الجمهوريون قرارًا، بمعنى كم يستحق منهم الدفاع عن تلك الولاية؟ وإذا حاول الجمهوريون إقناع وست فيرجينيا بالتصويت لهم، فكيف سيستجيب الديمقراطيون؟ وتُراجَع القرارات ثم تُراجَع من جديد طوال الحملة، ويستطلع كلا المعسكرين الآراء في الولايات المحورية، فإذا جاءت نتائج الاستطلاعات متقاربة، استثمروا المزيد من الموارد، وإذا كانوا متقدمين أو متأخرين فإنهم يكيِّفون أفعالهم وفقًا لذلك.
كان الحزبان في انتخابَي سنتَي ٢٠٠٠ و٢٠٠٤ قد توصلا بحلول أوائل الخريف إلى استنتاجات متماثلة بخصوص أيِّ الولايات تُعتبر سباقات حقيقية، أو ساحات معارك، ودارت رحى المعارك في كليهما في نحوٍ من خمس عشرة ولاية. وتتجه الولايات المنقسمة بشدة في أحد الانتخابات إلى الانقسام الشديد في الانتخاب التالي، حيث كانت فلوريدا وأيوا وميتشجان ونيفادا ونيوهامشير ونيومكسيكو وأوهايو وأوريجون وبنسلفانيا وويسكونسن من بين ساحات المعارك سنتي ٢٠٠٠ و٢٠٠٤ كلتيهما، وكانت تملك مجتمعة ١٢٣ صوتًا في المجمع الانتخابي. وإذا نظر المرء إلى الولايات التي تضمها قاعدتا الحزبين، وجد قاعدة الديمقراطيين تقل عن رقم ٢٧٠ بنحو ٨٠ صوتًا، وقاعدة الجمهوريين تقل عنه بمقدار ٥٠ صوتًا. ويدرك كل جانب أنه يحتاج إلى تركيز جهوده في هذه الولايات المحورية وفي الولايات الأخرى القليلة التي تصبح تنافسية في أي انتخاب معين.
لو لم يكن نظام المجمع الانتخابي معمولًا به، لاختلفت استراتيجيات المتسابقين، الذين كانوا سيركزون على الأسواق الإعلامية الكبرى؛ لأنها كانت ستمكِّنهم من الوصول إلى معظم الناخبين. كانوا سيركزون على مناطق قوتهم؛ لأن إقبال الأنصار على التصويت سيكون مهمًّا. والمثير للاهتمام أنهم ما كانوا ليركزوا على الولايات أو على المناطق التي يرجح أن تكون نتائج التصويت فيها متقاربة خشية اجتذاب أنصار خصومهم إلى صناديق الاقتراع. ففوز متسابق بولاية ما بفارق ٥ آلاف صوت أو خسارته بالفارق ذاته سيكون أقل أهمية عن اجتذاب ١٥ ألف ناخب إضافي في ولاية كان سيفوز بها أصلًا بأغلبية ساحقة.
هل هناك نظام أفضل من الآخر من حيث تحسين الرابط بين الناخبين والحكومة؟ من منظور كلي، لا توجد إجابة واضحة. ومن الواضح أن النظام الحالي يحابي الولايات التي يحتمل أن تكون فيها نتيجة الانتخاب متقاربة، حيث ينفق المتسابقون الوقت والموارد هناك، ويمكن أن يذهب المرء إلى أن الرؤساء الحاليين الذين ينشدون إعادة انتخابهم ينشدون الدعم في تلك الولايات بتوجيه إجراءات تصبُّ في مصلحتهم وهم في سدة الحكم. ومن الواضح كذلك أن نظامًا يشتمل على الانتخاب المباشر للرئيس سيحابي المواطنين في المدن الأكبر حجمًا، ومثل هذا النظام سيحابي أيضًا المواطنين الذين يقطنون الولايات التي تميل نحو حزب الرئيس الحالي؛ لأنه سيتملق الناس لزيادة الإقبال. وفي السياسة، غالبًا ما يحدِّد مكانُ جلوس المرء موقفَه تجاه السياسات محل الجدل. وسيواصل المصلحون نقاشهم حول نظام المجمع الانتخابي، لكن الإصلاحات الكبرى في عالم السياسة الأمريكية لا تأتي إلا في أعقاب مشكلات بيِّنة تصدم الوعي العام، فإذا لم تُفضِ نتيجة ٢٠٠٠ إلى إصلاح المجمع الانتخابي، فمن غير المحتمل أن يكون هناك تغيير في الأفق.
(٢-٤) تمويل الحملات الرئاسية
شُغل الصحفيون والمصلحون السياسيون أثناء الحملتين الرئاسيتين لسنتي ٢٠٠٠ و٢٠٠٤ بكيفية تمويل هذين السباقين أكثر منهم بكيفية عد الأصوات أو فرزها، حيث أرسى قانون الحملات الانتخابية الفيدرالية نظامًا لتقديم تمويل حكومي كامل للحملات الرئاسية، ويتلقى الحزبان الكبيران مبلغين ماليين متساويين (٧٤٫٦ مليون دولار في ٢٠٠٤)، وتتلقى الأحزاب الصغيرة أموالًا تتناسب مع الأصوات التي حصلت عليها في الانتخاب السابق شريطة فوزها بما نسبته ٥ في المائة من الأصوات كحد أدنى.
سلَّطت حملتا سنة ٢٠٠٠ الضوء على المشكلات القائمة في آلية عمل قانون الحملات الانتخابية الفيدرالية، ونظرًا لأن السناتور ماكين كان شخصية رئيسية في عملية الترشيح ذلك العام، ولأنه شدد على إصلاح تمويل الحملات الانتخابية كواحدة من أهم قضاياه، فقد كان في وضع ممتاز لتمرير حزمة إصلاحية تعثرت على مدى خمس سنوات. وقد عالج مشروع قانون ماكين-فاينجولد الذي مُرِّر باسم قانون إصلاح الحملات الانتخابية لسنة ٢٠٠٢ الكثير من شواغله، فحُظر على الحزبين الوطنيين قبول الأموال غير الخاضعة للرقابة، وللتعويض نوعًا ما عن هذا القيد، رُفعت حدود التمويل الخاضع للرقابة. كما وُضعت حدود على المؤسسات والشركات التي تذكر المتسابقين الفيدراليين في إعلاناتها، ورفضت المحكمة العليا في قضية ماكونيل ضد لجنة الانتخابات الفيدرالية لسنة ٢٠٠٣ حجج المعارضين القائلة إن القانون قيَّد على نحو مخالف للدستور حقوق حرية التعبير الخاصة بمن يَنشُدون الانخراط في العملية، ولم تلقَ الحجج القائلة إن الإصلاحات تدق مسمارًا في نعش الأحزاب آذانًا صاغية.
ثاني درس مستفاد أن الأحزاب في حقيقتها مؤسسات سهلة التكيف. فالحزبان الرئيسيان شهدا بالفعل انخفاضًا في الأموال غير الخاضعة للرقابة التي ينفقونها على أنشطة حملتيهما، فاستجابا بجمع المزيد من الأموال الخاضعة للرقابة، حتى وصلا بها إلى مستوى مجموع ما أنفقاه من أموال خاضعة للرقابة وغير خاضعة للرقابة سنة ١٩٩٦، وقد أنفقا ذلك المال على نحو أكثر استراتيجية مما فعلاه فيما مضى، حيث ركزا جهودهما بشدة في الولايات ساحات المعارك، ومن ثم ظل هذا المال يلعب دورًا بالغ الأهمية في الاستراتيجية الكلية للحملة.
جدد السناتور ماكين والسناتور فاينجولد وحلفاؤهما جهودهم الإصلاحية بعد الانتخاب، مُثبتين بذلك الأثر الإيجابي لقانون إصلاح الحملات الانتخابية وساعين إلى سد الثغرة التي كشفت عنها جماعات ٥٢٧. ومن الجائز تمامًا أن يُسَن قانون للإصلاح، لكن مَن يسعون إلى التأثير على السياسة من خلال إنفاق المال على الحملات الانتخابية سيكونون جاهزين تمامًا لإيجاد طرق جديدة لتحقيق مشيئتهم.
(٣) ملخص: نظرة على الانتخاب الرئاسي ٢٠٠٨
ما الذي يمكننا معرفته عن الانتخاب الرئاسي لسنة ٢٠٠٨ قبل الكشف عن تفاصيل السباق ببعض الوقت؟ وما الذي يمكننا معرفته عن العملية التي سيُختار من خلالها خليفة جورج دبليو بوش؟
لعل النقطة الأشد جلاء هي أن هذه العملية لم تتغير إلا قليلًا منذ ذلك الانتخاب الذي انتقد بشدة سنة ٢٠٠٠، وسيهيمن على الانتخاب الحزبان السياسيان الوطنيان الكبيران، ولن تلعب الأحزاب الصغيرة أو المتسابقون المستقلون إلا دورًا محدودًا أو لا دور بالكلية، وسيُختار مرشحو الحزبين من خلال عملية تربك معظم جمهور الناخبين في وقت لا يركز فيه إلا مواطنون قليلون على السياسة الرئاسية، وستدور العملية في توقيت يضمن أن يكون لبعض الولايات، وبالأخص أيوا ونيوهامشير، تأثير غير متناسب بالمرة لا مع عدد سكانها ولا مع مدى كون أولئك السكان يمثلون الأمة ككل، وستخلق أوهام جداول مواعيد الانتخابات التمهيدية والمؤتمرات الانتخابية موقفًا تملك فيه بعض الولايات الإضافية قدرًا لا بأس به من التأثير وبعضها الآخر لا شيء بالكلية، ولن يشارك في عملية الترشيح إلا قليل جدًّا من المواطنين، لكن من سيشاركون (غير القيادات الرسمية للتنظيمات الحزبية) سيكون لهم أعظم التأثير في اختيار المرشحين، وستكون القدرة على جمع التبرعات عاملًا حاسم الأهمية في تقليص متنافسي كل حزب إلى عدد صغير يقوم في نهاية المطاف بمحاولات حقيقية للفوز بالترشيح. وأخيرًا، وإذا كان لنا أن نسترشد بالتاريخ بأي حال، فإن القدرة على الحكم ستكون أقل أهمية بكثير مما ستكتسبه من أهمية عواملُ أخرى كالقدرة على اجتذاب جمهور الناخبين على شاشة التليفزيون، أو إلى أي مدى يجد المتسابق الفارق الدقيق الصحيح عند تعبيره عن موقفه تجاه القضايا الجدلية والبارزة، وهي مجموعة ثانوية تختلف غالبًا عن القضايا الحيوية المتعلقة بالمصلحة القومية. ويمكننا أيضًا أن نكون على يقين تام من أن المتسابقين سيتعرضون لهجمات قاسية استنادًا إلى سجلاتهم في مناصبهم وتصريحاتهم العلنية وربما حياتهم الشخصية وحياة أُسرهم، وأن هذه الهجمات ستكون — في بعض الحالات على الأقل — ظالمة وفي غير محلها، ومع ذلك ستكون حاسمة.
ما إن يُختار المرشحون وتبدأ حملة الانتخاب الرئاسي جديًّا، ستدخل في المعادلة مجموعة أخرى من العوامل، وستدور رحى المعركة في عدد قليل نسبيًّا من الولايات، وبينما ستناقش كلتا الحملتين تشكيلة واسعة من القضايا، سيجري التركيز على عدد صغير من الشواغل التي تشق صف المتسابقَين، وأيضًا صف الناخبين في الولايات ساحات المعارك، وستقام مناظرات بين المتسابقَين، لكن ليس لدينا ما يضمن ما إن كانت هذه المناظرات ستكشف عن اختلافات جوهرية بينهما، غير أن الجمهور سيكوِّن — سواء استنادًا إلى الجوهر أو الأسلوب، إلى الانطباع العام أو الانطباع الحاصل نتيجة زلة عابرة — آراءً استنادًا إلى هذه المناظرات.
ستنفَق أموال طائلة في الانتخاب العام. نحن نعرف أن الحزبين سيتلقيان تمويلًا حكوميًّا بعشرات الملايين، لكن ما لا نعرفه هو ما إذا كان المتسابقان سيقبلان التمويل الحكومي أم سيخوضان الانتخابات باستخدام أموال خاصة، ومن ثم يتجنبان أي قيود على الإنفاق. ونحن نعرف أن الحزبين السياسيين الكبيرين وآخرين سيساهمون أيضًا، لكننا لا نعرف كيف سيفعلون ذلك، وكم سينفقون، وما سيكون لذلك الإنفاق من أثر.
أخيرًا، نحن نعرف بشيء من اليقين أن ما يزيد قليلًا عن نصف الناخبين المؤهلين سيدلون بأصواتهم على أكثر تقدير، وهي نسبة ضعيفة إذا أخذنا في اعتبارنا أن نحو ٧٥ في المائة من الناخبين المؤهلين في المتوسط يدلون بأصواتهم في الديمقراطيات الأشد حداثة، حتى مع استبعاد الديمقراطيات التي يكون التصويت فيها إلزاميًّا. وبينما يشير المواطنون في الولايات المتحدة إلى ديمقراطيتهم باعتزاز، وبينما يعمل رئيس الجمهورية دأبًا على تصدير الديمقراطية الأمريكية، فلا ريب أن بعض جوانب النظام تخفق في بلوغ المثل الأعلى الذي ينبغي أن تناضل لبلوغه أي ديمقراطية فعالة بحق.