الترشيحات والانتخابات على المستوى دون الوطني
في أبريل ٢٠٠٤؛ أي قبل الانتخابات الوطنية بأكثر من ستة أشهر، توقعت آمي والتر، كبيرة محرري نشرة «كوك بوليتيكال ريبورت» الإلكترونية، الفائزين المؤكدين في ٣٦٨ من ٤٣٥ سباقًا لعضوية مجلس النواب، وحالفها الصواب فيها كلها. وكانت ترى أن الفائزين «المرجحين» واضحون في ثلاثين مقعدًا آخر، وأن هناك ثلاثة وعشرين مقعدًا آخر «تميل» في أحد الجانبين. ولم يتغير حكمها المبكر بفعل الحملات الانتخابية أو الأحداث إلا في اثنين من تلك المقاعد الثلاثة والخمسين. وقبل أن يبدأ المواطن العادي في التركيز على الانتخابات المقبلة بأشهر، أصابت والتر في تحديد الفائزين في ٤١٩ سباقًا من ٤٣٥ سباقًا لعضوية مجلس النواب. وشهدت ست عشرة دائرة فقط سباقات رأت والتر أنها شديدة التنافسية على نحو يتعذر معه تحديد متسابق مرجح، ومرة أخرى نقول إن هذا حدث قبل إدلاء المواطنين بأصواتهم بستة أشهر.
أمريكيون قلائل يعرفون مدى ضآلة المنافسة الانتخابية في ديمقراطيتهم التي يزهون بها، وتبرز انتخابات مجلس النواب كمثال صارخ، حيث كان الانتخابان النيابيان سنتي ٢٠٠٢ و٢٠٠٤ من بين الانتخابات الأقل تنافسية في التاريخ بشتى المقاييس تقريبًا، سواء من حيث هزيمة النواب الحاليين، أو فوارق الأصوات التي فاز بها المتسابقون، أو عدد الانتخابات التي حسمت بالتزكية. ويجب أن يرجع المرء أكثر من عَقد ليجد انتخابًا تقل فيه نسبة نجاح النواب الحاليين الذين ينشدون إعادة انتخابهم عن ٩٨ في المائة. وحتى في اكتساح الحزب الديمقراطي سنة ٢٠٠٦، نجد أن نحو ٩٥ في المائة من النواب الحاليين الذين كانوا ينشدون إعادة انتخابهم نجحوا في حملاتهم، وحُسم أكثر من ٩٠ في المائة من السباقات في تلك الفترة بفوارق تزيد على ١٠ في المائة. وفي ٢٠٠٤، حُسمت ٥ سباقات فقط من السباقات النيابية وعددها ٤٣٥ بفارق يقل عن ٥ في المائة من الأصوات، وحُسم ١٣ سباقًا آخر فقط بفارق يقل عن ١٠ في المائة من الأصوات. وفاز الفائزون في نحو ١٥ في المائة من أصل ٤٣٥ «سباقًا» سنة ٢٠٠٤ و١٠ في المائة منها سنة ٢٠٠٦ بالتزكية. وربما يظن الواحد منا أن الانتخابات التمهيدية أوجدت منافسة في الدوائر ذات الانحياز الحزبي القوي، لكن أكثر من ٧٠ في المائة من النواب الحاليين الذين ينشدون إعادة انتخابهم لم يواجهوا منافسة تمهيدية.
نمحِّص في هذا الفصل كيف يُختار المتسابقون لخوض الانتخابات على المناصب دون مستوى الرئاسة، ثم في حملات الانتخاب العام، ونتقصى آثار نظام الدوائر أحادية العضوية التي يفوز فيها الفائزون بالأكثرية والتي بيَّناها في الفصل الأول، ومدلولات طرق رسم حدود الدوائر الانتخابية، ومدلولات طريقة تمويل الانتخابات، ومدلولات طرق التنافس في الحملات.
سنعتمد في معظم الأمثلة التي نسوقها على انتخابات عضوية مجلس النواب الأمريكي. وكقاعدة عامة نقول إن الترشيحات والانتخابات لمناصب حكام الولايات وعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي أشد تنافسيه من انتخابات مجلس النواب، وسباقات عضوية الهيئات التشريعية الولاياتية والمناصب المحلية أقل تنافسية. والمبدآن العامان أنه كلما ازدادت قيمة الترشيح (من حيث أرجحية الانتخاب فيما بعد)، ازداد احتمال التنافس عليه، بل والتنافس الحامي، وكلما ازداد نفوذ المنصب وقلَّت هيمنة حزب واحد على الدائرة، ازداد احتمال أن يجد المرء منافسة في الانتخاب العام.
(١) عملية الترشيح
عندما خسر السناتور عن ولاية كونكتيكت جوزيف ليبرمان ترشيح الحزب الديمقراطي لينشد إعادة انتخابه في أغسطس ٢٠٠٦، اندهش المراقب العابر وحار، فكيف أمكنه الفوز بترشيح المؤتمر الوطني لكنه خسر بعدئذ انتخابًا تمهيديًّا؟ لكن الاختلافات داخل ذلك النظام تسمح بوجود اختلافات كبيرة بين الولايات، وهو ما ينبغي ألا يُفاجأ أي قارئ لهذا الكتاب بوصوله إلى هذه المرحلة.
-
مَن يجوز له التصويت.
-
ومَن يجوز له خوض السباق.
-
وما الدور الذي تلعبه التنظيمات الحزبية في هذه العملية.
-
وما مقدار التنافس المحتمل.
-
وما يتطلبه الفوز بالترشيح.
(١-١) مَن يجوز له التصويت
يدور السؤال، كما هو الحال مع الترشيحات الرئاسية، حول دور عضوية الحزب وما إذا كانت الانتخابات مفتوحة للناخبين كافة أم مغلقة، بما يعني أن أعضاء الحزب وحدهم هم الذين يجوز لهم التصويت. ولتعريفات أعضاء الحزب أهمية بالغة في هذا المقام، فلا يوجد أي مكان في الولايات المتحدة يشير فيه مصطلح «عضو الحزب» — على النحو المستخدم لأغراض تحديد مَن يجوز له التصويت — إلى أعضاء رسميين يسددون رسومًا، ومفهوم قرار المرء أن يكون عضوًا بأحد الأحزاب غريب على معظم الأمريكيين، وحتى في إطار هذا المفهوم الفضفاض للحزب، تظل هناك اختلافات مهمة.
أهمية من يجوز له التصويت استراتيجية: ترى القيادات الحزبية أن النظام المغلق يَرجُح النظام المفتوح في احتمال تمخضه عن أتباعٍ أشد إخلاصًا لبرنامج الحزب كالمرشح. وقد توحد الحزبان الكبيران في كاليفورنيا ضد الانتخابات التمهيدية الجامعة، مما يثبت كيف قوضت هذه الخطوة القصوى نحو فتح النظام الجهودَ المبذولة لتحقيق الوحدة الحزبية.
(١-٢) مَن يجوز له خوض السباق
وتخص المسألة الثانية كيف يتأهل المرء لبطاقة الاقتراع. ففي بعض الولايات تسيطر لجان الأحزاب السياسية على بطاقات الاقتراع، أو على الأقل يمكنها فتح الباب الموصل إليها. لكن في معظم الولايات، يصل المتسابقون إلى بطاقة الاقتراع من خلال الحصول على توقيعات على طلب ترشح. ويتعلق السؤالان المهمان بمن يجوز له التوقيع على الطلبات وما عدد التوقيعات المطلوبة. فالاشتراطات الصعبة — الحصول على أعداد كبيرة من التوقيعات من أعضاء الحزب فقط وموزعة جغرافيًّا في عموم الدائرة — تعني اقتصار الوصول إلى بطاقة الاقتراع على المتسابقين الذين يملكون تنظيمًا سياسيًّا متطورًا خاصًّا بهم أو المتسابقين المؤيَّدين بتنظيم قائم كالحزب السياسي. بينما الاشتراطات السهلة — الحصول على توقيعات قليلة نسبيًّا ومِن أي شخص يعيش في أي مكان — تسهِّل على المتسابقين الهواة خوض الانتخاب التمهيدي. وحين تكون اشتراطات طلب الترشح صعبة أو يكون دور التنظيم الحزبي كبيرًا تكون النتيجة أن المتسابقين التقليديين هم الذين سيخوضون السباق على الأرجح.
يمكن أن يرد المرء بسرعة قائلًا إن الاشتراطات المخففة أكثر ديمقراطية، ولا ننسَ أن القيود البيروقراطية لا تحول دون وصول أحد إلى بطاقة الاقتراع، ويؤيد كثيرون هذا الرأي. لكن إذا كان بمقدور أي شخص الترشح لشغل منصب، فكثيرون يفعلون ذلك غالبًا. وإذا جاءت على بطاقة الاقتراع أسماء كثيرة لشغل المنصب نفسه، فقد يجد الناخبون صعوبة في التمييز بينهم، والتفرقة بين مَن يملك فرصة كبيرة للفوز ومَن يترشح من باب العبث. ونظرًا لأن الانتخابات كثيرًا ما تُحسم بأكثرية الأصوات، فإن كثافة المتسابقين غالبًا ما تعني فوز الفائز بدعم قليل نسبيًّا. وربما يسحب المتسابقون المخفقون أصواتًا بشكل غير متكافئ من متسابق جادٍّ خاسر، مما يؤثر بالتالي على محصلة الانتخاب التمهيدي. فهل هذا أكثر ديمقراطية بحق؟
(١-٣) دور التنظيم الحزبي في عملية الترشيح
كما سبق ونوهنا فإن أحد الأدوار الأساسية لأي حزب سياسي هو ضمان وجود سباقات انتخابية، فالأحزاب السياسية تستقطب المتسابقين على المناصب. لكن أينبغي أن يكون بمقدور هذه الأحزاب تقرير أي المتسابقين يخوض السباق تحت رايتها إذا أراد ذلك أكثر من متسابق واحد؟ وإذا استقطبت القيادات الحزبية متسابقًا، فهل يفترض بها أن تملك القدرة (أو السلطة) لاستبعاد الآخرين الذين يسعون إلى الفوز بترشيح الحزب؟ وإذا كانت القيادات الحزبية ترى أن أحد المتسابقين فرصته أكبر كثيرًا للفوز بالانتخاب العام من متسابق آخر، فهل يفترض بها أن تسهم في الدعاية الانتخابية النشطة، إما شخصيًّا وإما كتنظيم، لصالح المتسابق المفضل؟
مَن يؤيدون الأحزاب السياسية القوية ويرونها محورية لأي ديمقراطية فعالة الأداء سيجيبون عن هذه الأسئلة بالإثبات، ومَن يرون أن الأحزاب السياسية تفسد العملية الديمقراطية سيجيبون عنها بالنفي. لقد تباين التاريخ الحزبي في مختلف الولايات تباينًا هائلًا، ولهذا نجد بعض الولايات لديها أنظمة حزبية مغلقة، وبعضها أكثر انفتاحًا. كذلك فإن القوة التاريخية للتنظيمات الحزبية في مختلف الولايات حددت الدور الحديث الذي تلعبه في عملية الترشيح.
على أحد الطرفين توجد الولايات التي تلعب فيها الأحزاب دورًا مهمًّا، بل وحاسمًا، في الترشيحات. ففي يوتاه، يرشَّح المتسابق إذا حصل على ٧٠ في المائة من الأصوات في مؤتمر الحزب بالولاية، فإذا لم يحرز أحد ٧٠ في المائة، يُجرى الانتخاب التمهيدي بين المتسابقَيْن اللذين حصلا على أعلى الأصوات في المؤتمر. وفي كونكتيكت، وفيما يخص كثيرًا من المناصب، يكون الشخص الذي يختاره الحزب هو المرشح ما لم يتحداه شخص آخر، إما متسابق حاصل على ٢٠ في المائة من أصوات المؤتمر وإما متسابق متقدم بطلب ترشح يحمل عددًا كبيرًا من التوقيعات. وتلك هي الطريقة التي وصل بها نيد لامونت، الذي تغلب على جو ليبرمان، إلى بطاقة الاقتراع، حيث فاز ليبرمان بتأييد مؤتمر الحزب لكنه خسر الانتخاب التمهيدي. ويندر أن تُكلل مثل هذه التحديات بالنجاح. والحقيقة أنه لم يواجه سوى أقل من ١٠ في المائة من المتسابقين المؤيَّدين حزبيًّا لعضوية الكونجرس أي انتخابات تمهيدية على الإطلاق في كونكتيكت منذ ١٩٩٦. وفي ولايات أخرى، يضمن المتسابق الذي يفوز في مؤتمر الحزب مكانًا على بطاقة الاقتراع (وفي بعض الحالات مكان الصدارة)، بينما يتعين على المتسابقين الآخرين التقدم بطلبات ترشح.
هناك مكان وسط من حيث دور الحزب نراه في الولايات التي لا يلعب فيها الحزب دورًا رسميًّا في العملية، بل يلعب دورًا غير رسمي لكنه مع ذلك مؤثر. وأوضح مثال لهذا هو نفوذ الحزب الديمقراطي بمقاطعة كوك بمدينة شيكاجو بولاية إلينوي، حيث ظل تأييد تنظيم دالي الذي يديره جيلان من عُمد شيكاجو مساويًا للترشيح الحزبي على مدى نحو نصف قرن، باستثناء فورات نشاط وجيزة من جانب عناصر الإصلاح. وجرب الحزب الديمقراطي في أريزونا مؤخرًا نوعًا جديدًا من النفوذ، وذلك بمصادقته رسميًّا على المتسابقين — عند وجود أكثر من متسابق واحد في السباق ذاته — الذين يراهم جديرين بالثقة في الانتخاب العام، وهو ما يعني ضمنًا عدم مصادقته على مَن لا يحصلون على موافقته.
على الطرف الآخر من حيث النفوذ الحزبي توجد الولايات المحظور عليها الاختيار من بين المتسابقين في الانتخابات التمهيدية. ففي بعض الولايات، تحظر القواعد الحزبية على التنظيم الاختيار من بين المتسابقين، وفي بعضها الآخر، يجب أن يلتزم مسئولو الحزب والتنظيم جانب الحياد. ويمكن أن يجد المسئولون الحزبيون في هذه الولايات أنفسهم في موقف صعب، ذلك أنهم إذا استقطبوا متسابقًا فاجتذب هذا المتسابق خصمًا، فإنهم لا يستطيعون مساعدة المتسابق الذي شجعوه على خوض السباق، لكن إذا لم يستقطبوا متسابقًا ولم يقرر أحد خوض السباق على منصب معين، يكونون مقصِّرين في أداء مهمتهم.
(١-٤) مقدار المنافسة
ليس مدهشًا أن تتفاوت المنافسة على الترشيحات الحزبية تفاوتًا هائلًا في مختلف أنحاء البلد، ويسهل تحديد المتغيرات التي تقرر هل سيكون هناك منافسة تمهيدية أم لا: التأييد الحزبي بالدائرة، وأهمية المنصب، ووجود شاغل منصب قوي أو عدمه، وقوة التنظيم الحزبي.
في المناطق التي يغلب عليها الجمهوريون، يحظى ترشيح الحزب الجمهوري (يُلقَّب بالحزب الكبير العريق) بقيمة أكبر؛ لأنه يزيد فرص فوز المتسابق بالانتخاب العام، وينشأ عن ذلك مزيد من المنافسة. لكن ترشيحات الحزب الديمقراطي في تلك المناطق قليلًا ما تواجه منافسة. والعكس صحيح بالطبع في المناطق التي يغلب عليها الديمقراطيون. ويكون احتمال منح الترشيحات للمناصب المحلية والهيئة التشريعية الولاياتية دون منافسة أكبر مقارنة بالترشيحات لمنصب الحاكم أو عضوية مجلس الشيوخ الأمريكي. والحقيقة أن دور الحزب بالنسبة للمناصب التي يغلب عليها الطابع المحلي كثيرًا ما يتمثل في العثور على شخص يخوض السباق ويتولى المنصب إذا انتُخب. فإذا كان هناك شخص قوي يشغل منصبًا ما وينشد إعادة انتخابه، تكاد تنعدم منافسته في حزبه، ويتضاءل احتمالها في الحزب الآخر. وأخيرًا، فإن التنظيمات الحزبية القوية عادة ما تشغل المراكز على بطاقات الاقتراع وتثني من يحاولون تحدي مرشحيها، أما التنظيمات الحزبية الضعيفة فالاحتمال كبير أن تكون لديها مراكز شاغرة على بطاقات الاقتراع وأن تواجه منافسة على المناصب المرموقة.
كما سبق ونوهنا فإن ٧٠ في المائة من جميع النواب الذين خاضوا السباق طمعًا في إعادة انتخابهم أُعيد ترشيحهم دون معارضة في السنوات الأخيرة، وقليلون جدًّا من النسبة المتبقية واجهوا تحديات خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، وفيما عدا في السنوات التالية لإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية التي تتمخض عن وضع نائبين حاليين في دائرة واحدة، فإن قليلين جدًّا من يخسرون سباقات الترشيح؛ أقل من خمسة في كل دورة ما عدا الدورات التي تلي مباشرة إعادة تقسيم الدوائر على مدى العقود الثلاثة الماضية. والمنافسة على الترشيح لمواجهة النواب الحاليين أكثر شيوعًا، وتعد المقاعد الشاغرة السياق الأرجح الذي تخاض فيه انتخابات تمهيدية، ولا سيما داخل حزب يهيمن على دائرة. وفي تلك الحالات، يفضي الفوز بالترشيح على الأرجح إلى الفوز في الانتخاب العام.
(١-٥) مَن يظفر بالترشيح
يتحدد الفائزون في الانتخابات التمهيدية في الأغلبية الساحقة من الولايات بقاعدة الأكثرية؛ إذ يفوز المتسابق صاحب أكثر الأصوات. ولا شك أن هذه القاعدة لا تنطوي على إشكالات في الانتخابات التمهيدية التي تُحسم بالتزكية أو التي لا يخوضها إلا متسابقان، لكن في الولايات التي تحدد عتبات منخفضة للوصول إلى بطاقة الاقتراع، كثيرًا ما يتنافس أكثر من متنافسَيْن اثنين فيها على الترشيحات الحزبية الثمينة، وفي تلك الحالات، يمكن أن يسفر الترشيح بالأكثرية عن خوض متسابق ليس من شأنه أن يحظى باختيار الأغلبية في الانتخاب العام.
تشترط تسع ولايات الحصول على أغلبية الأصوات للفوز بالترشيح الحزبي، وتُجرى إعادة بين المتسابقَين الأعلى في الأصوات إذا لم يحرز أي متسابق أغلبية الأصوات في الجولة الأولى. وقد استُحدثت جولات الإعادة في الانتخابات التمهيدية في الجنوب يوم أن كان المتسابقون الديمقراطيون وحدهم الذين يحظون بفرصة الفوز في الانتخاب العام، وكانت الانتخابات التمهيدية بالأساس تقرر الفائز. أما في العصر الحديث، وفي ظل هيمنة الجمهوريين في مناطق كثيرة في الجنوب، فيزعم بعض الساسة الأمريكيين من أصل أفريقي أن جولات الإعادة في الانتخابات التمهيدية تسير ضد مصلحتهم، وأثير هذا الادعاء بنجاح خطابي عظيم قبل عقدين مضيا من جانب جيسي جاكسون، وهذا مثال واحد بارز. لكن التجربة التاريخية أثبتت أن جولات الإعادة تكفل متسابقًا يحظى بتأييد واسع ولم يكن لها أثر ضار على ترشح الأمريكيين من أصل أفريقي على مر الزمن.
(١-٦) نظرة واقعية على عملية الترشيح
على الرغم من أهمية فهم عملية الترشيح، وكيف تؤدي الاختلافات في العملية إلى نتائج مختلفة، من المهم أيضًا ألا تعمينا التفاصيل عن رؤية الصورة الكبيرة. ففيما عدا الترشيحات لشغل المقاعد الشاغرة — وذلك فيما يخص المناصب المهمة داخل حزب يملك متسابقوه فرصة معقولة للفوز بها — قليل للغاية من الانتخابات التمهيدية في الولايات المتحدة يشهد منافسة حامية، وفي معظم الحالات نجد متسابقًا واحدًا فقط يسعى إلى ترشيح الحزب لمنصب معين. وبعض أولئك المتسابقين يخوضون السباق بدوافع ذاتية، وبعضهم تستقطبهم القيادات الحزبية.
في حالات كثيرة جدًّا — إذا كان المرء يعتنق القيم الديمقراطية الأساسية — لا أحد ينبري لخوض السباق، ولا يفلح قيادات الحزب بوجه عام في استقطاب متسابقين، وعندئذ إذا كان هناك شاغل للمنصب ينشد إعادة انتخابه، فإنه يخدم فترة أخرى دون أن يُجري جمهور الناخبين أي تقييم لخدمته السابقة. فإذا لم يكن هناك شاغل للمنصب يخوض السباق، لا يكون أمام جمهور الناخبين خيار محدد بشأن من سيحكم. وعلى الرغم من أنه من النادر أن يُنتخب حاكم أو سناتور أمريكي أو يعاد انتخابه دون منافسة، فإن هذا يحدث باطراد مُقلق فيما يخص المناصب الأخرى، وذلك بنحو ١٥ في المائة من المرات فيما يخص سباقات مجلس النواب الأمريكي في السنوات الأخيرة، ومتوسط يزيد على ٣٠ في المائة من المرات فيما يخص السباقات التشريعية الولاياتية.
يرجع تدني الطلب على الترشيحات إلى أسباب متنوعة، أهمها أن المتسابقين المحتملين لا يعتقدون أنهم يستطيعون الفوز نتيجة عوامل من قبيل سلطة شاغل المنصب وإعادة التقسيم الحزبية للدوائر الانتخابية وتكلفة الانتخابات، وسوف نتناول هذه العوامل في المبحث التالي الذي يعرض للانتخابات العامة. وفيما عدا ذلك، لا يَبرز متسابقون محتملون لأن الأحزاب غالبًا ما تكون أضعف من أن تقدم تشجيعًا كافيًا، وعندما تحدد التنظيمات الحزبية متسابقين محتملين أقوياء وتشجعهم على خوض السباق، فإنهم غالبًا ما يخوضونه. ويعزو المتسابقون المحتملون الأقوياء الذين لا يخوضون السباقات امتناعهم إلى أسباب منها الافتقار إلى شبكة مساندة حزبية فعالة، ومنها ببساطة عدم رغبتهم في خوض حملات انتخابية أو تولي منصب ما؛ لأنهم يفضلون المنصب الذي يشغلونه الآن، أو لأنهم لا تروقهم عملية خوض السباق، أو لأنهم يشعرون أن التكاليف الشخصية والمهنية لتولي منصب ما ستتجاوز المكاسب الشخصية والمهنية، أو لشيء من هذا وذاك.
(٢) الانتخابات العامة
ما يدعونا إلى دراسة كيف تعمل الانتخابات هو تقرير ما إذا كانت تساهم في الديمقراطية الفعالة أم لا. تركز الدراسات المعنية بالسلوك التصويتي في الولايات المتحدة على التصويت في الانتخابات الرئاسية، وعلى الرغم من اختلاف المحللين في تأويلاتهم، فقد برز اتفاق في الرأي على أن الانتماء الحزبي وتقييم أداء الرئيس عاملان مهمان في تقرير كيف يصوِّت المواطنون. ويمكن أن يذهب المرء إلى أن الاعتماد على تقييم عوامل كتلك العوامل يتسق مع القيم الديمقراطية، فهل يَصْدق الشيء نفسه على الانتخابات دون مستوى الرئاسة؟
(٢-١) انتخابات الحكام والشيوخ
من المفيد تقسيم الانتخابات على المستوى دون الوطني بين انتخابات لمناصب رفيعة وانتخابات لمناصب أقل رفعة. وتركز وسائل الإعلام الجديد، ومن ثم الجمهور، على بعض الانتخابات شديدة البروز، التي تشهد الحملات في كثير منها معارك شرسة ومنافسة شديدة، لكن معظم السباقات الأخرى تشتمل على نشاط محدود للحملات الانتخابية ومنافسة انتخابية أقل بكثير.
عادة ما تُحسم السباقات على منصب الحاكم استنادًا إلى قضايا ولاياتية، حيث يقيِّم المواطنون حكامهم كتنفيذيين ويحكمون على مدى حُسن إدارتهم الولاية منذ الانتخاب السابق. وعادة ما تركز الانتخابات لعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي على قضايا وطنية. وفي ٢٠٠٦، أجرت ثلاث وثلاثون ولاية انتخابات لشغل أحد مقعديها في مجلس الشيوخ الأمريكي، ونظرًا لأن الحظوظ السياسية الجمهورية كانت في تضاؤل على المستوى الوطني مع اقتراب سنة الانتخاب، كان الديمقراطيون يأملون استعادة سيطرة حزبهم على المجلس، وقبل بداية سنة الانتخاب، أعلن أربعة شيوخ تقاعدهم، اثنان ديمقراطيان وواحد جمهوري والمستقل جيفوردز. ومن بين الشيوخ التسعة والثلاثين الحاليين الذين ينشدون إعادة انتخابهم، بدا تسعة عشر مطمئنين تمامًا قبل الانتخاب بشهور (وإن كان السباق الذي بدا مضمونًا في فيرجينيا تحول إلى سباق تنافسي ثم إلى خسارة بسبب سلسلة من السقطات الانتخابية من جانب السناتور الحالي جورج ألِن). صُبَّت في هذه السباقات ملايين الدولارات بالمعنى الحرفي للكلمة، وكان المتسابقون عن كلا الحزبين على المقاعد الشاغرة والمتسابقون الذين ينافسون شاغلي المقاعد الأخرى ساسة محنكين تخلى كثيرون منهم عن مناصب أخرى مهمة لخوض انتخابات مجلس الشيوخ، وفي نوفمبر انتقلت حيازة ستة مقاعد من حزب إلى الآخر فيما استرد الديمقراطيون الأغلبية داخل المجلس.
ما الذي نستنتجه بشأن هذه الانتخابات لشغل منصب عام مهم؟ أولًا: في حالات كثيرة، رُشِّح متسابقون أقوياء في كلا الحزبين، وتلقوا دعمًا ماليًّا كبيرًا، وخاضوا حملات شرسة، وأتيحت للمواطنين الذين أدلوا بأصواتهم في تلك السباقات فرصة للاستنارة ولاختيار من ينبغي أن يمثلهم على أساس عقلاني. وكان هذا النوع من الحملات الانتخابية الفعالة جليًّا في انتخابات ٢٠٠٦ في نحو ثلاثين ولاية، سواء في السباقات على منصب الحاكم أو عضوية مجلس الشيوخ الأمريكي أو كليهما.
لكن في الولايات العشرين الأخريات، بما فيها أربع شهدن سباقات على كلا المنصبين، أعيد انتخاب شاغلي المنصب دون منافسة خطيرة. وقد تظن أن غياب المنافسة على هذا النحو كان سببه الانحياز الحزبي القوي في الولاية، وكان ذلك في الحقيقة هو الحال في تكساس التي يغلب عليها الجمهوريون، حيث أعيد انتخاب الحاكم ريك بيري والسناتور كاي بيلي هاتشيسون كلاهما بسهولة، لكنه لم يكن الحال في الولايات الأخرى، كما في وايومنج بحاكمها الديمقراطي وشيخيها الجمهوريَّين. في هذه الحالات، أثنت قوة شغل المنصب والتنظيم الشخصي، لا المشايعة الحزبية، المتسابقين الأقوياء المحتملين عن خوض السباق، وفي هذه الحالات، لم تُتح للمواطنين المستائين من الأداء إلا فرصة ضئيلة للمعارضة الحقيقية.
(٢-٢) انتخابات مجلس النواب الأمريكي والهيئات التشريعية الولاياتية
«(فير فوت) مركز التصويت والديمقراطية» منظمة غير حكومية ذات توجه إصلاحي هدفها تحسين معدل إقبال الناخبين ونزاهة الانتخابات. وقد ركزت المنظمة التي تمارس نشاطها منذ ١٩٩٢ قدرًا كبيرًا من الاهتمام على سباقات عضوية مجلس النواب، وهو ذلك الفرع من الحكومة الأمريكية الذي صممه الجيل المؤسس ليكون الأقرب إلى الشعب. ويحمل تقرير فير فوت حول انتخابات مجلس النواب عنوانًا لائقًا هو «ديمقراطية مشكوك فيها».
توجد منافسة ضئيلة على مقاعد مجلس النواب. ففي انتخاب تلو آخر على مدى العقود الثلاثة الماضية، بما في ذلك انتخاب سنة ٢٠٠٦، نجح أكثر من ٩٠ في المائة من النواب الحاليين الراغبين في إعادة انتخابهم في مسعاهم. وقليل من أولئك النواب يواجه منافسة خطيرة، وكثير منهم لا يواجه منافسًا بتاتًا، سواء في الانتخاب التمهيدي أو الانتخاب العام. وينتظر المتسابقون الأقوياء المحتملون الذين قد تكون لديهم رغبة في خوض السباق على عضوية مجلس النواب عادة شغور مقعد قبل دخولهم السباق، ونتيجة لذلك يواجه النواب الحاليون متسابقين ضعافًا لا يملكون القدرة على جمع الأموال، ومن ثم لا يستطيعون توصيل رسالتهم إلى جمهور الناخبين.
فلماذا يبدو لنا النواب الحاليون بمنأى عن الهزيمة؟ هناك عوامل كثيرة تساهم في منعة النواب الحاليين، منها قدرتهم على التزلف إلى ناخبيهم، بالدرجة الأولى من خلال العطايا المتاحة لأعضاء مجلس النواب كافة، وقدرتهم على جمع الأموال ولا سيما من جماعات المصالح التي تؤيد مواقفهم، ومهارة من يرسمون حدود الدوائر الانتخابية لمحاباة أحد الحزبين، والتنظيمات الشخصية ومهارات إدارة الحملات الانتخابية التي تُشحذ في أول سباق ناجح لعضوية المجلس وتُصقل في كل انتخاب يليه.
فهل تشكل معدلات إعادة انتخاب النواب الحاليين الكبيرةُ مشكلة، مع العلم أن أعضاء الهيئات التشريعية الولاياتية يُعاد انتخابهم بمثل معدلات إعادة انتخاب النواب الأمريكيين المرتفعة، وأن عددًا أقل بكثير منهم مقارنة بالنواب الأمريكيين يواجه أي منافسة على الإطلاق؟ يجادل البعض بأن المواطنين إذا اهتموا اهتمامًا كافيًا باستبدال النائب الحالي، فسيستبدلونه. ولا ننسَ أن الجمهوريين انتزعوا السيطرة على مجلس النواب سنة ١٩٩٤ بعد عقود من الهيمنة الديمقراطية، متغلبين على أربع وثلاثين نائبًا ديمقراطيًّا حاليًّا ومضيفين أربعًا وخمسين مقعدًا، وآثر ديمقراطيون آخرون كثيرون التقاعد على مواجهة حملات انتخابية صعبة. وفي ٢٠٠٦، تغلب المتسابقون الديمقراطيون على أكثر من عشرين نائبًا جمهوريًّا حاليًّا مع تبدُّل السيطرة الحزبية من جديد.
تلك الأمثلة المضادة مهمة، لكن يجب تمحيصها مع وضع الأمور في نصابها. فالديمقراطية الأمريكية مبنية على الافتراض الأساسي القائل بضرورة امتلاك المواطنين القدرة على التعبير عن تأييدهم سياسات الحكومة أو معارضتهم إياها على فترات متواترة، وبينما يظل مظهر الديمقراطية دون مساس، نجد صعوبة في مباشرة ذلك الحق، ويَصْدق هذا الاستنتاج سواء إذا كنا ننظر على مستوى الدوائر أو على المستوى الوطني.
في ٢٠٠٦، كان الجمهوريون في الكونجرس يترنحون تحت وطأة سلسلة من الفضائح، واستقال زعيم الأغلبية توم ديلاي من منصبه بعد توجيه الاتهام إليه في مسقط رأسه ولاية تكساس، وعلِق هو وكثيرون من زملائه الجمهوريين في أُحبولة جاك أبراموف، العضو البارز بإحدى جماعات الضغط، من مخططات غير قانونية ورِشًا.
ضجَّ الديمقراطيون مطالبين بإصلاح جماعات الضغط والنبذ الجماعي لخصومهم الحزبيين، ساعين إلى الثأر من الجمهوريين لما فعلوه بهم قبل اثنتي عشرة سنة. لكن المشكلة بالنسبة للديمقراطيين كانت فرز المقاعد التي يمكنهم انتزاعها. كان البلد يفضِّل الديمقراطيين على الجمهوريين على المستوى الوطني، لكن كان يتعين على الديمقراطيين المسارعة إلى العثور على عدد كافٍ من الدوائر التنافسية. والسؤال الأساسي عند تحليل انتخاب يملك فيه حزب ما ميزة ملحوظة على المستوى الوطني هو ما إذا كان ذلك الحزب يملك ما يكفي من المتسابقين الأقوياء لتحويل بعض المقاعد (التي في ظاهرها مضمونة بالنسبة لخصومهم) إلى الوضع التنافسي. وفي ٢٠٠٦، تمكن الديمقراطيون من فعل هذا، لكن بالكاد فحسب، حيث اشتمل اكتساحهم على تحويل ما لا يزيد إلا قليلًا عن نصف المقاعد التي حولها الجمهوريون لمصلحتهم في ١٩٩٤. وسوف نعود في الفصل الأخير إلى تمحيص جوانب النظام التي تقيِّد قدرة جمهور الناخبين على التعبير عن آرائهم.
(٣) جودة الحملات الانتخابية
يتفق المنظِّرون الديمقراطيون على مبادئ أساسية للانتخابات النزيهة والفعالة، وهي قدرة أحزاب المعارضة على منافسة مَن هم في السلطة، وامتلاك المتسابقين الحق في التعبير بحرية عن آرائهم، ووجود صحافة حرة قادرة على تغطية العملية الانتخابية، وامتلاك المواطنين الحق في التصويت سرًّا ودون خوف، وإتاحة الحصول على المعلومات التي يحتاج إليها الناخبون للإدلاء بأصواتهم عن اطلاع ودراية.
ويوجد اتفاق أقل على كم المعلومات الضروري كي تخدم العملية الانتخابية الدولة الديمقراطية كما ينبغي. فهل يجب أن يكون جمهور الناخبين مطلعين بحق ويعرفون تفاصيل بدائل السياسات وآراء المتسابقين في تلك البدائل كي يصوتوا بعقلانية؟ أم أنه يكفي الناخبين مجرد معرفة ما إذا كانوا مرتاحين لمن هم في السلطة؟ بمعنى الإجابة على السؤال الذي طرحه بشكل مقنع تمامًا المتسابق آنذاك رونالد ريجان في مناظرته مع الرئيس جيمي كارتر: «هل أنتم أحسن حالًا الآن منكم قبل أربع سنوات؟» يحصل المواطنون على النوع الثاني من المعرفة بالبداهة، فلا يحتاجون إلى جمع معلومات جديدة كي يصوتوا. بالإضافة إلى ذلك، وبفضل انتشار الإنترنت، لا يشك أحد في إمكانية عثور المواطنين المبادرين المهتمين على المعلومات المطلوبة لاستيفاء الاختبار الأول. لكن هناك مواطنين قليلين بمثل تلك المبادرة أو ذلك الاهتمام.
عندئذ يصبح السؤال ما إذا كان هناك مقدار كافٍ من المعلومات ذات الصلة يصل إلى المواطن العادي من خلال الحملات السياسية والوسائل الإعلامية في الانتخابات القليلة التي تتسم بالتنافسية في يومنا هذا. يزعم النقاد أن هذا لا يحدث، حيث يتجنب المتسابقون المواضع الجوهرية بأي ثمن؛ لأن كل موقف يتخذه المرء تجاه قضية جدلية يكسبه أعداء بقدر ما يكسبه أصدقاء. وتشمل أشد الأساليب فعاليةً التي يطورها الاستشاريون السياسيون الدعايةَ الانتخابية السلبية، وأقصد السيطرة على الأجندة بالتركيز على القضايا أو المسائل الشخصية التي تمثل صعوبة للخصم.
يحصل معظم المواطنين على معلوماتهم السياسية من التليفزيون، ونادرًا ما يركز الصحفيون التليفزيونيون على السياسات الجوهرية في المقدار الضئيل من التغطية الذي يعطونه أي حملة غير رئاسية. وغالبًا ما تتسم تغطية الحملات المحلية، حتى الأشد تنافسية منها، بالسطحية إلى حد يجعلها عديمة المعنى. وتؤدي الصحف عملًا أفضل نوعًا ما، لكنها هي أيضًا نادرًا ما تركز على الحملات الانتخابية الولاياتية والمحلية. وعندما تغطي وسائل الإعلام الحملات الانتخابية، تميل إلى التركيز على ما هو قادم وما الاستراتيجية الجاري اتباعها لا على الاختلافات في السياسات بين المتسابقين أو الفوارق بين مؤهلاتهم.
ووسائل الإعلام مطلوب منها تغطية العدد نفسه من الحملات. فأنَّى لها أن تفعل ذلك كما ينبغي؟ ومن سيشاهد؟ فمواردها محدودة، واهتمام المشاهدين منخفض. ولا ريب أن تغطية الحملات كخدمة عامة جزء من مسئولية وسائل الإعلام الجماهيري، لكن قليلًا منها ما يتجاوز الحد الأدنى المفروض، لا سيما وهي تعمل في ظل تكاليف اقتصادية محسوبة.
يسعى المتسابقون إلى الفوز. والمتسابقون واستشاريوهم السياسيون لا يديرون حملات انتخابية سلبية لأنهم أشرار بطبيعتهم، بل يفعلون ذلك لأن التجربة أثبتت نجاح مثل هذه الحملات. والإعلانات التليفزيونية البارعة تأسر اهتمام الجمهور أكثر مما يفعل مذيع أو متحدث تليفزيوني ثرثار. ويوجد خط دقيق يفصل بين الإعلانات المقارنة التي تقابل بين سجل أحد المتسابقين أو السياسات التي يفضلها وبين سجل منافسه أو تفضيلاته من ناحية، وبين الإعلانات السلبية التي تهاجم أحد الخصوم هجومًا جائرًا من ناحية أخرى، وهذا الخط مكانه غالبًا في عين الرائي. وما تراه إحدى الحملات كإعلان مقارن فكاهي — وهو بكل تأكيد نقدي لكنه في الحدود — تراه الأخرى متجاوزًا للحد. وفي نهاية المطاف، المواطن هو الحكم، واستشاريو الحملات الانتخابية واثقون أن اختبار المواطن، لا اختبار نقاد الحملة، هو الوحيد الذي يرصدونه.
إذا لم يكن أي من المشاركين مسئول عن الافتقار إلى المواد الجوهرية في الحملات الانتخابية الأمريكية، فأين مكمن المسئولية؟ إلى حدٍّ ما، هي متأصلة في النظام. فالنظام الأمريكي، بما يشتمل عليه من دوائر أحادية العضوية وأحزاب ضعيفة ومؤسسات حكومية منعزلة، يؤدي بشكل شبه حتمي إلى حملات تقوم على الصورة لا الجوهر. فالمواطنون يستطيعون معرفة ممثليهم، لكنهم لا يستطيعون مساءلتهم؛ لأن السلطة مشتتة. وتستطيع الأحزاب اتخاذ مواقف تجاه القضايا، لكن المتسابقين الأفراد يمكنهم تجاهل تلك المواقف كما يشاءون؛ لأن دوائرهم — لا القيادات الحزبية الوطنية ولا حتى الولاياتية — هي التي تتحكم في مصائرهم.
(٤) ملخص
هناك عاملان يلعبان دورًا في تقرير نتائج الانتخابات دون مستوى الرئاسة. فمن ناحية، ينظر المحللون إلى الاتجاهات الوطنية. كيف ينظر جمهور الناخبين إلى الحزب المتولي السلطة؟ وأي الحزبين يشعر الناخبون أنه أقدر على معالجة أبرز القضايا؟ وهل يحظى الرئيس بشعبية؟ وهل يشعر المواطنون أن البلد يُسيَّر في الاتجاه الصحيح؟ فإذا كان الناخبون راضين عن اتجاه البلد، مؤيدين لرئيسهم، مرتاحين للحزب المتولي السلطة، فلن يتغير الكثير نتيجة أي انتخاب يُجرى، وسيبقى الوضع الراهن، وسيكون هذا الوضع انعكاسًا دقيقًا للإرادة الشعبية. وإذا لم يكن الناخبون راضين عن الاتجاه الذي يَسير فيه البلد، مستائين من أداء رئيسهم، ضائقًا صدرهم بالحزب المتولي السلطة، فالنظرية الديمقراطية تقول إنه ينبغي أن يكون بمقدورهم أن يستبدلوا بمن هم في السلطة آخرين يُفترض أنهم سيستجيبون لرغباتهم. هذا في جوهره ما حدث في انتخاب ١٩٩٤ حين حل الجمهوريون محل الديمقراطيين كحزب الأغلبية في الكونجرس، وفي ٢٠٠٦ حين استعاد الديمقراطيون السيطرة.
من ناحية أخرى، المحللون على دراية بمقولة قديمة غالبًا ما تُنسب إلى رئيس مجلس النواب ونائب ماساتشوستس السابق توماس بي «تيب» أونيل: «السياسة كلها محلية». فمن هم في المنصب يلبون الحاجات اليومية لأبناء دوائرهم، وغالبًا ما يكون ذلك بطرق مستقلة تمامًا عن السياسة الوطنية، ونتيجة لذلك ينظر إليهم من يمثلونهم في معظم الأحوال بعين الرضا. وهذه الانطباعات الإيجابية، مقترنة بالموارد الانتخابية الكبيرة التي يستطيع شاغل المنصب تكديسها، تصعِّب بشدة الإطاحة بشاغلي المناصب من كراسيهم، حتى التابعين لحزب لا يحظى بشعبية منهم. ويدرك المنافسون المحتملون أنهم يستهلون السباق وهم في وضع غير متكافئ مع شاغلي المنصب، ومن ثم تكافح الأحزاب السياسية لإيجاد منافسين رفيعي المكانة.
إن أي تقييم للعملية الانتخابية الأمريكية يجب أن يتناول المفارقة المتمثلة في أن الناخبين ينظرون بعين الرضا إلى الممثلين المحليين للحزب المتولي السلطة، بينما ينظر هؤلاء الناخبون أنفُسهم إلى ذلك الحزب نفسه — على المستوى الوطني أو الولاياتي — بعين الغضب. ولا يمكن التعبير عن الإرادة الشعبية على المستوى الكلي إذا كانت أصوات المواطنين في الانتخابات المحلية لا تعكس آراءهم في القضايا الوطنية أو الولاياتية في مراكز الاقتراع. ويتمثل دور الأحزاب السياسية في الديمقراطية الأمريكية في ضمان استقطابها منافسين للمسئولين شاغلي المناصب ومتسابقين على المقاعد الشاغرة يمكنهم إدارة حملات انتخابية تسمح بالتعبير عن الاتجاهات الوطنية القوية في الانتخابات المحلية. وتتسم معظم الانتخابات الولاياتية والمحلية في الولايات المتحدة بعدم التنافسية. ولكي تؤدي الديمقراطية الأمريكية وظائفها بفعالية، فمهمة الأحزاب أن تضمن أن يكون عدد كافٍ من الانتخابات تنافسيًّا بحيث يمكن أن تعكس النتيجة الوطنية أو الولاياتية الإرادة الشعبية.