حتى الأشجار تقاتل
وأنا أتلقَّى الدرس الكبير من الطبيعة كنت لا أكاد أصدِّقه، أحيانًا يُخيَّل إليَّ أن بساطًا سحريًّا نقلني في الأحلام إلى قلب الغابة، وأحيانًا يُخيَّل لي — رغم واقعية كل شيء ومعقوليته تمامًا — أن الروعة أكبر من أن تكون حقيقة؛ فهو لم يكن جميلًا فحسبُ، كان مروِّعًا موقِظًا مستفزًّا.
«السقوط» هكذا سمَّوه، وهكذا راحوا يتحدثون عنه ببساطة وكأنها مسألة جوٍّ أو وقت، وأنا من فرط الروعة أحس أني وحدي المنفعل المبهور المتوجس. السقوط، الغابة بأشجارها العالية المشرئبة في استقامةٍ وتحدٍّ نحو الفضاء، أعواد السنديان مستقيمة كالمسطرة «سرحة» كالبالرينا النحيلة اليافعة، ثم السقوط.
قالوا: غدًا، يوم أول الشهر، سيبدأ السقوط.
وأخذتها ككل الكلام ببساطة أو بلا تصديق حقيقي لما يقولون، ولكن الساعة الكونية البالغة الدقة، كما دقت أول يوم في الشهر في ميعاده تمامًا، وبدأ الخريف في نفس اليوم بالضبط، منذ أوائل ساعات الصباح الأولى بدأت أوراق الأشجار الكثيفة الخضراء تشحب، وفي اليوم التالي بدأت تَصفرُّ وتَصفرُّ، ثم بدأت تتساقط، والأرض تلك التي كانت جرداء عارية إلا من أعشابها التقليدية بدأت تستقبل الورق الساقط، آلاف، وملايين الأوراق تفرش الأرض، وتهبُّ الريح فتدفعها موَشْوِشة وتتطاير بها أدراج الرياح. وفي أسبوع واحد كانت كل الأوراق قد تساقطت تمامًا من فوق الأشجار، وأصبحت كل شجرة ليست سوى الساق الرفيعة الطويلة ذات الأفرع الصغيرة، واقفةً جرداء غريبةً كثيرةً كجماعة نسوة كبيرة محلوقات الشعر.
عجبت للسرعة التي تمت بها العملية والدقة والشمولية.
من أين أخذت الأشجار الأمر؟ وكيف نفَّذته كلٌّ منها في نفس الوقت واللحظة؟
ومَن قال لماء الحياة أن يجفَّ في الورقة إلى أن تسقط وحدها ومن تلقاء نفسها ميتة؟ أهو الجوُّ قد أعطى الأمر؟ لم يكن الجوُّ تغيَّر كثيرًا. إنه نفس جوِّ الأسبوع السابق. فكيف ومن أين نبعت هذه الدقة الغريبة، هذا الخضوع المطلق لخاصية التغير؟ لم يكن الجو قد تغيَّر أبدًا، ففيمَ هذا التعري من الأوراق؟ وفيمَ الوقوف هكذا جرداء كأنها قد تحولت إلى جماد؟
أسئلة سرعان ما أجابت عليها الطبيعة ذاتها، فبعد عشرة أيام تمامًا بدأ جو ضواحي موسكو يتغير وينخفض، وكأنما بأمرٍ كونيٍّ آخر إلى ١٠ ثم ٥ ثم الصفر.
كانت الأشجار إذن تستعد لمقدم الخريف ثم الشتاء، وكانت تعرف أن المعركة التي عليها أن تخوضها معركة رهيبة ضد البرد الهالك. ضد الثلج الذي بدأ يتساقط. كانت تعرف أنها معركة حياة أو موت، وأن عليها أن تستعد لها بحيث لا تترك ثقب إبرة لنقطة ضعف. كان عليها أن تتخلص من حملها الضخم من الأوراق الذي يُعرِّضها لأكبر جرعة من البرد. وهكذا لم تتعرَّ حسبما تصورت، إنما انكمشت روح الحياة فيها إلى أقصى قدر وبحيث تستحيل الجذوع والفروع إلى ما يشبه الأسلاك الخشبية الميتة وما هي بميتة، إنما هي آخذةٌ وضع الاستعداد، وضع الميدان؛ فالحرب الرهيبة ضد الشتاء مقبلة ولا مكان للهزل، فإما دفاع عن كُنْهِ الحياة فيها إلى آخر رمق، وإما الفناء والموت.
وقفت وسط الغابة الساكنة الصامتة صمتًا مريبًا صمت الجد، صمت المعركة الخفية الدائرة، والثلج يغمر الأرض بعدما كانت تغمرها الأوراق، وآلاف الجنود الشجرية سامقة، عالية، مهيبة، تدافع عن نفسها ضد جوٍّ أصبح تحت الصفر، صامدة في بطولة، قد تخلصت من كل معوقات المعركة وكست نفسها بزي الحرب الكابي وأخذت تقاتل، وبعنفٍ مستميت بطوليٍّ تقاوم، أبدًا لن ينتصر الشتاء، ورغم الثلج وبرودة الثلاثين تحت الصفر ستبقى، فما وُجِدَت وما زُرِعَت إلا لتبقى، وليكن بقاؤها بمعركة، ولتكن المعركة رهيبةً أو مفجعة، فلا بد أن تقاتل؛ فالشتاء طويل لن يرحم، ولا شيء في كل ما يدور بالحياة وتدور به الحياة لا يكون إلا بمعركة، ولا معركة إلا بقتال، وأن تبقى مقاتلًا أو تقاتل لتبقى هو القانون. وقفت وسط الغابة مسحورًا ببطولة الشجر، ببطولة الحياة البكماء الصماء العمياء وهي تدافع عن وجودها، وآلاف الأحاسيس تتنازعني؛ أوَّلُها وأضخمها إحساسي العارم أنَّ أحطَّ أنواع الحياة بكل صَمَمِها وبَكَمها وعماها هكذا بالسليقة، وبحكم كونها حياة ما وُجِدَت إلا لتقاوِم، ومن أول لحظة وجودها تقاوِم.
تقاوِم قانون الجاذبية الأرضية وتتحداه لتنمو مستقيمةً باسقةً إلى أعلى، تقاوم الريح بالجذع المتين الملفوف، تقاوم الشتاء بكل ما تملكه من أسلحة ضد الشتاء؛ وأولها خلع أردية الصيف الملوَّنة الجذابة، وتوديع أيام الدلال فيها، وارتداء زي الميدان ثم الصمود، والصمود مهما حدث.
كان خليقًا بي — وأنا أرى الأشجار عاريةً جرداء فوق سطحٍ أرضيٍّ شاسع أبيض مخيف — أن أحسَّ بالوحشة والضياع، ولكني لم أفعل، بالعكس أحسست — رغم البرودة الصارخة — بدفء الإحساس بالحياة. ولا شيء يجعلك تؤمن بالحياة وتتدفأ بإيمانك هذا قدر مشاهدتك لها وهي تقاوم عناصر فنائها أعنف وأخلد مقاومة. بالعكس أحسست بالغابة المتجردة جميلة جمالًا لا حدَّ له، يا للروعة، جمال المقاومة! يا لمنظرها المبهر صفوفًا من الشجر وراء صفوف تَسخر بالشتاء من الشتاء، ومتأكدة أنها المنتصرة حتمًا، وأنها هي الباقية، وأنه هو الذي لن يلبث أن يزول، وستحضر حتمًا مقدم الربيع، وحينئذٍ — وحينئذٍ فقط — تبدأ تطلق أوراقها الجديدة، وتشيع ألوانها الزاهية، وتغنِّي الغابة وتتراقص مع النسمات. ولكن كل ذلك لا يكون الآن؛ فالآن، فاليوم أمر، أمر ذلك الشتاء الموحش الزاحف المخيف، لو تراجعت أمامه خطوة لهلكت، لتأجَّل ربيعها إلى الأبد.