مخدر المدينة
قضيت بعض أيام الأسبوعين الماضيين في الفيوم مع فاتن حمامة وبركات ومنير رفلة وضياء ومجموعة من الفنانين والفنيين الذين كانوا يصورون فيلم «الحرام». والحقيقة أن التجربة استغرقتني تمامًا؛ فلقد اتبع الفنان بركات طريقة فريدة في تصوير الفيلم؛ إذ جعل الفلاحين أنفسهم على هيئة «ترحيلة» يمثلون دور «الترحيلة» في القصة، والنتيجة مذهلة لكلِّ مَن رآها؛ فبعض الناس يعتقدون أن الفلاحين مثلًا أناس لا يمكن أن تكون بينهم وبين الفنون — وخاصةً التمثيل — صلة؛ باعتبار أن الفنون المتطورة نبعت واشتهر بها المتعلِّمون أهل المدن، ولكنا وجدنا في الفلاحين مادةً خامًا غنيةً غنًى لا يتصوره العقل، باستطاعة اليد الماهرة أن تشكِّلها وتُخرج منها عملًا فنيًّا معجزًا.
ورغم أنني كان يجب أن أنصرف بكُلِّيتي إلى التصوير والقصة وما كانت تقوم به المجموعة من عملٍ شاقٍّ رهيب، إلا أني وجدت اهتمامي كله ينصرف إلى عمال الترحيلة الذين أحضرهم منير رفلة ليقوموا بدور الترحيلة؛ أي القيام بالدور الخالد الوحيد الذي ظلُّوا يلعبونه مئات السنين وآلافها.
استغرقتني تمامًا حياة هؤلاء الناس التي صادفتها بلا وعيٍ وأنا طفل، واليوم أشهدها بكل وعيي وإدراكي وانتباهي.
ولقد خرجت من استغراق في تأمل حياة الناس بأن أعتقد أننا في القاهرة نحيا تحت تأثير مخدر قوي اسمه المدينة، بعماراتها وعرباتها وشوارعها الفسيحة ومتنزهاتها ومسارحها وسينماتها، والمواطنين الأنيقين النظيفين الذين يَحيون فيها، والذين يستنكفون أن يدخنوا السيجارة مثلًا إذا سقطت منهم على الأرض. إن هذه المناظر التي تُطالعنا صباح مساء تُنسينا أحيانًا بل دائمًا ما تنسينا أننا شعب من الفلاحين، وأن الوجه الحقيقي لهذا الشعب ليس هو الوجه القاهري المطليُّ بالألوان والدوكو، وإنما الوجه الحقيقي هو ذلك الشاحب المليء بالحُفَر والحبوب، الأصفر بالنقص في التغذية، ذلك الذي يطالعنا إذا تحرَّكنا بضعة كيلو مترات مبتعدين عن القاهرة.
هناك نرى أنفسنا وبلادنا على حقيقتها. هناك لا خداع. هناك أدركت أننا برغم كل ما صُغناه وقمنا به من أعمال مجيدة خلال الثورة لم نستطع أن نغيِّر كثيرًا من صورة مجتمع القرية؛ فالفقر هناك لا تزال له الغلبة ولا يزال هو القاعدة المُخيفة التي لا بد يقشعرُّ لها جسدك.
هناك حيث الملابس مُهرأة، والوجوه ذابلة كوجوه الموتى المحنَّطة التي امتصَّت منها القوة القاهرة كل ماء الحياة ونضرتها.
هناك حيث وقفت سيدة أمريكية كانت تحضر التصوير وقالت — والألم يلوي ملامحها: «أقسم أنكم لكم الحق أن تفعلوا أي شيء في سبيل أن تخلِّصوا هؤلاء الناس من هذه الحياة المرعبة — وإن حاربتم إلى آخر رجل — كي يستطيع هؤلاء الناس أن يَحيوا الحدَّ الأدنى من الحياة الجديرة بالإنسان. إن هذا الفقر لا يعيبكم؛ فأنتم لم تصنعوه وإنما ورثتموه، ولكنه بالتأكيد يعيب العالم المتحضِّر كله؛ يعيب القوى التي تقف ضدكم، ومنها للأسف بلادي التي تريد أن تمنع الطعام والملبس والمستقبل عن هؤلاء الناس. أرجوكم افعلوا أيَّ شيء وكلَّ شيء؛ قاتلوا، حاربوا الاستعمار، أوقفوا هذا، لا تجعلوه يستمر، أوقفوه.»
ولم أحسَّ أبدًا — مثلما تحس بعض الجهات المعنية بالأجانب عندنا — بالخجل؛ لأن هذه السيدة الأمريكية قد اطلعت على صورة حقيقية لحياة فلاحينا؛ بالعكس أحسست أن الصدق قد كسب لنا مُنصِفةً وداعيةً وصَديقة. أحسست أن خير ما نستطيع أن نفعله لشرح وجهة نظرنا للآخرين هو أن نُري الآخرين إلى أي درك هبطت الحياة بشعبنا تحت وطأة الاحتلال الأجنبي والاستعمار والاستغلال. إن هؤلاء الناس الذين يكتبون للجرائد وفي الجرائد أحيانًا، ويطلبون أن نُخفي ما يسمونه بالمناظر المؤذية عن عيون السياح والضيوف يملئونني بالغيظ؛ فليس في وجود الفقر ما يُخجل؛ فهو فقرٌ — على رأي السيدة الأمريكية — لم نصنعه وإنما ورثناه، وهو قضيتنا ومبرِّرنا العادل ليس فقط لقيام ثورتنا وإنما لكلِّ ما تتخذه ثورتنا من خطوات.
وليس الأجانب فقط وإنما نحن أنفسنا؛ نحن الذين كثيرًا ما يُنسينا الوجه المشرق لمُدننا وعواصمنا ذلك الوجه المظلم الآخر، ذلك الذي تُخدِّرنا المدينة عن رؤيته وتُفقدنا القدرة على تذكُّره، وتُنسينا أن الثورة لم تقُم لتوزيع اللحم أو الأرباح على الناس، وإنما قامت أولًا وأساسًا للقضاء عليه، فهو أخطر وأشر الأعداء.