كتاب جيد
ثلاث ساعات متصلة قضيتها أحيا محمومًا في عالمٍ غريبٍ ساحِرٍ من صنع كاتب عملاق في رأيي، وإن كان بعض الناس يضنُّون على جيلنا الحديث أن تظهر فيه العمالقة. الكتاب اسمه «سلامة موسى وعصر القلق» والكاتب هو فتحي خليل. ولقد أتيح لي قبلًا أن أعرف فتحي خليل الشاعر وفتحي خليل المفكر الملتزم؛ وتلك كانت أول مرة يتاح لي فيها أن أعرف فتحي خليل المؤرخ. ولقد كنت أعتقد دائمًا أن أسوأ ما في التاريخ هو طريقة كتابته، ولا أزال إلى الآن أعاني من عقدة التاريخ كما درسناه في الكتب المقررة؛ في حين أن كتابة التاريخ من الممكن، لا أن تصبح فنًّا فقط، وإنما تتحول — بالنظرة المفتوحة المدرَّبة — إلى أعمالٍ أقرب إلى النفس من الروايات، وأكثر حياة ونبضًا من الأفلام والمسرحيات، ولها كل سحر القصص والحواديت.
وسلامة موسى مفكر، والقضية قضيةٌ فكرية وثورية من السهل أن يستحيل علاجها إلى جرعة دواءٍ جادٍّ مرٍّ لا أثر للمتعة فيه.
ولكني — في هذا الكتاب — ظللت أقرأ مبهور الأنفاس، وكأني أتتبَّع أحداث قصة بوليسية مثيرة. وفتحي خليل بفنٍّ عظيم وجهد وتمكُّن يرسم لي لوحةً بانوراميةً هائلةً لعصرٍ بأكمله، لوحة عامرة بالتفاصيل الدقيقة، لا تُغفِل حتى الشعيرات، ولا يُفلِت من راسمها المُحنك خط الأساس؛ لوحة من كثرة ما تحس بصدقها تتصور أنها خيال، ولشدَّة ما استُعْمِلَ الخيال في تصورها تؤمن أنها لا بد الحقيقة.
لقد قرأت معظم مؤلفات سلامة موسى وقرأت الكثير عن عصره. والتاريخ قريب، ولكني أشهد أني لأول مرة — وبفضل كتاب فتحي خليل — استطعت أن أُدرِك بالضبط مكانة سلامة موسى من عصره، ومكانة ذلك العصر من نفوسنا نحن، ومن الصراع الفكري العقائدي الذي امتد من يومها إلى يومنا هذا.
إنه كتاب صغير الحجم حقيقةً لم يستطع أن يتناول الموضوع كله، ولكنه أعاد لي ثقتي ورأيي في الكتاب؛ فالكتاب هو — كما يقول الأستاذ كامل الشناوي: ذلك الشيء الذي تقرؤه فتحس أنك لست نفس الشخص الذي كُنْتَه قبل قراءته، وإنما تغيرت فآمنت بشيء لم تكن تؤمن به، أو تخلَّيت عن إيمانٍ مترسِّب فيك. الكتاب الذي يذكِّرني دائمًا بوظيفة الجامعة وأساتذة الجامعة ودور الجامعة كمنبرٍ للفكر ومنارٍ للثورة العميقة. فليس عمل أساتذة الجامعة هو إضاعة الوقت في كتابة المقالات للجرائد والمجلات، وإنما عملهم الأساسي أن يؤلِّفوا الكتب، أن يطلقوا المدفعيات البعيدة المدى، أن يبنوا صناعتنا الفكرية والثقافية الثقيلة، وهو بالضبط نفس العمل الذي يقوم به كتاب ككتاب «سلامة موسى وعصر القلق»؛ فمنه تستطيع أن تتعرف بيقين على أرض الصراع التي نقف عليها اليوم. منه ترى أن السيقان الحالية والثمار لها جذور، والجذور ممتدة إلى أعماق، وأننا لن نعرف أنفسنا ولن نعرف حتى ما نريده إلا إذا كشفنا واكتشفنا تلك الأعماق والجذور، وهذا هو دور المؤرخ الذي لا يكتفي بسرد الحوادث ورصد الأحداث؛ وإنما دوره أن يخرج من دراسته للتاريخ بوجهة نظر، وعلى أساسها ومن خلالها يقدم لنا وجهة نظره التاريخية تلك في صورة نابضة متكاملة حية كما فعل فتحي خليل.
لَكَمْ تمنيت أن أكون ناقدًا لأوفِّيَ ذلك الكتاب حقَّه، ولكني دائمًا وأبدًا لا أتخيَّر أمام الكتاب الحقِّ دورَ الناقد أو حتى دور الكاتب؛ دائمًا ببساطة وتلقائية أتخيَّر دور القارئ؛ إذ هو أحب الأدوار إلى نفسي. وإذا كانت الكتابة متعةً فأمتَعُ شيء عندي هو القراءة، وأمتعُ ما في القراءة أن تعثر على كتابٍ جيِّد.
ولقد اعتبرت نفسي محظوظًا إذ عثرت هذا الأسبوع على كتاب فتحي خليل «سلامة موسى وعصر القلق».