من برلين إلى بلغراد
اعترف لي أحدهم — وكأنه يُدلِي بسرٍّ خطير — أنه لم يهضم أبدًا تلك الضجة الكبرى التي سبقت وصاحبت وها هي تعقب مؤتمر بلغراد، متسائلًا — بيني وبين نفسي — أيضًا عن الأهمية غير العادية لمؤتمر كهذا، الأهمية التي تبرِّر مثل تلك الضجة، وتستحق كل هذه «المانشتات» من الجرائد، وكل تلك الكتابات في الصحف.
ولا يسارع أحد ويكيل الاتهامات لمثل ذلك الشخص؛ فلا زلت أعتقد أنه حسن النية، ولا زلت أرى أن كثيرين من حَسني النوايا هؤلاء يفشلون أحيانًا كثيرة في الإحاطة بأحداث كثيرة هامة تقع على مرمى الأبصار والأسماع منهم، ويقصرون عن تبيُّنها؛ فمصاحبة الأحداث الكبرى شيء، وإدراك كنهها ومغزاها شيء آخر.
أحيانًا لا بد من مُضي وقت، لا بد من إضافة عنصر الزمن إلى الحادث لكي نتعرف على قيمته الحقيقية ونراه من جميع جوانبه، ونراه بعيونٍ خَلَت من العواطف الشخصية والوقتية.
ولنأخذ مؤتمر بلغراد كمثل. إنه ليس مؤتمرًا كغيره من المؤتمرات انعقد وانفضَّ واتخذ قرارات. إنه مرحلة، وتتويج لمرحلة، لكي نتبيَّنها على حقيقتها لا بد أن نقارن بينه وبين مؤتمر أو مؤتمرات أخرى عُقِدَت في أوروبا أيضًا منذ سبعين أو ثمانين عامًا فقط؛ لنرى من كان يعقد هذه المؤتمرات، ومن أجل ماذا كانت تنعقد.
في سنة ١٨٨٤ وبعد توحيد ألمانيا وهزيمة فرنسا وتأديبها، دعا بسمارك عاهل ألمانيا الموحدة الدول الأوروبية كلها ما عدا سويسرا إلى مؤتمرٍ يُعْقَد في برلين من أجل «تنظيم الاستيلاء على المناطق الجديدة في أفريقيا». بوجه أصح وأكثر دقةً دعا إلى مؤتمر ينعقد لأجل الاتفاق على الاستعمار الأوروبي الجماعي لأفريقيا، ولقد انعقد المؤتمر فعلًا في الفترة ما بين ١٥ نوفمبر ١٨٨٤ إلى ٣ يناير ١٨٨٥، وحضرته الدول الأوروبية، وحضره أيضًا ممثل عن الولايات المتحدة الأمريكية. ولأن الاستعمار كان دائمًا يرفع أعلامًا خفاقة من الشعارات الإنسانية لتبرير غزواته وتدخُّله؛ فقد نصَّ القرار الأول للمؤتمر على أهمية رسالة التبشير المسيحية بالنسبة إلى سكان أفريقيا «الهمج»، وتحريم الرِّقِّ «لتوفير الأيدي العاملة أولًا في المستعمرات»، ثم ناقش المؤتمر أيضًا في تفصيلات كثيرة: تنظيم طريقة إعلان الحماية، والاستيلاء على مناطق جديدة في أفريقيا، ووضع شروط إعلان الحماية والضم، وحدَّد لذلك شرطين أساسيين: أولهما ضرورة رفع علم الدولة على المنطقة، وثانيهما ضرورة إخطار دول مؤتمر برلين. وبهذين الشرطين فقط يصبح احتلال أيٍّ من الدول الأوروبية لأية منطقة في القارة الأفريقية قانونيًّا ومعترفًا به دوليًّا. ولم يفُتِ المؤتمر أيضًا أن يتخذ قرارات تخدم حرية «التجارة»، وتنص على عدم التفريق أو التمييز بين الدول الأوروبية في هذا المجال.
وقبل مؤتمر برلين، أو بعده، لا أذكر، انعقد مؤتمرٌ آخر من الدول الغربية لتقسيم مناطق النفوذ في الصين.
كانت المؤتمرات تُعْقَد إذن لتقسيمنا وتنظيم استعمارنا والاتفاق على الخطوات اللازمة لبسط سلطان الدول الأوروبية الاستعمارية على بلاد آسيا وأفريقيا. وقد نجحت تلك المؤتمرات فيما أرادته، وبالوحشية والقسر حينًا؛ بحرق القرى، بالشنق، بالإعدام رميًا بالرصاص، بالتنكيل والإرهاب والعسف؛ كان لأوروبا الاستعمارية ما أرادت، وتمَّ لها تقسيم الصين، واستعمار الملايو وإندونيسيا وإخضاع الشرق الأقصى، وكذلك تمَّ لها احتلال أفريقيا واستعبادها.
حدث هذا في القرن التاسع عشر.
واليوم وفي النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى التحديد ونحن في الثامن والعشرين من شهر أغسطس سنة ١٩٦١، ها هو مؤتمر في بلغراد الأوروبية ينعقد، وممن؟ من نفس البلاد التي اعتبرتها أوروبا الاستعمارية مساحات شاسعة من المواد الخام والأرض، يكفي أن ترفع إحدى الدول علمها عليها لكي تصبح مِلْكًا خالصًا لها دون نظر أو اعتبار إلى أهل تلك المناطق وشعوبها وما يريدون. حسن جدًّا! بعد قرنٍ من الزمان استطاع هؤلاء الناس — بالكفاح والتضحية والدم والبذل — أن يرفعوا عن آسيا ومعظم أفريقيا الأعلام اللصة الكاذبة، وأن يضعوا أعلامهم هم ويستعيدوا حقهم في الأرض والحياة. اجتمعت تلك الدول في بلغراد لا لتقرر تقسيم أوروبا وتنظيم استعمارها، لا لتقهر وتطغى وتتجبر، وإنما اجتمعت — ويا للمصادفات! — لكي تناقش السلام العالمي وتفرضه. وبالذات الخطر الساحق الذي يهدده في برلين — عاصمة بسمارك — الرجل الذي دعا أوروبا ذات يوم على مائدة تلتهم فيها أرض أفريقيا وشعوبها.
ولا تنبع خطورة مؤتمر بلغراد من هذه المقارنة التاريخية التي يكفي نظرة واحدة إليها لتدلَّ على طول الشوط الذي قطعته شعوب آسيا وأفريقيا، وعلى نُبل الرسالة التي تعلَّمتها خلال كفاحها الشاقِّ من أجل الحرية، والتي اجتمعت اليوم كي تكافح من أجل فرضها: رسالة السلام والأمن العالميين.
خطورة المؤتمر تنبع في الحقيقة من كونه مرحلةً أرقى من مراحل الكفاح الوطني، ليس في آسيا وأفريقيا وحدهما ولكن في العالم أجمع؛ خطورته أنه يجيء ليُبيِّن أن مشكلة التحرر والاستقلال لم تعُد مشكلةً خاصة بين الدول المستعمِرة والشعب المستعمَر، ولكنها أساسًا المشكلة القائمة بين الاستعمار بكل دوله وأشكاله وبين الشعوب الراسفة في أغلاله أو التي حطمتها، ولكن خطر العودة لا يزال ماثلًا أمامها. هو مؤتمر دول غير منحازة ولكنها دول ملتزمة، وجاءت لتلتزم بميثاق تتكاتف فيه وتتضامن وتتعاون ضد كل أعداء السلام والحرية وأنصار التبعية.
خطورته أنه من خلاله أدركت الشعوب والحكومات المستقلة والحديثةُ الاستقلالِ والظامئة إليه، أن عليها واجباتٍ وتبعاتٍ تجاه بعضها البعض وتجاه الإنسانية جمعاء.
خطورته أنه جاء ليطوِّر الكفاح الوطني في العالم وينقله إلى مرحلة أقوى وأرقى، مرحلة التزام غير المنحازين؛ مرحلة ألَّا يكفي لكي يتحرر الشعب أن يتحرر وحده، وإنما عليه — لكي يظل محتفظًا بالحرية — أن يساعد كل شعب مستعمَر وبكلِّ وسيلةٍ على التحرر؛ مرحلة تضامن الأحرار العاملين من أجل الحرية داخل إطارٍ غير منحاز؛ غير منحاز بالنسبة إلى الكتلتين المتصارعتين، ولكنه منحاز وملتزم ومتضامن بالنسبة إلى قضية الكفاح الوطني في كل مكان.
وكما تتحدد أخلاق الشخص من خلال الهدف والقضية التي يعمل من أجلها، وكما حدد دور أوروبا القرن التاسع عشر الاستعماري، التوحش والإجرام والقهر وسيلةً لأداء ذلك الدور لبلوغ الهدف، فلم يكن من الممكن أبدًا أن تجتمع دول بلغراد لتتبنى قضية كبرى كهذه دون أن تنبع من هذه القضية أنبل وأصدق الأهداف الإنسانية، ولم يكن تدخُّلها في برلين من أجل مصلحة ذاتية أو اتفاقات من أمثال اتفاقيات ١٩٠٤ بين فرنسا وإنجلترا على إطلاق اليد هنا نظير إطلاق اليد هناك. لقد دخلت دول بلغراد هذه المرة لتفرض السلام كضرورة وكقيمة إنسانية وليس كمصلحة أو كتكتيل، وطالبت بإيقاف سباق التسلح ونزع السلاح وإيقاف التجارب النووية كمبدأ أيضًا وليس وسيلة مساومة أو كسب للوقت. لقد جاءت الدول التي خاضت غمار أشرف معركة، معركة التحرر الوطني لتفرض على أوروبا والعالم قيمًا إنسانية عُلْيا بشَّرت بها واكتسبتها خلال كفاحها البطولي العظيم. لقد كانت خريطة العالم قبل بلغراد موزعةً كالآتي: كتلتان هائلتا القوة تتصارعان، دولة مستقلة وحديثة الاستقلال ومكافحة من أجل الاستقلال تُتَّخذ كوقود للحرب الباردة، وتُسْتَعْمَل كمخالب أحيانًا، وأحيانًا لا يُنْظَر إليها بأي اعتبار.
وتكفَّل مؤتمر بلغراد بتغيير الخريطة جذريًّا؛ فلقد أوجد للسلام العالمي وللتحرر الوطني وللعدالة قوة؛ قوة الحركة الوطنية العالمية حين اكتشفت نفسها والتفَّت ونقلت الكفاح الوطني من مرحلته ذات الطرفين إلى مراحل الجبهة المتماسكة التي تحارب الاستعمار أنَّى وُجِدَ، وتحاربه معًا وبكل ما تملك من سلاح، وتحارب التدخل أنَّى وُجِدَ.
قوة التحرر الوطني والسلام العالمي أصبحت ببلغراد دعوةً عالميةً لها جنودها والعاملون حتى الموت من أجلها.
ومن هنا تنبع الخطورة الحقيقية، وترتسم الصورة الصادقة لمؤتمر بلغراد.