إلى اليسار الطيب
قصة اليسار العربي قصة طويلة حافلة؛ إن كلمة اليسار نفسها كلمة مطاطة اخترعها المثقفون الفرنسيون. ولا أعرف لماذا أجدها دائمًا ثقيلة على لساني وقلمي، وعذري الوحيد لاستعمالها أنها شاعت وانتشرت بفضل بعض دعاتها عندنا ممن يحلو لهم دائمًا أن يتفاخروا باستعمال نفس التعبيرات التي يستعملها المثقفون في باريس ولندن. كلمة مطاطة من الممكن — كما رأينا — أن تمتد وتمتط حتى تشمل جي موليه أو بِن جوريون. ولكني حين أستعملها إنما أقصد بها تلك العناصر من حركتنا الوطنية التي تدفع — بعملها لا بقولها — حركة الشعب إلى الأمام، وتفعل بإيمانٍ نابعٍ من ذات الإنسان ومواقفه ودوره وليس نابعًا مما يتشدق به ويجعجع. وما أسهل أن يتشدق البعض ويجعجع باسم الاشتراكية في ظل حكومة اشتراكية وثورة اشتراكية.
الفصول المظلمة
هذه القصة الطويلة الحافلة بين الثورة التحررية الاشتراكية وبين اليسار العربي — وبالذات بينها وبين بعض عناصره — قد احتوت — وما أكثر ما احتوت — على بعض فصول مظلمة دامسة الظلام؛ فصول عَطَّلت وشقت وأخَّرت وأضاعت على شعبنا وقتًا وجهدًا وإمكانيات؛ فصول جعلت اليأس يدب إلى بعض القلوب والسأم يتسرب إلى النفوس والأمور تختلط على بعض الناس؛ فصول حدثت — وكان لا بد أن تحدث — بالثورة حين تقوم، لا يعني قيامها ونجاحها ووصولها إلى الحكم أن الناس جميعًا قد آمنوا بها. إن الحل الثوريَّ يؤمن به في العادة عدد قليل من الناس، ويظل الإيمان به يتسع إلى أن يشمل عددًا أكبر وأكبر، حتى تأتي الظروف الملائمة ويستولى هؤلاء الثوار على الحكم. وبالحكم وبإمكانية العمل في وضح النهار يأخذ هؤلاء الناس على عاتقهم مهمة التبشير بالثورة، وتوسيع دائرة الإيمان بها إلى أن تشمل المواطنين جميعًا. وحين أقول: الإيمان، فإني أتحدث عن الإيمان وليس عن التأييد أو الموافقة أو التحمس الظاهر. وأعتقد أن معظم المخلصين الذين اختلفوا مع ثورتنا كانوا يختلفون — لأنهم كانوا يريدون أن يتفقوا، وأن يكون اتفاقهم عن إيمان راسخ وعن اقتناع — خلافًا يُعَدُّ أشرف في رأيي ألف مرة من اتفاقٍ لمجرد الاتفاق أو المراءاة أو ذرِّ الرماد في العيون.
وخلال الأسابيع الماضية انتهت — كما هو واضح ظاهر أخَّاذ — قصة ماضٍ حافل، أكاد أقول: ماضيًا مؤسفًا لولا أن الحياة تُعلِّمنا ألَّا نأسف على شيء حتى الفشل؛ إذ ليس الفشل سوى نجاح مؤجَّل، ولا ينبع الصواب أبدًا إلا من الخطأ، والعصمة لله وحده. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك قدرةً أن يتعلم من نجاحه — وربما من فشله يتعلم أكثر — والقصص التي كانت تُروى في الماضي لنأخذ منها العبر، والتاريخ يكتب ليضاف إلى عمر كلٍّ منا عدد السنين التي وعى تاريخها وذاكَرَه واستفاد به، والصفحة جديدة مشرقة لا نبدؤها من أول وجديد؛ فالبداية عمرها اثنا عشر عامًا من المعركة والتجربة، حتى تجربة الموت والحياة. والطريق مفتوح واسع لا نهاية لطوله ولا حد لاتساعه، والبلد بلدنا، كان صغيرًا وقامت فيه ثورة، ثم أصبحت بلادنا نفسها بكل ما فيها وما عليها ثورة، ثورة عملاقة، خرجت من قمقم الزمن وجعلت الحياة تدبُّ في جسد أمة ممزقة لينتفض ويتحرر ويعتد بالثورة والتحرر، ولم يبقَ على خلاص الوطن العربي كله سوى أيام.
دور اليسار
والمهمة الكبرى الملقاة على عاتق هذا اليسار هي أن ينسى هذه الذات اليسارية التي لم يفعل معظمها شيئًا طوال أعوام مضت إلا أن يتأملها ويحافظ عليها ويدافع عنها. أسلوب لعله كان السبب الوحيد في جميع ما انتاب اليسار من أمراض وعلل وما جرَّه إلى سوء تقدير بعض المواقف والخطأ. إن وضوح الهدف — كما يقول الميثاق وتقول الحقيقة — هو نصف الطريق إلى النجاح، والهدف ليس هو الذات أبدًا حتى ولو كانت ذاتًا يسارية؛ الهدف هو التحديات الضخمة التي تقف أمامنا؛ الهدف أن تصل ثورتنا التي ما زالت طليعية إلى أعمق أعماق شعبنا، إلى كل أفراده، الهدف أن تصاحب عملية التحول الاشتراكي الاقتصادية عملية تحول فكرية وعقائدية؛ الهدف ليس أن نقف ونؤثِّر على الناس بالطلاء ونقسمهم إلى يمين ويسار ووسط، إنما الهدف الأكبر أن نحرك الناس، أن نحرك اليمين إلى اليسار، واليسار إلى الأمام، نحرِّكه إلى أن يغيِّر ويتغير ويزداد فهمًا وإدراكًا ودراسة لمشاكلنا وكدحًا من أجل حلها. إني لا أطيق هؤلاء «اليساريين» الجالسين فوق منصات المجالس أو المنابر، واضعين الساق فوق الساق، جاعلين من أنفسهم أوصياء على الاشتراكية ومصدري أحكام وحافظي بعض شعارات من شعارات الماضي، بينما الحياة تتحرك من حولهم وهم كالببغاوات يردِّدون: هذا يساري وذاك يمين اليسار أو يسار الوسط، وهذا انتهازي وذاك متسلق. هؤلاء المحكِّمون في مسابقات لم يُقِمْهَا أحد ولا طلب منهم أحد حكمهم فيها، هؤلاء الجاعلون من أنفسهم حتى في مجالات الأدب والفن قضاةً بغير قانون، أو بقانون من ابتكارهم هم، وقضاة ليسوا حتى متخصصين، فباستطاعتهم أن يحكموا في كل شيء، في مخالفات التسعيرة وجرائم الأخذ بالثأر والخيانة والإعدام، بل وقضاة مزيفين؛ فالقضاء ليس جعجعةً ولكنه مجهود ودراسة وتفنيد وتمحيص وعمل شاق. ولكن هؤلاء يريدون أن يكونوا اشتراكيين ويساريين بلا عمل، بلا جهد يبذلونه، وإنما القول بعظمة وكبرياء: هذا عمل اشتراكي وهذا ضد الاشتراكية، جهدهم وعملهم الوحيد قاصر على وضع الساق فوق الساق، ثم القول بعظمة وكبرياء: هذا عمل اشتراكي وهذا ضد الاشتراكية، هذا يسار وذاك يمين، هذا مخلص وذاك انتهازي، ويحسبون أنهم بهذا قد أبرءوا ذمَّتهم، و«كافحوا» الكفاح كله وأرضَوا التاريخ، فهل يرضى التاريخ؟ إن التاريخ ليس كلمة أو حكمًا ولكنه أولًا وأساسًا عمل وتغيير. والاشتراكي واليساري لا يكون إلا بما يبذله من جهد لتحريك الحياة ودفع الواقع وتغيير الناس؛ تغيير الساكن إلى متحرك، والرجعي إلى تقدمي، والمتسلق إلى مجاهد.
ومهمة اليسار، بل مهمة أي مواطن يريد أن يكسب هذه الصفة عن جدارة أن يعمل ويُنتج ويغيِّر مهمته، أن يختلف ويناقش ويجادل، ولكن أيضًا بهدف أن يغيِّر، بهدف أن يدفع إلى التغيير.
الحاجة إلى يسار كبير
إن المجتمع الاشتراكي هو المجتمع الذي يطلِق من عقاله كلَّ طاقات المواطنين على العمل والإنتاج. وإذا كانت مهمة المواطنين في المجتمع الاشتراكي هي تغيير الواقع بهذا الإنتاج الهائل، فمهمة الثوريين في ذلك المجتمع هي تغيير الناس؛ هي تسليحهم بالقيم الاشتراكية؛ هي ربط العمل بالعقيدة؛ هي إتاحة الفرصة للخصال الإنسانية أن تتفجر وتعمَّ وتزدهر ليصبح العمل والإنتاج عملًا وإنتاجًا إنسانيًّا، يقوم به الإنسان الاشتراكي ليبنيَ به مجتمعه الاشتراكي الإنساني.
المهمة الملقاة خطيرة، والصفحة جديدة مشرقة، والبلد كبير بحاجة إلى يسار كبير. إن كانت تجارب السنين الماضية لم تُنضِجه فلا أعتقد أنه سينضج أبدًا، واليساري الحقيقي ليس بحاجة لادِّعاء اليسارية وللإعجاب بذاته المصونة اليسارية. وليست وظيفته أن «يحكم» على الآخرين، وإنما وظيفته الحقيقية أن «يغيِّر» الآخرين بلا كللٍ ولا يأسٍ ولا ملل.
من المهم جدًّا أن يدرك يسارنا هذا الفارق؛ فأخْوَف ما نخاف أن تتكرر نفس الأخطاء، وأن يمزِّق اليساريون أنفسهم ويحاولوا تمزيق الآخرين بالشتائم، وللتناحر حول مَن اليسار ومَن الأحق ومَن الأجدر؛ فالأحق والأجدر دائمًا بعمله وإنتاجه وليس بما يعتنقه؛ إني أفضِّل الموظف ذا الأفكار المتعفنة المواظب على عمله وإنتاجه القاضي لمصالح الناس على الموظف البلطجي المتفاخر بعقيدته أو ثقافته؛ فنحن لا نوزع الأسلاب، وحتى إذا كنا نوزعها فصاحب النصيب الأكبر هو صاحب أكبر جهد مبذول لقضية الاشتراكية أو التفكير الاشتراكي.
إن اليساري يساريٌّ بحركته نحو الهدف وبخدمته لثورة عبد الناصر الاشتراكية، ودفع الثورة إلى أقصى مدى. ويُخيَّل إليَّ أننا لو استبدلنا كلمة اليساري بكلمة المتحرك أو العامل أو المنتج أو المغيِّر لتقلَّصت الصفة عن أناس كثيرين يستعملونها لتغطية العجز والجعجعة والكسل، ولأظهرت ووضعت تحت أضواءٍ عناصرَ يسارية حقيقية من خيرة أبناء شعبنا؛ هي العاملة الدائبة المؤمنة في إصرار ورحابة وصمت، وهي — في رأيي — الغالبية التي تعطي لهذا اليسار ثقلًا وتجعل منه قوةً حقيقيةً ذات فائدة عظمى لبلادنا وثورتنا واشتراكيتنا، وإنما يغطي على عملها ودورها تلك الأقلية الصارخة العابثة المتباكية المزعجة.
والأمل كله معقود على هذه الصفوة الخيرة التي تضرب بعملها وسلوكها المثل.
حركة إلى الخارج
فلتتحرك هذه العناصر الطيبة، وليتحرك كل ما هو طيب في اليسار، ليتحرك لا إلى الداخل، لا إلى التناحر والتفاخر والتنابز، ولكن حركة إلى الخارج، حركة لسحق التحديات القائمة أمام الثورة وأمام حركة الشعب والتاريخ، حركة هي العلاج الوحيد لكل أمراض الماضي، وهي التي ستتكفل بإغلاق أفواه المجعجعين المتسيرين المتياسرين الضاربين، وكذا إلى أعلى، إلى أنضج، إلى الآفاق الأوسع في التفكير والصدور الأرحب، حركة هدفها الانطلاق ومساعدة شعبنا وتسليحه بالقدرة على الانطلاق، حركة أناس اعتنقوا الثورية والاشتراكية واليسارية عن حب، عن إحساس بالرغبة في احتواء شعبنا كله بين الضلوع والسير به إلى أمام، عن حب وليس عن كره وحقد وفشل.
ليتحرك اليسار المؤمن الطيب حتى ينقرض المدعي الضار، وحتى يصح وينطلق ويكفَّ عن التعثر والسقوط والاكتفاء بتحميل الآخرين مسئولية عجزه. ليكن هذه المرة مسئولًا عن عجزه إذا عجز وعن فشله إذا فشل، ليحمِّل نفسه مسئولية نفسه والشعب كله. ليكن جديرًا بهذه المسئولية وكبيرًا كبرها. ليتحرك الخيِّرون حتى يتحرك الخير. ليتحركوا مع الشعب المتحرك أبدًا والذي لم يكفَّ يومًا عن حركته والذي أبدًا لا ينتظر ولا يتوقف ليُصغي للأحكام الزائفة والجعجعة.
إن الصفحة ليست بنت اليوم ولكنها جديدة وضَّاءة، فلتكن الكلمات التي ستكتبها حركة اليسار الطيب جديدة أيضًا ووضَّاءة، لتصبح حركة إنسان عوفيَ من أمراضه وتعثراته وطفولته وانطلق ناضجًا رحبًا في مجتمع ناضج رحب، حركة يسار عليه أن يقود ويوحِّد ويصحح اليسار العربي كله والأفريقي، ويتضامن معه ويتآزر من أجل الثورة العربية والثورة الأفريقية والثورة والسلام في العالم أجمع.