نصف مليون
أثار الأستاذ الكبير محمد التابعي — بما كتبه في «أخبار اليوم» — موضوعًا على جانب كبير من الأهمية، وكنت قد قرأت الوصف الغريب لحالة مستشفيات الأمراض العصبية والعقلية الذي نشره الصديق الكبير أحمد الصاوي محمد. والحقيقة أن الإنسان ليس بحاجة إلى أن يقرأ أو تنتقل إليه الصورة. تكفي نظرة خاطفة يلقيها أيُّ عابرٍ على حالة المرضى في مستشفيات الأمراض العقلية؛ ليدرك أن شيئًا ما يجب أن يُصْنَعَ من أجل الارتفاع بمستوى هذه المستشفيات من أجل أن تتحول إلى أماكن علاج حقيقية، وليس كما هي الآن مجرد سجون يُحْجَز فيها المرضى بالأعصاب والعقول، حيث يعامَلون معاملة أسوأ من تلك التي يلقاها المجرم في الليمان.
والحقيقة أن الأمر لا يقتصر على مستشفيات الأمراض العصبية والعقلية وحدها، تلك التي تحتوي على عدد من المرضى يوازي عدد المرضى في المستشفيات الأخرى بكافة أنحاء الجمهورية مجتمعة. هناك مستشفيات الحُمَّيَات، وفي القاهرة كلها وضواحيها مستشفيان فقط للحُمَّيَات: أحدهما في إمبابة، والآخر في العباسية، ويبلغ عدد المرضى المحجوزين بهما أرقامًا خيالية. والحقيقة أن كلمة «مستشفى» تعبيرٌ غير دقيق؛ فهي في الأصل ثكنات للجيش الإنجليزي أُحِيلَت دون أي تصرُّف أو تعديل إلى أماكن لتكديس المرضى، بحيث يتحول العنبر الذي يتسع لعشرين مريضًا أو مريضة فقط إلى شيء كالإسطبل يضم أكثر من ثمانين مريضًا، ينام عشرون منهم على أسِرَّة (والتعبير مجازيٌّ أيضًا)، بينما يرقد الباقون على الأرض، أجل الأرض، الأسفلت، ومجرد بطانية واحدة مشبَّعة بالخروق تُصْرَف للمريض إذا واتاه الحظ، عليه أن ينام فوقها وتحتها ويصنع منها مخدة.
وإذا كان المرضى في المستشفيات العقلية يعامَلون معاملة المنبوذين، وأسوأ منهم — على ما أعتقد — أولئك المنبوذون الحقيقيون المحجوزون في مستشفى الجُذام.
والمشكلة في هذه المستشفيات أنها بالرغم من أن المرضى المحجوزين بها والمترددين عليها يكادون يتجاوزون عدد المرضى الذين تخدمهم مستشفيات جمهوريتنا مجتمعة، إلا أنهم من الطبقات الفقيرة الكادحة المقطوعة الصلة تمامًا بالرأي العام. إن مرضاها لا يعرفون الطريق إلى الجرائد ولا يدرون لمن الشكوى. إنهم فقط يعانون ويجأرون من الألم ولا ينطقون. لقد زرت مستشفى الأمراض العقلية بحكم العمل، وذهبت إلى مستشفى الحُمَّيَات في إمبابة والعباسية، ورأيت ما يبعث القشعريرة إلى كلِّ من باستطاعته أن يرى ويحس؛ آلاف من المرضى يعذِّبهم الازدحام وانعدام الرعاية والدواء ولا يشكون، وإنما الشاكون هم الأطباء، في جلساتهم معي كانوا هم الذين يصرخون طالبين النجدة. طبيبة معمل في مستشفى إمبابة قالت لي: إن عليها أن تحلل في اليوم الواحد أكثر من ٥٠٠ تحليل للدم وللبصاق والبول، وإنها لو جاءوا لها بعشرة أطباء آخرين لما استطاعوا إنجاز كل تلك التحليلات. والعجيب أن دخول هذه المستشفيات إجباري ويُنفَّذ بقوة البوليس والقانون مخافة العدوى ومحافظةً على أرواح المواطنين. دخول إجباري عبارة عن عقوبةٍ صارمة يدفعها المريض العاجز الفقير من دمه وصحته وكرامته، يدفعها صاغرًا وأنفه في التراب ورأسه على الأسفلت، والويل له إذا قال: «آه.»
وقد يعتقد بعض الناس أن كل هذا يحدث خلف المسئولين في وزارة الصحة، في حين أني في مناقشة مع الدكتور النبوي المهندس أدركت أنه أول العارفين والمقدِّرين. كل ما في الأمر أن المسألة — مثلها مثل أي شيء آخر — في حاجة إلى نقود واعتمادات؛ فمتى وكيف يفطن المسئولون عن ميزانيتنا واعتماداتنا إلى هذا الوضع المُخزي المُخجل؟
إن الثورة أبدًا لم تصل إلى هذا القطاع الرهيب من قطاعات حياتنا. إن مستشفيات الأمراض العقلية والحُمَّيَات والجُذام كما هي وعلى مثل حالها قبل الثورة، بل منذ أن انتهت الحرب العالمية؛ أي منذ ثمانية عشر عامًا ازددنا فيها بالملايين، وتضاعف سكان القاهرة، وتضاعف عدد المرضى والمصابين، والوعي الصحي، وبقيت هذه الإسطبلات والزنازين على حالها لم تتغير، ومَنْ أوقعهم سوء الحظ وسوء الصحة في أحابيلها يجأرون ويصرخون صرخات مكتومة صابرة لا تجد من يتبنَّى قضيتها ويرفع صوته من أجلها، إني أهيب بالأستاذ محمد التابعي والأستاذ أحمد الصاوي محمد وجميع من يهمهم أمر نصف مليون محموم ومريض بعقله ومنبوذ أن يتبنَّوا قضية هؤلاء الناس، أن نقوم بحملة كبرى من أجل الأخذ بيدهم؛ من أجل بناء مستشفيات حُمَّيَات جديدة؛ من أجل إقامة مستشفيات حقيقية لمرضى العقول؛ من أجل هؤلاء الذين جريمتهم الكبرى أنهم وُلِدُوا فقراء، والمرض يأتيهم وهم مفلسون.