معجزة من الهند
وهي ليست معجزة الآلة الحاسبة البشرية، ولكنها معجزة أخرى قابلتها صدفة مع الصديق محمد عودة مقابلة لم أدهش لها؛ فالصديق عودة هوايته الكبرى جمع التُّحَف البشرية، والعبقري منها بصفة خاصة، عيناه البراقتان هائمتان أبدًا، وكأنما يبحث وراء كائن كامل مفقود، وقد تختلجان أحيانًا وتتوهجان كجهاز كشف الإشعاع إذا خُيِّل إليه أنه عثر على بغيته، غير أن التوهج نادرًا ما يدوم، وغالبًا ما تعود عيناه وراء هذا الكائن الكامل المفقود. آلاف الناس عرفهم عودة، ودائمًا كان ينفض يده منهم ويعود يبحث. وإلى الآن وأنت كلما صادفته وجدت معه تُحْفَة بشرية نادرة، كاتب يوغسلافي موهوب، موسيقي ياباني نابغ، لاعب أكروبات صيني، وهذه المرة صحَّ ما توقعته؛ فقد كان مع عودة رجل وسيدة، الرجل قصير القامة بلحية سوداء قصيرة، هو الرسام الهندي جوجرال، والسيدة هندية أيضًا، بل خلاصة مجسمة لقدرة أرض غاندي والعاج على خلق الجمال. وكالعادة توقعت أن يكون للاثنين — ما داما مع عودة — قصة لا بد فريدة في بابها. وفعلًا وجدت قصة هذا الرسام فريدة في بابها أيضًا؛ فهو قد وُلِدَ أصمَّ أبكم. وتصوَّر نفسك — لا قدَّر الله — وُلِدت هكذا. بعض الناس يستسلمون لحكم القدر ويتخذون من عجزهم هذا مهنةً وحرفة، والبعض الآخر يستجمع إرادته لقهر هذا العجز. وقد ظل الطفل الأصمُّ الأبكم يقاوم ويكافح عشرات السنين ليقهر عاهته، ولم يهدأ إلا بعد أن وجد الوسيلة للتعبير عن نفسه، وجدها في الرسم. وبهذه اللغة الجديدة لم يستطع أن ينقل ذاته إلى الناس فقط، ولكنه نقل إليهم أروع ما في تلك الذات وأثمن؛ نقل إليهم فنه. وجاءت أحداث الهند بمذابحها الدينية وثورتها على المستعمر الذي أجَّج هذه المذابح، وشهد جوجرال كل هذا وهو صامت ممنوع من الكلام. عاش مأساة الهند وأمجادها وهو يكظم غيظه وفخاره. وحين عثر على الوسيلة انفجر البركان. وليست هذه هي كل معجزة جوجرال؛ فبعد أن رسم لم يكفَّ عن مقاومة عجزه وصمَّم أن يتكلم، ويا للإرادة الإنسانية الحقة حين تصمِّم!
يا لهذا الإنسان المتوقف عن الحركة حين تظل الإرادة تدفعه وتحرِّكه وتهيب به أن ينطق، فلا يستطيع في النهاية إلا أن ينطق! ويتكلم جوجرال لغته الأُردية، ولا يكفيه هذا، بل بقوة الإرادة أيضًا يعبر لسانه حاجز اللغة ويتعلم الإنجليزية ويتكلمها، ويعبر لسانه المحيط ويتعلم الإسبانية والمكسيكية وحتى بلهجاتها المحلية، ويتعلم اللغتين بالذات لكي يستطيع السفر إلى إسبانيا والمكسيك حيث يحيا أعظم أساتذة الرسم في عالمنا الحاضر. وفي المكسيك وحدها يعيش أربع سنوات يرسم ويشاهد ويتعلم، واليوم هو مارٌّ بالقاهرة في طريقه إلى كندا لإقامة معرض للوحاته هناك، وكل هذا وسِنُّه لم تتجاوز الثالثة والثلاثين.
ظللنا جالسين فترةً نتحدَّث خلال زوجته؛ إذ هي التي كانت تقوم بترجمة حديثنا إلى مصطلحات صوتية وكتابية تفهمها عيناه اللتان أخذتا مكان الأذنين، وكان هو لا يتكلم، حتى خِلْت أن الصديق عودة يبالغ في قوله إنه تعلَّم الكلام، ولكنه أخيرًا بدأ يتكلم كلامًا لو لم تكن تعرف أن صاحبه قد وُلِدَ أصم وأبكم لما استطعت أن تفرقه عن الكلام العادي. تكلمنا في الفن والسياسة والهند، وسألته عن رأيه في فنوننا التعبيرية، وكان قد زار معرض الفن الحديث، وقال لي إنه وجد في متحف الآثار الفرعونية أصالة وقوة في التعبير افتقدهما في فننا المعاصر الحديث.
الحقيقة كنت إلى تلك اللحظة أوقِّر الرجل باعتباره معجزةً من معجزات الإرادة البشرية؛ لأني لم أكن بعدُ قد رأيت لوحاته، وفي مسائل الفن هذه لا يستطيع الإنسان إلا أن يصدق نفسه، كم من كاتب قالوا عنه: إنه عملاق، ولا أُحِس بالتجاوب معه. والرسم بالذات، نادرًا ما تشاهد لوحة ترتفع بهذا الفن في نظرك إلى مصافِّ الفنون الأخرى.
وهكذا ظلت كلماتي للرجل لا تخرج عن حدود المجاملة المعتادة إلى أن أخذنا ليفرجنا على بعض لوحاته. كان في طريقه إلى المطار يستعد للسفر، ومع هذا أبى إلا أن يفكَّها ويُطلِعنا عليها. ولم أكن أتوقع أبدًا أن أرى ما رأيت! إن البعض يتخذ من عجزه حُجَّة للقصور، وهذا الرجل وجدته قد اتخذ من عجزه حُجَّة للتفوق. بعض العجزة والمرضى لولا مرضهم ما عزفوا أو رسموا؛ لأنهم يعزفون أو يرسمون عن مرض، بحيث لو قُدِّر لهم أن يُشفَوا لكفُّوا عن الإنتاج، وهذا الرجل لا يرسم عن صحةٍ فقط، ولكنه يرسم رغم الصحة والمرض معًا، ويرسم بإعجاز، ولا تملك وأنت ترى لوحاته إلا أن تقف حائرًا مذهولًا، كما وقف سومرست موم في رواية القمر وستة بنسات وهو يشاهد لوحات الرسام بطل الرواية. لا تستطيع أن تأتي بحركة أو تُخْرِج زفيرًا، هذه المساحات من الألوان التي لا تراها وإنما تحس بها تصبغ نفسك من الداخل وتلوِّنها، هذه الخطوط التي تحس أنها لا تُحدِّد وإنما تفتح؛ تفتح لك آفاقًا أوسع من الصورة ومن الحاضر، آفاقًا تمتد إلى التاريخ والحوادث والأغاني والرقصات، لوحات لا تحس أن ريشة رسمتها أو استُعْمِلَ في رسمها ألوان وأصباغ؛ لوحات تحس أنها تكشف لك عن سرٍّ خالدٍ مَنيع؛ عن الهند. صحيح، كنت أرى الهند، روحها وحقيقتها، ومسيحها الذي شهد أحداثها، وكأنما هو غاندي يعبِّر عن روح الهند برسمه وتعبِّر به الهند عن روحها، كم اشتقت ساعتها إلى لوحةٍ من رسمنا أرى فيها بلادنا الحبيبة؛ ترابنا البُنِّيِّ الخصب؛ إنساننا المارد الطيب! كم أوحشتني قريتنا وأنا أرى القرية في اللوحة! كم هفَتْ نفسي إلى ألوان أرى فيها شمسنا؛ نورنا الكبير؛ سماءنا؛ خضرتنا أروع وأصفى خضرة! إن لوحاتنا معظمها مظلم مُطفأ بطريقةٍ يحسُّ معها المشاهد بالقشعريرة والكآبة، وألواننا معظمها من خامات الزنك والرصاص الأوروبية. أين هذا من لون جيرنا الأبيض، وحتى من لون الحُمرة الناتجة عن حرق طوبنا الأحمر! يا إخواننا الرسامين، ارسموا بقلوبكم؛ بأرضنا في قلوبكم؛ فمعظم ما أراه في المعارض أجده من صنع العقل والريشة وما أخذناه عن سيزان وجوجان ورامبرانت. واعذروني إذا كنت قد أحسست أن في لوحات الفنان الهندي جوجرال تعبيرًا، لا عن الهند وحدها، وإنما عنا أيضًا. وكأن خطوطه بعض خطوط «مختار» وأعمال النحَّات المصري القديم، وكأن كُتلَهُ منتزعة من صخرنا الجرانبتي في إدفو وأبي سنبل وأُسْوَان.
المعجزة الثانية
المعجزة الثانية كانت زوجة هذا الفنان؛ لا لأنها فنانة هي الأخرى وإن كان فنها يقتصر على عملِ تحفٍ فنية من الشال الهندي والساري بتلوينها بطريقة فنية معقَّدة حاولت — بلا جدوى — أن تشرحها لي، لا لهذا وإنما لمعجزتها الحقيقية في موهبتها النسائية؛ تلك الموهبة التي نادرًا ما تعثر عليها في امرأة.
موهبة أن تساعد وتدفع وتخلق إنسانًا. هذه السيدة رغم أنها أجمل من نجوم السينما الهنديات، إلا أنها آثرت أن تصحب فنانًا كجوجرال — في رحلته المضنية خلال الحياة — مصاحَبةً تُكلِّفها أن تُضحِّي بنفسها وشخصيتها عن رضًى وعن حب لتصبح لسانه الثالث وأذنه المنصتة وطريقته السريعة في التعبير عن نفسه. وتقوم بهذا الدور قانعة به عن إيمان، مؤمنة به عن اقتناع. وإذا كان جوجرال قد وهب نفسه للفن فهي قد وهبت نفسها لتخلق من جوجرال فنانًا.
ولا بد أن هذا كان إحساسها بالضبط وهي ترقبنا، وجوجرال يُرينا لوحاته، وترانا مَرُوعين بها، وتفعل هذا ونشوة الفخر تملأ ملامحها، وكأنها الأم الفخورة بابنها، وكأنها الفنان الأكبر يرينا لوحةً أخلد؛ لوحة صنعت فيها فنانًا يرسم اللوحات.