القتيلات والأعصاب التالفة
ألفُ شيء وشيء تحتاج كلها للتعليق وكتابة المجلدات، من عربة الإسعاف التي رأيتها واقفة في شارع رئيسي تذيع أغاني الحب لتستوقف المارة وتبيع لهم «اليانصيب» لتأخذ الجمعية من ربحه ما يكفيها لإسعاف المواطنين، إلى محاكمة باورز، ومقالة الدكتور طه حسين «من بعيد»، ولكن السمة الرئيسية للأيام العشرة الماضية هي الانفجارات المتتالية في الأعصاب، انفجارات في حاجة لإسعاف سريع، حبذا لو أخذنا به.
-
جرائم القتل الثلاث التي وقعت خلال الأيام الماضية — وقتل الناس أبطالها بحثًا وتعليقًا وتفسيرًا — لها في الحقيقة وجه آخر. في الماضي — وقبل أن تظهر وسائل النشر الواسعة النطاق — كانت الجريمة إذا وقعت تُعْرَف عن طريق الانتشار المباشر في المجتمع الصغير الذي تحدث فيه؛ المجتمع الذي يعرف الجاني والمجني عليه معرفة شخصية، ويشاهد مقدمات الجريمة والجريمة نفسها ونتائجها، ويظل يتتبع — بحكم قربه — آثارها لعشرات السنين. وأي جريمة تُثير إذا شوهدت عن قرب من التقزز والاستبشاع ما يكفي لإحداث مناعة ضد تكرارها؛ بمعنى أننا إذا تصوَّرنا ذلك المجتمع الصغير وكأنه كائن حي ضخم؛ فالجريمة حين تقع فيه بما يصاحبها من ألم ومعاناة وحُمَّى، تصنع في هذا الجسد نفس ما يصنعه المرض العارض، فتمده بالمناعة ضده. بالاختصار: كان وقوع جريمة في مجتمعٍ ما في الماضي يمنع وقوع جرائم أخرى وينهى عن الجريمة.
-
وسائل النشر الحديثة — مثل الصحف والإذاعة ووكالات الأنباء والتليفزيون — كما أحدثت في حياة الناس انقلابًا ضخمًا، أحدثت في أثر الجريمة انقلابًا أضخم؛ فهذه الوسائل عملُها أن تنقل ما يحدث داخل كل مجتمع محدود إلى غيره من المجتمعات؛ فإذا حدثت جريمة في مجتمعٍ ما تولَّت هذه الوسائل نقل خبرها إلى أناس لا يعرفون الجاني من المجني عليه، ولا عرفوا الظروف التي يحيا فيها كلاهما، ولا شاهدوا ما حدث، ولا أحسوا بالفجيعة والألم. وقد تكون قرية صغيرة تعاني من حزنٍ شامل لجريمة ارتُكِبَت فيها، بينما الناس في بقية البلاد والأمصار يتندَّرون على الجريمة ويتخذونها مادةً للضحك إذا تصادف وكان في أسبابها الظاهرة ما يُضْحِك. وعلى هذا أصبحت أخبار الجرائم مادةً للتسلية والاستمتاع. وقطعًا كان لا بد أن تصبح كذلك؛ فلا يمكن للقراء أو المستمعين أن يحسوا بها إحساسًا يدفعهم للتألُّم والعِبرة إلا إذا تولَّت الصحف والإذاعات نقلها إليهم نقلًا كاملًا بحذافيرها وتفصيلاتها، ورسمت صورةً حية لحياة أبطالها وماضيهم وحاضرهم وما تواضعوا عليه من قيم؛ وهذا طبعًا أمر مستحيل. والنتيجة هي مانشيتات وسطور محمومة سريعة تروي الجريمة وكأنما لتُثبت أن الإنسان قادر على ارتكاب الجريمة.
والنتيجة أن تترسَّب أخبار هذه الجرائم في عقول المرهفين وغير الناضجين تسهِّل عليهم الأمر، والتقليدُ خاصية من خواصِّ الإنسان، وقبل انتشار الشوال والهولا هوب لو كنا قد شاهدنا سيدة ترتديه أو ترقص به لظننَّاها قد فقدت عقلها، ولكن شيوع الشيء يسهِّل عملية المعارضة في ارتكابه ويشجع الإقدام عليه.
-
الانقلاب الخطير الذي أحدثته هذه الوسائل في مجال الجريمة إذن أنها جعلت من الجريمة التي كانت وسيلة مناعة ومنع في الماضي — وفي المجتمعات المحدودة التي تقع فيها في الحاضر — جعلت منها وسيلة تقليد وإغراء وانتشار، أصبحت تمامًا مثل الناموس حامل الملاريا، والفئران حاملة الطاعون حين تنقل العدوى من مكان الإصابة إلى جهات نائية وإلى أناس أصحَّاء أبرياء.
-
عشرة أيام ولا حديثَ للناس إلا عن الأزواج الذين يقتلون زوجاتهم من فرط الحب والغيرة والشذوذ. أليس هذا شيئًا معديًا؟ ألم تغطِّ أنباء هذه الحوادث المَرضية على آلاف الأمثلة الموفورة الصحة وعشرات آلاف الأزواج الذين سعِدوا مع زوجاتهم ومارسوا الحب وقدَّموا الهدايا؟ ألم تجعل كل زوجة تتناسى العلاقة القائمة التي تربطها بزوجها وتتصور أنه قد يقطع جسدها بالسكين أو يفرغ فيه الرصاص؟ ألم يُخيَّل لكلٍّ منهن حين عاد الزوج مكشِّرًا يومًا أنه خلاص قد استقرَّ على قتلها، وإذا تصادف وغضب أو زعق أنه خلاص شرع في التنفيذ؟
وكم من علاقة سليمة لوَّثها هذا الشك! وكم من أفكارٍ سوداء قتلت أفكارًا جميلة كانت حية وموجودة وزرعت سوء الظن في القلوب!
ألست على حقٍّ حين أقول: إن ما فعلته صحفنا أنها نشرت عدوى ما حدث في كل بيت وفي قلب كل رجل وامرأة، وأننا جميعًا أُصِبْنَا بإصابات متفاوتة، بعضها أدى إلى سعار البعض، وإلى جريمة المنصورة وشارع خيرت؟