لماذا لم نعد نمرح؟
في الاحتفالات لاحظت ظاهرة تسترعي الانتباه، كانت الشوارع والميادين مكتظَّة على آخرها برجال وسيدات وشبان وأطفال ازدحامًا لم أرَه في حياتي؛ ملايين الناس خرجوا من بيوتهم لا يفعلون شيئًا أكثر من مجرد السير والبحلقة في الأضواء.
من بعيد تحسب ازدحامهم ازدحام جماعات ضخمة، وتَعجَب حين تُدرك إذا اقتربت أنه ازدحام أفرادٍ ليس إلا.
في الواقع كان ما ينقصهم ليصبحوا جماعة، ولتذوب الغربة، هو أن يبدءوا في عمل شيء معًا، يبدءوا يغنون مثلًا أو يرقصون أو ينتظمهم مهرجانٌ صاخب ضاحك. كان لنا في الماضي القريب احتفالات جماعية كثيرة في الأعياد والموالد والأفراح وحتى في «طهور» الأولاد، قضى عليها الراديو حين ظهر، وما أعقب ظهوره من صدمة، ومن استسلام كامل للتسلية والمرح التي تأتي عن طريقه بدل مزاولتها وقيام الناس أنفسهم بها. وإذا كان الإنسان اجتماعيًّا بطبعه فالمرح جماعي بطبعه، والشعوب لا تزاوله عبثًا أو لأن عقلها فارغ؛ إذ المرح هو الوسيلة المُثلى لالتقاء الناس في جماعة، وإزالة ما بينهم من غربة وجفوة، وكسر ما حولهم من قلاع واستحكامات، وجعلهم يأنسون لبعضهم البعض ويحبون بعضهم البعض، فتذوب همومهم الفردية مهما ثقلت في وسط بحر الجماعة الصاخب الزاخر بالحياة. لكي نعيش لا بد أن نأكل ونتنفس ونتناسل، أما لكي نحب المعيشة والحياة ونتفاءل ونكسر حدة طبائعنا وغرائزنا فلا بد أن نمرح كلنا؛ العجوز في حاجة للمرح مثل الشاب وربما أكثر، والمرأة مثلها مثل الرجل، ولا يكفي أبدًا أن نستقبل المرح والموسيقى والطرب، ولكن لا بد لنا أن نزاوله نحن ونخلق نحن المرح ونغني، وربما أعصابنا المشدودة والوجوه الكثيرة التي نقابلها عابسة وكأنما هي في طريقها لارتكاب جريمة؛ ربما سببها أننا لا نمرح ونعتمد اعتمادًا كليًّا على أجهزة صماء لتُشيع في حياتنا حاجتنا الماسَّة إلى المرح، ربما لو شاهد المحامي القاتل وشاهده زميلاه التاجر والعامل، لو شاهدوا آلاف الزوجات وهن يغنين مع آلاف الأزواج واشتركوا بزوجاتهم وحبيباتهم في الغناء؛ لعادوا إلى بيوتهم بأفكار مختلفة تمامًا عن تلك التي دفعتهم لقتل زوجاتهم.
الدعوة الأولى
ما هذا يا درش؟! وعن أي إنسان تتحدث؟ وفي فقرة واحدة من كلامك أحصي عشرات من الألفاظ البغيضة، النفاق، التمزق، البراثن، القلق، الكآبة، الحيرة، مهاوي الرذيلة، اليأس، الجريمة، الفرار، الهرب، الأزمة، عالم المخدرات، حرق الأعصاب، اللذة الحسية، الضعف، الزيف.
عن أي متحف حافل بكل نفايات النفس البشرية تتحدث؟ وماذا تقصد بأن تصفع القارئ الإنسان بهذه الخزعبلات وكأنها حقائق؟! صفعات حتمًا تدفعه إلى قتل أول إنسان يصادفه قبل أن يقتله الإنسان الآخر.
إني أَلمَح يا صديقي بوادر الحموضة في تفكيرك؛ فقد أحسست بطعم البطيخ الحامض في فمي بعد قراءتي لمقالك، والحموضة شيء طبيعي لإنسان ينطوي على نفسه وهواجسه ووحدته، ويظل يعيد نفس الكلام طوال اثنى عشر عامًا وكأن رسالته في الحياة تلخَّصت في دفع الناس لكره الحياة والأحياء. ولأني أعلم أنك تكاد تكون أكثر مواطنينا استمساكًا بحياتك وخوفًا على نفسك وتشبثًا بكل ثانية من عمرك، فلي الحق أن أعتبر أنك لا تؤمن حقيقةً بكلامك هذا، وأنك فقط تكتبه. أما الذي لا بد أن تعلمه فهو أن أناسًا يثقون في قلمك يقرءون هذا الكلام وتمتلئ حياتهم بالحموضة والمرارة نتيجته، بينما تُخْرِج لهم أنت لسانك آخر الليل وتستعد لمقالٍ آخر.
لماذا لا تأخذ إجازة يا صديقي تمرح فيها، وتتذوق طعم الحياة الحقيقي، وتقابل الناس كبشر؟ هؤلاء الذين أخذت معلوماتك عنهم من الكتب، وتحاول أن تتعلم منهم حقيقة بسيطة فاتك أن تُعلِّمها لهم، تتعلم منهم هذا السر الإنساني الكبير الذي يجعل الإنسان برغم احتمال احتوائه على كل ما ذكرت من دوافع وخلجات، فإنه دائمًا يسمو فوق هذه الدوافع والخلجات ويحقق انتصارات. لو كان الإنسان هو فقط ما ذكرت لذبح الناس بعضهم بعضًا من زمن بعيد؛ هم لا يزالون أحياء، وسيبقون أحياء منتصرين لاحتوائهم على حقائق أخرى؛ حقائق لا يمكن أن نستمدَّها من الكتب، ولن تحسَّها أبدًا إلا إذا مارستها فعلًا، وعشت بين الناس وأخذت حمام حياة دافئ يغسل عنك تصوراتك النظرية المحضة عن الإنسان.