لا بد من وضع حدٍّ لهذا
القراء قد «زهقوا» من الكلام العام العائم عن النقد وأزمته وعن ضرورته الحتمية … إلخ إلخ. إنهم — بلا شك — يريدون وقائع ثابتة محددة وأحداثًا نستطيع فيها أن نطبق العلم على العمل كما يقولون، ونكون واضحين ومفهومين وصرحاء، وهاكم واقعة ممتعة تصلح نموذجًا جميلًا لتوضيح كل ما نريد قوله.
على هذه الصفحة من الأسبوع الماضي نشرت كلمة نقد لواقعة شراء رئيس مجلس إدارة شركة القاهرة للأفلام لقصة الشارع الخلفي التي أنتجتها هوليود فيلمًا عُرِضَ في القاهرة منذ وقت غير بعيد؛ شراء القصة من منتِج سينمائي مصري في حين أن القصة موجودة بالسوق. وقد كان بالاستطاعة تعريبها دون شرائها من ناحية، ومن ناحية انتقدت هذا الاتجاه؛ اتجاه تعريب الأفلام الناجحة في هوليود باعتباره وسيلة من الوسائل التي كان يلجأ إليها القطاع العام لإنقاذ فننا السينمائي العربي من وسائل وانحرافات وأخطاء القطاع الخاص، وخلق اتجاه فني سينمائي جديد يكون صدًى لواقعنا الجديد وحياتنا الجديدة. كتبت هذه الكلمة ولم يكن في ذهني أو يعنيني أن يكون الشاري فلان أو البائع فلان أو رئيس مجلس الإدارة جمال الليثي أو غيره، وأنا لم أكتب لأنقد أشخاصًا أو تصرفات شخصية ولكني كتبت لأنقد هذا «الاتجاه»، فماذا حدث؟
توجَّه جمال الليثي «رئيس مجلس الإدارة» — الذي لا أعرفه ولم أرَه في حياتي إلا مرة أو مرتين، ولم تكن لي به أدنى صلة — إلى مسئول كبير غداة نشر النقد، وأخبره أنني «أهاجمه» هو وصلاح ذو الفقار «المنتج الذي باع القصة للشركة، وسيتولى إنتاجها مقابل ألفَي جنيه غير ثمن القصة والفكرة، وبشرط أن يقوم بالبطولة لقاء أجر آخر»، أخبر المسئول الكبير أنني أهاجمهما لأسباب شخصية محضة؛ فلقد رفض مرة إنتاج قصة لي «كذا»، وأن هناك خلافًا بيني وبين صلاح ذو الفقار حول حوار فيلم قام بإنتاجه، وأنني قابلته من أسبوع وسألته عن الطريقة التي يمكن أن يأخذ بها مني قصة للسينما.
والله أعلم ماذا قال للمسئول الكبير أيضًا؛ إذ هذا الجزء من كلامه الذي تطوَّع بإشاعته في الأوساط السينمائية والصحفية. ولم يكتفِ سيادته بهذا بل أحضر إلى الجريدة ردًّا مكتوبًا قرأته فوجدت أنه بعد مقدمة يؤنبني فيها على أني اعتمدت في نقدي على خبرٍ نُشِر في مجلة صباح الخير، يعود ويعترف أن الخبر صحيح، وأنه فعلًا قد اشترى القصة على نحو ما ذكرته المجلة بالضبط؛ وذلك لأسباب فنية، منها أن الشارع الخلفي رواية عالمية خالدة ﮐ «هاملت» و«عطيل»، وليس هناك ما يمنع إطلاقًا أن ننتجها نحن كما فعلت روسيا بهاملت، وهوليود بروميو وجولييت، وختم رده بقوله:
«إنني لا أقبل التهديد ولا التشهير كأسلوب للتعامل أو شراء القصص والسيناريوهات بأموال الشعب حتى ولا من يوسف إدريس.»
بمعنى آخر سيادته يعود يؤكد للناس نفس ما قاله للمسئول الكبير على حِدَة، وهو أني لم أكتب ما كتبت إلا لأني أحقد عليه حقدًا شخصيًّا في رواية، وفي رواية أخرى لأني أريد أن أهدِّد سيادته ليشتري مني قصة للسينما.
واتهامات كهذه سواء قيلت عني أم عن غيري لم أعُد أغضب لها غضبًا شخصيًّا؛ ذلك لأن مَن وهبَ نفسه للكشف عن الحقائق الناصعة في حياتنا — وأيضًا كشْف ما فيها من خداع وزيف — لا بد أن يوطِّن نفسه على تحمُّل الأذى حين يوجَّه إليه أو إلى زملائه؛ إذ تلك هي ضريبة البحث عن الحق والحقيقة؛ غير أن بعض المشتغلين بالفنون انتابهم في الفترة الأخيرة «بارانويا» الكمال — مع أن الكمال لله تعالى وحده — بحيث لم يعُد أمام الصحافة أو مجلس الأمة أو غيرهما من المنابر إلا أن تسبِّح بحمد هؤلاء الكاملين، وتُشيد بما يفعلون وتتعاون معهم على إخفاء العيوب.
إن حياتنا وحياة أي شعب وفي كل عصر لا يمكن أن تخلو من العيوب، وإحدى وظائف النقد الأساسية أن يتولى الكشف عن هذه العيوب. ومفروض أن يكون الرد الاشتراكي على هذا النقد إما اعترافًا بالخطأ إن كان هناك خطأ ما، وتبيان الطريقة التي سيتلافى بها هذا الخطأ، وإما إلقاء أضواء على المشكلة، بحيث يتضح أن ما خُيِّل للكاتب أو الناقد أو أي مواطن أنه عيب ليس عيبًا بالمرة. هكذا تتم عملية النقد أو هكذا يجب أن تتم بافتراض حسن النية والموضوعية لدى الناقد والرد عليه بموضوعية قد تبلغ حد الاعتراف بالخطأ. ولكن الظاهرة الغريبة الطارئة على حياتنا هي أن شيئًا كهذا لم يعد يحدث، كل مسئول أصبح ينظر إلى أي نقد على أن مبعثه شخصي محض، ولا بد أن وراء الأكَمَة ما وراءها؛ لأن مفهوم المسئول نفسه للمسئولية أصبح مفهومًا مختلًّا غير اشتراكي بالمرة؛ فكثيرون من صغار المسئولين أصبحوا يأخذون وظائفهم أو الأعمال المسندة إليهم وكأنها «لعبتهم» الخاصة، وكأنها إقطاعيتهم الخاصة التي باستطاعتهم أن يفعلوا بها كما يشاءون. ويعتبرون حينئذٍ أن أي نقد للمؤسسة أو للشركة إنما هو نقدٌ موجَّه لأشخاصهم هم. ولماذا نذهب بعيدًا؟ هذا السيد رئيس مجلس إدارة شركة القاهرة المذكورة، جمال الليثي هذا، يقول بالنص في رده: «إن الذي أُحبُّ أن أؤكده لك هو أن طريقتي في العمل كمنتج سينمائي يحب عمله ويقدِّره ويحرص على أن يكون هذا العمل متفوقًا — سواء كنت أعمل في القطاع الخاص أو العام — وأن تكون أفلامي (لاحظوا كلمة أفلامي) نظيفة مشرِّفة تفوز بثماني عشرة جائزة من جوائز الدولة التي تصل إلى ٣٤ كما حدث هذا العام؛ هو أنني لا أقبل التهديد ولا التشهير كأسلوبٍ للتعامل أو شراء القصص … إلخ إلخ.»
بمعنى أن الأمر ليس «شركة» أو مؤسسة أو هيئة وُجِدَت لتقوم بوظيفة معينة، ومن المحتمل أن تخطئ أو تنحرف، ومن الواجب قول الحق في خطئها أو انحرافها. لا، المسألة أنا، أنا جمال الليثي الحاصل على كذا جائزة، أنا الشركة، أنا المؤسسة، أنا الدولة! لا يا سيد جمال الليثي، لست أنت الشركة ولا المؤسسة ولا الدولة. وليس مهمًّا أسلوبك الخاص في التعامل، بحيث تمنح المجد والأموال لمن يتبع أسلوبك وتعاقب وتحرم وربما تسجن من لا يتبعه؛ أنت أو غيرك بأسلوبك وبجوائزك لست القطاع العام، وإنما أنت مجرد مواطن مجنَّد لخدمة هذا القطاع، فإذا أحسنت كان بها، وإن أسأت لا بد أن يُجنَّد غيرك. وليس بإمكانك أن تُغدِق على أحدٍ أو تَحرِم أحدًا؛ لأن المسألة ليست بمزاجك الخاص. إن الذي يُقرِّر أي شيء في دولتنا الاشتراكية هو المصلحة العليا للدولة كلها، وأنت تتصرف بعيون وآذان هذه المصلحة العليا وحدها.
المهم، كنت أقول: إن هذا الإحساس بالذات لدى بعض مَنْ في أيديهم المسئوليات قد ازداد إلى درجة مروِّعة تكاد تطمس معها الحقيقة الأساسية، وهي أن الوظيفة مسئولية وليست إقطاعية أو تكريمية، وأن أي نقد لأي وظيفة في الدولة مباح، وأحد واجبات الموظف أو المسئول أن يرد على أي نقد قد يوجَّه من أبسط مواطن، ولو نظر كل مسئول إلى مسئوليته هذه النظرة لاختفت الحساسية من النقد تمامًا، ولأصبحنا جميعًا مسئولين وسائلين وناقدين ومنقودين ليس لنا إلا هدف واحد هو معرفة وجه الحق والحقيقة لنفعله. ولكن النظرة عند كثير من المسئولين ليست هكذا أبدًا، اختلطت الذات بالوظيفة، والمؤسسة بالشخص، والشخص بالغرور والرغبة في التألُّه؛ بحيث لم يعُد يريد أن يفتح أذنه إلا لسماع المدح وحده، أو يرى الأكُفَّ ترتفع إلا لتصفِّق له، أو يرى الألسنة تتحرك إلا لتشيد بكماله وكمال أعماله ومؤسسته وأسلوبه في التعامل.
ماذا يحدث إذن في مثل هذا الجو لو جرؤ كاتب أو ناقد أو مواطن وقال كلمة نقد مسَّت واحدًا من صغار المسئولين هؤلاء؟
منذ عهد قريب كان الرأي يأتي على هيئة بيانٍ مليء بالمغالطات أحيانًا، وأحيانًا يصاغ بطريقة ملساء لا تستطيع معها أن تجد الإجابة على نقد. أما المودات، هو أن حضراتهم ما داموا يأخذون المسئولية مأخذًا شخصيًّا ذاتيًّا بحتًا، والنقد الموجَّه إلى أعمالهم باعتباره نقدًا لأشخاصهم مباشرةً، فلا بد أن الدافع لهذا النقد هو دافع شخصي أيضًا، أجل لا بد أن كل نقد يوجَّه مبعثُه حقدٌ شخصي أو مطلب شخصي أو مصلحة يريد الناقد قضاءها.
وهذا هو الخطير في الموضوع؛ وهو ما يدفعني اليوم أن أخصص هذه المساحة كلها وأنا مستريح الضمير لهذا الوباء الخطير الذي ليس أخطر منه على حياتنا ووجودنا. إنهم يتصورون أنهم يدافعون عن أنفسهم وذواتهم، وخير وسيلة للدفاع في نظرهم هي الهجوم، وخير وسيلة وأبسط وسيلة للتخلص من أي نقد هو أن يقال: إن الهدف من ورائه شخصي وهاكم الوقائع، وليُفبرِكوا ما شاءوا من أدلة وبراهين.
وبالضبط هذا ما فعله السيد رئيس مجلس الإدارة المنقود، فهو من ناحية أسرع إلى المسئول الكبير يكذب عليه ويدَّعي أنني كتبت ما كتبت لحقدٍ شخصي، وبهذا يغمض عين المسئول الكبير عن الواقعة نفسها وخطئه فيها حتى لا يكون محل تحقيق أو سؤال، ومن ناحية أخرى أسرع بنشر رد يحضُّ به الرأي العام والقراء ضد ما قلت وما يمكن أن يقوله غيري بحجة معقولة من وجهة نظره الخاصة وتتفق تمامًا مع طريقة سيادته في التعامل؛ إذ هو يقول ما معناه: إن كل ما نشرته كان محاولة مني لتهديده كي يشتري مني قصة.
وهكذا بدلًا من أن يدور النقاش حول سلامة تصرُّفه هو، توضع علامة الاستفهام حول موقفي أنا، وإلى أن أنجح في إثبات براءتي (هذا إذا تمكنت من النجاح) يكون الموضوع قد طواه النسيان، ويكون سيادته قد خرج منه خروج الشعرة من العجين، بينما خرجت أنا مصابًا بالرشاش.
وكأنها معركة بين شخصه وشخصي.
وكأن لا شيء هناك اسمه الشعب ومصلحته العليا، ولا شيء اسمه الرقابة الشعبية، ولا شيء اسمه الحقيقة، ولا باطل هناك أو حق، وإنما هي معركة بدأتها أنا و«شتمت» جمال الليثي فيها لأسباب شخصية، ورد هو على الشتيمة بأحسن منها، وكان الله يحب المحسنين.
وهي طريقة لم تُتَّبع في حالتي فقط؛ إنها المودَة السائدة هذه الأيام كما قلت؛ أي نقد في أية مجلة أو صحيفة إنْ هو إلا شتائم من المحرر فلان؛ لأنه يريد كذا، أو فعلها بتحريض من فلان الذي يقف وراءه علان وتلتان. النتيجة، لعبة جديدة من أحدث الألعاب يحاول بها صغار المسئولين أن يُخرسوا الأقلام التي تنقد، ويُسْكِتوا الألسنة من الحلوق؛ فلا أحد يريد أن يوجَّه إليه نقد، وكل مسئول يوجَّه إليه نقد يحتمي خلف الدولة، ويعتبر أنه نقدٌ موجَّه إلى القطاع العام أو سياسة الدولة واشتراكيتها.
فما هو الحل؟
إن الحل في رأي هؤلاء السادة هو تجريح أي نقد أو ناقد يتصدى لمناقشة أعمالهم قائلين: إنه نقد مُغرض. وباعتبار أننا جميعًا ضد النقد المُغرض، فإنَّا نسلِّم معهم بأن بعض النقد قد يكون مُغرضًا، حينئذٍ بذكاء يتركون الباب مفتوحًا قائلين: صحيح ليس كل النقد مُغرضًا؛ ولهذا نحن على استعداد لمناقشة أي نقد حقيقي بنَّاء صادر عن ضميرٍ مخلص ونفسٍ غير أمَّارة بالسوء.
يقولون هذا للتخلص ليس إلا؛ فأي نقد يواجَهون به هو دائمًا النقد المُغرض، أما البنَّاء فهو الذي لم يواجَهوا به بعدُ والذين هم على استعداد دائم لمناقشته لو وُجِدَ.
إنهم بهذا يريدون إدخال رءوسنا في متاهة التشكك في كُنْه النقد الصادر، ومحاولة بحثه وتمحيصه لمعرفة ما إذا كان مغرضًا أم لا، وهي مهمة صعبة تكاد تكون مستحيلة التحقيق.
إن كل مسئول فينا مطالَب بأن يواجه النقد حتى لو كان مغرضًا. إن توجيه النقد حقٌّ اجتماعي اشتراكي وثوري نُزاوله كلنا، مغرضين وغير مغرضين، ملائكة أو شياطين، ومواجهة النقد وتفنيده أو التسليم به واجبٌ لا بد أن يقوم به المسئول تجاه أي نقد ومهما كان مصدره. لنكفَّ إذن عن مودَة النقد المُغرض والنقض لقضاء المصالح، لنكفَّ عن محاولة تشويه الناس لأنهم يجرءون على نقدنا. إن الأخلاق الاشتراكية غير هذا بالمرة؛ إنها تجعل المسئول في موقف ما يرحب دائمًا بالنقد، ويشجع المواطنين على مزاولته.
فكل مسئول لا يحكم هذا الشعب وهدفه التحكم فيه وتكميم أفواهه، إنما الهدف أن نساعد هذا الشعب ونأخذ بيده ونربِّيه ونتعلم منه ومن نقده أن نتعاون، وليس أن نتعارك ونمسك لبعضنا السكاكين ونتهم الآخرين جزافًا وننال من ذِمَمهم لأنهم تجرَّءوا ووجَّهوا بعض النقد لتصرُّف صغير قمنا به. إن السيد جمال الليثي الذي يفخر بأسلوبه في التعامل و«نظافة» الأفلام التي ينتجها لم يتردد في استعمال أقذر الأسلحة للرد على النقد الموجَّه إليه. وبدلًا من أن يذهب للمسئول الكبير، ويقدِّم كشف حساب عن الواقعة التي ذكرتها المجلة والتي علقتُ عليها، ذهب إليه لكي يشوِّه سمعتي ويتهمني في ذمَّتي لأصبح أنا وضميري المشكلة وليس ما قام هو به وأخطأ فيه. هذا السيد الذي هو على استعداد لاتهام غيره بخراب الذمة وانعدام الضمير ليغطي خطأ ارتكبه بحسن نية أو عن عمد؛ إنه يُعْتَبَر — في رأيي — إنسانًا غير أمين؛ لأنه إذا كانت الجرأة قد وصلت به حد ألا يتردد في اتهام كاتب مثلي بفساد الضمير ليغطي موقفه أمام المسئولين والرأي العام، يجرح إنسانًا معروفًا ذا تاريخ وتصرفاته معروفة؛ إنسانًا أتحدى أن يُثبت أحد أنه كتب كلمة واحدة بتأثير مصلحته الخاصة؛ إنسانًا يعتبر — مثل غيره من كُتَّاب بلادنا — الكتابة أمانة وشرفًا. تُراه ماذا يفعل أمام أي نقد يوجَّه إليه من مواطن غير معروف ومن الممكن الشك في سلامة موقفه لجهلنا به. إن السينما هي التي تطلب قصصي دائمًا، وخطاب الشركة العامة للإنتاج السينمائي الذي تطلب فيه كتبي لتُنتج منها ما يصلح أفلامًا لا يزال بغير رد، وليس في نيتي أن أردَّ عليه، بل ولا زلت غير مؤمن بالطريقة التي تُنْتَج بها أعمالنا الأدبية.
وبعدُ؛
إن محاولة تلطيخ كاتب بالوحل إنما هو محاولة للاعتداء على قيمة كبرى أصيلة من قيم شعبنا نفسه الذي بحماسه وحبه ومن ضميره صنع هؤلاء الكُتَّاب وأحلَّهم مكانتهم من حياته، أم قانون حياتنا وقيمنا قد هانت إلى هذا الحد؟
إنها ظاهرة مؤسفة وخطيرة. وإذا كان ميثاقنا الوطني قد نص على أهمية وضرورة النقد والنقد الذاتي كمقوِّم أساسي من مقومات حياتنا، فلا بد لهذا الميثاق والكلمات الواردة فيه من حماية، ولا بد أن يكون لحياتنا وقيمنا حراسٌ عليها يعيدون الأمور إلى وضعها الطبيعي، ويحتفظون لهذا الشعب بمقدساته وحرماته سليمة غير مخدوشة، بعيدة عن عبث الصغار والذاتيين والكذابين والمدلِّسين.
رد من وزارة الثقافة
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الفاضل الدكتور يوسف إدريس
تحية طيبة، وبعد؛
قرأت مقالكم الذي نُشِرَ بالجمهورية الغرَّاء في عددها الصادر بتاريخ ١٧ / ٩ / ١٩٦٤ وتحدثتم فيه عن الذين يبنون حياتنا الفكرية والفنية، وكيف أنهم يأخذون أقل الأوضاع، وأن هذه الفئة القليلة لا تحظى بتكريم أحد، وأن مجتمعنا أوشك أن يُهملها إهمالًا تامًّا.
ولقد يكون في الوسع إذا نظرنا إلى قولكم عبر الأمل ومن خلال ما تعمل له الدولة باستمرار من مزيد التكريم والرعاية لهؤلاء الذين يعملون بإخلاصٍ لتزكية الفكر وإثرائه، خدمةً للثقافة وتوسيعًا لقاعدتها وتعميقًا لها؛ قد يكون في الوسع أن نقول: إن الدولة — مع ما حققته من تكريم ورعاية للفنانين والأدباء — لا تعتبر ما قدمت غاية المنتهى.
ولكننا مع ذلك لا يمكننا أن نقوِّم ما لقيه الذين يبنون حياتنا الفكرية والفنية دون الالتفات إلى الماضي القريب؛ فقد يفيد في إدراك ما تحقق للأدباء والفنانين من تكريم وتقدير ورعاية لا يمكن جحدها من ناحية، ومن ناحية أخرى لا تعتبرها الدولة منةً أو تفضلًا بقدر ما تعتبر هذا التقدير والتكريم انطلاقًا من إيمانها بقدرة الأدباء والفنانين على المساهمة الإيجابية الخلَّاقة في صنع الإنسان العربي، صانع الحضارة العربية والإنسانية.
فلا يخفى عليكم — مثلًا — أن جوائز الدولة قبل الثورة للعلوم والآداب والعلوم الاجتماعية لم تكن تتعدى ثلاث جوائز قيمتها مجتمعة تزيد قليلًا عن قيمة جائزة تقديرية واحدة من الجوائز الأربع، وهي «جوائز الدولة للإنتاج الفكري» والتي قيمة كلٍّ منها ٢٥٠٠ جنيه تُمْنَح للممتازين في الإنتاج الفكري تكريمًا لهم وتقديرًا لجهودهم في العلوم والعلوم الاجتماعية والآداب، فضلًا عن «الفنون» التي لم يكن لها نصيب من قبلُ.
كذلك تقدم الدولة ثماني وعشرين جائزة تحمل اسم «جوائز الدولة لتشجيع العلوم والفنون والآداب والعلوم الاجتماعية»، قيمة كلٍّ منها ٥٠٠ جنيه عن أحسن إنتاج في العلوم والعلوم الاجتماعية والعلوم القانونية والاقتصادية والآداب والفنون الجميلة.
ولقد كان قصور الوسيلة في الماضي عائقًا بين المعطي والمتلقي، وعقبة بين الأدباء والمواهب الفكرية والأدبية والفنية وبين جمهور كبير من أبناء الشعب، ولكن الثورة الثقافية في وسائل الثقافة، والتي تفضلتم بالإشارة إليها في قولكم: إن عدد الكتب والمسرحيات والمؤلفات والفرق التمثيلية ومنابر النشر قد تضاعف عشرات المرات، هذه الثورة قد أوجدت مجالًا منفسحًا ومُيسَّرًا للأديب وللفنان من جهة، وللشعب من جهة أخرى، وخلقت سوقًا أدبية كبيرة تساعد الأديب على الإنتاج، ولا يضطر معها إلى اختيار أيسر الطرق لتحقيق النفع المادي على حساب الجودة والإتقان.
كذلك فإن البدء في تنفيذ مشروع المكتبة العربية التي يشترك في إصدارها خمسمائة من كبار رواد الفكر والأدب في البلاد وإشراف الدولة على إخراج سلاسل الكتب القومية والثقافية والعالمية والمجلات الأدبية وغيرها، فضلًا عن مشروع المكتبة العالمية الذي يترجم كل الثقافات العالمية إلى الثقافة العربية، كل ذلك — حين يُعتبر— إضافة رائدة إلى رعاية الدولة للثقافة وصانعيها والمسهمين فيها، كما أدى إلى خلق جيل جديد من المؤلفين والأدباء والمترجمين.
وإيمانًا من الدولة بأن هناك من الطاقات الفكرية والفنية ما قد تُشتِّته زحمة الارتباطات والالتزامات العلمية أو المعيشية؛ فقد توسعت في نظام مِنَح التفرغ للأدباء والفنانين وتضاعف عددها هذا العام بالنسبة للعام السابق، ولا أحسب أنه يغيب عن بالِكم ما تنطوي عليه جوائز السينما من تكريم وتشجيع للإنتاج القَيِّم حين ينال التقدير كل جانب من جوانب هذه الصناعة، بما فيها ١٤ جائزة للقصة والحوار والسيناريو والنقد إلى جانب الإنتاج والتصوير والتمثيل والإخراج … إلخ.
كما لقيَ الفنانون التشكيليون جانبًا من تكريم الثورة الفنية بالمعارض والمِنح، وبلغت جملة المقتنيات من إنتاج الفنانين ٢٥٤ قطعة من الصور والتماثيل، واستفاد من ذلك ١٢٥ فنانًا.
وكان من تقدير الدولة وتكريمها للأدباء والفنانين صدور القانون الذي يقضي بإعفاء ٢٥٪ من إيراداتهم من الضرائب.
وكان من تقدير الدولة وتكريمها للأدباء والفنانين تلك الخطوة الكبيرة حين صدر القانون رقم ١٢٦ لسنة ١٩٦٤ بشأن إنشاء صندوق التأمينات والإعانات للفنانين والأدباء، وقرار السيد نائب رئيس الوزراء للثقافة والإرشاد القومي بلائحة هذا الصندوق التي تنص على التأمين الصحي لهم وتأمينهم ضد البطالة وفي حالات الوفاة والعجز الكلي والجزئي، وترتيب معاش تقاعد للفنانين والأدباء على تفصيل لا يعسر عليكم الرجوع إليه، وإن كانت هناك صور كثيرة تشهد بأن الدولة لم تبخل عنهم بالرعاية حتى قبل صدور هذا القانون.
إننا نعتز كثيرًا بأنه لا يوجد فنان متعجل في بلادنا، فأجهزة وزارة الثقافة والإرشاد القومي تعطي الفرصة في مجالات الانطلاق والنبوغ، كما نعتز كثيرًا بأن كل مؤلف أو أديب يجد دور النشر الحكومية وأجهزة وزارة الثقافة جميعًا تحشد إمكانياتها مهيأةً لنشر مؤلفاته وأعماله على الجمهور وعلى أوسع نطاق.
إن الدولة التي تعمل بإيمان وعزم من أجل التنمية الاقتصادية، لا تقلُّ إيمانًا وعزمًا في عملها من أجل التنمية الثقافية وتكريم صناعها. وإذا كانت «الفرصة» في الماضي تستنفد أكثر طاقة الأدب والفنان ليبلغها وسط القلق، فإن الفرص العديدة المتاحة اليوم من الأمن ورعاية الدولة وتشجيعها، كل أولئك يستوجب أن تكرَّس الطاقات للإسهام البَنَّاء بالفكر والفن في رُقيِّ المجتمع وتحقيق الثقافة للشعب.
ختامًا، لي كبير الأمل أن تتفضلوا بنشر هذا التعقيب، شاكرًا لكم سلفًا.
مع أطيب التمنيات.