الحرب في المؤسسة
الأسابيع القليلة الماضية قضيتها أتابع تجربةً خطيرةً تدور في إحدى مؤسساتنا الكبرى. والتجربة خطيرة لأنها شاملة؛ إذ أعتقد أنها تتكرر بشكل أو بآخر في جميع مؤسساتنا على حد سواء. والتجربة لا تمسُّ الاشتراكية أو الثورية ككلمة أو كشعار؛ فالاشتراكية كشعارٍ شيء جميل حبيب إلى القلوب. والتجربة حية؛ لأنها تمسُّ الرجعية في حياتنا بعد الثورة وبعد تطبيق القوانين الاشتراكية، ويخطئ الذين يعتقدون أن الرجعية كأشخاص أو كتيار تختفي من تلقاء نفسها وبمجرد رواج الاشتراكية وازدهارها. إن الرجعية تجد لها دائمًا مكانًا حتى في قلب الاشتراكية وبين صفوف الاشتراكيين أنفسهم.
والتجربة التي أتتبعها تدور حول مديرٍ ثوريٍّ عُيِّن حديثًا في هذه المؤسسة الكبرى، وما كاد اسمه يُعْلَن حتى كانت وفود المستقبِلين والمهنِّئين والمبارِكين تتسابق إلى بابه وتعقد حوله الأمل، وقد كان المدير رجلًا ثوريًّا كما قلت، ولكنه كان أيضًا حسن النية. ومن المظاهرات التي صاحبت تعيينه اعتقد أن كل شيء سيمضي على ما يرام، وأن القلوب صافية وخالية ولا ينقصها سوى إتاحة الفرصة للجميع كي يعملوا ويُنتجوا؛ وعلى هذا لم يشأ المدير الجديد أن يغيِّر أو يبدِّل شيئًا من أحوال المؤسسة أو مناصبها، أبقى كل شيء كما كان واعتقد أنْ ليس في الإمكان أبدعَ مما هو موجود ومن هذه الابتسامات والترحيبات التي يحظى بها في كل مكان من أنحاء المؤسسة الكبرى.
غير أن الحال لم يدُم هكذا طويلًا؛ إذ سرعان ما أدرَك المدير وأدرَك كلُّ مَن يعملون بالمؤسسة أن هناك خللًا خطيرًا لا بد يعيق من حركة الإنتاج، وبعد دراسة سريعة أدرك المدير الموقف على حقيقته، أدرك أن قلةً قليلة هي التي تُنتج في مؤسسته وأنها محاطة بكثرة ضارية من المتطفلين على عملية الإنتاج، ويخطئ من يظن أن جميع العاملين بمؤسساتنا هدفهم الإنتاج أو الحرص عليه؛ إذ لو كان هذا هو الحال لأصبحت كل مؤسساتنا تقدُّمية وكل العالمين بمؤسساتنا تقدميين. الحقيقة أن قلَّةً نادرة هي التي تقوم بعملية الإنتاج والخلق في مجتمعنا وتحرص عليه، وأغلبيةً عظمى تُنتج للمحافظة على مصدر أكل العيش ليس إلا، بينما هناك فئة بأكملها تحيا عالةً على عملية الإنتاج، متطفلةً، تبذل كل ما في وسعها لعرقلته وللسيطرة — مجرد السيطرة — على أقدار المنتجين والتحكم فيهم. هذه الفئة هي الشكل الجديد الذي تتخذه الرجعية في عهود الاشتراكية؛ فالرجعية في العصر الاشتراكي هي الفئة التي لا تُنتج أو التي تقوم — عن حُسن قصد أو سوئه — بعرقلة عملية الإنتاج، إن الرجعية هنا ليست باشوات على صدورهم نياشين وتَعْقُب أسماءَهم ألقاب كبار العائلات. وليست مكوَّنة من رجال الملك السابق، ولا تحمل على رءوسها لافتات مكتوبًا عليها الرجعية. أبدًا لا شيء من هذا. الرجعية في العصر الاشتراكي تجدها تلبس ملابس العصر بأزهى ما يكون، وتحمل شعاراته بكل قوة وحماس. الرجعية هنا تجلس على مكاتب، وتضع نظارات المثقفين، وتحمل في جيوبها الميثاق الوطني تستشهد به كلما أتيحت الفرصة، وحتى دون أن تتاح. الرجعية هنا تُبالغ في التنكُّر وإلا لاكتشفها الناس جميعًا وعزلوها. وهي لا تزال حيةً وقائمةً إلى يومنا هذا؛ لأن تنكُّرها مُتقَن ودورها لم يُكتشف بعدُ.
ولكن مهما بلغت درجة الإتقان فباستطاعتك أن تُميزها دائمًا بسؤال واحد؛ باستطاعتك للتعرُّف على كُنْهِ الشخص أن تسأل: ما دور هذا الشخص في عملية الإنتاج؟ هل هو يطوِّرها ويدفعها إلى الأمام؟ أم هو يحيا عالةً عليها ويقف حجر عثرة أمام المنتجين؟
وقد سأل مدير المؤسسة الثوري نفسه هذا السؤال، وعلى ضوء الإجابة عليه بنى خطَّته للقيام بثورة في مؤسسته؛ ثورة يقضي فيها على الرجعية ويتيح الفرصة للمنتجين؛ وهو بالضبط هدف الثورة في كل زمان ومكان. إن الثورة لا تقوم إلا للقضاء على القوى التي تعرقل وتخنق إنتاج الناس أو الطبقات. وأي إجراء من شأنه أن يرفع عقبة أو يزيل أخطبوطًا هو إجراء ثوري، بل هو المقياس الوحيد لأي إجراء ثوري.
أعلن المدير إذن الحرب على الرجعية والمتعاونين معها ومن يدورون في فلكها، ويخطئ من يظن أن هؤلاء قليلون. إن الضمان الوحيد لأي منتج حقيقي هو أن يُحسَّن ويُطوَّر ويُكثر من إنتاجه، والضمان الوحيد لأيِّ رجعيٍّ هو أن يُنشئ لنفسه شبكة من العلاقات والاتصالات والمعارف، وأن يربط بقاءه ببقاء عدد كبير جدًّا من الناس، بحيث يستطيع في وقت الحاجة أن يستغل هذه العلاقات والاتصالات، وهي علاقات واتصالات ليست في مؤسسته فقط ولكنها تمتد إلى غيره من المؤسسات والدوائر. إنها الجذور الرجعية في كل مكان حين تلتقي وتتعانق وتتكاتف لتضرب حين تتاح لها الفرصة، أو على الأقل لتحمي نفسها من الضربات؛ شبكة تجد بينها أناسًا كثيرين موجودين بحُسن نية وبحكم المعرفة الشخصية، بل أحيانًا تجد بينها منتجين حقيقيين دفعهم الخوف أو الانتهازية إلى تقوية علاقتهم بتلك الشبكة الأخطبوطية الضخمة، بل في أحيان تجد بين مخالبها بعض الاشتراكيين الثوريين الحقيقيين.
وقد جرفهم تيار العمى أو خدعهم إتقان التنكر، أو في أعماقهم فقدوا الثقة في الثورة والشعب وآثروا الإيمان بالحقائق أو الأشخاص والمناصب الملموسة.
وهكذا وجَّه المدير نفسه في دوامة رهيبة منذ أعلن الحرب على الرجعية في مؤسسته. وجد نفسه يقابَل بمعارضة ليس من غُلاة الرجعيين فقط، فهؤلاء أمرهم معروف، ولكن من الناس العاديين؛ من العاملين وأكَلة العيش الذين لم يعد باستطاعتهم أن يفرقوا بين مدير ومدير، ولا بين رجعي أو تقدُّمي ما دام شخصًا «طيبًا» و«ابن حلال» ورجلًا مؤدَّبًا لا يخطئ في حق الآخرين.
والناس بطبعهم يقفون دائمًا ضد أن يُوقَف شخص أو تُنزع عنه بعض اختصاصاته، وقد تعوَّدت هذا الموقف بحكم أن الضربات كانت دائمًا تحيق بالمنتجين العاملين، ولا تستطيع بسهولة أن تغيِّر من نظرتها تلك، وتؤمن أن الضربات لا بد أن توجَّه إلى أعداء الإنتاج البيروقراطيين والرجعيين وأعداء الشعب.
ومع هذا كله، ومع الحرب الضارية العنيفة التي وجد المدير نفسه يواجهها؛ فقد كان ثوريًّا أصيلًا وآثر أن يمضي في عملية الإصلاح الجذرية وأن يواجه التحدي بالتحدي. فهل سكتت الرجعية؟ لقد بدأت تستعين بذخيرة الاتصالات التي كوَّنتها، وتكتُّل الحلفاء والمؤيدين داخل المؤسسة وخارجها، بل استطاعت أن تصل إلى لجان العمل والعمال، وبدأت تمد أيديها القذرة في الظلام لتحرِّك القوى العاملة بالمؤسسة لتكتلها وتوقفها في وجه المدير وتحتمي بجبنٍ شديد خلفها، هذه القوى العاملة التي ستكون أول من يستفيد من الإجراءات الثورية التي يقوم بها المدير، والتي لا يقوم المدير بها إلا لمصلحتها ودفاعًا عنها وعن المنتجين جميعًا، استطاعت العناصر الرجعية أن تُحرِّك هذه القوى وأن تفعل هذا بذكاء شديد، عن طريق مطالب العمال في هذه المؤسسة، ولكلِّ عمال في أي مؤسسةٍ مَطالب، ولكن تحريك هذه المطالب في الوقت المناسب وجعْلها هدفًا عاجلًا لا بد من تحقيقه فورًا، مهمَّةٌ تُجيد الرجعية العصرية القيام بها؛ إذ هي — كما قلت — تجيد التنكُّر، حتى لو كان التنكر هنا في ثياب العمال ومطالبهم واستحقاقاتهم.
إن القيام بثورة ضد الرجعية القديمة المكشوفة عمل أسهل ألف مرة من الثورة على الرجعية الجديدة المقنَّعة بأقنعة سبعة والتي لم يتسرب الشك بعدُ في طبيعتها أو نواياها، ولكنه العمل الثوري الحقيقي؛ لأنه الثورة المتصلة، والاشتراكيون دائمًا ينادون بالثورة المستمرة المتصلة، لا لجعل الثورة في حد ذاتها هدفًا ولكن لاستعمال القوى الثورية والدفع الثوري لضرب أفواج الرجعية المتعاقبة؛ لاجتثاث جذورها كلما نبتت لها جذور؛ لأن تركها أو إهمالها يؤدي في النهاية إلى استشراء المتطفلين على الإنتاج لدرجة تحقق قوى الإنتاج، ويتحتم معها أن تنشب في المجتمع كله ثورة شاملة وهزة عنيفة تقضي على هذه الرجعية الخانقة المتطفلة.
وقد أصبح المدير الآن في موقف لا يُحْسَد كثيرًا عليه؛ فهو يحارب بكل قوته في أكثر من جبهة، والمعركة على أشُدِّها، والعجيب أن هذا كله يدور في صمت؛ إنك لا تجد إذا دخلت المؤسسة مَدافع أو مسدسات، إنك تجد ابتسامات وقهقهات وقهاوي رائحة وغادية، ولكن الحرب مستعرة وشاملة، والرجعية فيها تستعين بكل ما في استطاعتها أن تُحرِّكه أو تُسدِّده، والسكون يُخيِّم على كل شيء وكأنْ ليس هناك شيء بالمرة.
كل أملي من نشر هذه الكلمة أن يعيَ العاملون بتلك المؤسسة وبكل مؤسسة بحقيقة ما يحدث، وأن تنتهي حالة السكون واللامبالاة، وأن يتدخل العاملون كطرف ثالث في هذه الحرب الخَفِيَّة؛ طرفٍ ينهي المعركة ويكشف الرجعية؛ فالرجعية لا تريد أكثر من أن تمضي المعركة في صمت ومن وراء ستار وفي غيبة العاملين من جماهير المؤسسة وعمالها، أو في حضورٍ كالغيبة؛ الغيبة عن الوعي؛ إذ أمضى سلاح ضد الرجعية هو الوعي، واليوم وقد انكشف المخبوء لم يعُد أمام العاملين بالمؤسسة والمنتجين فيها أي عذر لوقوفهم موقف المتفرج من حرب تحدد مصائرهم ومصائر زملائهم؛ فالثورة لا يحققها مدير أو بضعة مديرين؛ الثورة تتحقق فقط وتنجح بتكاتف الناس جميعًا لتحقيقها وإنجاحها.