الفرقة والأزمة
لا شيء يُثلج القلب أكثر من رؤيته لكائنٍ يوجَد أو لحلمٍ يتحقَّق. هكذا كان شعوري وأنا أشهد فرقة الإسكندرية المسرحية. إن وراء إنشاء هذه الفرقة لا بد آمالًا عريضة جاشت بها الصدور، وكفاحًا وجهدًا شاقًّا لمواصلة الهواية. وأخيرًا ها هي ذي كلها تتجسد وتتحقق ويصبح لفناني الإسكندرية من مؤلِّفين وممثِّلين ومُخرِجين فرقةٌ ترعاها المحافظة ماديًّا وأدبيًّا، وتُشرف عليها مؤسسة المسرح فنيًّا وتوجيهيًّا. لا أُنكِر أن شغفي كان شديدًا لرؤية هذه الفرقة الوليدة، نفس الشغف الذي لا زلت أُحِس به تجاه التجربة الرائدة الأخرى التي تقوم بها وزارة الثقافة بنقل المسرح إلى المواطنين في الأحياء الشعبية بواسطة دور السينما في تلك الأحياء.
حضرت الفرقة وهي تقدِّم رواية الأزمة لأحمد حمروش. وفوجئت أول ما فوجئت بمسرح إسماعيل يس الذي تقدِّم الفرقة عليه رواياتها، فوجئت به — وهو الكائن على البحر المُعرَّض في ليالي الشتاء الإسكندرانية للبرد وتيارات الهواء — ممتلئًا بالجمهور. كان واضحًا أنه يلتهم المسرحية وحوارها وفصولها التهامًا وكأنه مدعوٌّ إلى مأدبة إفطار بعد يوم صوم طويل.
ولوجه الحقيقة أيضًا لم أكن أتوقع الكثير من فرقة مثلها وليدة، وبروح الإشفاق هذه ونية الصفح مضيت أتفرج على مقدمة الفصل الأول، الطويلة بعض الشيء، إلى أن دخل «عباس» إلى المسرح، هنا وجدت الحياة تدب في المسرحية وتنبض، وجو المسرح يتكهرب بهذه الشحنة العاطفية الفنية التي تحدث حين يتم التجاوب بين الممثل فوق الخشبة والجمهور في الصالة. هذا ممثل موهوب حقًّا، ناضج الموهبة، عرفت فيما بعد أن اسمه وحيد سيف، وكان دوره كوميديًّا، ولقد أداه بموهبة كوميدية راقية وعميقة أكاد لا أجد لها نظيرًا بين كافة ممثلي العاصمة المشهورين السينمائيين والمسرحيين، وحين دخلت البطلة سميرة «عايدة إسماعيل» ظننتها إحدى السيدات أو الفتيات الكثيرات هاويات التمثيل حين تسمح لهن ظروف مجتمعنا المتحفظ أن يجدن لهوايتهن متنفَّسًا في فرقة كفرقة الإسكندرية. ولكنها لم تكن كذلك؛ من طريقة أدائها لأول جملة حوار أحسست أنها متمكنة ومسيطرة وموهبتها في مستوى دورها إن لم تكن تفوقه. أما البطل فقد شعرت به في محنة، شعرت أنه يؤدي الدور بطريقة غريبة على طبيعته، لا بد رسمها له المُخرِج وحدد طاقته التمثيلية داخلها.
والأزمة هي درامة الجيل العامل الجديد في مجتمعنا، ذلك الذي يريد أن يعمل ويُنتج ويحافظ في نفس الوقت على قيمه ومبادئه، الأزمة تنشأ حين يصبح عليه — لكي يمضي في عمله وينجح — أن يتخلى عن هذه المبادئ أو بعضها. فهل يفعل؟ ذلك هو الموضوع المسرحي الذي اختاره أحمد حمروش لروايته الأولى، وهو موضوعٌ مسرحيٌّ من الدرجة الأولى — كما نرى — يكفي اختياره علامة على قدرة المؤلف المسرحية. ولكن العلاج جاء سريعًا لا يهز ولا يتوقف ليُعمق المواقف إلى نهايتها لنصل إلى الجذور وحتى إلى مناطق لم تُسْتَكْشَف بعدُ من مناطق الشخصية الإنسانية والسلوك البشري. لقد جاءت «الأزمة» مباشرة وواضحة كمسائل الحساب البسيطة لا يحتاج حلها إلا لإجراء عملية ضرب أو طرح أو قسمة. وقد أجرى المؤلف العملية في النهاية وخرج البطل بإرادته وقِيَمه سليمة لم تُمَسَّ. يُخيَّل إليَّ أن الأزمة الحقيقية كانت تنشأ كصراع طويل رهيب متقلب بين الإنسان حين يريد ويكافح ليستجمع إرادته وليتخذ موقفًا وقرارًا، وبين الظروف المحيطة وطبيعة تكوينه وضعفه الإنساني حين تتكاتف وتقف حائلةً بينه وبين ما يريد. وليس مهمًّا أن تنتهي الأزمة بانتصار الإرادة أو انتصار الضعف، المهم أن نرى الإنسان أمامنا وهو يعيش مراحل الصراع ويقاوم وينهار ويرفع رأسه ويثور ليعود يساوم ويخفضها. ليست النهاية مهمة؛ لأن الأزمة الإنسانية لها أبدًا نهاية وإلا لحُلَّت جميع مشاكل البشر. إن كل ما يستطيع المسرح أن يجسده ويوضحه هو موقف الإنسان وهو يصارع الأزمة وهل خاض الصراع ببطولة أم خاف ونكص؟
وهذا العيب ليس عيب الأزمة وحدها. إنه عيب مسرحنا الحديث كله.
الصراع البسيط غير المركَّب والمواقف الخاطفة و«الحديث» عن الصراع وليس تجسيد الصراع، الأزمة ابنة هذا المسرح وقد كان طبيعيًّا أن ترث عنه كل مزاياه وكل عيوبه، الحوار الجيد الممتاز وضحالة المواقف الدرامية وتعدُّدها وعدم القدرة على بناء الحدث المسرحي الكامل عن طريق تعميق الموقف والغوص به. إن الشخصية الدرامية كالسفينة التي في طريقها إلى الغرق، كلما أحست أنها تغوص إلى أسفل انتزعت محتوياتها الدفينة بعنف وقذفتها بعيدًا عنها على أمل أن تتخفف وتنجو. وقد تحدث النجاة أو لا تحدث ولكن المهم دائمًا وأبدًا هو ذلك الكنز من «محتويات» الشخصية الذي نحصل عليه من الشخصية قسرًا ورغم إرادتها ونتيجة للمأزق الذي وُضِعَت فيه والأزمة التي تخوضها.
ولكن كل هذا لا يمكن أن يُغفَر لمُخرِج مسرحية الأزمة ما فعله.
إنها مسرحيةً تُحِس أن وراءها تأليفًا وتمثيلًا ولكنك لا تحس أبدًا أن وراءها مُخرِجًا، وإذا شعرت به يتدخل فتحس أنه يتدخل لإفساد العمل أو لقطع المتعة؛ مثل أن يطفئ النور في نصف المسرح ليبقى البطل في الظلام ويمنعك من تتبُّع انفعالاته، ويُبْقي الآخرين في النور. إن المسرح ليس لوحةً تؤثِّر بتوزيع الأضواء والظلال. إن المسرح يؤثِّر بما يستطيع المتفرج تجميعه من محتوًى ومعلومات عن الموقف الذي يدور أمامه، فإذا كان عمل الإخراج هو أن يحول بين المتفرج وبين إدراك ما يدور أمامه فهو إخراج قِلَّته أَحسنُ.
ورغم هذا كله — رغم محاولات المُخرِج لإفساد السهرة والرواية — فقد نجحت الأزمة؛ نجحت الفرقة، اجتازت أزمة البداية ووقفت على أقدامها، وكذلك اجتاز أحمد حمروش كمؤلف أزمةٍ الأزمةَ، عنق الزجاجة والرواية الأولى، ووضع قدمه على أول الطريق، أروع وأرحب وأضيق وأبشع وأمجد طريق؛ طريق ذلك النُّصب الخرافي المقام لتمجيد عظمة الإنسان وخطيئته وبطولته وتفاهته؛ طريق المسرح.