حددوا لنا مكان الطب من مجتمعنا
إن شكوى الجمهور من معاملة بعض الأطباء يجب أن تخرج عن نطاق اتهام طبيب بعينه؛ إن المشكلة أضخم من أن يردَّ عليها نقيب الأطباء بقوله: إن النقابة مستعدة لتحقيق أي شكوى، إنها مأساة عامة مرتبطة بوضع اجتماعي خطير، وهي أول أمانة في عنق مجلس نقابة الأطباء الذي يخاطبه زميلنا الطبيب الدكتور يوسف إدريس في هذا التحقيق.
إن «الجمهورية» تفتح الباب أمام كل المهتمين بهذا الموضوع الخطير، لطرح اقتراحاتهم بما ينصف الأطباء، ويحقق حاجات المرضى.
أكثر من مرة منعت نفسي أن أخوض في الجدل الدائر حول موقف بعض كبار أطبائنا من حادثة مرض المرحوم إسماعيل الحبروك. كنت أمنع نفسي عن عمد؛ فكثيرًا ما وقفت موقف المدافع من حملات الهجوم التي كانت تُشَن على الأطباء وتكيل لهم التُّهم؛ لأنه مع علمي أن بعضها قد يكون صحيحًا إلا أني أفضِّل أن يظل أطباؤنا محوطين بجوٍّ من الثقة يكفل لدورهم العلاجي فاعلية أكثر؛ فإيمان المريض بطبيبه جزء لا يتجزأ من عملية علاجه، ولن نكسب شيئًا إذا نحن في الصحف جرَّدنا حملةً تُزعزع ثقة الناس عامةً في الأطباء عامةً؛ لمجرد أن تصرُّفًا بعينه قد صدر عن شخص بعينه أو عدة أشخاص.
ولكني لا أستطيع السكوت وأنا أرى أنه برغم كل ما أثير لم نخرج بنتيجة مُرضية أو غير مُرضية؛ فلقد أخذ بعضهم النقاش على صعيدٍ شخصيٍّ محض، وكأن معركة قد قامت بين موسى صبري من ناحية وبين هذا الطبيب أو ذاك من ناحية أخرى؛ معركة وجد بعض أصدقاء الطبيب أن النخوة والشهامة تقتضيهم أن يُؤازروه ويُدافعوا عنه ويُبرروا مقصده، وبذلك وجد بعض إخواننا من الكُتَّاب والصحفيين أنها الفرصة المناسبة لتعداد مساوئ الأطباء وأفعالهم الصغيرة. ولم نخرج بأي نتيجة رغم أن نقابة الأطباء أبدت استعدادها لمعاقبة أيِّ مسيء من أعضائها فقط لو تقدَّم لها أحد بشكوى مكتوبة، «والحمد لله أنها لم تقل على ورقة تمغة».
ولا أعتقد أن أحدًا من القُرَّاء أو الأطباء أو المرضى أو الصحفيين قد رضي عن هذه النهاية؛ إذ كيف يُثار موضوعٌ نشغل به الصفحات المطوَّلة ووقت الناس ولا نخرج منه بعبرةٍ أو بدرسٍ أو بنهاية نتلافى معها أية أخطاء مماثلة في المستقبل إن كانت قد وقعت أخطاء؟
الطب كتجارة، والطب كرسالة
رغم ما قيل فالمسألة لها جانبٌ آخر مهم لا بد من الوقوف عنده طويلًا والخروج منه بنتيجة؛ ذلك الجانب يدعونا للتساؤل: هل نُعامِل الطبيب على أنه مجرد صاحب مهنة ومزاول لحرفة اسمها الطب، أم نعامله وكأن مهنة الطب التي يزاولها تُلقي عليه — دون سائر المهن الأخرى — واجبًا أسمى وتجعله صاحب رسالة؟ هل الطب تجارة أم رسالة؟ وهل الطبيب مجرد صاحب عيادة يهمه أن يزيد دخْلها ويكثر زبائنها، ومقياس نجاحه هو تزايد عدد المترددين عليه وذيوع اسمه؟ أم الطبيب إنسان ارتضى مختارًا مهنةً، عمله فيها أن ينقذ حياة الآخرين ويعالجهم ويخفف آلامهم، ومقياس نجاحه ليس هو رواج تجارته ولكن مقدار تفانيه في أداء هذه المهمة، وعدد الأرواح التي أنقذها وعالجها وخفف آلامها، مثله في هذا مثل عامل الإنقاذ على الشواطئ؟
أسئلة للأسف لا تُدْرَس الإجابة عليها في كليات الطب؛ فهم هناك يدرسون الأمراض ولا يدرسون مفهوم الطب، ويتركون لكل خريج أن يحدد لنفسه مفهومًا يبني عليه حياته ومستقبله، وللأسف أيضًا، ولأننا ننبع من مجتمعٍ الاحترامُ فيه والمركز أساسه الربح ومقدار ما لدى الشخص من نقودٍ يختار معظم أطبائنا أن يزاولوا الطب كمهنة ويُتاجروا فيما حصَّلوه من علوم. وهم معذورون؛ فجميع من حولهم يتاجرون؛ المهندسون يتاجرون في الهندسة، والسينمائيون يتاجرون بالخيال، والمحامون بمعرفتهم للقانون. وحتى التجارة في أقوات الناس والكسب من لقمة العيش مباحة، فلماذا يصبح الأطباء وحدهم الملائكة في عالمٍ من التجار؟
المثل الأعلى، خدمة القادرين
الإغراء قويٌّ، وله أسبابه الوجيهة، وهو لا يُغري صغار الأطباء فقط أو حديثي التخرج، ولكنه يغري الكبار منهم والعلماء وأساتذة الكليات، بطريقةٍ يصبح معها المثل الأعلى أمام الطبيب لا أن يصبح عالمًا في الطب، ولكن مثله الأعلى أن يصبح عالمًا في الطب ليخدم بعلمه هذا أغنى طبقة، يحصل على أعلى المؤهلات لكي يصبح حكيم أعلى الطبقات؛ أستاذ الولادة همه لا أن يقوم بأبحاث في الولادة أو يكرس نفسه لحل مشاكلها المعقَّدة التي لا يستطيع سوى مَنْ في علمه وخبرته أن يبحث فيها ويحلَّها، ولكن همه أن يصبح مولِّد سيدات القادرين والأغنياء. طبيب الأمراض الباطنية لا يصبح هدفه أن يكون العالم الأول للأمراض الباطنية، ولكن يصبح هدفه أن يكون المعالج الأول للمليونيرات وأكبر الطبقات ثراءً ولو حتى من الإنفلونزا أو الإمساك. وهكذا الحال في كل فروع الجراحة والطب. هدف الطبيب هنا لا العلم من أجل العلم ولا العلم من أجل الشعب وجماهير المواطنين، ولكن العلم من أجل الفلوس وأصحاب الفلوس والقادرين على الدفع، من أجل أن يصبح ممرض الطبقة الغنية وطبيبها. ولكي تثق فيه طبقة الأثرياء والعظماء والقادرين وتُفِيض عليه من كرمها ونفوذها وتَعْهَد إليه بالإشراف على صحتها عليه أن يكون له «اسم» في السوق كأي تاجر ذكي، عليه أن يحوز الشهادات فقط ليضعها على قمة الروشتة واللافتة؛ عليه أن يمثل في عيادته الخاصة وأمام الزبائن، عليه أن يجيد فنون التحدث والترفيه ويجري وراء المشاهير ليحظى بعلاجهم ليقترن اسمه بشفائهم، عليه أن يجعل الناس يعتقدون أنه ما إن يمسَّ العليل حتى يُشْفَى، وما إن يدخل بيت المريض حتى يذهب المرض، عليه أن يبتعد عن الحالات الخطرة والميئوس منها حتى لا يحدث مرة أن يموت إنسان كان يعالَج بإشرافه فيخدش اسمه ويتشاءم منه الأغنياء، عليه أن ينسى مركزه العلمي تمامًا وينتبه جيدًا إلى مركزه في السوق فيُشنع على المنافسين مثله مثل أي حانوتي أو بقال.
النتيجة الحتمية
والنتيجة الحتمية لذلك الاتجاه أن يصبح أشهر الأطباء ليس بالتالي أعلمهم وإنما أكثرهم فهلوة — مثلًا — وقدرة على إرضاء الزبائن والبروز بكل السبل وبأي الطرق على المسرح. وحين تحل الشهرة، عليه أيضًا أن يبدأ يعالج لا على أساس المرض وإنما على أساس المريض؛ مَن يكون المريض؟ ما ثروته أو مركزه؟ وماذا سيظفر به من علاجه؟
والنتيجة الحتمية المؤكَّدة أيضًا — والتي باستطاعتك أن تراها وتلمسها — أن تجد معظم أساتذة الطب والجراحة الكبار عندنا مشغولين بمعالجة رشح الأغنياء، ووضع قوائم الريجيم لإنقاص الوزن للسيدات، وعلاج جروحهم السطحية وخدوشهم وبواسيرهم، والأمراض التي ليس باستطاعة أي طبيب امتياز أن يعالجها فقط، وإنما باستطاعة أي طالب طب أو حتى قارئ لمجلة الدكتور أن يعالجها. وطبعًا مشغوليتهم الكبيرة في معالجة هذه الأمراض الصغيرة تبتلع وقتهم وجهدهم كله، ولا تترك لهم ذرَّة نشاط فائضة يستخدمونها في علاج الحالات الصعبة التي تحتاج إلى علمهم وخبرتهم، الحالات التي يعجز عن علاجها سواهم، الحالات التي خُلِقَ من أجلها الأساتذة الكبار.
الشهرة من الخارج إلى الداخل
الوضع إذن أدى إلى الآتي: تحول هدف الأطباء من خدمة العلم إلى خدمة الأغنياء، وتبعًا لتغيُّر الهدف تغيرت القيم كلية؛ فالحالة المستعجلة هي الحالة الغنية، والمرض المفضل هو المرض السهل المضمون شفاؤه، والشهرة لا تُبْنَى من الداخل إلى الخارج — من حجرات العمليات والكشف والفحص والمجهود العلمي الخالص إلى الخارج والناس — ولكن تُبْنَى من شهرة طبيب لدى أصحاب الجاه والغنى، تلك الشهرة التي لا يمكن أن يوجد لها أي أساس علمي، وإنما أساسها حقيقةً نوعٌ من الدجل الراقي، شهرة وسمعة ومركزًا في الخارج يبدأ ينفذ إلى أمكنة العلم المغلقة ومحافله ومحرابه، ويتدخل تدخلًا يكفل رفع هذا الطبيب فوق أكتاف زملائه، وتزويده بأسلحة يصارع بها أولئك السُّذج الذين وهبوا أنفسهم للعلم، وضربوا عرض الحائط بكل ما هو خارج قاعاته.
النتيجة أن الدجال الراقي الذي يصير إليه الطبيب يظفر بكل شيء؛ بالسمعة والشهرة والمركز واللقب والثروة، أما العالم المتصوف في فرعه الذي لا يعرف من دنياه غير كتبه ومعمله وحالاته فهو الخاسر على طول الخط، المهمَل الذي يزورُّ عنه الجميع ويعيش ويموت دون أن يسمع به أحد. إذا كان الوضع هكذا كيف يلومون إذن الأجيال الحديثة من الأطباء والعمال حين يرون بأعينهم المصير، ويتخرجون ليجدوا الأساتذة — مُثُلهم العُليا — يعملون ممرضي أغنياء، وينالون من عملهم هذا كل ما تصبو إليه النفس؟ كيف تلومونهم إذا هم الآخرون انحرفوا وأصبحوا يتقاتلون من أجل الشهرة والسمعة وسكب كرامتهم الإنسانية والمهنية تحت الأقدام الثرية؟
وليس الأطباء فقط
إن كل المشاكل التي تسمعها عن تقصير البعض وتشدُّد البعض ومقاولات البعض ليس سببها فساد ذمة هذا البعض، ولكن سببها فساد الوضع عامةً. إن نفس هذا الوضع موجود لدى المحامين والمهندسين؛ فليس باستطاعة أي متهم أن يلجأ إلى أي محامٍ، فلماذا لا يشكو الناس من ارتفاع أسعار المحامين الذين قد يأخذ الواحد منهم في القضية الواحدة خمسة آلاف وعشرة آلاف جنيه؟ نفس الوضع موجود، وكبار المحامين لا يختارون قضاياهم على حسب صعوبة القضية أو أهميتها، وإنما على حسب مركز المتقاضي ومبلغ ما في استطاعته دفعه من نقود. الوضع عامٌّ وحلُّه لا يكون بإدانة فرد أو فئة بعينها؛ الحل بتغيير المجتمع نفسه وقيمه وكل أوضاعه تغييرًا جذريًّا؛ الحل أن نغير القيمة في المجتمع لتصبح أهمية المواطن ليست بمقدار ما معه من نقود أو ما يستطيع إتقانه، ولكن بقيمته هو، بقيمة عمله من أجل ذلك المجتمع، بقيمة جهده من أجل زملائه ومواطنيه.
وإلى أن يحدث هذا لا يمكن أن نطلب المستحيل، ونطلب من الطبيب ألا يستغل عمله استغلالًا تجاريًّا في الوقت الذي لا نجد عيبًا أن يستغل المحامي أو المهندس أو الممثل عمله استغلالًا تجاريًّا. ما دمنا نستحل أن يكسب مواطن من تجارته في قوت المواطن، طعامه ودوائه، فلماذا في مسألة علاجه نطمع أن يتولى أمره ملائكة وقدِّيسون؟! إن الأطباء بشر مثلهم مثل غيرهم، وما داموا بشرًا فهم قابلون للإغراء وللاستجابة للإغراء، وما دمنا نسمح لبعض المواطنين — للأغنياء — بامتلاك وسيلة الإغراء التي لا تقاوَم: النقود بكميات باهظة، فكيف نوجد البنزين بجوار اللهب والنفس البشرية أمام المال، والطبيب الذي كافح أهله واقترضوا لتعليمه أمام المريض الواسع الغنى؟! كيف نوجِد هذا كله ونطلب المستحيل؛ ألَّا تشتعل النار، وألَّا تضعُف النفس، وأن يركل الطبيب نقود الثري بقدمه ويذهب ليعالج الفقراء؟!
إننا نطلب في هذه الحالة أمثلةً شاذة خروجًا على القاعدة، ولحسن الحظ نجدها. كنت مرة في زيارة الأستاذ الدكتور أنور المفتي وإذا به يحدثني عن مشروع غريب، أغرب ما فيه أن يصدر عن أنور المفتي، وأغرب ما في غرابته هو تلك المقدمة التي ساقها قبل الدخول في الموضوع. قال الدكتور أنور:
خلال الأشهر الأخيرة بدأت أتأمل حياتي، وأسأل نفسي: تُرى ماذا فعلت بكل السنوات الطويلة التي قضيتها أدرس وأنال الشهادات وأجرب وأتعلم؟ ماذا فعلت أكثر من أني عالجت مائة أو بضع مئات من بعض أمراض كان من الممكن أن يعالجها أي طبيب غيري، وحالات منها كان ممكنًا أن تُشْفَى من تلقاء نفسها؟ الحقيقة أحسست بالخجل؛ إذ أدركت أني بكل ما فعلت لم أفعل شيئًا يؤثِّر في مجرى حياة جماهير شعبنا العريضة أو يخفف عنها.
ماذا وجدت؟
وجدت نفسي هنا مجرد طبيب في القاهرة مع أكثر من ثلاثة آلاف زميل نعالج مليونين من سكان القاهرة من أمراض عارضة، من أمراض هي في أغلبها نتيجة التُّخْمَة والإسراف، بينما هناك أكثر من عشرين مليونًا من أبناء شعبنا يعانون من أمراض حقيقية، أمراض نتيجة الجوع والفقر، أمراض تشل وتجنن وتقتل ولا أحد يعالجهم منها. حتى أطباء الأرياف مشغولون بمعالجة العُمَد والمشايخ والأعيان والقادرين، بينما الفلاحون المعدمون تُبيدهم الأمراض جيلًا بعد جيل وتهد كيانهم وتجعل متوسط أعمارهم خمسًا وعشرين سنة أو أقل، ولا يصلهم من نور العلاج شعاع ولا يذكرهم ذاكر. كلنا نعتمد على الحكومة في حل مشاكلهم وتولِّي شئونهم حتى شئون صحتهم، ونجلس هنا في القاهرة أبرياء الذمة نظيفين. أدركت من خلال مراجعتي لحياتي وتاريخي مع الطب أني وكل زملائي مقصِّرون — أكثر من مقصرين — في حق جماهير شعبنا العريضة. لا بد أن نفعل من أجلهم شيئًا. لا بد أني في أزمة شخصية؛ إني أرزح تحت عبءٍ يومي من تأنيب الضمير. هكذا تحدث الدكتور أنور المفتي. ومع أنه انتهى من حديثه إليَّ بأنه قرر هو وبعض زملائه الكبار تكوين قيادة جيش طبي وشعبي لمقاومة البلهارسيا — أعدى أعداء شعبنا — إلا أني في الحقيقة كان ما راعني هو حديثه عن نفسه، عن مراجعته لنفسه، عن تأنيب ضميره؛ إنها صحوة العالم، صحوة المؤمن. إن العلم والطب رسالة وأمانة ليست ملك حاملها بقدر ما هي ملك للناس. إن كلًّا منا لا يمتلك علمه أو موهبته. إن مالكها الحقيقي هو شعبنا كله مجتمعًا، وأن يستغل علمه وموهبته لفائدته الشخصية المحضة جريمة ليست بأقل من احتكار مواد التموين أو إخفائها. وإذا كانت قشعريرة تأنيب الضمير تتملكنا إذا جلسنا نلتهم الطعام وحولنا الناس جوعى فلا أن تتملكنا قشعريرة مماثلة ونحن نرى الناس من حولنا مرضى ونحن أصحاء، ونحن نرى الناس — أناسنا، شعبنا، بني جلدتنا — من حولنا جهلةً ونحن مُتْخَمون بالعلم، ولسنا فقط مُتْخَمين به ولكن نستغله؛ العلم الذي استأمننا مجتمعنا عليه وتعلَّمناه في مدارس شعبنا وكلياته ومستشفياته، نُغلق عليه صدورنا ونُخفيه ونستغله لأخذ نقود الجهلة، نستغل جهد الناس لا لإفاضة علمنا عليهم ورفع مستواهم، ولكن لإبقائهم أكثر جهلًا وإبقاء أنفسنا أكثر علمًا حتى يستمروا في حاجة إلينا ونستمر نربح. أمانة حمَّلنا إياها المجتمع لنخدم بها المجتمع كله لا لكي نقصرها على مَنْ باستطاعته أن يدفع، ونحرم منها الملايين الذين لا يستطيعون.
لو أردنا إصلاح الوضع حقيقة
من يدري؟ ربما لو نشأت في نفس كل عالم وطبيب الثورة التي رأيت بوادرها لدى الدكتور أنور المفتي، ربما لو أمكننا أن نبدأ بأطبائنا ليضربوا للناس المثل الأول والأحق، ربما لو دعونا لثورة طبيبة يقودها الأطباء أنفسهم يتولون هم ما نريد من الدولة أن تتولاه، ربما لو أخذوا هم على عاتقهم — كنقابة وكفئة — تنظيم أمر العلاج وعدالة توزيع الأطباء، ومنع الأخصائيين من مزاولة ما يستطيع الطبيب العام مزاولته وقصر عملهم على الحالات التي تليق بعلمهم ومكانتهم، ربما لو أردنا أن نتقدم حقيقةً وبدأنا بأنفسنا لحلَلْنَا لشعبنا مشكلة مزمنة مستعصية، ولَضَرَبْنَا في التاريخ مثلًا فريدًا لم يقم به الأطباء في أي زمان ومكان.
وإلا فبربِّكم كيف نظل نتحدث عن التقدم وتحسُّن الأحوال، وننتظر أن تتقدم وتتحسن الأحوال دون أن نصنع نحن — ومن لحظتنا تلك — شيئًا للتقدم ولتحسُّن الأحوال؟ أية معجزة نعتمد عليها لتحسين الأحوال؟ وإذا تنصَّل كلٌّ منا عن مسئوليته في هذا التحسين فمن الذي سوف يقوم به ولا ملائكة تهبط على الأرض ولا شعب آخر باستطاعته أن يترك مشاكله ويتطوع لحل مشاكلنا؟ مَنْ سيفهم في علاجنا أكثر من أطبائنا؟ ومَنْ غير أطبائنا باستطاعته أن يحل مشاكل العلاج؟ وكيف نتصور الحل إذا لم يكن هكذا؟ أتريدونه بقوانين وبعقوبات؟ أنريد أن ننتظر الدولة أن تصنع كل كبيرة وصغيرة؟ لماذا لا نستيقظ وندرك الحقيقة البسيطة؛ حقيقة أننا نحن الدولة؛ نحن الشعب والدولة، والمشاكل مشاكلنا، والحلول لا بد أن تكون من صنعنا نحن ولا بد أن تنبع من إرادتنا؟ إذ هكذا يتمُّ الإصلاح، فلم يحدث أن ذكر لنا التاريخ أبدًا أن إصلاحًا تم بقانون، أو أنه حدث بناءً على مرسوم يهبط من أعلى. الإصلاح مثله مثل غيره يبدأ من أسفل، من الناس، من أصحاب المشكلة.