أُسْوَان الجديدة
ذهبت إلى أُسْوَان وفي ظني أني ذاهب إلى بلادٍ في أقصى الجنوب حارَّة جرداء يسير في شوارعها أناس سُمر الوجوه طيبون يناضلون الحَرَّ في كسلٍ وضِيق. ذهبت وفي ظني أني في طريقي إلى رؤية القدم البعيدة لبلادنا المغروسة في صحراء النوبة، المليئة بالخشونة والشقوق؛ أُسْوَان المقرونة في ذهني دائمًا بالحجر الأُسْوَاني الرمادي البني الثقيل الصلب القاحل الذي يصنعون منه أحجار الطاحونة. وكنا نعتقد ونحن أطفال أنه أثقل شيء في الدنيا، وأن القطعة منه لو سقطت على الرجل لهشمته. ذهبت وفي ظني أن أُسْوَان كلها ليست سوى أكوام هائلة ضخمة من هذا الحجر.
والعجيب أني حين وصلت وجدت هذا كله؛ وجدت الحر والجنوب الأقصى والناس الطيبين المنفيين بالوراثة الذين لا يدري الإنسان كيف يستطيعون الحياة على البُعْد الشاهق من العاصمة والتحضر، ووجدت صور الجرانيت أيضًا وصحراء النوبة، النيل ضيقًا مليئًا بالجُزر والأساطير، غامضًا ماردًا محيرًا.
ولكني وجدت قبل هذا كله وفوق هذا كله أنني كنت على خطأ في اعتقادي أني في طريقي إلى رؤية قدمنا الجنوبية. لقد وجدت القدم رأسًا آخر أكثر حيوية وتفاعلًا من العاصمة؛ وجدت أُسْوَان القدم في السنين الأخيرة قد نبَتَ لها رأسٌ ضخم يحتوي على أكبر عقل في بلادنا، وأن الآية انقلبت وبلادنا قد تحوَّر وضعها وأصبح رأسها في الجنوب وأقدامها في الشمال.
يكفي أن تذهب إلى محطة توليد الكهرباء من خزان أُسْوَان، يكفي أن ترى عنبرًا واحدًا من عنابر شركة كيما، وليكن عنبر إنتاج الأيدروجين الذي يُعتبر أكبر مصنع من نوعه في العالم لإنتاج الأيدروجين من الماء والذي يستهلك طاقة كهربائية تعادل الطاقة التي تستخدمها مدينة القاهرة كلها ببيوتها وشوارعها ومصانعها، يكفي أن تزور موقع السد العالي، يكفي أن ترى الصعايدة المصريين وقد شقُّوا الجبل وحوَّلوا مجرى النيل وعدَّلوا في نظام الكرة الأرضية؛ لكي تدرك أن رأس مصر هنا، في هذه القطعة. وأنه بالعمل الدائر فيها، بالإنسان الجديد الذي تصنعه، بشهدائها شهداء أشرف وأنبل معركة: معركة البناء، بالاشتراكية التي تحققها إنتاجًا وتشييدًا وواقعًا حيًّا ملموسًا يبهر العين مرآه؛ يكفي أن ترى هذا لتدرك أن التاريخ أيضًا يغير مجراه، وأنه إذا كانت التطورات في حياة مصر كانت تحدث دائمًا وعبر الأجيال من الشمال إلى الجنوب؛ فالتطور هذه المرة يعكس اتجاهه ويبدأ من جنوبنا صاعدًا مع الماء المتدفق إلى الشمال.
إن أروع ما في السد العالي هو الإنسان الذي بنى السد العالي. هم الصعايدة الذين لا يزالون يرتدون نفس الجلاليب الممزَّقة، الحُفاة النِّحاف الذين يبدون كالأقزام الأسطورية الصغيرة وهم يسيرون بجوار الحوائط الضخمة الهائلة التي أقاموها. هم هؤلاء الناس الذين لا يكلُّون عن البناء، الذين أقاموا السد الأكبر وبالأمس انتهوا من السد الأصغر وحوَّلوا مجرى النيل مرةً عند خزان أُسْوَان، وها هم أولاء يغلقون النيل بسور ارتفاعه ١١٠ أمتار وبعرض كيلو من القاعدة، ويفتحون في بطن الجبل نيلًا آخر يتدفق من مياهه الكهرباء بالمجَّان وبحركة الماء، بحركة التاريخ؛ فمنذ الآن فصاعدًا سنجعل ماء نيلنا يحرِّك التاريخ، نجعل الماء الذي كان مستسلمًا لقدره ذاهبًا مضيَّعًا رغم أنفه إلى البحر مثلما كنا نحيا ذاهبين مضيَّعين رغم أنوفنا، سنجعل هذا الماء يملك زمام مصيره مثلما ملكنا أزمَّة مصيرنا، ومن هذه القدرة نفجر الكهرباء، وبالكهرباء نعيش ونصنع المستقبل.
إن أخطر ما يحدث في أُسْوَان الآن هو تلك العملية الإنسانية الكبرى، هو هذا الالتقاء الضخم الذي يحدث على مرأى ومسمع ومشاركة من الإنسان المصري الجديد، بحرِّية الالتقاء بين صناعة ألمانيا الغربية محاكيًا، وقدرة الاتحاد السوفيتي الهندسية في هذا السد، والإنسان المصري يشهد التفاعل والفضاء وتنضجه التجربة بسرعة مذهلة ويُثبت وجوده إثباتًا معجِزًا، ويستفيد من احتكاكه بالغرب والشرق معًا ومن تناقضات الغرب مع الشرق، هذه العملية الإنسانية السياسية العبقرية الكبرى تدور اليوم في موقع السد العالي، وتدفع بنيكسون ذات مرة إلى أن يخجل من نفسه ويعترف بهذا الخجل؛ لأنه وقف ذات يوم ضد هذا المشروع العظيم.
أجل، إن ما يحدث في أُسْوَان ليس هو مجرد عمليات هندسية ومشاريع تقام. إن ما يحدث في أُسْوَان ثورة حقيقية، ثورتنا الحقيقية، مبادئنا التي تتحقق، إصرارنا الذي يؤتي ثماره، إنساننا الذي يغير ويتغير، حضارتنا الجديدة التي ننتزعها من قلب الصخر وبالعرق والأظافر والدم والضحايا. عملية كان لا يمكن أن تتم إلا بثورة، إلا بأن نثور لنحقق إرادتنا، لنُملي إرادتنا، لنفتت صخور أُسْوَان، لنحطم الجبل، لنكسر أنف دالاس، لنهزم إنجلترا ونشرد إيدن، لنُحيل إسرائيل الغادرة من كلبٍ مخادعٍ إلى فأر مذعور، لنقول للتاريخ: كن فيكون.
إن أروع ما تحسُّه وأنت في أُسْوَان هو إحساسك أننا قادرون، إذا أردنا قادرون. إن أهم ما تحسه هو استعادتك لثقتك بنفسك كمواطن، وثقتنا بأنفسنا كشعب، وثقتنا بالعالم كمكان من الممكن أن يوجد فيه أصدقاء، ومن الممكن أن يُبْنَى على تعاونٍ وإخاء وأن يتحول من غابة مليئة بالأحراش والوحوش إلى حديقة مليئة بالزهور والأشجار المستأنسة والأطفال الأصحَّاء والأمهات السعيدات.
لقد تغيَّر العالم لتُولَد أُسْوَان الجديدة، وسوف تغيِّر أُسْوَان الجديدة من العالم ونرجو أن تصنع منه عالمًا — مثلها — جديدًا بنَّاءً، مسالمًا، رحبًا، سعيدًا.