القنبلة
الخميس
لا تخَفْ. الدولة تحميك من إشعاعات القنبلة الذرية الفرنسية. اتُّخذت الاحتياطات لمنع خطورة هذه الإشعاعات. إذا فجرت فرنسا قنبلتها فسيقوم خبراء الذرة العرب بتطهير التلوث الذري، وستُرسَل نسبة الإشعاعات الذرية إلى المنظمة الدولية لشئون الذرة، وستُوفِد المنظمة خبراء وآلات لحماية السكان من الأخطار.
هذا الكلام قرأته منشورًا في إحدى الزميلات الصباحية، ومعناه — كما هو واضح — ألَّا خوف عليكم أيها المواطنون لو ألقت فرنسا قنبلتها الذرية في صحراء الجزائر، وأن المسألة بسيطة جدًّا. وإذا حدثت إشعاعات ذرية أو نتج عن الانفجار غبارٌ ذرِّي وهدَّد حياتكم فستحمينا المنظمة الدولية لشئون الذرة، وستُوفد خبراء وآلاتٍ لدرء كل الأخطار.
هذا الكلام يُنْشَر في الوقت الذي أجمع فيه علماء العالم شرقه وغربه وشماله وجنوبه على وجوب وقف التجارب الذرية فورًا؛ إذ ثبت لهم أن أي تجربة ذرية في أي مكان من العالم تُلوِّث الجوَّ المحيط بالكرة الأرضية وتسمِّمه، وتؤثِّر على كل أنواع الحياة فوق سطح الأرض، وتؤدي حتمًا إلى تشويه النسل وتغيير خلقته وتركيبه. هذا الكلام يُنْشَر في الوقت الذي نخوض فيه — حكومة وشعبًا — كفاحًا لا هوادة فيه من أجل تكتيل شعبنا وكل شعوب آسيا وأفريقيا والرأي العام العالمي للوقوف في وجه محاولة فرنسا المجرمة لإرهابنا وتلويث جونا. هذا الكلام يُنْشَر ويدَّعي كذبًا أن المنظمة الدولية لشئون الذرة كفيلة بحمايتنا من الأخطار في حين ثبت علميًّا أنه لا يمكن مقاومة أخطار الإشعاعات الذرية. وثبت هذا عمليًّا؛ إذ لم تستطع هذه المنظمة — بجلالة قدرها — أن توقِف إصابة الصيادين اليابانيين بالإشعاعات الذرية وسرطان الدم الذي حدث نتيجة للتجارب الذرية الأمريكية في جزر المحيط الهادي.
وأنا لا أريد أن أتَّهم أحدًا بسوء النية، وأيضًا لا أريد أن أسأل الجريدة من أين وكيف استقت معلوماتها المزيَّفة هذه ولمصلحة مَنْ تنشرها في هذا الوقت بالذات؟! ولكني أريد أن أسأل السيد الدكتور فتحي عبد الوهاب الذي نشر اسمه وصورته مع كلام الجريدة، والذي يعمل بمؤسسة الطاقة الذرية: لماذا يتطوع ويقول: إنه إذا حدث عندنا أي تلوث أو تساقط ذري فسنستطيع أن نقضي عليه في الحال؟ كيف — وهو الخبير العالِم في مثل هذه الشئون — يدَّعي أن باستطاعته أن ينقذنا من التساقط الذري والإشعاعات المُهلِكة في الوقت الذي نقرأ فيه أن مئات العلماء المتخصصين في الولايات المتحدة مثلًا أكدوا أنهم لا يمكنهم إنقاذها من الإشعاعات الذرية في أي حرب ذرية مقبلة؟ وفي الوقت الذي عجز فيه كل علماء اليابان وأمريكا عن تطهير المياه المحيطية من الإشعاعات الذرية عقب التجارب التي أُجْرِيَت في المحيط الهادي؟
بأية معجزة سينقذنا السيد الدكتور؟
ولمصلحة مَنْ يدَّعي أن باستطاعته أن ينقذنا؟
الجمعة
اكتشفت إحدى حقائقنا الغريبة. كنا جالسين في بيت أحد الأصدقاء الأطباء، وكان الجميع يتحدثون ويتناقشون في سلطة الحديث الذي يدور كلما اجتمعت شلة أصدقاء ومثقفين، حديث قد يبدأ بزيارة خروشوف لأمريكا وينتهي بغلاء الأسعار ورداءة المأكولات في كازينو قصر النيل. وكان بيننا سيدة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، بادية الأناقة، «تواليتها» كامل وألوان ملابسها مختارة بعناية، «مانيكور» أظافرها مطلي بأحدث طريقة، ولكنها كانت إذا تكلَّمت يخرج كلامها تافهًا إلى درجة تعجب لها، وتظن أنها خادمة أو مربية أطفال تسللت بطريقة ما وحشرت نفسها في وسط هذه الزمرة من الأفندية والمثقفين.
ومِلْتُ على أحد الموجودين — وقد بدأ حديثها يضايقني — أسأله عنها، فإذا به يقول: إنها طبيبة، وإنها زوجة أحد الحاضرين، ذُهلت لأن حديثها كان يدل على أنها تجهل القراءة والكتابة حتمًا، وملحوظاتها من الصنف «البيتي». في أوج احتدام النقاش حول تأميم الطب أو تأمينه تلتفت مثلًا إلى جارتها وتقول: الجيبون بتاعك الظاهر واسع شوية ع الفستان.
أو إذا جاءت سيرة خروشوف في الحديث وأحب زوجها أن يُشرِكها معنا فيه وسألها إن كانت تعرفه، تجيب بقولها: أيوه عارفاه، مش الراجل القصير ده أبو صلعة، دا شكله ملخبط خالص.
وكنت وأنا أسمعها أسائل نفسي: «تُرى كيف استطاعت بهذه التفاهة أن تجتاز امتحانات كلية الطب المعقَّدة وتأخذ البكالوريوس وتنجح؟ وكيف أمكن أن تستوعب علوم الكلية كلها دون أن تترك هذه العلوم أي أثر يدلُّ على أنها مرَّت بعقلها أو لامسته؟»
والواقع أن هذه ليست هي الحادثة الوحيدة، فأنا أعرف سيدة حاصلة على دكتوراه في الكيمياء «تَرْقِي» أولادها إذا مرضوا مخافة أن يكونوا قد أصيبوا بعين حسود. وقِسْ على هذا عددًا كبيرًا من السيدات والرجال الذين يرون في علوم الجامعة وموادها مجرد «كلام» تُشْحَن به العقول لتُفرغه في أوراق الامتحان، فإذا ما انتهى الامتحان وتخرَّجوا عادوا إلى طبيعتهم الأولى، الرجال يتباهون بأغلى الكرافتات، والسيدات يتحدثن عن الجيبونات، والنتيجة أن جامعاتنا خرَّجت لنا آلاف «الحرفيين» الذين يزاولون الطب والهندسة والقانون، ولم نحصل منها على «جامعي» واحد، جامعي بحق؛ يحيا ويفكر ويتصرف كمثقف خريج جامعة.