كأنهم سيموتون غدًا
كأنك تموت غدًا، يبدو أنه الشعار الذي أصبح يطارد جماهير الطبقة المتوسطة عندنا، طبقة الزبائن والقادرين على الشراء بأفرعها في المدن، وبين العمال والفلاحين، الشعار: اشترِ اشترِ، اشترِ أي شيء وكل شيء، البقاء للبضائع والهلاك للنقود، والضمان الأكيد هو أن تحوِّل كل قرش لديك إلى سلعة. موجة بدأت تيارًا لكنها سرعان ما استحالت إلى حمَّى وجنون مُطبِق. بالأمانة وبكل صدق لا أستطيع أن أسميها إلا أنها حالة جنون جماعي — كجنون الكرة — اجتاحت الناس القادرين على الشراء وحتى سرَت العدوى إلى غير القادرين. سمنٌ يهبط السوق يسبِّب سعارًا وطوابير، وتكسيرًا للمحلات، وتدخل البوليس لمنع الناس؛ وأخيرًا التوقف عن البيع. أي شيء: جبنة، حلاوة، قماش، مسامير، خشب، أرض، آلات، في جنونٍ أحمق وبلا أي ثانية تفكير، ودون حاجة مُلِحَّة يشتري الرجال وتشتري السيدات، وتكون النتيجة التهاب الأسعار وارتفاعها، ارتفاع ليته يصيب هذه الطبقة القادرة، ولكنه للأسف يأخذ في طريقه المساكين غير القادرين.
كنت معظم اليوم في ورشة «فولكس واجن» شركة مصر للسيارات، كانت عربتي رفيقة الطريق قد أخناها الكدح والكد بعدما قطعت بها أكثر من مائة وخمسين ألف كيلومتر في خمسة أعوام. وبهذه المناسبة لا زلت أذكر كيف كنت أخجل من الحديث عن عربتي أو حتى مجرَّد ذكر أن لي عربة وإن كانت صغيرة باعتبار أن العربات كان يُظَن أنها تُسْتَعْمَل للزينة والوجاهة.
ولكن العربة اليوم — كما قرأت لأحمد بهاء الدين وعن حقٍّ — يستعملها الكادحون من مهندسين وأطباء ومحامين ومحاسبين وحتى بعض العمال. العربة اليوم آلة أكل عيش، بل هي فيما أعتقد «زمن» تشتريه بأرخص الأسعار. إني في اليوم الذي تتعطل عربتي فيه أصرف على المواصلات أضعاف ما تكلفه العربة، وأفقد أربعة أو خمسة أضعاف الوقت الذي أربحه منها. المهم ذهبت إلى الورشة كي أغيِّر ما أبلاه الزمن من الفولكس، فوجدت — ويا للهول! — أن السعار قد وصل إلى هناك، استوردت الدولة قطع غيار بمئات الآلاف من الجنيهات لإنقاذ ذلك الجزء من ثروتنا القومية المتمثل في العربات، ولكن النتيجة شيء يصاب له المرء بخيبة أمل. أصحاب العربات اندفعوا في حمَّى مجنونة لاقتناء ليس فقط ما يحتاجونه من قطع الغيار، وإنما أضعاف أضعاف ما يحتاجونه، بل تاجر البعض منهم بقطع الغيار في السوق السوداء فكانوا يأخذونها بالسعر المحدد لها من ورشة القطاع العام ليبيعوها في الخارج بأضعاف سعرها.
ولقد أراني المهندس عبد المنعم مدير الورشة «قائمة عمل» لإحدى العربات، ثابتٌ فيها أن الورشة قد رُكِّبَت لها فوانيس أمامية وخلفية ثلاث مرات في شهر واحد. وإذا عرفت أن الورشة قررت — منعًا للتلاعب — أن يُسلِّم كل زبون «فانوسه» القديم ليحصل على فانوس جديد، إلا في حالة سرقته وإثبات هذه السرقة بمحضر بوليس؛ لأدركت المهزلة الكائنة وراء هذه العربة؛ فملحق «بقائمة العمل» ثلاثة محاضر بوليس يبلغ فيها صاحبها أن فوانيسه قد سُرِقَت ثلاث مرات في شهر واحد. بربكم ماذا سيفعل صاحب العربة بهذه الفوانيس إلا أن يبيعها ويتاجر فيها؟ فإذا عرفنا أنه موظف عام، بل موظف عام مفروض أن يشغل وظيفة يطبق فيها القانون ويحمي مصالح الوطن؛ لأمكننا أن ندرك مدى الهوَّة التي بدأ بعض مواطنينا يتردَّون فيها، فتحوِّلهم حمَّى الاقتناء من مواطنين شرفاء إلى تجار صغار حقيرين في سوق سوداء هم خالقوها وهم زبائنها. نقتطع من لحمنا الحي — كما يقولون — عملات صعبة نشتري بها قطع غيار لننقذ عربات المواطنين من العطب، فلا يتورَّع مواطن — كصاحب العربة المذكورة — من أن يحيل نفسه إلى لص صغير طمعًا في كسب بضعة جنيهات، أو يحيل نفسه إلى جشع مجنون من فرط خوفه ألَّا تَرِدَ قطع غيار بعد هذا؛ يسمح لنفسه بامتلاك ثلاثة أو أربعة أو ربما عشرة بديلات لقطعة الغيار.
ارتداد لأحط الغرائز
لقد ظللت أفكر طويلًا في تلك الظاهرة، وهداني تفكيري إلى أنها ظاهرة ذعر جماعي أصاب الطبقة المتوسطة المذعورة بالسليقة، ذعر من الغد، خوف حيواني دنيء يدفعها لتأكيد ذاتها عن طريق التملك الأكثر، التملك بلا حدود، السرقة إن أمكن، النهب، وطء مصالح غيرهم بالأقدام في سبيل أن يفوزوا بما هو أكثر من حقهم بكثير، بحقوق غيرهم، ظاهرة أخلاقية اجتماعية مهما قيل في وصفها فإنها لا تخرج عن كونها ارتدادًا إلى أحطِّ غرائز الحيوان في لحظة الذعر. ونحن لو تأملنا حياتنا قليلًا لوجدنا أن لا مكان للذعر، بالعكس كل العلامات تؤكد وتدل على الاطمئنان، بل حتى إن كانت هناك أزمات في بعض مواد التموين أو الحياة اليوم فهي أزمات في طريقها إلى الحل، وأننا نغادر عنق الزجاجة ولا نُقْبِل عليه، ولكن هذه الطبقات لا وقت لديها للتأمل والتدبر. لقد لاحظت بجانبٍ من عيني سيدةً في أحد محلات الأقمشة تشتري القطع المتتالية من القماش حتى دون أن تتوقف لحظة لتتأمل اللون أو نوع القماش؛ ذعر حقيقي مروع هو ما كان يدفعها لهذا؛ فحتى لو كانت القيامة ستقوم غدًا، ما أسرفت في الإنفاق إلى هذا الحد.
وأعتقد أني، وأننا جميعًا، نؤذن في مالطة لو حاولنا النصح والإرشاد، لو أخذناها كمشكلة أخلاقية يحلها الوعظ وتحلها التوعية، إني أعتقد أن الحال قد وصلت إلى الدرجة التي لا بد معها من اتخاذ إجراءات قانونية وتشريعية فعَّالة تسكب الماء البارد على تلك العقول المذعورة المحمومة. نحن في حاجة إلى تشريعات أكثر صرامة بكثير لمقاومة تجار السوق السوداء وزبائن السوق السوداء على حد سواء. وفي نفس الوقت لا بد من تعميم نظام البطاقات، إنها مهمة ليست يسيرة ستستغرق وقتًا ومجهودًا ولكنها أمر حتمي لا بد منه؛ ليس من أجل إيقاف هذه الحمَّى فقط، وإنما أولًا وأساسًا من أجل حماية المواطن المحدود الدخل والفقير، من أجل أن يجد نصيبه وحقه في يوم الحشر هذا، البطاقات لكل شيء، للأقمشة — إن أمكن — للأحذية، للجوارب، للسمن، للحم، للطيور، ولكل مادة حيوية.
إن هذا القطيع من الحيوانات المذعورة لا يمكن أن يوقفه إلا عصا، عصا لا بد من استخدامها لحماية الآدميين الذين كل ذنبهم أنهم محتاجون ولكنهم غير قادرين.